|
|
هل الأمازيغية «أُمُّ وَلـَـدٍ» (أو: هل هناك علاقة بين قضيتي الأمازيغية والمرأة؟) بقلم: محمد المدلاوي المنبهي http://orbinah.blog4ever.com/blog/index-162080.html
هناك سمة أنثروبو-ثقافية في الحجاج، لازمت منطقَ النقاش الدائر منذ عقود حول المسألة الأمازيغية لدى بعض الفرقاء المنخرطين فيه؛ وقد راجت هذه السمة من جديد في الخطاب العام عند ذلك البعض مع رواج النقاش القائم حاليا (أبريل 2011) حول التعديلات الدستورية فيما يتعلق منها بأسس تدبير الملف اللغوي، باعتبار ذلك الملف مرتبطا بفلسفة وبمفهوم مقاصد التنمية البشرية عبر السياسات العمومية في التعليم، والخدمات، والتوعية، ومحو الأمية، وتوفير كافة شروط المشاركة المواطنة، وتدعيم الشخصية الوطنية المتوازنة على مستويات الفرد والجماعة في إطار دولة وطنية ديموقراطية حديثة منشودة. وتتمثل تلك السمة الإنثروبو-ثقافية، في باب الحجاج، في أن من بين أدوات الإقناع التي يدلي بها بعضُ من لا يقتنع بما تمثله الأمازيغية بالنسبة للوطن مما يستلزم العناية المؤسسية بها، هو أن يبادر ذلك البعض إلى التصريح بالعلاقة السلالية التي تربطه، حسب تصوره، بالأمازيغية؛ فيصرح مثلا، على سبيل البوح والاعتراف بسر من الأسرار، بأنه هو نفسه أمازيغي، أو متصاهر مع الأمازيغ. ولعل أبرز الأمثلة الملموسة في هذا الباب، في صفوف من لهم إسهام فكري في الساحة الفكرية، هو المرحوم محمد عابد الجابري، الذي قضى يوما (في كتاب «أضواء على مشكل التعليم بالمغرب») بأنه يتعين «إماتة تلك اللهجات»، واسم الإشارة هنا عائد على الأمازيغية والدارجة، والذي كان، رحمه الله، لا يفوت فرصة لدعم موقفه ذاك، الذي كان مناهضا للأمازيغية ثم أصبح متحفظا عليها، بالتنبيه إلى أنه هو نفسه أمازيغي مولدا ومنشأ (من فيكيك)، وأنه لم يتعلم العربية اكتسابا إلا في السنوات الأولى بالمدرسة (برنامج «في الواجهة» بالقناة الثانية-M2؛ 18 أكتوبر 2000). ثم كان هناك آخرون يشهرون انتسابهم السلالي إلى أمازيغ الريف أو الأطلس أو سوس لنفس الغاية الإقناعية كلما دعاهم المقام إلى ذلك؛ وهناك إلى اليوم الكثير من الأقلام الصحفية ممن لا يزال يردد نفس حجة الانتماء السلالي إلى الأمازيغية، لكي يضفي الشرعية والصواب على موقفه المناهض للأمازيغية أو المتحفظ في شأنها في إطار النقاش الدائر حاليا حول التعديلات الدستورية، فيقول مثلا: («يا أخي، أنا الذي أحدثك أمازيغي، سواء من حيث أصولي أو نشأتي أو مسكني الآن ... وأتصور أن دعوات دسترة الأمازيغية قد تحولت في النقاش الحالي حول التعديلات الدستورية إلى نقاشات إيديولوجية و’’شعبوية’’ ... لذا، فإن ما يغيب عن هؤلاء الدعاة هو أنهم باقتراحهم هذا يهددون الوحدة الاجتماعية للمغرب من خلال خلق صراع إثني وعرقي سيغدو مع الزمن عنوانا للانفصال». انظر النص الكامل في الموقع: http://hespress.com/?browser=view&EgyxpID=30609) (1)ويمكن تلخيص المنطق الدلالي الإجمالي لهذا الأسلوب في الحجاج والإقناع في أنه يكفي أن «أكون أنا بنفسي أمازيغيا» من الناحية السلالية أو الإثنية، بشكل معيش مباشر، أو بمجرد عنعنة شجرة جينيالوجية «أبوح بسرها» عند الحاجة، لكي يعتبر موقفي المتحفظ أو المناهض لركن من أركان الشخصية الوطنية صوابا، وذلك من باب «وشهد شاهد من أهلها»، ولكي يكون ذلك الموقف ملزما للجميع، نظرا لأنني - «وأنا من أصحاب الحق المزعوم المُدّعَى به لفائدتهم» - قد أثبتـتُ، في تجرّد وموضوعية، عدمَ صحةِ دعوى مَن ادّعى قيام ذلك الحق المزعوم. غير أن ما يطرح سؤالا معرفيا محيرا في باب علاقة الثقافة بمنطق الحجاج هو أن هناك كذلك من لا يقتنعون بما تمثله العربية اليوم بالنسبة للوطن مما يستلزم العناية المؤسسية بها، أي من يلقبهم البعض بـ»الفرانكوفونيين»، وهم كثر كذلك. وكثير منهم يعتقد ثقافيا بأنه «عربي ابن عربي» من حيث لا يتسرب إلى الأمر في ذهنه شكّ. إلا أن «الحجج» التي يدلي بها أمثال هؤلاء للدفاع عن مواقفهم تجاه العربية تنحصر دائما في باب ما يعتبرونه نجاعة براغماتية وعملية في علاقة تلك النجاعة بمدى التأهل الذاتي للغة المعنية بالقياس إلى غيرها من اللغات اليومَ وليس أمس. ولم يُسمع قط أن أحدا من هؤلاء قد حاول يوما أن يضفي طابع الموضوعية على موقفه بالإدلاء مثلا بـ»حقيقة» كونه «هو نفسه عربيا» من الناحية السلالية، كما يتم نظير ذلك بالنسبة لمناهضة الأمازيغية. أما الصورة الإثنو-ثقافية التقليدية للبوح المشار إليه بشأن الأمازيغية، باعتبار ذلك البوح في نظر أصحابه بيّنة حجاجية في إثبات صواب موقف أصحابه، وبطلان كل دعوة إلى الاعتراف بمكانة الأمازيغية في بناء الشخصية الوطنية، فقد كان يتم التعبير عنه تقليديا بخطاطة علاقة المصاهرة، التي تحيل إجمالا في المتخيل إلى خطاطة قصة المولى إدريس الأكبر مع السيدة كنزة بنت الامير اسحاق بن عبد الحميد الاوربى. فلكي يضفي كل متحفظ أو مناهض للاعتراف المؤسسي بالقيمة الوطنية للأمازيغية صفةَ الموضوعية على موقفه، يدأب على القول مثلا («أنا بنفسي، أمي بربرية») أو («كانت لجدي ثلاث نسوة، منهن اثنتان بربريتان). فالملاحظة التي تفرض نفسها هنا، من الناحية المعرفية الأنثروبو-ثقافية، هي أن العلاقة بالأمازيغية لا يتم «البوح» بها في تلك الذهنية إلاّ عبر المسلك المؤنث (filière féminine) بما يفيده ذلك المسلك في تلك الذهنية من علاقة وطء وفراش، وأنه لا أحد ممن يوظف ذلك البوح يثبت أمازيغيته عبر المسلك الأبوي الذكوري، وأن ماهية «الأمازيغية» نفسها قد تمت «مَهـيئـتـُها» في نهاية المطاف مع ماهية «المرأة».وقد سبق لي في هذا الباب أن تناولت في أحد كتبي (2) الآليات الفكرية الثقافية التي انتهت بتحويل تسمية اللغة في المعجم من حالة التذكير («اللسان العربي» في الثقافة العربية العتيقة، «اوال امازيغ» في الثقاقة الأمازيغية إلى عهد قريب) إلى حالة التأنيث («اللغة العربية» في الثقافة العربية المولـّدة، «توتلايت تامازيغت» في الثقافة الأمازيغية الحديثة). فلعل ذلك مرتبط بالتحول الاجتماعي التاريخي من العقلية الأميسية (matriarcat) إلى العقلية الأبيسية (patriarcat). فبقيام العقلية الأبيسية، التي من بين تجلياتها التملـّكُ المادي والرمزي (تملك المال، والبنين، وما في الفراش، وكل رموز السلطة)، أصبح من الطبيعي لماهية اللغة، باعتبارها من رموز التملك، ألا يتم تصورها ثقافيا إلا كماهية أنثى، مثلها مثل المرأة التي هي للفراش والوطء والإنجاب والإرضاع بالأساس في تلك العقلية، أو التي هي لاحتمال وأدها باعتبار الوأد في تلك العقلية حقا من حقوق المالك إذا ما صدر عن الأنثى أو بشأنها ما يهدد سلطته. وإذ من أوجه اكتمال سلطة التملك الأبيسي الاستكثارُ من المال والبنين والفراش، وتحسين النسل، فقد عرف تاريخ تناقلِ السلطة، وتوارثها، وتوريثها، وضعيةَ ما عرف بـ»أُمّ وَلـَد» في باب الأحوال الشخصية للنساء. و»أمّ ولد» في ظل ذلك النظام الثقافي هي كل عَقيــلة في حريم المتملـّك، زائدة على نسوته اللائي هنّ من عشيرته، والتي يكون قد تملكها إما سبيا كجارية، وإما عبر صفقة تعاقد صلح بعد حرب رابحة، وذلك لمجرد المتعة و/أو لتحسين النسل و/أو إبرام ميثاق، ودون أن يكون لها اعتبار في شجرة النسب بما يترتب عن النسب من الحقوق. فهي ليست زوجة وإنما هي «أمٌّ للبنين» أو مُرضع. وقد حدثـتـنا نُـتـَف هوامش التواريخ والمناقب عن كثير من «أمهات بنين»، وأشهرهن الأُمّـان «البربريتان» لكل من أبي جعفر المنصور والأمين ابن هارون الرشيد العباسيَين، وغيرهما كثير من ورثة الجاه والسلطة ممن كانت أمهاتهم في وضعية «أمّ ولد» ويحملن ذلك اللقب كاسم ثان بعد الوضعية الجديدة. وكذلك كانت أمّ صقر قريش، عبد الرحمن الداخل الأموي، التي «كانت بربرية من سبي المغرب، وكانت تسمى داح» كما تواترت بذلك الأخبار. فما هي، إذن، علاقة هذه الرواسب الانثروبو-ثقافية لوضعيات «أم وَلـَد» ولتقاليد حق المالك في «وأد الأنثى»، مما يبدوا متجذرا في أعماق الثقافة المغربية، بما دأب عليه اليومَ قومٌ ممن تمت الإشارة إليهم، مِن ربطٍ سيكو-ثقافي للأمازيغية بالأنثى (زوجة الأب أو الجد، أو الأم في أحسن الأحوال وأقلها ورودا) التي عليها الولاية في حياتها، ولوليها عليها حق احتمال الوأد؟ وذلك كلما حاول أولئك القوم إضفاء الموضوعية على تحفظهم أو مناهضتهم لتلك اللغة التي كانت تسمى اوال امازيغ («اللسان الأمازيغي»)، بالتذكير كما في مكتوبات أمثال الهوزالي (بداية القرن 18م: «الحوض»؛ «بحر الدموع») أو الدرقاوي («كتاب الأمير»)، والتي كان إذا ما تم تعريب لفظ تسميتها من طرف أمثال الهوزالي والدرقاوي، سُـمّيت بـ»المازغي» بإحلال الصفة محل الموصوف، ومع الاحتفاظ للاسم بصيغة تذكيره الأولى، كما عند إبراهيم ازناكَـ (نهاية القرن 16م)؟ فهذا الأخير مثلا يقول، في إطار نقاش قديم حول الأمازيغية: (ماني غ-يلاّ لكتاب ينـّان ور يزري اد يمل يان دّين ي-لاقوام س-لمازغي؟ أي «أين يوجد ذلك الكتاب الذي يقضي بعدم جواز تلقين الدين للأقوام بـ[اللسان] المازغي؟». انظر Boogert 1997; p:48). (3) ثم ما هو السر، من الوجهة السوسيو-ثقافية والسوسيو-سياسية، في أن تجاوز حالة الانسداد (blocage) السوسيو-ثقافي والسوسيو-سياسي الذي عرفه المغرب في باب ما يتعلق بكل من قضيتي الأمازيغية والمرأة، قد تم، بالنسبة للقضيتين معا، بشكل متزامن، كما لو أن هتين القضيتين عبارة عن وجهين لقضية ثقافية واحدة، أي قضية مدى رقي الذات بوعيها إلى مستوى تجاوز التمزق السكيزوفريني بين مكوناتها عن طريق إدراك تكامل تلك المكونات (الوحدة في التنوع) بدل الوعي الشقي الذي لا يدرك سوى تقابل العناصر الذي يتحول، بسبب التركيز عليه في حيز الإحساس، إلى حالة تناقض؟ وأخيرا، ما هي دلالة كون فك ذلك الانسداد إنما تم على المستوى المؤسسي بمبادرات تفعيل الفصل 19 من الدستور بالضبط، وليس بفعل تراكم مبادرات برامج فعل القوى السياسية؟ هذه الأسئلة مجتمعة، هي التي أملت عنوان هذا المقال. --------------------- (1) انظر وأنصت إلى نموذج حي من استعمال لهذا الأسلوب من «الحجاج» باسم التخصص اللساني الأكاديمي في موقع اليوتوب عبر الرابط الآتي: http://www.youtube.com/watch?v=n9EN_FMucVA&feature=player_embedded#at=20 (2) محمد المدلاوي (2010) مقامات في اللغات والعقليات؛ الهوية والتحديث ما بين التذكير والتأنيث. مطبعة كوثر - الرباط (3) V.D. Boogert (1997) The Berber Literary Tradition of the Sous. Leiden
|
|