|
|
مداخل ومقومات الدستور الديمقراطي (وجهة نظر أمازيغية) بقلم: سعيد التحمانتي
ثمة قاسم مشترك بين جميع تجارب التحول الديمقراطي، على الرغم مما قد يكون بين هذه التجارب من اختلافات حول تدبير مرحلة الماضي، يتمثل في إعداد أو تغيير جذري للدستور يؤهل للانتقال من نظام سياسي شمولي، استبدادي وسلطوي إلى نظام سياسي ديمقراطي، أيا كان شكل هذا النظام، ملكي أو جمهوري، وذلك وفق آليات ومداخل ديمقراطية. سنحاول في هذا المقال تلمس بعض مداخل ومقومات الدستور الديمقراطي وفق التقسيم التالي: أولا: المدخل الشكلي. ثانيا: المدخل الموضوعي. أولا: المدخل الشكلي أو آليات وضع الدستور. إن أهم سؤال يطرح في هذا الصدد، يتمحور حول من يملك السلطة التأسيسية الأصلية، الحاكم أم الشعب؟ أم هما معا؟.هذا السؤال يتفرغ عنه سؤال آخر لا يقل أهمية وهو: أي الأساليب أمثل وأرقى لوضع دستور ديمقراطي يؤثث للمستقبل؟. أجمع الفقه الدستوري على أن أنماط أو أساليب وضع وإعداد الدساتير تنقسم إلى قسمين: 1ـ أسلوب المنحة: يلجأ الحاكم، بموجب هذا النمط، إلى منح الدستور للشعب دون أخذ رأيه فيه أو موقفه منه، فالحاكم يملك سلطة تأسيسية مطلقة، بموجبها يحدد العلاقة بينه كحاكم مطلق وبين الشعب. ويعتبر هذا الأسلوب من أسوأ أساليب وضع الدساتير. 2ـ أسلوب التعاقد: ينقسم إلى آليتين: ـ آلية الاستفتاء: يقوم الحاكم، طبق هذه الآلية، بوضع وإعداد أو تعديل الدستور، إما بنفسه وبمساعدة مستشاريه ومساعديه، أو بتعيين لجنة أو هيئة لإعداد أو إصلاح الدستور طبق التوجه العام الذي يقره الحاكم، عادة، ثم يتم عرضه على الاستفتاء الشعبي، وهذا الأسلوب رهين بمدى توفر الإرادة السياسية لدى الحاكم لقيادة الانتقال، وكذا بنزاهة الاستفتاء. وقد اتبع المغرب هذه الأسلوب في جميع الدساتير التي شهدها، بدءا بدستور 1962 وانتهاء بدستور 1996.وجاءت نتائج جميع الاستفتاءات تفوق 96%، رغم أن المعارضة كانت تتوفر على قاعدة شعبية واسعة إلى حد ما (معارضة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لدستور 1962، ومعارضة الكتلة الوطنية المتمثلة في حزب الاستقلال والاتحاد الوطني لدستور 1970 مثلا) . وهي دساتير وضعت وفق تصور الحسن الثاني للحكم، كما اتبعه خلفه الملك محمد السادس عند إعلانه عن تعديل الدستور في 9 مارس 2011، إثر الاحتجاجات التي قادتها حركة 20 فبراير. ـ آلية الجمعية التأسيسية: ويتم انتخاب مجلس تأسيسي أو لجنة أو هيئة تأسيسية من قبل الشعب للإعداد والمصادقة على الدستور، مع تشكيل لجنة مستقلة للإشراف على الانتخاب تفاديا لتزوير إرادة الشعب. هذا الأسلوب اتبعته العديد من الأنظمة والنماذج الانتقالية، وهو الأسلوب الأرقى والأمثل لإعداد الدساتير، لأن الدستور في نهاية الأمر تعاقد اجتماعي يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو كفلسفة قانونية وقيم سياسية تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبموجبه يتم الانتقال من نظام سياسي سلطوي إلى نظام ديمقراطي قائم على المتابعة والمراقبة والمحاسبة كمبادئ أساسية للحكامة الجيدة أو الحكم الرشيد. وسأقدم، في هذا الإطار نموذجين من النماذج الرائدة، أحدهم رئاسي والثاني برلماني، وذلك للدلالة على أن توفر الإرادة السياسية القوية للتغيير ستؤدي حتما إلى الديمقراطية. وهذان النموذجان هما: أ- الدستور الأمريكي كنموذج للنظام الرئاسي: هذا الدستور وضعته وصادقت عليه لجنة تأسيسية منتخبة من قبل 12 ولاية من أصل 13 ولاية كانت تتكون منها الولايات المتحدة الأمريكية، وضمت خمس وخمسين عضوا تحت رئاسة جورج واشنطن وعضوية كل من طوماس جيفرسون وجون آدمز. نخبة تأثرت بالفكر الأنواري وبأفكار الفلسفة التحررية أمثال روسو وفولتير ومونتيسكيو، نخبة تميزت طروحاتها بالمغامرة، سيما وأن الشعب الأمريكي كان في معظمه شعبا أميا، وكذا بالجرأة واستشراف المستقبل. كان ذلك في 17 ستمبر1887. هذا الدستور يعتبر من أكثر الدساتير العالمية ثباتا واستقرارا، وقد أسس لدولة فيدرالية ديمقراطية، تحتل مكانة مرموقة على الصعيد الدولي اليوم . ب- النموذج البرلماني: إسبانيا. إن الغرض من إيراد هذا النموذج ليس الهدف منه معرفة نمط وضع دستور 1978، بل معرفة الشخص الذي استطاع قيادة إسبانيا إلى نادي الدول الديموقراطية، بعد أن ورث دولة ديكتاتورية عسكرية. فقبل وفاة الجينرال «فرانشيسكو فرانكو» سنة 1975 بادر إلى ترتيب الأمور لاستمرار نظامه الدكتاتوري العسكري، الذي وضع هياكله وأركانه بعد انتصاره في الحرب الأهلية سنة 1939، حيث استصدر سنة 1969 ما سمي ب «قانون الخلافة» من»الكورطييس» (البرلمان) بمقتضاه تمت تسمية «خوان كارلوس» أمير إسبانيا وخليفة له في رئاسة إسبانيا بعد موته، كما عين أقرب المقربين إليه وذراعه الأيمن الأميرال «كاريرو» رئيسا للوزراء الذي اغتيل على يد جماعة باسكية إرهابية سنة 1973، أي قبل خمسة سنوات من المصادقة على دستور1978، ما ينفي أن النزعة الانفصالية لدى إقليم إلباسك وليدة دولة المجموعات المستقلة الوليدة في نهاية السبعينات من القرن الماضي، بل يمكن القول إن دستور 1978 أتى للقضاء على النزعات الانفصالية، معتقدا أي «فرانكو»، أنه باتخاذه لهذه الإجراءات، ببقاء ودوام نظامه بعد موته. بيد أن «خوان كارلوس» المتشبع بالديمقراطية والمتأثر بنموذج الملكية البرلمانية البريطانية، وقراءته الدقيقة للمجتمع الإسباني المتعدد اﻹثنيات والأعراق، وبعد وفاة «فرانكو» قطع جذريا مع نظامه، رغم المعارضة القوية التي قابله بها صقور النظام الفرنكوي وشبكات المصالح، وصلت إلى حد القيام بانقلاب عسكري سنة 1981 الذي أفشله الملك الشاب معلنا أن الخيار الديمقراطي لا رجعة فيه. وذلك باتخاذه للعديد من الإجراءات والتدابير الحاسمة كإصدار قوانين جديدة تتعلق بتأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات، وإطلاق العنان للصحافة الحرة، وعودة اللاجئين والعفو عن المعتقلين السياسيين بمن فيهم أشد معارضي النظام الملكي، الشيوعيون. وفي سنة 1978 تمت المصادقة على الدستور الذي قاد إسبانيا نحو مصالحة حقيقية وأسس لدولة المجموعات المستقلة، وللملكية البرلمانية حيث الملك يسود ولا يحكم. انطلاقا مما سبق، هل تستطيع لجنة المنوني المعينة الإجابة عن مطالب وتطلعات الشعب المغربي بصياغة دستور ديمقراطي مبني على تعاقد سياسي واضح وضامن لبناء مغرب جديد يحدث قطيعة مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان سواء على المستوى المادي أو الرمزي، دستور يتسع لكل مكونات الشعب الثقافية والاجتماعية واللغوية؟. إن الإجابة عن هذا التساؤل سيتم انطلاقا من الملاحظات التالية: 1- إنها لجنة فوقية، أو على الأقل لجنة لا تتكون من المكونات الفكرية والسياسية والحساسيات المجتمعية، كما أنها تضم في عضويتها بعض الأشخاص الموجودين على خط موازٍ لخط الديمقراطية وحقوق الإنسان.2- إن عمل اللجنة سيظل محكوما بالتوجهات العامة والإطار المرجعي وكذا السقف السياسي الذي حدده الملك في خطاب 9 مارس 2011. 3- إن جل أعضاء اللجنة اشتغلوا إلى جانب عمر عزيمان، رئيس اللجنة الاستشارية للجهوية الموسعة والذين قدموا مقترحا محكوما بالهاجس الأمني، على غرار الجهوية التي هندسها وزير الداخلية الراحل إدريس البصري سنة 1997، وليس على أساس مدخلي التاريخ والثقافة، فما المبرر الذي يجمع، مثلا، بين جهة الريف ذات الحمولة التاريخية والثقافية المعروفة تاريخيا، والتي تمتد رقعتها من طنجة إلى السعيدية عبر البحر الأبيض المتوسط ومن الحسيمة إلى فاس، وبين جهة الشرق؟. 4- إن الخرجة الإعلامية لعضو من أعضاء اللجنة، محمد الطوزي، حول عدم أهلية النخبة السياسية للملكية البرلمانية. هذه المقولة تستعمل كذريعة لرفض الإصلاحات الحقيقية والتغيير الذي يطالب به الشعب وعلى رأسه حركة عشرين فبراير، لغرض أساسي يتمثل في إبقاء النخبة المتنفذة محتكرة للسلطة والثروة، كما تستعمل كمقولة لخدمة المصالح الشخصية أو الحزبية أو الفئوية أو العائلية، مثلها مثل مقولة الخيانة والمؤامرة التي استعملت للإقصاء والتهميش. هذا بالإضافة إلى الإبقاء على وزارات السيادة كما صرح بذالك وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري، يؤكد أن لجنة تعديل الدستور لن تذهب بعيدا في مقترحاتها الدستورية. ثانيا: المدخل الموضوعي. أثبتت التجارب الدستورية الديمقراطية أن الدساتير التي تضمن الاستقرار للمجتمعات، ليست هي التي تضمن فصل السلط وتنظم السلطات بشكل جيد، بل هي تلك الدساتير التي تحمل هوية الشعب التي سيطبقها وتعكس تاريخه الحقيقي. وبناء على ما سبق فإنه سيتم الاقتصار، في هذا المدخل، على بابين أساسيين: 1ـ باب اللغة والهوية: إن الدساتير التي أعدها الملك الراحل الحسن الثاني، بدءا بدستور 1962 وانتهاء بدستور 1996 تحكمت فيها مرجعيتان أساسيتان: المرجعية الأولى: مرجعية مركزية يعقوبية تنبني على أساس التأحيد والوحدة المفرطة في بناء الدولة والسلطة (كل القرارات: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية يتم احتكارها في المركز) مع إقصاء وإلغاء كل تعدد واختلاف. وهي مرجعية مستمدة من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لسنة1958 الذي أعطى صلاحيات وسلطات واسعة لرئيس الجمهورية وهي سلطات تكاد تكون مطلقة، وقد جاءت البنية الدستورية المغربية محاكية ومطابقة له في معظم بنوده سواء من حيث الصياغة أو المضمون. المرجعية الثانية: مرجعية عرقية في مسألة طرحها للغة والهوية. قبل الحديث عن هذه المرجعية التي أطرت الدساتير الخمسة (دستور 1962، دستور 1970، دستور 1972، دستور 1992 ودستور 1996) لا بد من الإشارة إلى القانون الأساسي الذي صدر بتاريخ 2 يونيو 1961(وضع هذا القانون بالاتفاق بين علال الفاسي والملك الراحل الحسن الثاني)، والذي ورد فيه أن المغرب مملكة عربية إسلامية، وأن العربية لغة البلاد الرسمية في محو تام للجغرافيا والتاريخ والثقافة والهوية والحضارة الأمازيغية كثابت أساسي وما عداه كروافد، وكذا إقصاء اللغة الأمازيغية كلغة لهذا الثابت في نقض صارخ لما ورد في نفس القانون بأن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات والتزام الدولة بصيانة كرامة الأشخاص وكفالة الحريات الخاصة والعامة. وعلى نفس المنوال سارت دساتير الراحل الملك الحسن الثاني، على الرغم من ورود كلمة «المغرب الكبير» في ديباجة دساتير 1962و1970 و1972، للاختلافات القائمة، آنئذ، بين الملك الراحل والرئيس المصري جمال عبد الناصر، لتعود كلمة «العربي» للظهور مرة أخرى في تصدير دستور 1992 ودستور1996 على الشكل التالي:»المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية وهي جزء من المغرب العربي الكبير» . إن دخول المغرب إلى نادي الدول الديمقراطية يستوجب القطع الجذري مع السلطوية والإقصاء والتمييز وتفكيك البنية المخزنية وكذا الفكر العنصري الذي ساد منذ سنة 1930، وذلك عبر الإقرار الدستوري بأمازيغية المغرب وترسيم اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية مع توفير كافة الإمكانيات المادية والمؤسساتية لها. كما تطالب بذلك الحركة الأمازيغية، وكما طالبت بذلك توصية اللجنة الأممية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادرة سنة 2006، وكذا التوصيات التاريخية الهامة الصادرة عن اللجنة الأممية للقضاء على الميز العنصري ما بين 16و17 غشت 2010 والتي اتهمت الدولة المغربية بالعنصرية وممارسة الميز العنصري ضد «إيمازيغن»، رغم توقيعها أي الدولة المغربية، على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال الميز العنصري سنة 1969 . 2ـ باب الفيدرالية: أبانت التجربة المغربية عن فشل مشروع «الدولة الوطنية المركزية» في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي تحقيق الديمقراطية حيث أفرزت سياقا سياسيا متسما بالإقصاء والتمييز والسلطوية منذ سنة 1955 كمفردات جثمت على السياسة والاقتصاد والثقافة والعدالة وعلى جميع مناحي الحياة. فبعد «الاستقلال» تمت مركزة السلطة والثروة في يد المخزن وفئة متنفذة تتكون في غالبها من أبناء المحميين و»المفاوضين» في «إيكس ليبان» الذين تفاوضوا دون شروط مسبقة، بل بشروط مفروضة عليهم من قبل فرنسا المتمثلة في الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية بعد انسحابها من المغرب، وكذا تطويق جيش التحرير والقضاء عليه كرقم صعب في المعادلة لا يمكن تجاوزه والحامل لمشروع مناقض «لمشروع الملتفين» حول مائدة «إيكس لبيان». مما أدى إلى ظهور العديد من الانتفاضات كانتفاضة عدي أوبيهي سنة1957 بتافيلالت التي تم سحقها واغتيال قائدها في السجن، وانتفاضة الريف سنتي 1958و1959 التي تعرضت للإبادة وارتكبت في حقها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق معايير القانون الدولي. وكان من نتائج «الدولة الوطنية المركزية» بروز فوارق وتفاوتات اجتماعية ومناطقية خارقة. ورغم لجوء المغرب إلى الأخذ بنظام الجهوية منذ سنة 1971 (الجهات الاقتصادية السبع)، والارتقاء بالجهة إلى مرتبة الجماعة المحلية وفق دستور 1992 (الفصل 94) ودستور 1996 (الفصل 100) وصدور القانون المنظم للجهات سنة 1997 (قانون رقم 96/47) غير أن الهاجس الأمني والبيروقراطي المؤطر والمتحكم في التجربة وكذا الوصاية القبلية والبعدية الممارسة من قبل المركز (وزارة الداخلية) حالا دون تحقيق التنمية والتوزيع العادل للثروة والسلطة. إن المدخل الحقيقي لبناء النظام الديمقراطي يتمثل في الأخذ بالنظام الفيدرالي، مستلهمين في ذلك التجارب الدولية الرائدة (ألمانيا، سويسرا، إسبانيا، كندا، الولايات المتحدة الأمريكية، ...)، عبر خلق كيانات ووحدات تحت دولتيه (ست أو سبع كيانات والمعروفة تاريخيا) تتمتع بالاستقلال الذاتي في تدبير شؤونها في مختلف الميادين التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع مساهمة هذه الكيانات في صنع القرارات على المستوى الفيدرالي.
|
|