|
|
هل شمال أفريقيا أرض أمازيغية أم عربية أم إسلامية؟ بقلم: مبارك بلقاسم جاء النقاش حول مقترح الوزير د. سعد الدين العثماني بإزالة مصطلح «اتحاد المغرب العربي» وتعويضه بمصطلح «الاتحاد المغاربي» ليعيد النقاش الهوياتي إلى الواجهة. ويبدو أن كثيرا من المدافعين عن مصطلح «المغرب العربي» يفتقرون إلى القدرة على التمييز بين الهوية والثقافة، زيادة على عدم اطلاعهم على أجزاء مهمة من تاريخ شمال أفريقيا. كما أن هناك إصرارا على حشر الأمازيغية في زاوية «العرق والتفرقة» من أجل تمرير العروبة أو القومية العربية كعامل وحدة، بينما العكس هو الصحيح. فالقومية العربية كانت من بين أكبر الآفات التي ضربت المغرب وشمال أفريقيا وسممت العلاقات بين الإخوة وقسمتهم. والبوليساريو و»جمهوريتهم العربية» الافتراضية التي صنعها ومولها وساندها القوميون العرب، أكبر مثال على ذلك. الثابت والمتحول: ما الفرق بين الهوية والثقافة؟ من الجوهري أن نميز بين الهوية والثقافة. فما هي الهوية؟ الهوية هي الصفة أو الصفات والخصائص الذاتية الثابتة الأصيلة الفريدة المستمرة والخاصة بشيء أو شخص أو مجموعة من الأشخاص وتميزهم عن الآخرين. (المصادر: قاموس أوكسفورد، المعجم الوسيط). أما الثقافة فهي المعارف والمعتقدات والمواقف والقيم والآراء والسلوكات والعادات والفنون والأفكار وأنماط العيش والأشكال التعبيرية التي يكتسبها أو ينتجها الإنسان، وهي تتغير وتتطور باستمرار وتتفاعل مع الثقافات الأخرى. (المصادر: قاموس أوكسفورد، المعجم الوسيط) ومن مظاهر وأنواع الثقافة هناك: اللغات، اللهجات، العقائد، الأديان، المذاهب الدينية، الأيديولوجيات، الآداب، الفنون، العلوم، المعمار، اللباس، الطبخ، الرياضة، الترفيه، وغيرها من أنماط العيش والفكر والتعبير. وكل هذه الأنواع من الثقافات تشترك في كونها متغيرة عبر الزمن (جزئيا أو كليا). وهي قابلة للتبادل بين الشعوب والتصدير والاستيراد والتأثير والتأثر والمزج والخلط والترجمة والتهجين والتعديل والتكييف والتأويل. باختصار: الهوية ذاتية ثابتة، والثقافة موضوعية متغيرة. ما معنى «الهوية الثقافية»؟ يتسبب مصطلح «الهوية الثقافية» بكثير من البلبلة والتناقض والخلط لأنه قد يعني في آن واحد «الثقافة» (المتغيرة) و»الهوية» (الثابتة) لشعب أو قبيلة أو حزب ما. وكثيرا ما ينطبق هذا المصطلح على «ثقافة رسمية» أو «ممأسسة» أو «مقدسة» لمجموعة ما، كأتباع دين معين أو أيديولوجيا معينة أو اتجاه فكري أو نظام اجتماعي معين. بل حتى الدول والمؤسسات والشركات التجارية الكبرى قد تملك «هويات ثقافية» خاصة بها. ويؤمن أتباع الدين أو الأيديولوجيا أو المؤسسة بأن منظوماتهم الفكرية لا تتغير عبر الزمن (هنا يكثر الحديث عن «الخصوصيات الثقافية»). ومن المعلوم أن معظم الأديان والأيديولوجيات والنظم الفكرية تحتوي على بعض الأفكار والمعتقدات الثابتة والمستمرة عبر مدة زمنية طويلة، وهو ما يعطيها «صفة هوياتية» (لأن الهوية لا تتغير). ولهذا السبب يحرص أتباع الأديان والأيديولوجيات على إضفاء صفة «الهوية» أو «الهوية الثقافية» على أديانهم أو أيديولوجياتهم، ويترفعون عن وصفها بـ»الثقافة» (لأن الثقافة تتغير عبر الزمن). ولكن الحقيقة هي أن تلك الأديان والأيديولوجيات تتوفر على أجزاء كبيرة منها خضعت لتغير ما في التفسير والتأويل وطريقة التطبيق. بل وإن الكثير منها خضع لتعديل جوهري يجعل مقارنته ومساواته بنسخته القديمة أمرا متعذرا.
إذن فـ»الهوية الثقافية» تنطبق على الأديان والأيديولوجيات
والحضارات والنظم الاجتماعية والفكرية والثقافية المتميزة عن بعضها البعض والتي لم
تتغير (بعض أفكارها) عبر الزمن، أو لم يتغير تأويلها كثيرا. إلا أن «الهوية
الثقافية» (رغم استمراريتها المحتملة) تبقى مجموعة من الآراء والأفكار الموضوعية
عكس «الهوية» التي هي خصائص ذاتية صرفة. حينما نتعلم إعداد أكلة إيطالية شهية أو ندرس نظرية ألمانية أو نشتري لعبة كومبيوتر أمريكية فنحن نستورد ثقافات أجنبية. وحينما يشتري السياح مصنوعات تقليدية من المغرب ويعودون بها إلى بلدانهم، فالمغرب حينئذ يصدّر منتوجا ثقافيا إلى الخارج.
ولكن هل سمعنا يوما عن شعب استورد هويته من شعب آخر؟ وحتى لو حدث هذا، فهذا يعني بأن ذلك الشعب (المستورد للهوية) لا يملك هوية خاصة به، أي أنه لا يملك ذاكرة جماعية أصيلة ولا شخصية ذاتية ولا تاريخا يميزه عن الشعوب الأخرى. باختصار: الهوية هي خاصة بصاحبها، الشخص أو الشعب، وتميزه عن غيره. الهوية غير قابلة للتصدير والاستيراد والاستنساخ والمزج (باستثناء حالات غسيل الدماغ والاستلاب والاستعمار). هل يمكن أن يكون هناك «تعدد هوياتي» على غرار «التعدد الثقافي»؟ التعدد الثقافي شيء معروف جدا. فالشخص أو الشعب الذي يتكلم عدة لغات هو متعدد الثقافات. والشخص المتعمق في التاريخ الأمازيغي والفلسفة الإغريقية والحضارة الصينية مثلا هو متعدد الثقافات. ولكن لا يمكن لشخص أو شعب أن يمتلك هويات متعددة وخصائص ذاتية «ثابتة» و»متغيرة» ومتضاربة في آن واحد. وأيضا لا يمكن لشخص أو شعب أن ينتمي لأرضين ويتواجد في بلدين أو في مكانين في نفس الوقت! أما أن يكون شخص واحد أو شعب واحد «متعدد الهويات» فهو بمثابة شخص بعدة رؤوس أو بعدة شخصيات! ولا بد أن بعضنا قد سمع عن المرض النفسي «تعدد الشخصيات» Multiple personality disorder أو مرض “انفصام أو تعدد الهوية” Dissociative identity disorder حيث إن الشخص يعاني من تداخل هويات شخصية وهمية تتطفل على هويته الشخصية الحقيقية. حيث إن تلك الهويات الشخصية الوهمية تكون مبنية في ذهنه على تاريخ شخصي متخيل وأحداث متخيلة وانتماءات متخيلة، أو ذكريات متخيلة أو مشوهة.والشخص أو الشعب الذي يقال عنه بأنه «متعدد الهويات» أو «متعدد الروافد الهوياتية» هو في الحقيقة متعدد الثقافات (أو متعدد الروافد الثقافية) لا غير. وفكرة «الروافد» لا محل لها من الإعراب في الهوية، وإنما الروافد تنطبق على الثقافة، حيث إن الشعوب والحضارات تتعلم من بعضها البعض بشكل مستمر و»تتغذى» من «روافد» المعارف والثقافات المتجددة وتخلق لنفسها «ثقافات هجينة» جديدة تتغير باستمرار وتجمع بين أفكار وفلسفات وفنون مختلفة محلية وأجنبية، دون أن تتخلى تلك الشعوب عن هوياتها الوطنية. كل شعب يملك تاريخا واحدا وجغرافية واحدة يشكلان البعدين الزمني والمكاني لهويته (أي ذاكرته الجماعية). ولا يمكن دمج وصهر تاريخ وجغرافية الشعب في تاريخ وجغرافية شعب آخر لأن ذلك تدمير للذاكرة الجماعية للشعب. وهذا الدمج والصهر القسري للهوية هو بمثابة إبادة معنوية للذاكرة الجماعية لا تختلف كثيرا عن الإبادة المادية للأجساد. وكذلك لا يمكن دمج أو صهر التاريخ الشخصي والتواجد المكاني لإنسان ما في إنسان آخر لأن ذلك طمس للذاكرة الشخصية للإنسان أي أنه تدمير للهوية الشخصية. والهوية الأمازيغية فلم تكن يوما ناقصة حتى تحتاج إلى هويات أجنبية تغذيها وتكملها. وإنما هي هوية فريدة خاصة بالشعب الأمازيغي وأرضه الأمازيغية تميزه عن الشعوب والأوطان الأخرى. الهوية الأمازيغية غير محتاجة للاختلاط والتمازج بالهويات الأخرى، زيادة على استحالة ذلك من الناحية العملية. أين هي الأرض الأصلية للهوية العربية؟ بما أن ثقافات الشعوب متغيرة ومتحولة وقابلة للتمازج والتصدير والاستيراد، وبما أن هويات الشعوب ثابتة وغير قابلة للتمازج والاستيراد والتصدير، فهذا يعني أن الثقافة العربية مختلفة عن الهوية العربية. وكذلك الثقافة الأمازيغية مختلفة عن الهوية الأمازيغية. يمكننا أن نقول بكل ثقة بأن المغرب (البلد الأمازيغي الهويةٍ) يقع ضمن النطاق اللغوي الثقافي العربي (مثلما يقع في نفس الوقت ضمن النطاقين اللغويين الثقافيين الأمازيغي والفرنسي). ونفس الشيء ينطبق على تونس والجزائر وموريتانيا مثلا. ثم إن العالم أجمع واقع اليوم تحت تأثير الثقافة الأمريكية التي تتمثل مظاهرها في نمط العيش الأمريكي وفي بعض المنتوجات المشهورة مثل الـiPhone وأفلام هوليوود وFacebook وفي الاقتصاد وفي شيوع الإنجليزية الأمريكية. ولكن هذا لا يعني أبدا أن هوية العالم ستتحول إلى «هوية أمريكية»، فالأمر هنا يتعلق بـ»الثقافة الأمريكية» فقط. أما الهوية الأمريكية فهي محصورة في حدود أمريكا وحدها وتخص الشعب الأمريكي وحده.
وكذلك الهوية العربية محصورة في الجزيرة العربية، لأنها تخص العرب
وحدهم في بلادهم الأصلية وتميزهم عن غيرهم. أما الثقافة واللغة العربيتان فهما
تمتدان إلى خارج الجزيرة العربية، دون تناقض أو تعارض مع هويات الشعوب الأخرى
كالشعب الأمازيغي أو الشعب الفارسي أو الشعب الكردي أو الشعب المصري. كثيرا ما تكون اللغة حاملة وحافظة لهوية أرضها الأصلية وشعبها الأصلي الذي اخترعها. ولكن تلك «الحمولة الهوياتية» صالحة فقط في أرضها الأصلية. أما حينما تدخل تلك اللغة أرضا جديدة ذات شعب مختلف فإن تلك «الحمولة الهوياتية» تفقد معناها وصلاحيتها في البلد الجديد، وتصبح تلك اللغة حينئذ وسيلة للتعبير عن هوية بلدها الجديد وليس عن هوية بلدها القديم. اللغة العربية لم تعد ملكا حصريا للعرب وحدهم وإنما هي الآن مِلك للشعب الأمازيغي أيضا، ويستخدمها كلغة إضافية للتعبير عن هويته الأمازيغية وحياته اليومية. والشعب الأمازيغي لن يتحول إلى شعب عربي فقط لأنه يستخدم العربية، وإنما العربية هي التي تحولت إلى «لغة من لغات الأمازيغ». وحتى لو انقرضت اللغة الأمازيغية تماما (مثلما حدث مع اللغة القبطية في مصر) فالشعب الأمازيغي سيحتفظ بهويته الأمازيغية نظرا لكونها غير مبنية على اللغة أو العرق. الممالك والحضارات الأمازيغية القديمة: أول دولة مستقلة ظهرت في «المغرب الحالي»، حسب المعلومات التاريخية، هي مملكة موريطانيا الأمازيغية التي يرجع تاريخها إلى عام 110 قبل الميلاد. وملوكها المعروفون هم بوكوس الأول Bocchus I، بوكوس الثاني Bocchus II، بوغود Bogud، يوبا الثاني Juba II، وبطليموس الموريطاني Ptolemy of Mauretania. أما «الجزائر الحالية» فأقدم دولة مستقلة معروفة فيها هي مملكة نوميديا Numidia الأمازيغية التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 202 قبل الميلاد وأشهر ملوكها هو ماسنسن Masensen (أو Masinissa). أما “تونس الحالية” فقد كان جزء منها تابعا لمملكة نوميديا الأمازيغية، أما الجزء الآخر فكان تابعا لمملكة / جمهورية قرطاج التي استوطنها البونيقيون Punics (وهم خليط عرقي وثقافي من المهاجرين الفينيقيين والأمازيغ). أما «ليبيا الحالية» فقد شهد جنوبها الغربي (منطقة فزان وجرمة) ميلاد حضارة أمازيغية صحراوية مستقلة متكونة من ثمانية مدن رئيسية متقدمة على شاكلة المدن الإغريقية أو مدن بلاد الرافدين. ويرجع تاريخ هذه المدن الأمازيغية إلى حوالي العام 500 قبل الميلاد. وهي معروفة لدى الإغريق بحضارة الغرمنت Garamantes (من الكلمة الأمازيغية igherman ومعناها «المدن»). واستوردت هذه المدن الأمازيغية الليبية الغنية زيت الزيتون والخمور والأواني من الرومان مقابل تصدير القمح والملح والعبيد. وعرف أهلها تخطيط المدن وتقنية التحنيط، واستخدموا العربات ثنائية العجلات المجرورة بالخيول، وخلفوا لوحات فنية حجرية وأضرحة، واتقنوا الزراعة واستغلال المياه الجوفية وبنوا قنوات تحت أرضية Foggara لتوزيع مياه السقي مجموع طولها حوالي 1600 كيلومتر وما زالت قائمة لحد الآن في ليبيا. وبقيت هذه الحضارة الأمازيغية الصحراوية مزدهرة لحوالي 1000 عام إلى غاية العام 600 بعد الميلاد تقريبا. وهي الحضارة الإنسانية الأولى في التاريخ القديم التي ازدهرت بشكل باهر بدون الحاجة إلى أنهار أو سواحل بحرية. الدول البربرية The Barbary States من المعلوم أن المؤرخين الرومان والأوروبيين القدامى كانوا يسمون سكان شمال أفريقيا بتسميات منها Libyes (الليبيون) Numidae (النوميديون) Mauri (الموريون) و وBarbarus (صيغة الجمع: Barbari) وبتسميات أخرى وهي: Mazax وMazikes وMazices (المؤرخ الروماني Ammianus Marcellinus). أما الإغريق فقد سموا الشمال أفريقيين بـMazyes (من طرف المؤرخ Hecataeus) وMaxyes (من طرف المؤرخ المشهور Herodotus).أما التراث المكتوب العربي والإسلامي القديم والحديث فهو يزدحم بمصطلح «بلاد البربر» الذي قُصِدَ به مجموع البلدان والأراضي الواقعة غرب نهر النيل إلى غاية المحيط الأطلسي (بحر الظلمات). ومن بين الذين استخدموه هناك مثلا: المؤرخون ابن حزم وابن عساكر وابن خلدون (شيخ مؤرخي الأمازيغ). ولم يثبت أبدا في التاريخ الإسلامي أن قام مؤرخ مسلم بنعت شمال أفريقيا بـ»بلاد العرب». بل إن المؤرخين العرب والأمازيغ على السواء كانوا على درجة عالية من الوضوح في التمييز بين «بلاد البربر» في أفريقيا و»بلاد العرب» في آسيا. أما مصطلح «المغرب العربي» الحديث فكلنا يعلم أنه من اختراعات القذافي وعدد من القوميين العرب. وبعد العهد الروماني تطورت لدى المؤرخين الأوروبيين في القرون 15 و16 و17 و18 مصطلحات جديدة أطلقوها على بلدان العالَم الأمازيغي ودونوها في مراجعهم التاريخية والجغرافية وخرائطهم التي ما زالت محفوظة لحد الآن. ومن بين أسماء بلدان العالَم الأمازيغي لدى الأوروبيين هناك: Barbaria باللاتينية الحديثة، وBarberia بالإيطالية، وBerbería بالإسبانية، وLa Barbarie ثم La Berbérie بالفرنسية، وBarbary بالإنجليزية، وBerberei بالألمانية، وBarbarije بالهولندية. ومن بين الجغرافيين والخرائطيين الأوروبيين الذي استخدموا هذه المصطلحات في خرائطهم ومراجعهم الجغرافية حول العالم الأمازيغي: الخرائطي البريطاني Herman Moll، والجغرافي البلجيكي الفلاماني Gerardus Mercator، والجغرافي والمؤرخ الألماني Philipp Clüver، والجغرافي الفرنسي Guillaume Delisle، والخرائطي الهولندي Johannes Janssonius، وغيرهم. ومن المؤرخين والكتاب الذين كتبوا عن «الدول البربرية» لدينا على سبيل المثال: ليون الأفريقي Leo Africanus (1494 – 1554) الذي تحدث بالتفصيل عن «ممالك البربر» (بالإيطالية: Regni della Barberia) في كتابه “وصف أفريقيا” Descrittione dell’ Africa الذي نشره Giovanni Battista Ramusio عام 1550. وفي نسخته الإيطالية الأصلية يتم استخدام المصطلح الإيطالي Barberia للدلالة على شمال أفريقيا. وفي 1819 نشر القنصل الأمريكي في إيالة تونس Mordecai Manuel Noah كتاب «أسفار في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والدول البربرية»Travels in England, France, Spain, and the Barbary States وتمت طباعته في لندن ونيويورك. وفي عام 1825 نشر المؤلف الأسكتلندي Michael Russel كتاب «تاريخ وأحوال الدول البربرية» History and present condition of the Barbary States وفيه سرد مفصل حول تاريخ الأمازيغ وبلدانهم، وتمت طباعته في Edinburgh عاصمة اسكتلندا. ونجد وصفا مفصلا لـ”الدول البربرية” وتاريخ الأمازيغ القديم في الموسوعتين البريطانية والأمريكية Encyclopaedia Britannica وEncyclopaedia Americana منذ طبعاتها القديمة. وظهر مصطلح Barbary Coast (الساحل البربري) لدى الأوروبيين والأمريكيين للإشارة إلى الشريط الساحلي المتوسطي الطويل الممتد من دولة طرابلس إلى دولة مراكش والذي كان قد شهد معارك وأعمال قرصنة (الجهاد البحري) من طرف القراصنة البربر Barbary Corsairs والعثمانيين ضد السفن الأمريكية والأوروبية. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الأمريكيين استخدموا مصطلح The Barbary States (الدول البربرية) في معاهداتهم مع إيالات طرابلس وتونس والجزائر ومملكة مراكش التي أبرمتها حكومة الولايات المتحدة مع قادة هذه الدول ما بين عامي 1786 و1836.الحروب البربرية الأمريكية Barbary Wars بين عامي 1801 و1805 شنت سفن البحرية الأمريكية والمارينز حربا كبيرة ضد الدول البربرية وسفن القراصنة البربر Barbary Corsairs المتحالفة مع الجيش العثماني. والسبب الرئيس لهذه الحرب كانت أعمال القرصنة (الجهاد البحري) التي كان يقوم بها القراصنة الأمازيغ والأتراك العثمانيون ضد السفن الأمريكية والأوروبية في البحر المتوسط وإجبارهم لها على أداء الإتاوات. هذه الحرب معروفة لدى الأمريكيين بالحرب البربرية الأولى First Barbary War. وشاركت في هذه الحرب أساطيل دول طرابلس وتونس والجزائر والتي كانت دولا شبه مستقلة تابعة رمزيا للإمبراطورية العثمانية، ولاحقا انضمت مملكة مراكش إلى هذه الحرب البحرية إلى جانب الدول البربرية الأخرى. وانتهت الحرب بمعاهدة صلح بين طرابلس والولايات المتحدة وتبادل للأسرى وتعويض مالي أمريكي لفائدة طرابلس. أما الحرب البربرية الثانيةٍ Second Barbary War فكانت عام 1815 بين الأمريكيين من جهة والدول البربرية الثلاث الجزائر وتونس وطرابلس من جهة أخرى، ولم تشارك فيها مملكة مراكش. وتركزت الحرب خصوصا بين الجزائر وأمريكا. وانتهت الحرب بتفوق نسبي أمريكي وإبرام معاهدة سلام نتج عنها تبادل الأسرى وإعادة سفينتين حربيتين إلى الجزائر وتعويض مالي لصالح الجزائر وتعهد جزائري بعدم مضايقة السفن التجارية الأمريكية. الأسد البربري والصقر البربري: بما أن شمال أفريقيا كانت معروفة لدى القاصي والداني بأنها «بلاد البربر» فقد كان دائما من الطبيعي أن تنسب حيواناتها ونباتاتها الخاصة بها إلى البربر. وهكذا نجد في المراجع العلمية القديمة والحديثة العديد من أنواع الحيوانات والحشرات والنباتات المنسوبة إلى بلاد البربر. ولدينا مثلا «الأسد البربري» Barbary Lion (وهو أسد الأطلس). وهناك “الحجل البربري” Barbary Partridge (باللاتينية: Alectoris Barbara)، و”الصقر البربري” Barbary Falcon. ولدينا “النمر البربري” Barbary Leopard. وهناك القرد أو النسناس البربري Barbary macaque. ثم هناك “الحَمَام البربري” Barbary Dove. ولدينا الحصان البربري المعروف عالميا والمهجن من طرف الأمازيغ Barb horse. وفي النباتات نكتفي بمثالين وهما: نبات العوسج البربري Barbary matrimony vine (باللاتينية: Lycium barbarum)، وشجر “العفص البربري” Barbary thuja. هل شمال أفريقيا أرض أمازيغية أم عربية أم إسلامية؟ من المؤكد أن هناك نسبة من سكان بلدان شمال أفريقيا الأمازيغية ينحدرون من أصل عربي (أي مهاجرون من الجزيرة العربية). وكذلك هناك نسبة من الأمازيغ من ذوي الأصل الفينيقي، الإغريقي، العبري، الأندلسي، التركي، الروماني، الجرماني، الأفريقي...إلخ. كما أن أديانا كثيرة مرت بشمال أفريقيا ومنها المعتقدات والأديان الأمازيغية واليونانية والفينيقية والقبطية واليهودية والمسيحية والإسلامية بمذاهبها المختلفة. ولكن هوية الشعب الأمازيغي الشمال أفريقي لا تتحدد بالعرق والسلالة ولا حتى باللغة أو الدين. فالأعراق مختلطة ومتمازجة لا يمكن فصلها وفاقدة لكل أصالة وتميز، زيادة على كون الهوية العرقية نزعة عنصرية ساذجة ومتخلفة. والأديان والمذاهب قد تتعايش جنبا إلى جنب في نفس الشعب والوطن. وحتى لو أسسنا هوية المغرب وشمال أفريقيا على العرق والدين واللغة فيجب أن ندخل فيها كل الأعراق والإثنيات والأديان واللغات التي مرت بأرض شمال أفريقيا عبر العصور ومنها مثلا الإثنيات الرومانية والوندالية الجرمانية والفينيقية والعبرية والعربية والتركية والفرنسية والإسبانية والإيطالية زيادة على الأمازيغ القدامى. فتصبح الهوية خليطا عرقيا إثنيا لغويا دينيا لا رأس له ولا رجلين، يختلط فيه الثابت بالمتغير والذاتي بالموضوعي! إذن لا فائدة من الحديث عن العرق والإثنيات والسلالات والأنساب والأديان واللغات حينما يتعلق الأمر بالهوية. فهوية سكان شمال أفريقيا موحدة تتأسس على هوية الأرض الجغرافية التاريخية، مهما تغير العرق واللغة والمعتقد. ونستنتج أنه لا يوجد عرب ولا عبريون ولا فرنسيون ولا فينيقيون ولا أتراك بشمال أفريقيا. وإنما يوجد بها حاليا ناطقون بالعربية والدارجة والحسانية والأمازيغية ومستخدمون للفرنسية والإسبانية. ولكن بما أن شمال أفريقيا معروفة عبر التاريخ بأنها أرض الشعب الأمازيغي ومِلك له، فالمنطق يملي أن نعتبر كل إنسان يعيش فوقها أمازيغي الهوية، وأن نستمر في اعتبار شمال أفريقيا أرضا أمازيغية. أما الهويات الأخرى (الهوية العربية، العبرية، الفرنسية، الفينيقية، التركية...) فمكانها الطبيعي هو في حدود بلدانها الأصلية خارج شمال أفريقيا، بينما يمكن للغات والثقافات أن تنتشر خارج حدود بلدانها الأصلية. فاللغة الإنجليزية مثلا يتكلمها الأمريكيون والكنديون والأستراليون والأيرلنديون ونسبة من الجنوب أفريقيين كلغة أم، فضلا عن انتشارها في الهند وباكستان ونيجيريا مثلا كلغة تعليم وإدارة، إلا أن هويات كل هذه الشعوب ليست إنجليزية ولا بريطانية أبدا، وإنما هوياتها تنبع من أراضيها وأوطانها التاريخية. ونفس الشيء ينطبق على اللغة الإسبانية التي يتكلمها كلغة أمّ 350 مليون شخص في بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية، إلا أن سكان تلك البلدان لا يعتبرون هويتهم إسبانية، وإنما يحددون هويتهم على أساس أوطانهم الأصلية بمعزل عن إسبانيا وأوروبا. أما الهوية الإسبانية فهي محصورة في إسبانيا وحدها. خلاصات جوهرية: - الهوية خصائص ذاتية ثابتة تخص شعبا معينا في حدود أرضه الأصلية وتميزه عن الشعوب الأخرى. ولا يمكن للهوية أن تصدر أو تستورد أو تتمازج مع هويات أخرى. والهوية الوطنية للشعب هي ذاكرته الجماعية المحددة بعاملي التاريخ والجغرافيا (الزمان والمكان). - الثقافة مجموعة من الأفكار والمعارف الموضوعية تتغير عبر الزمن، وهي قابلة للتمازج مع ثقافات أخرى وقابلة للاستيراد والتصدير، وهي قابلة لأن تتشارك فيها شعوب مختلفة ذات هويات مختلفة. - اللغة تدخل ضمن الثقافة وليس ضمن الهوية، لأنها تتغير مع الزمن وهي قابلة للانتشار خارج أرضها الأصلية ولا تتطلب من متكلميها الجدد التخلي عن هويتهم الأصلية. واللغة الواحدة يمكن أن تكون مشتركة بين شعوب ذات هويات مختلفة، دون أن تتخلى تلك الشعوب عن هوياتها. - الدين يدخل ضمن الثقافة وليس ضمن الهوية، لأنه ينتشر عبر الحدود ولا يستدعي من معتنقيه الجدد تغيير هوياتهم. ويمكن لشعوب متباعدة ذات هويات مختلفة أن تتشارك في دين واحد دون أن تتخلى عن هوياتها. كما يمكن للشعب الواحد أن يكون متعدد الأديان. كما أنه تظهر تغيرات (سطحية أو جذرية) في الأديان عبر الزمن في شكل مذاهب وفرق ومدارس فكرية وحركات تجديدية أو تأويلات جديدة. - من هاجر إلى أرض اكتسب هويتها. فالأرض وأهلها الأصليون لا يكتسبون هوية المهاجر الدخيل، وإنما المهاجر الدخيل هو من يجب عليه أن يندمج وينصهر في هوية وطنه الجديد (مع إمكانية احتفاظه بثقافته ولغته أو نشرهما). - شمال أفريقيا (غرب نهر النيل) أرض أمازيغية وسكانها أمازيغيو الهوية مهما كانت أصولهم وأعراقهم وألوانهم وأديانهم ولغاتهم وثقافاتهم. والهوية الأمازيغية ليست مبنية على العرق أو اللغة أو الدين، وإنما على التاريخ والجغرافيا. - بلاد شمال أفريقيا معروفة لدى الأمازيغ بـTamurt Imazighen (أو Tamazgha حديثا). ومعروفة لدى العرب بـ”بلاد البربر”، ولدى الأوروبيين بـBarbary وLa Berbérie وBarbaria. أما الدول الشمال أفريقية الأربع فكانت معروفة بـ”الدول البربرية” Barbary States لدى الأمريكيين والأوروبيين في القرون الوسطى.- الثقافة العربية بأشكالها اللغوية والدينية والاجتماعية والفنية تتعايش مع الثقافة الأمازيغية في شمال أفريقيا وتتمازج معها، وهي لا تتعارض أبدا مع الهوية الأمازيغية لبلدان وشعوب شمال أفريقيا.
|
|