|
|
أن نكون أو لا نكون (عن ضرورة دسترة الأمازيغية لغة وهوية) بقلم: ميمون أمسبريذ
يكتسي مطلب ترسيم الأمازيغية هوية ولغة في الدستور المقبل، إلى جانب طبيعته الكيفية التي تجعل منه شرط وجوب وليس فقط شرط صحة (بمصطلح فقهاء الدين) بالنسبة لهذا الدستور، (يكتسي) صبغة خاصة بالمقارنة مع المطالب الأخرى المرفوعة من قبل المجتمع المغربي من خلال قواه الحية، هي عدم قابليته للتأجيل. ذلك أن المطالب الأخرى المتعلقة إجمالا بطبيعة نظام الحكم وأسلوب الحكامة هي مطالب، وان تكن ضرورية وملحة من أجل الخروج بالمغرب من حالة الخلط والتخبط والتجريبية التي تسم السياسات العمومية في سائر القطاعات – إن هذه المطالب، على ضرورتها وإلحاحها، ليست – ومن بعيد – بنفس الدرجة من الاستعجال التي عليها مطلب ترسيم الأمازيغية. ذلك أن عدم دسترة هذا الحق الاجتماعي أو ذلك المجلس الاقتصادي أو تلك المؤسسة الحقوقية أو إسناد هذا الاختصاص أو ذاك إلى هذه السلطة أو تلك في النسخة المرتقبة من الدستور ليس بالأمر الذي لا يمكن تداركه: إنها اعتبارات تقنية تدخل في باب الحكامة وسبل تدبير الشأن العام. وهذه تخضع لوتيرة تطور المجتمع ومدى حيوية نخبه السياسية والمدنية – هذه النخب التي تستطيع في أي وقت تحيين أساليب الحكامة ومناهج التدبير لجعلها تستجيب لمقتضيات التطور المجتمعي من خلال تعديل دستوري جديد؛ ما دام الدستور ليس وحيا منزلا وإنما ميثاق يبلور فيه المجتمع تصوره لنظام الحكم وأساليب الحكامة في مرحلة من مراحل تطوره. وليس ذلك شأن مطلب ترسيم الأمازيغية. ذلك أن هذا المطلب يستند – بجانب المعطى الكيفي المتمثل في الهوية – إلى معطى كمي إحصائي يتناقص باستمرار مع مرور الزمن وغير متجدد: هذا المعطى هو عدد الناطقين بالأمازيغية، وتوسعا، الكم المتبقي من الثقافة الأمازيغية، ونسبة المغاربة الذين لهم وعي بهويتهم الأمازيغية بعد قرن (1912 – 2011) من «السياسة البربرية» المبنية على الإبادة الثقافية والهويتية – تلك السياسة التي تسارعت وتيرتها خلال نصف القرن الأخير على يد دولة الاستقلال. يتضح، إذن، وجه الفرق بين المطلب الأمازيغي والمطالب الأخرى: إن المطلب الأمازيغي مبني، إلى جانب المعطى الكيفي الذي هو الهوية،على معطيات كمية عددية؛ فيما المطالب الأخرى ذات طبيعة مذهبية و/أو تقنية. ومذاهب الحكم وتقنيات الحكامة لا تنفد، خلافا للمعطيات الكمية المتناقصة، فإنها تنتهي إلى النفاد. وذلك شأن الأمازيغية. نفاد الأمازيغية هو بالضبط ما يراهن عليه أعداؤها: أن ينفد الرأسمال الذي تستثمره الحركة الأمازيغية في مطالبتها بترسيم الأمازيغية، لكي يصبح مطلبهم هذا غير ذي موضوع. وهم في ذلك يعتمدون على عامل الزمن الذي يعرفون أنه في غير صالح الأمازيغية. ولكي «يعطوا الوقت للوقت» حتى يفعل فعله عبر عوامل التعرية الهويتية المتمثلة في سياسة التعريب، تجدهم يعمدون إلى المناورة والمراوغة والتضليل. فنلاحظ أن النبرة المسيطرة على تدخلانهم في النقاشات الجارية حول الأمازيغية إثر خطاب التاسع من مارس عن تعديل الدستور هي أن الأمازيغية إرث وطني وملك لجميع المغاربة (كلمة حق يراد باطل)، وأنه لا أحد يملك حق تنصيب نفسه وصيا على الأمازيغية أو احتكار التحدث باسمها، الخ. ولو أن كلامهم هذا صادر عن توبة نصوح لقبل منهم ولو جاء متأخرا: فالتوبة تًجُبّ ما قبلها... لكن الواقع غير ذلك. فهؤلاء – أحزابا وجمعيات وأشخاصا – ليسوا في حقيقة أمرهم سوى حربائيين يتلونون بلون الموقف الملكي للساعة. تفصيل ذلك أن الملك جعل الأمازيغية في الخطاب المشار إليه أعلاه في صلب الركيزة الأولى من الركائز السبع التي ارتأى أن يبنى عليها الدستور الجديد: ركيزة هوية المغرب. أما وأن الأمر كذلك، فلم يعد أمام الأحزاب والهيئات سوى أن يبحثوا عن صيغة ما لتصريف الموقف الملكي المبدئي ذاك عبر تبنيه بطريقة أو أخرى؛ ولو أدى بهم ذلك إلى التنكر ظاهرا لمواقفهم السابقة من الأمازيغية – تلك المواقف التي تراوحت بين العداء السافر واللامبالاة السعيدة، مرورا بالاستغلال الانتهازي. وهم في «صحوتهم الأمازيغية» المزعومة تلك يؤكدون أن الأمازيغية ليست ملكا للحركة الأمازيغية، وأنهم هم أنفسهم أمازيغيون, وأنهم لا يسمحون لأحد أن يزايد عليهم في أمازيغيتهم ... (إن تسمعهم يعجبك قولهم...) . لكن عندما نأتي إلى المقترحات، نجدهم يقترحون أن تكون الأمازيغية لغة وطنية لا رسمية! ويعلل أكثرهم اعتدالا موقفهم هذا بكون الأمازيعية ليست مؤهلة بعد لتكون لغة رسمية. أما الآخرون فلا يقبلون بالأمازيغية ضرة للعربية، مؤهلة آو غير مؤهلة. ولكي نبقى مع المعتدلين، نقول: إن الطفل ذا الثلاث سنوات نفسه لن تنطلي عليه الحيلة! الأمازيغية لغة وطنية! مرحى! إنه لشئء مطمئنٌ حقا: نحن الأمازيغيين لم نأت من المريخ إذن! واللغة التي نتكلمها لغة وطنية وليست أجنبية! لكن لغتنا- الوطنية منذ الآن- لن تكون رسمية، لأنها «غير مؤهلة» لتكون كذلك. وبما أن تأهيلها لا يتأتى إلا بترسيمها، فإنها لن تتأهل أبدا؛ وعليه فإنها لن ترسم أبدا. إنها الحية التي تعض ذنبها: حية معاداة الأمازيغية، التي علي الأمازيغيين قطع رأسها. يتكلمون عن لغة مؤهلة ولغة غير مؤهلة، كما لو كانت توجد لغات مؤهلة بطبيعتها لتكون رسمية ولغات ليست كذلك بطبيعتها! وهم إذ يفعلون يتناسون أن عدم كون الأمازيغية مؤهلة سببه هو بالضبط عدم ترسيمها. الأمر الذي ترتب عنه إقصاؤها من الحياة العامة متمثلة في المؤسسات على اختلافها والحكم عليها بالإقامة الجبرية في بيوت من بقي من الناطقين بها. وبعد أن تم لهم ما أرادوه لها من إفقار وتشتيت، هاهم يحاسبونها على «جريرة» هم مرتكبوها في حقها! لنسلم بأن الأمازيغية غير مؤهلة في وضعها الراهن لأن تكون لغة رسمية، فهل معنى ذلك أنه ستكون هناك «دورة استدراكية» ستتمكن خلالها الأمازيغية من اجتياز اختبار الترسيم عبر تعديل دستوري آخر؟ متى سيكون ذلك؟ بعد عشرين، ثلاثين أو أربعين سنة؟ والتدابير التي ستؤهلها افتراضا للنجاح في امتحان الترسيم؟ هل هي من جنس تلك المعمول بها منذ أن قيل إن الدولة تريد النهوض بالأمازيغية؟ أي: تدريس افتراضي، اعتباطي، تجزيئي، يُحسب تعميمه المعلن بعداد القطرات à compte-gouttes تلك «التدابير» التي قلنا عنها في مكان آخر إنها بمثابة التطبيب التعويضي les soins palliatifs الذي يخص به المرضى الميئوس من شفائهم! لا شك أن معادي الأمازيغية المتسترين بقناع الاعتدال، هؤلاء الذين يقولون بدسترة الأمازيغية لغة وطنية، يعولون على المدة الزمنية الإضافية التي على الأمازيغية أن تنتظرها، وعلى تلك «التدابير» المرصودة «للنهوض» بها ليتكفلا بدفن الأمازيغية (والأمازيغيين). وعندئذ لن يجد الجيل اللاحق من المغاربة، ممن يشعرون شعورا غامضا بانتمائهم الأمازيغي، شيئا من الأمازيغية يستندون إليه ليطالبوا بترسيمها. وبذلك سيصبح مطلب ترسيم الأمازيغية غير ذي موضوع. (لن يعود هنالك رأسمال يمكن استثماره). هذا ما يريده «المعتدلون» الذين رضوا بأن يتنازلوا ويقبلوا بالأمازيغية لغة وطنية في الدستور الموعود. أما المتشددون من قبيل الشوفينيين العنصريين المنضوين في ما سموه «الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية» (ممن؟! وهل اللغة العربية مهددة أصلا؟!)، فلم يحتاجوا إلى إجهاد أنفسهم بالاحترازات البلاغية والألاعيب التكتيكية كما يفعل إخوانهم «المعتدلون». نعم: عندما كان الكلام حول اللغات في المغرب عاما فضفاضا، ولم يكن الأمر بعد يتعلق بالحسم دستوريا في موضوع أي اللغات يجب أن ترسم، كان «حماة» اللغة العربية يزعمون أن صراعهم إنما هو ضد الفرنسية ولأجل العربية، وأن الأمازيغية غير معنية بحملاتهم الداعية إلى تمكين العربية دون سواها من اللغات من التفرد بحقل التداول اللغوي في الحياة العامة. لقد كانوا على نحو ما صادقين: إذ لم يكن يخطر لهم، حتى في أسوا كوابيسهم، أن اللغة الأمازيغية ستتشوف يوما إلى أن «تنافس» العربية (هكذا يتصورون العلاقة بين العربية والأمازيغية!) في المؤسسات العامة والخاصة كما تفعل الفرنسية. أما وقد اتضح لهم الآن أن «الشلحة» تتطلع إلى شرف الدسترة والترسيم، فإنهم لم يعودوا يستطيعون الاستمرار في التستر وراء الفرنسية لضرب الأمازيغية – التي كانت دائما الهدف الحقيقي لحملاتهم. هكذا سقط القناع عن الوجوه القبيحة لهذه الزمرة من العنصريين والمستلبين الكارهين مرضيا لأنفسهم، الذين لا يتورعون في حملاتهم المسعورة على الأمازيغية عن رمي المدافعين عنها بأسوأ التهم؛ ليس أقلها العمالة للأجنبي. يقول أحدهم، وهو المدعو فؤاد أبو علي في حوار مع الجريدة الالكترونية «هسبرس»: «إن الحديث عن الدسترة هو خطير ويمكن قراءته في إطار حالة تشظي العالم العربي من الداخل التي تراهن عليها مجموعة من القوى الكبرى ولها أصوات من الداخل تعبر عنها. وفي كل حالة عربية حالة فئوية عرقية أو دينية. والمغرب ليس استثناء. وإذا أردت أن تعرف ما الذي سيقع بعبارة واحدة: آجلا أو عاجلا هي نهاية حتمية لحالة الاستقرار والتماسك الاجتماعي بين المغاربة». ليس أقل من ذلك! ويزيد هذا الذي يقدم نفسه بأنه «أمازيغي سواء من حيث أصولي أو نشأتي أو مسكني الآن « (وكأن إعلان الانتماء إلى الأمازيغية رخصة كافية لإعلان الحرب عليها دون حرج. أو كأن صاحبنا لا يعلم أنه وجد عبر التاريخ الأمازيغي الطويل أمازيغيون خانوا الانتماء وباعوا الوطن رغم أنهم كانوا أمازيغيين دما وموطنا !) – يزيد قائلا: «ووجود أكثر من لغة رسمية في الدستور يعني وجود أكثر من مغرب، أي نهاية المغرب الواحد الموحد». إن تكوينهم وعقليتهم وثقافتهم تجعلهم لا يتصورون الوحدة إلا على نمط الوحدة الصدامية (نسبة إلى صدام حسين): إما الوحدة تحت العروبة أو الإبادة (وحدة علي الكيميائي!). فهم لا يتصورون وحدة تنبني على الاعتراف المتبادل بين مكونات المجتمع، في ظل نظام ديمقراطي يضمن الحقوق الفردية والجماعية للمواطنين كافة؛ ومنها الحقوق اللغوية والثقافية. لكن ذلك شأنهم... أما شأننا نحن الأمازيغيين فهو أن نعمل على إحقاق حقنا بجميع أساليب النضال المشروعة، متحلين بأقصى قدر من اليقظة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا؛ مدركين أن صراعنا هو صراع من أجل البقاء. صراع من أجل الوجود، وليس من أجل تحسين ظروف الوجود. فإما أن نكون أو لا نكون. كلمة لا بد منها: وأنا أحرر هذا المقال، جاء الخبر بأن يد الفاشية قد دنست من جديد حرمة الوطن… مرة أخرى يتساءل المغاربة: ماذا أصاب بلادنا لتنجب هذا المسخ. الجواب هو ـ للمرة الألف ـ ما تعرضت له روح «ثموزغا» من تخريب مقصود. فهل سنغتنم فرصة الإصلاحات الدستورية لبعث تلك الروح التي طالما كانت الحرز الواقي لبلادنا من التعصب واللاتسامح؟
|
|