|
|
الأمازيغ في شمال أفريقيا عبر التاريخ: قراءة تأملية في الذهنية، الوجود والمآل واستشراف المستقبل بقلم: محمد أيت بــــود استهلال: هذا المقال ليس دراسة علمية متخصصة، بل هو عبارة عن قراءة منغمسة في التأمل العميق والمعمق، تستنير في عملية التنقيب التأملي بواسطة حصيلة من المعارف الممتزجة بالخواطر والتطلعات الذاتية، إنه يشبه نصا أدبيا إنشائيا، لكنه ليس كذلك، لأنه يتضمن مقتطفات من التاريخ، علاوة على أسلوبه الذي لا يشبه أسلوب النص الأدبي، إنه دعوة للمتخصصين من علماء الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا والإناسة والسياسة مجتمعين، للانطلاق من الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها هذا النص لتأسيس بحث علمي رصين يشكل إجابة شافية لكل تلك الإشكالات والأسئلة العالقة. قراءة تأملية في اللاشعور الجمعي أو الذهنية عند الأمازيغ: وأنا أجوب بعض المناطق الجبلية بسوس ووادي ئوريكن بنواحي مراكش، أثارني مشهد الدواوير اللاصقة بالجبال، وكأنها تحتمي بجبروتها من شيء ما... مشاهد البؤس والفقر والعزلة لا تخفى على أي زائر لهذه القرى النائية والمنسية، ومشاهد الطيبوبة المغلفة بالبساطة لا يمكن لهؤلاء القرويون أن يداروها، لأنها تتبدى على ملامحهم المثخنة بالتاريخ الموغل في القدم والضارب بجذوره في أعماق هذه الأرض منذ آلاف السنين، أنا الذي لا يزال يحسب نفسه واحدا من القوم، بحيث لا الجغرافيا ولا التقاليد، اللغة، الذهنية ونمط التفكير ليست بعيدة عن منطقي، الاختلاف الكامن في الأمر هذه المرة يتجلى في منطلق النظر إلى هذا المشهد الطبيعي، البشري، الإثنوغرافي، من زاويا مختلفة، كلعبة المرايا المتقابلة، خرجت من جلدي حينئذ محاولا، وأنا متسلح بسلاح العلم والمعرفة وبمنطق ديالكتيكي، أن أفهم منطلقات هذه الحالة المعروضة أمام ناظري، وجدتني أكتشف الجغرافيا والتاريخ لأول مرة، حسبت نفسي أحد السياح القادمين من العالم الأكثر تحضرا، أولئك المهووسين منهم باستكشاف المجاهل الموغلة في قساوة الطبيعة،... البداوة، وقلة ذات اليد، تذكرت تلك المصطلحات الجميلة والبراقة التي كنا نسمعها في الاجتماعات الرسمية، من قبيل: الهشاشة، محاربة الإقصاء، محاربة الفقر، مقاربة النوع، البرنامج الأفقي... وتساءلت ان كان أولئك المتربعون على الكراسي الوتيرة داخل المكاتب المكيفة والذين يعكفون على دبج التقارير والدراسات حول مفاهيم التنمية البشرية ومحاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي و...، يعرفون أصلا أنه في مغرب القرن الواحد والعشرين لا تزال توجد مثل هذه المناطق البعيدة عن المدنية والحضارة بسنوات ضوئية، وأنه في مغرب القرن الواحد والعشرين لا تزال توجد مثل هذه الكائنات البشرية التي لا تزال تعتمد على زراعة تقليدية لا تلبي الحاجيات اليومية، هذا إذا كان هنالك بالفعل متسع لتلك الزراعة الجبلية التي لا يتعدى نطاقها مستغلات صغيرة على شكل مدرجات لا تتجاوز مساحة أكبرها 100 متر مربع، في أحسن الأحوال، تزرع بالذرة أو الشعير أو بعض الخضراوات، لأنه في مناطق جبلية أخرى ولانعدام المياه ولأسباب كثيرة لا يتسع المقام هنا لذكرها لا توجد لا زراعة ولا أي شيء، عدا بعض القطعان من الماعز، والتي تشكل المصدر الرئيسي والوحيد للدخل بالنسبة للسكان، وفي مناطق أخرى تشكل الهجرة سواء الداخلية أو الخارجية المصدر الرئيسي للدخل....، وأنها أحيانا تحتمي بجور الطبيعة وقساوتها من جورها وقساوتها، وأن شظف العيش بالنسبة إليها هو الخبز اليومي،... تحضر لي بالمناسبة صورة علقت بذهني رأيتها في برنامج: «بدون حرج» الذي يبث من قناة «ميدي 1 تيفي» والذي تقدمه الإعلامية المغربية المقتدرة إيمان أغوتان، الحلقة بعنوان:»معاناة سكان جبال الأطلس مع البرد»، الصورة لقروي مع أسرته المكونة من ثلاثة أطفال وأمهم، وقد تحلقوا حول موقد نيران بعد أن حاصرتهم الثلوج الكثيفة داخل كهف في عمق جبال الأطلس الكبير، حيث لا طريق ولا حتى مسلك يؤدي إلى المكان، وفي إحدى حلقات برنامج: Grand Angle الذي يبث من القناة الثانية، أثارتني مشاهد القافلة الطبية التي تقوم بزيارة إحدى المناطق المعزولة بإقليم ورزازات، منطقة جبلية معزولة كليا عن العالم الخارجي، تعيش نمط العيش الخاص بها، بحيث لا تزال النساء يلدن بنفس الأساليب التقليدية الموغلة جدا في القدم والبداوة، مشاهد البؤس والفقر وانعدام الوعي، تقودك إلى الاعتقاد وأنت تشاهد البرنامج، أنك لا تشاهد بالفعل إلا برنامجا عن إحدى قبائل الهنود الحمر الرافضين للاندماج في الحضارة الأمريكية، والذين لا يزالون يعيشون عراة بإحدى المناطق على نهر المسيسيبي... غياب المرافق الاجتماعية من مدرسة ومشفى كهرباء ومصالح إدارية يوحى بانسحاب الدولة الشامل من هذه المناطق، بحيث لن تظفر بشيء قد يمكن أن يذكرك أنك بالفعل في المغرب، ملامح البؤس والجهل، تتبدى على ملامح أولئك القرويين المنبوذين في تلك الشعاب النائية القاسية، تطرح أكثر من علامة استفهام حول دور المؤسسات المنوطة بها التنمية البشرية في البلاد، لأن البؤس والجهل لا ينتجان شيءيا غير البؤس والجهل، وهنا أود أن أطرح هذا السؤال:»هل يجب على هؤلاء المهمشين أن يذكروا الدولة أنهم من رعاياها؟ أم أن على الدولة أن تعي بالفعل أنهم من رعاياهم فتسارع إلى احتضانهم؟ أنا لا أرغب في رسم صورة قاتمة عن وضع الأمازيغ في بلادهم، رب قائل إن أوضاعا مشابهة يعيشها مغاربة آخرون غير ناطقين بالأمازيغية حتى في السهول الوطئة وفي بعض المدن الكبيرة وحتى في العاصمة، وللموضوعية وتحري الصدقية في القول، أقول نعم هذا صحيح، مظاهر البؤس والفقر والحاجة والحرمان وشظف العيش في المغرب لا تمس فقط الأمازيغ القاطنين للمرتفعات النائية التي تنعدم فيها أبسط شروط العيش الآدمي كي لا أقول العيش الكريم، لأن تلك الصورة تجسد أن أولئك الأشخاص بعيدون عن العيش الكريم بعد كوكب المريخ عن كوكب الأرض، غير أني أتساءل لماذا التصق الأمازيغ بالجبال منذ آلاف السنين وبقوا هنالك إلى اليوم، بالرغم من قساوة الطبيعة وشظف العيش الذي يعيشون فيه هناك، هل للأمر علاقة بنمط الذهنية؟ أم للأمر علاقة بظروف تاريخية واقتصادية واجتماعية ؟، وبتعبير أكثر دقة، هل الأمر ناتج عن قرار اختياري أم قسري؟ في بعض المناطق الجبلية بالأطلس الصغير تنتشر قرى بائسة تنعدم فيها أبسط الضروريات، لا ماء ولا شجر وبلا مسالك طرقية تؤدي إلى تلك القرى المعدمة، والناس يضطرون إلى الارتواء من مياه الخزانات المائية التي تسمى:»المطافي»، «تينوضفاي» وهم يستمرئون العيش هناك، هل للأمر علاقة بالهروب من قدر ما؟ هل هو الهروب من بطش الغزاة وجورهم؟ هل هو البحث عن الأمن و الأمان الذي دفع بشعب كامل إلى ترك السهول المنبسطة والأراضي الشاسعة حيث عاش أجدادهم القدامى والفرار منها للالتصاق بالجبال والصخور المسننة؟ هل يوجد الأمن حقا في تلك الوديان والشعاب المعزولة؟ هل كان باعتقادهم أن احتماءهم بالجبال النائية والمرتفعات البالغة القسوة، سوف يبقون بعيدين عن أنظار ومطالب السلطة المركزية في مراكش ومكناس والرباط والتي تسمى بالمخزن، عن جباة الضرائب والمكوس الكثيرة والمتنوعة، وحتى قبل أن تتشكل في البلاد التي توافد إليها العديد من المحتلين والفاتحين بدءا بالفينيقيين الذين كانوا مسالمين، أو على الأقل، هكذا كانوا يبدون، مرورا بالوندال والبيزنطيين إلى الرومان، فالعرب والبرتغال والاسبان والفرنسيين والايطاليين، إلى ما بعد تشكل الدول والإمبراطوريات الأمازيغية الإسلامية؟ الجواب يمكن أن نجده في قول الشاعر علي شوهاد: Af ukan gigh udad ikcemen italatin Ad ur neg zud imugayn agh ikkerf ufus ويقول المغني الأمازيغي القبائلي: “أولحلو” في أغنية باللغة الفرنسية بعنوان: « Vive ma liberté « Je suis né pour être libre Sur ma montagne comme un tigre Je ne supporte pas les cages Ainsi que les chaines de ménages … Je préfère les collines De Mon village et mes racines Les oliviers, mes amis Au soleil de Kabylie … انه البحث عن الحرية، ورفض كل أنواع الوصايات والأغلال الآدمية، ولا شيء أخر، هذا ديدن الأمازيغي منذ فجر التاريخ، هذا الإنسان الثائر، المتمرد، الرافض للخنوع والذل والاستسلام، المجبول على العيش في كنف الحرية، إذ ناداه عبيرها وأريجها النفاذ من أعالي الجبال الشاهقة، لم يتردد قط، بل استجاب، وترك السهول الشاسعة، وقرر أن يستنشق عبيرها في أعالي الجبال، مثل الأيل، لا يعيش إلا في الوديان والشعاب النائية، وعلى قمم المرتفعات المكسوة بالثلوج. ...البربر كما يسمينا الآخر أو الأمازيغ كما نسمي أنفسنا أي الرجال أو الناس الأحرار، سكان الجبال، من الشعوب الأصلية مثل الهنود الحمر أو الانكا والازتيك أو الأقباط...، لديهم لغة وحضارة قام الغزاة والمحتلون بطمسها وإحلال لغاتهم وثقافاتهم محلها....،... صعدنا إلى جبالهم الشاهقة في الأطلس الكبير، نمر بهم بجانب الطرقات الجبلية المتعرجة وهم يرمقوننا بعيونهم الحائرة، ذات النظرات الموغلة كثيرا في مجاهل التاريخ المنسي، تاريخ الاضطهاد والحروب والصراعات الدامية، وكأنهم ألفوا مثل هذه المشاهد منذ الأزمنة الغابرة، مشاهد الغزاة وجحافل المحتلين الأغراب التي تستبيح أراضيهم وتنهب خيراتهم وتسبي نساءهم، مشاهد الفرسان والرماة والمشاة المسلحين والمدججين بالسهام والسيوف، ثم مشاهد السيارات الحربية، وحاملات الجنود المدججين بالبنادق والطائرات الحربية المحلقة فوق مداشرهم، تذيقهم الوبال والدمار، تحرق وتدمر وتشرد، والآن مواكب السيارات الفارهة والحافلات المكيفة... ولا نعلم ماذا بعد؟ ولسان حالهم يقول: “تركناكم في السهول الشاسعة، واحتمينا بالجبال الشاهقة.. المجهولة والنائية، وشققتم إلينا الطرق والمسالك، وها أنتم تقتفون أثرنا وتجتاحون سكينة جبالنا بضوضاء سياراتكم الفارهة وحافلاتكم المليئة بالفضوليين، فما الذي دهاكم؟ عماذا تبحثون؟، عندما تغضب الطبيعة وتفتح السماء صنابيرها الضخمة باتجاهنا وتمتلئ الأنهار عن آخرها بالمياه الضحلة المحملة بالحجارة والأغصان والطمي، أنتم تنامون قريري العيون في بطانيات مازافيل الساخنة، والناعمة الملمس، وعندما تنزل علينا من السماء أطنان من الثلج، وتلفح وجوهنا الرياح الباردة القادمة من أقاصي كوكب الأرض، وحين ترتعد فرائصنا هنا من البرد القارس، تتحلقون أنتم وراء مواقدكم العصرية للتدفئة،... لقد ضاقت بكم مدنكم الجميلة والعصرية وصرتم تبحثون عن أماكن للترويح عن النفس، في جبالنا المنسية، هذا ما ينقصكم فقط، أما نحن فتنقصنا العديد من الأشياء، أولاها أن نعرف من نحن، وما الذي نفعله في هذه الجبال النائية؟ لتختلف القصة كثيرا، فمآل عبد الكريم الخطابي أو عسو أوبسلام أو الحاج عبد الله زاكور، أوزايد أوحماد أو محمد أمزيان أو موحى أوحمو الزياني... لا يختلف كثيرا عن مآل يوغرطة أو الكاهنة أو كسيلة أو أو طارق بن زياد أو ميسرة أمطغري أو صالح بن طريف، أو يوسف بن تاشفين، نفس المآل، الجحود وطي النسيان، إنهم الرجال الأحرار، الثائرون، لم يستسلموا أبدا للطاغوت بل قاوموه وهزموه، لكن الآخر خذلهم وسلم رقبتهم إلى المحتل والغازي لينكل بهم، فقط لأنهم وطنيون أحرار بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي ئمورين، التي منها جاء كلمة مور أو موروك أو موروكو الحالية. أنطلوجية الجبال، قراءة معمقة تأملية في علاقة الأمازيغ بالجبال:إنهم الأمازيغ، قاطنو جبال الأطلس الصغير والكبير الأوسط والشرقي والمتوسط، وجبال الريف، والقبائل ومزاب والأوراس والهكار وتاسيلي ومطماطة وجربة وسوسة وتطاوين وجبال نفوسة وترهونة وزوارة وتاجوراء، وجبال جزيرة تينيرفي وسهول الأطلس ومزاب وواحات درعة وتافيلالت وسيوا وصحاري شاسعة في موريتانيا والنيجر ومالي وبوركينافاسو....، والجبل في اللاشعور الجمعي للأمازيغ يعد خزانا للتاريخ، ومرتع الروايات والأساطير، وملجأ الفارين الهاربين من بطش الغزاة، إنه مرادف للأمان والاستقرار، فهل يعني ذلك أن ثمة علاقة أنطلوجية بين الأمازيغ والجبال، بحيث إنهم وجدوا أنفسهم وهم يقطنون الجبال، وانتهى الأمر، إذا كان هذا الافتراض صحيحا، فمن كان يقطن السهول إذن؟ يمكن الرجوع بخصوص هذه الجزئية إلى سياسة الأرض المحروقة عند الكاهنة على إثر دخول العرب إلى تامزغا،... وهل الأمازيغ في تراجع مستمر منذ فجر التاريخ، إذا كان الجواب عن هذا السؤال بالنفي، فلماذا لم يصمدوا إذن أمام الغزاة، وفضلوا الانسحاب إلى الوراء، التراجع أو الارتكاس في مجاهل الجبال الشاهقة، عوض المجابهة والمقارعة والصمود؟ بالرجوع إلى تاريخ شمال أفريقيا، أي تاريخ الموطن الأصلي للأمازيغ، أو للشعب الأمازيغي، والذي لم يكتب منه الأمازيغ عن أنفسهم حرفا واحدا، بل كتبه دائما الأجنبي انطلاقا من أيديولوجيته ومصلحته لدى الأمازيغ وفي بلادهم، نجد أن قائدا أمازيغيا واحدا فقط هو الملك يوغرطة حاول توحيد تامزغا، فإذا كانت مملكة ماسينيسا أي نوميديا الشرقية من الجزائر وتونس إلى ليبيا الحالية، كانت تنعم بالاستقرار، فإن يوغرطة أو يوكرتن، لم يتح له ذلك، لأنه أجبر على مجابهة الرومان، وإلحاق شر الهزائم بهم في معركة القسطنيطية في مازيليا أو نوميديا الغربية بالجزائر الحالية، أو مدينة سرت قبل الاحتلال الروماني لمملكة نوميديا التي كانت تضم نوميديا الشرقية وهي المذكورة آنفا ونوميديا الغربية وتضم مملكة مازيليا و موريتانيا الطنجية، التي هي المغرب الأقصى وموريتانيا حاليا، قبل أن ينقلبوا عليه ويأخذوه أسيرا مقيدا بالأغلال إلى روما، هذه المحاولة الجريئة من هذا القائد الأمازيغي البطل والنادر، قادته إلى حبل المشنقة، لقد سلمه شيوخ القبائل الذي اشترت روما ذممهم بالارتشاء، إلى ساطور الموت، يستخلص من هذه الواقعة معنيان: الأول: هو بمثابة جواب عن التساؤل المطروح آنفا، والمرتبط بانحسار الأمازيغ إلى الجبال وتركهم السهول حيث كانوا يقطنون، بحيث أدى انهزام يوغرطة إلى فقدان الفرسان الأمازيغ الأشاوس الذين كانوا يقاتلون تحت إمرته إلى القيادة العسكرية الرشيدة التي بإمكانها توجيههم وتزويدهم إن اقتضى الحال بالإستراتيجية الحربية الضرورية، مما أدى إلى تشتتهم وتفرقهم في القبائل، الشيء الذي كان له بالغ الانعكاس على وضعية الأمازيغ في الوطن عموما، بحيث تشردوا في البلاد وقصدوا الجبال النائية هربا من بطش الرومان الغزاة. المعنى الثاني: مرتبط بذهنية الأمازيغي الذي بقدر ما هو شخص ثوري وشجاع محب لقيم الحرية والعدل، بقدر ما هو سهل الانقياد بحيث يسهل قنصه وخداعه نظرا لنمط تفكيره البسيط غير المعقد، لكونه لا يتقن كثيرا أساليب المكر والخداع والدهاء السياسي، لذلك الأمازيغي يصلح دائما كمحارب باسل وشجاع، يصلح كحامل السيف أو البندقية، ليس كحاكم في دهاليز وأروقة القصور المظلمة، فحتى السلاطين الأمازيغ الذين حكموا الإمبراطوريات الأمازيغية مثل المرابطين والموحدين، كانت حياتهم السياسية غاية في البساطة خالية من التعقيد والدهاء الذي يلاحظ في قصور الأمراء والملوك العرب، قد يتفق معي كثيرون أو يختلفون معي، لكنها الحقيقة التي استقيتها من الواقع والتجربة والتاريخ، الأمازيغ لم يستطيعوا أن يشيدوا حكما إمبراطوريا يتسم بالاستمرارية لأن تكوينهم السياسي يكاد يساوي الصفر. هذه القراءة المعمقة والتي استقيتها من التاريخ والواقع المعاش لذهنية الأمازيغ، وبحكم كوني واحدا منهم، تبين أن وضع الأمازيغ الحالي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لم يكن أبدا عن قرار اختياري بل كانوا مجبرين على هذا الواقع غير المشرف،... كثرة الاحتلال التي تعرضت لها بلادهم وتعدد المحتلين وتعدد أيديولوجياتهم ومصالحهم، وغياب القائد العسكري والإستراتيجية العسكرية الموحدة، التي بواسطتها يستطيعون الدفاع عن أرضهم ضد الغزاة، وكذا غياب الأيديولوجية السياسية، التي تفترض التوحيد والتوجيه نحو هدف سياسي موحد ومحدد الأهداف، وغياب الرؤية الإستراتيجية الواضحة فيما يخص بناء دولة أمازيغية بلغة أمازيغية، مثلما فعل الأمويون بعد اقتطاع معاوية لبلاد الشام، بحيث ساهمت الأيديولوجية الإسلامية في تفكير العرب في تأسيس الإمبراطورية الإسلامية، وتنظيم دواوين الدولة باللغة العربية، على أنقاض حكم الخلفاء، في حين أدى غياب الوعي بتنمية اللغة الأمازيغية لتصير لغة للحكم إلى وضعية اللغة المهمشة الآيلة إلى الانقراض، هذه اللغة العنيدة، التي عاصرت العديد من اللغات الإفريقية والعالمية، والتي كانت مرموقة وحاملة للعلوم في عصرها، اندثرت الآن، بفعل اندثار الأقوام والشعوب الذين كانوا يتكلمون تلك اللغات، أذكر منها، الآشورية، الفينيقية، اللغات الرومانية الجرمانية، اللاتنية، القبطية، الفرعونية...الخ، في حين لا تزال الأمازيغية صامدة، فما هرو السر الكامن وراء هذا الصمود الأسطوري؟ إن اعتناق الأمازيغ للإسلام ساهم كثيرا في استبعادهم للغتهم من المجال الديني والسياسي، أو من مجال الحكم إن صح التعبير، بحيث اختص مجالها كلغة حميمية في نفس المجالات التي لا تزال تتفاعل فيها إلى يومنا هذا، وهي مجالات البيت والأسرة، السوق والحقل وبعض اللقاءات الحميمة في الشارع والمقاهي والمحلات التجارية... في حين أدى إقصاؤها من مجال الحكم إلى انحسار تداولها في المجال العمومي، بحيث يلاحظ غيابها في مرافق الدولة الحديثة، كالمدرسة والإدارة والمسجد والإعلام ، بالرغم من ظهورها الأخير في هذا المجالات ان بشكل رمزي لا يزال خجولا، هذه الوضعية، وضعية التهميش، ساهمت في إضفاء طابع اللغة الدونية على اللغة الأمازيغية، اللغة التي لا يستطيع عينة من الأمازيغ المعاصرين أن يفتخروا وأن يعتزوا بكونها لغتهم الأصلية، فتراهم يحاولون جاهدين إخفاء حقيقة انتمائهم إليها، ولو بشكل أقل تمظهرا من ذي قبل، خاصة بعد ظهور المؤسسات الأمازيغية التي تعنى بهذه اللغة وكذا بالثقافة الأمازيغية، وبالخصوص بعد ترسيمها في الدستور لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، عكس التركي أو الفارسي مثلا، والذي لا يعيش هذه المفارقة، مفارقة الإيمان بلغة، والعيش أو التفكير بلغة أخرى حميمة، لأن الفارسي أو التركي يفكر ويعيش ويؤمن بلغته، أي كونه ينسجم مع ذاته وهويته وخصوصيته، أي أن اعتناقه للإسلام لم يحجمه عن إهمال لغته وثقافته، لأنه عالج هذا الإشكال مبكرا بحيث تفطن إلى أن عدم حل هذا المشكل في أوانه حري أن يخلق نوعا من الشرخ النفسي والاجتماعي وكذا السياسي لدى الفرد التركي أو الفارسي، وهذا بالضبط ما يحدث للأمازيغي اليوم، لذلك نلاحظ أن الحساسية المطروحة إزاء استعمال الأمازيغي للغته الأمازيغية في المجال الديني، غير مطروحة عند التركي والفارسي مثلا، إذ تؤدى خطب الجمعة والعيدين وكل الشعائر الدينية باللغتين الفارسية أو التركية، في حين يضطر الأمازيغي إلى الاستماع إلى الخطبة التي تلقى بالعربية حتى في أقاصي الجبال النائية. الوجود والمآل واستشراف المستقبل: هذا هو واقع الأمازيغ في بلادهم، واقع التهميش والفقر والعيش كمواطنين من الدرجة الثانية، فالدول التي تحكمهم الآن، قليل منها من يعترف الآن بلغتهم، لغة رسمية في الدستور، كالمغرب على سبيل الحصر، رغم أنني أميل إلى القول إن الاعتراف لوحده لا يكفي،... صحيح لقد راكم الأمازيغ في المغرب بعض الإنجازات التي لا تتوفر لغيرهم في بلدان تامزغا الأخرى، وهذه الاإنجازات بقدر ما تعبر عن الحس النضالي الذي عاد ليتمتع به الأمازيغ، بعد ضمور دام عدة سنوات، بقدر ما يدعوهم إلى التفكير الجدي في سبل تصحيح وضعهم الاعتباري كبداية لتصحيح وضعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يجب أن يفخر الأمازيغي بكونه أمازيغيا وبكون لغته هي اللغة الأمازيغية بدون أن يخاف أن ثمة من سيناديه ب:»الكربوز أو الشلح القروفي» يجب أن يتخلص من كل العقد النفسية ومركبات النقص التي راكمها الآخر فيه، بواسطة القمع المادي والرمزي الذي يمارسه من منظور اللغة والثقافة المتفوقة، يجب أن يتحدث الأمازيغي بلغته الأمازيغية في الشارع والإدارة والمدرسة والتلفزيون والمسجد وفي السوق وفي أي مكان من دون أن يخشى من أحد، أن يشعر أنه في بلاده بين ظهراني أهله وأن لغته هي أيضا لغة جديرة بالاحترام، وأنها قابلة للتطور واستيعاب المفردات والمصطلحات العصرية، الفنية والتكنولوجية والإعلامية والسياسية والاقتصادية، يجب أن يتجاوز كل السلبيات الكامنة في نفسه وأن يتحرر وينطلق، يجب أن يكف عن النظر إلى نفسه أنه لا يستحق أن يحتل موقع الصدارة، لأنه يستحق ذلك فعلا، والبداية تكمن في وعيه الكامل بالواقع والتحديات وبإمكان تغيير هذا الواقع المرفوض، الواقع الذي يوجد فيه الأمازيغ في وضعية اجتماعية لا تزال تعبر عن وضعية المجتمع المهمش، المجتمع الذي لا يحتل موقع الصدارة في بلاده، لا لغويا، ولا سياسيا، ولا اقتصاديا،... لقد سرق منه المشعل منذ أمد بعيد، ومحاولات استعادة هذا المشعل يلزمها الكثير من التضحيات، والمزيد من الوقت، لأن انحسار الأمازيغ في الجبال وبعدهم عن المراكز الحضرية أدى إلى عدم تبوئهم للمراكز السياسية والاقتصادية الهامة في الدولة الحديثة، وهذا بدوره له انعكاس على مستوى الوعي بالذات والاستعداد للبذل والتضحية من أجل إعادة الاعتبار لهذه الذات، بالإضافة إلى الإمكانيات المادية والسياسية التي بواسطتها يمكن تحقيق التوازن، وإعادة اعتبار إلى قطاع عريض من سكان المغرب الذين هم الأمازيغ، سياسيا، واقتصاديا، بحيث يعتبر المدخل اللغوي، بداية لتصحيح الوضع الاعتباري للأمازيغ أولا، قبل الحديث عن الوضع السياسي والاقتصادي، في التاريخ ثمة منطق غريب، فالشعوب التي استطاعت أن تؤسس الإمبراطوريات الاستعمارية مثل الفرس والأتراك والأوروبيين، استطاعت أن تبوئ نفسها المكانة الحضارية التي تستحقها، ومنطق التاريخ هذا يشبه إلى حد ما ذلك المنطق المكيافيللي في السياسة، في الحروب والصراعات ثمة دائما القتل والدم والظلم والخراب، وفي المقابل فالشعوب المسالمة لا يكتب لها الاستمرار، لقد تجاوز التاريخ العديد من الشعوب المسالمة، لم تستطع الدفاع عن حياضها لطابعها السلمي التسامحي، في حين استطاعت الشعوب الغازية أن تحظى بالبقاء والتطور، وأن تعيش اليوم بنفس الرفعة والسؤدد الذين عاشت بهما بالأمس، وهذا المثال ينطبق على الأمازيغ، إنهم شعب مسالم، لم يسبق لهم أن غزوا أيا من الشعوب الأخرى، عدا ما تناقلته بعض الكتابات التاريخية حول انتصار الملك شيشونغ على الفراعنة واحتلال مصر وحكمها لمدة غير يسيرة، فمنطق الأمازيغي المسالم لا يشجع كثيرا على التفكير في غزو الشعوب الأخرى واحتلالها، لقد فتحوا أبواب بلادهم أمام الفينيقيين القادمين من وراء البحار من أجل التبادل التجاري في البداية، والذين لم يلبثوا أن اقتطعوا جزءا منها وأسسوا به قرطاج، فصار السكان الأصليون في وضعية المدافع المطالب بحقه وأرضه، وداهمهم الرومان فتحالفوا مع قرطاجة ضد الرومان، وهي عدوتهم بالأمس، وكانت الحروب البونيقية...، ولما داهمهم العرب تحالفوا مع الرومان بالرغم من كونهم أعداءهم بالأمس، واحتموا بالعروبة والإسلام ضد الأوروبيين بالرغم من كون القتال استمر بينهم وبين العرب في شرق ليبيا حوالي 70 سنة قبل أن يحتل العرب البلاد ويندفعوا باتجاه الغرب...، هذا المنطق التحالفي مع العدو القديم ضد العدو الجديد، هو الذي أدهش عبد الله العروي في كتابه «مجمل تاريخ المغرب»، وعبر عنه بعدم قدرة المغاربة على فهم مصلحتهم منذ فجر التاريخ، في الآنثروبولوجيا المغاربية عند أركون توجد طبقات كلسية مترسبة منذ فجر التاريخ يصعب على الدارس الوصول إلى الطبقات السفلية والتحتية، تحاول الأيديولوجيا الدينية، خاصة الإسلامية طمس كل الطبقات الأولى والتي تشكل المنطلق الحقيقي لفهم منطق الأمازيغ وطريقة تفكيرهم، هذه الترسبات، لا يمكن تجاهلها، لأنها موجودة، يمكن محاولة القفز عليها وإنكارها أو طمسها، لكن إلغاءها لا يمكن على الإطلاق، فهل يشكل هذا المنطق الذي يستمد أنفاسه من التاريخ العميق، السر وراء بقاء الأمازيغ واللغة الأمازيغية إلى الآن؟ في الوقت الذي اندثرت فيه العديد من الشعوب واللغات والثقافات التي عاصرها الأمازيغ في حوض المتوسط ، ثمة حقيقة أخرى لا بد من التطرق إليها، تكمن في استعداد الأمازيغي الدائم للتأقلم مع كل الظروف والمتغيرات والطوارئ، هذه الخاصية أكسبته مناعة الصمود، وأكسبت لغته مناعة الاستمرار في التواجد منذ آلاف السنين. يجب على الأمازيغ وهم يستشرفون المستقبل أن يعتنوا بلغتهم وثقافتهم، وذلك لن يتأتى لهم إلا إذا استطاعوا أن يتغلبوا عن الشعور السلبي الكامن في لاوعيهم بأن لغتهم وثقافتهم لا تستطيع أن تنافس اللغات والثقافات المتفوقة فكريا وعلميا، إنه الشعور بالدونية الذي كرسته الأيديولوجيات المتوافدة على شمال أفريقيا منذ القدم، كما يجب عليهم أن ينخرطوا في الحياة السياسية بوعي كامل بذاتهم وهويتهم الثقافية، وأن يؤسسوا لأجل تلك الغاية الأحزاب السياسية التي ستنافس الأحزاب التقليدية في تسيير الشأن العام بالجماعات الترابية والبرلمان، وذلك انطلاقا من مشروع مجتمعي متكامل، ذي رؤية واضحة وشاملة وموضوعية تشكل إجابة شافية عن كل الإشكاليات السياسية والثقافية والاقتصادية بالبلاد، كما تشكل بديلا للأيديولوجيات التي تحملها تلك الأحزاب، سواء الإسلامية أو اليسارية ذات النزوع العروبي،... المشروع المجتمعي للأحزاب الأمازيغية يجب أن يرتكز على القيم الكونية، مثل المواطنة، التعددية، النسبية، العقلانية، وأن تنبذ الإقصاء والاحتكار وازدراء الآخر، والمعربون المغاربة الذين هم، في نظرنا، عينة متطورة من الأمازيغ يجب أن ينخرطوا بدورهم في إنجاز المشروع المجتمعي للأحزاب الأمازيغية، من منطلق أنهم أمازيغ مغاربة معربون، بحكم منطق التاريخ والجغرافيا، وذلك وعيا منهم بحقيقة واقعهم الهوياتي المغاربي، الذي سيكف عن الاستلاب للمشرق، ويتبنى الطرح المغاربي للهوية والتاريخ واللغة، بعيدا عن الدعوات الدوغمائية والإقصائية التي لا يزال بعض المغاربة متشبثين بها،... وتأسيس الأحزاب السياسية لا يقل أهمية عن تأسيس تكتلات اقتصادية، ولوبيات نفعية واعية بدورها التاريخي في إنجاز المشروع المجتمعي المنوط بالأحزاب الأمازيغية،... قد يبدو هذا الكلام طوباويا، غير أن استشراف الأمازيغ للمستقبل لن يمنعهم من الحلم بغد تعود فيه السلطة السياسية والاقتصادية بهذا البلد إلى أصحابها الحقيقيين، أي الشعب المغربي بأمازيغه ومعربيه، وهذا يتطلب قدرا من الصبر والتخطيط، بقدر ما يتطلب قدرا من الحكمة والانطلاق والمثابرة والإيمان بالقدرات الذاتية، كما أن السلطة السياسية العليا بالبلاد والتي أعلنت تصالحها مع الهوية الأمازيغية من خلال عدة قرارات يجب عليها أن تنخرط في تبني المشروع المجتمعي الذي تشكل الأمازيغية قاعدته الصلبة، والذي لا يختلف كثيرا عن المشروع المجتمعي الحداثي الذي أخذت على عاتقها القيام بإنجازه، إذ أن كلا المشروعين في الحقيقة لا يشكلان الا مشروعا واحدا، ألا وهو المشروع المجتمعي الحداثي المغربي، الذي يحرر الفرد والمجتمع المغربي من قيود التقليدانية والاتكالية، ويدفعه إلى الإيمان بقدراته الذاتية، للانطلاق منها نحو فساحة الشعور النفسي بالنجاح والتقدم والتفوق،... والكف عن الاعتقاد بأفضلية الآخر عن الذات المغربية العريقة،... والكف عن الاستلاب للمشرق، والالتصاق بالأرض وتكريم أصحاب هذه الأرض. Moh_aitboud09@hotmail.fr
|
|