|
|
الأصل المشترك لنظام التشريع السياسي الأمازيغي والأمريكي بقلم: ذ الصافي مومن علي
منذ مئات السنين وإلى بداية القرن العشرين كان المغرب يحكمه قانونان: - قانون ديني يسود في المناطق الخاضعة للدولة المركزية، وذلك منذ اعتناق الأمازيغ للعقيدة الإسلامية - وقانون وضعي يطبق في المناطق التي لم يمتد إليها نفوذ هذه الدولة، وهو ما اعتاد الجميع وصفه بالأعراف الأمازيغية. وهذا القانون الوضعي الأمازيغي ينقسم إلى قسمين: - قانون شفوي غير مكتوب، أو أعراف تقليدية، تنتظم به في الغالب قبائل الأطلس المتوسط الذي تطلق عليه اسم "أزرف". (أنظر كتاب أعراف قبائل زايان لروبير أسبينيون ترجمة محمد اوراغ، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية). ـ ثم قانون مدون مكتوب يحكم وينظم قبائل الأطلس الصغير، وقبائل المغرب الشرقي والريف وكذا بعض قبائل الصحراء والشياظمة. (أنظر كتاب القانون والمجتمع بالمغرب، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ثم كتاب ''le droit coutumier et les législations au Maroc’’ منشورات منظمة تامانيوت، وكذا القانون العرفي الريفي دافيد مونتجمري هارت ترجمة د محمد الولي).وهذا القانون غالبا ما يطلق عليه في سوس اسماء مختلفة مثال (لوح) و(آمقون) و(ديوان)، أما قبائل المغرب الشرقي فتنعته باسم (تعقيدت)، في حين أن قبائل الصحراء تسميه قانون "الجماعة" أو "أيت ربعين"، بينما قبائل الريف تطلق عليه اسم ( لقانون). بعد هذه المقدمة العامة سوف أركز في هذا العرض على القسم الثاني من القانون الوضعي الأمازيغي أي القانون المكتوب، نظرا لما يكتنفه من سوء فهم، وما اعترى تصنيفــــه وتحديد طبيعته من أخطاء كبيرة تتعارض صراحة مع مسلمات علم القانون، ومع معطيات التاريخ، ومنطق العقل والحس السليم. أولا: حول تصحيح المفهوم الشائع للقانون الوضعي الأمازيغي المكتوب: أشرنا سابقا إلى انقسام هذا القانون إلى قسمين: قانون مكتوب، وقانون شفوي. لكن إن كانت هذه الحقيقة واضحة وثابتة فإن كل الدراسات الوطنية والأجنبية التي تناولت هذا القانون بالبحث، قد وقعت مع الأسف في خطأ شائع تمثل في إجماعها على وصفه بالأعراف، دون تمييزها في ذلك بين قسمه المكتوب وقسمه الشفوي. وإن كان الدارسون المتخصصون في علم الاجتماع والانتروبولوجيا والتاريخ معذورين في الوقوع في هذا الخطأ لافتراض جهلهم بعلم القانون، فإن الباحثين القانونيين – على العكس من ذلك- يعتبر خطؤهم هذا جسيما لإغفالهم في دراستهم لهذا القانون، تطبيق خبرتهم ومعرفتهم القانونية، فيقومون نتيجة ذلك بتسمية كل قسم منه باسمه الحقوقي الحقيقي، أي إطلاقهم مصطلح التشريع على القانون الوضعي المكتوب، ثم مصطلح العرف على القانون الشفوي الغير المدون. ذلك لأن من بين الدروس الأولية التي يتلقاها رجل القانون في الجامعة هي تعلمه التمييز بين أشكال القانون، وبالتالي إدراك أن أهم ما يميز التشريع عن العرف هو الكتابة من جهة، ثم معرفة السلطة التي شرعته من جهة أخرى، إذ أن العرف يتميز بالشفوية وبالتقليد، وبجهل من تولى إصداره وسنه، في حين يختص التشريع بالكتابة والتدوين، وكذا بمعرفة الجهة الواضعة له. وهكذا لما كان القانون الوضعي الأمازيغي يشتمل كما ذكر على نوعين مختلفين فينبغي موضوعيا وعلميا، التخلي عن مفهوم الأعراف الجامع، الذي كان يطلق عليه خطأ، وبالتالي إطلاق مفهوم التشريع على قانونه المكتوب، وإطلاق مفهوم الأعراف على قانونه الشفوي. في محاولة فهم السر في إطلاق اسم الأعراف على التشريع الأمازيغي: لن أتعرض هنا لأصحاب النوايا السيئة الذين يتعمدون بدافع تحقيري أو عنصري وصف التشريع الأمازيغي بالأعراف، تقليلا منهم له، أو استصغارهم إياه. أما غير هؤلاء فأظن أنهم يقومون بذلك عن سوء فهم، لاعتقادهم أن قبائل العالم في مجملها تنتشر فيها الثقافة البدوية الشفوية، وتعمل بالأعراف والعادات المتداولة تقليديا، ولذلك فإنهم أسقطوا هذا الاعتقاد الخاطئ على قبائل المغرب البعيدة عن حكم الدولة المركزية، فأطلقوا على تشريعاتها المكتوبة اسم الأعراف، لا لشيء إلا لأن هذه القبائل تقطن بالبادية بعيدة عن مراكز المدن، وبذلك فاتهم الانتباه إلى كون هذه القبائل الأمازيغية تنفرد عن قبائل العالم كله، بظاهرة انتشار الكتابة والتوثيق، فكانت لا تدون قوانينها فحسب، بل تكتب كل شيء بما في ذلك عقود الزواج وعقود الازدياد وقائمة جهاز المرأة المتزوجة ورسوم الملكية وسائر البيوع والتفويتات والإراثات وغير ذلك من الأمور الكثيرة المرتبطة بحياة مجتمعاتها، وهذه الظاهرة المدهشة على انتشار الكتابة في هذه القبائل تشهد عليها مجلدات (المعسول ) وغيرها من مؤلفات العلامة المختار السوسي التي أورد فيها الكم الهائل مما خلفه علماء سوس من كتابات، لدرجة جعلته يسمي إحدى كتبه (سوس العالمة) لكثرة العلماء والمتعلمين الموجودين في هذه المنطقة، وكذا غزارة المنتوج الثقافي الذي أنتجته. إذن فالسر في إطلاق اسم الأعراف عل التشريعات الأمازيغية راجع إلى الحكم المسبق السلبي الذي أوحى للناس بغرق هذه القبائل الأمازيغية في البداوة والشفوية، مثل قبائل العالم، هذا الحكم المسبق الذي جعلهم لا ينتبهون إلى خصوصية هذه القبائل المتميزة بانتشار ظاهرة التوثيق والتدوين انتشارا كبيرا يضاهي في بعض الأحيان ما هو معروف في بعض المدن التقليدية الراقية. ثانيا: حول تصحيح الطبيعة الحقوقية للتشريع الأمازيغي: بالرجوع إلى هذا التشريع نجده ينقسم بدوره إلى نوعين: 1/ تشريع أساسي يطلق عليه عادة مصطلح "أمقن" الذي يعني لغويا (العقد)، كما أشار إلى ذلك الأستاذ محمد شفيق في معجمه، وهذا التشريع يبدو بمثابة دستور القبيلة، غير أنني اكتشفت أنه أرقى من الدستور كما سأوضح ذلك في ما بعد. 2/ تشريع عادي يتعلق بتنظيم قطاع خاص من قطاعات القبيلة، ويطلق عليه غالبا اسم "لوح" مثل لوح أكادير (المخزن الجماعي) ولوح السوق، ولوح المسجد، ولوح تنظيم الرعي، ولوح توزيع ماء السقي، وغير ذلك من الألواح المنظمة لمؤسسات مجتمع القبيلة. وبعد هذا التوضيح أشير إلى أن التشريع المقصود بتصحيح طبيعته الحقوقية هو النوع الأول المسمى "أمقن"، مع العلم أنه سبق لي شرح فكرة هذا التصحيح بنوع من التفصيل في مؤلفي الأخير (أغاراس ن وورغ ) في مبحث (مرحلة إصدار القوانين الوضعية) التي مر منها المجتمع الإنساني في حياته، الصفحات من 231 إلى 258. ولذلك سأمضي مباشرة وفي خط مستقيم إلى صلب الموضوع فأقول بأن هذا التشريع "أمقن" لا تتكيف طبيعته بمفهوم الدستور، أو بمفهوم أي قانون آخر معروف، بل تتكيف طبيعته بمفهوم العقد الاجتماعي السياسي الذي تحدثث عنه نظرية العقد الاجتماعي المشهورة. وبطبيعة الحال فإن إدراك هذه الحقيقة يتوقف على إدراك المعيار الذي يميز العقد الاجتماعي عن الدستور. فهذا المعيار في اعتقادي يتجلى في أن العقد الاجتماعي يتميز بخاصية فريدة، هي قيامه بإنشاء - لأول مرة - كيانا مجتمعيا منظما بقانون، باعتباره يشكل الاتفاق الأول لجماعة من الناس على الخروج من حالة التشتت والانعزال والفوضى واللانظام والصراعات، إلى حالة التعايش في سلام وأمن، وألفة وتعاون على تحقيق الخير المشترك، أي الخروج من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني السياسي كما عبرت عن ذلك نظرية العقد الاجتماعي، في حين أن الدستور يتميز بخاصية صدوره من طرف مجتمع قائم مسبقا. وخلاصة القول فإن كلا من العقد الاجتماعي والدستور كلاهما يشكلان نظاما وقانونا متفقا عليه، غير أن ما يفرق بينهما هو أن الأول يصنع لأول مرة مجتمعا سياسيا لم يكن من قبل، في حين أن الدستور هو مصنوع من طرف مجتمع سبق قيامه وتكوينه. وبعبارة أوضح فالعقد الاجتماعي يقوم بإخراج مجتمع مدني سياسي من العدم إلى الوجود، بينما الدستور يتولى مجتمع مدني قائم إصداره في زمن معين وإخراجه من العدم إلى الوجود. وهكذا فإن إعادة قراءة تشريعات "ئمقن" على ضوء هذه المعطيات العلمية تقودنا إلى اكتشاف كونها تعتبر بحق عقودا اجتماعية سياسية، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. ذلك أنها في عمومها تتضمن ديباجة أو مقدمة يتلخص محتواها في الإشارة إلى اجتماع رؤساء عشائر وقبائل أحرار متساوين، لإبرام عقد فيما بينهم، يؤسسون بمقتضاه مجتمعا منظما بقانون، يعيشون في كنفه في ائتلاف وسلام وتعاون على تحقيق الخير المشترك، ملتزمين فيه بالتخلي عن حياتهم السابقة الانعزالية المشتتة التي يسود فيها الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض والحرمات، مع العفو على ما اقترفوه من جرائم ومن سوء في حق بعضهم البعض. وبعد الانتهاء من ذكر كل المبادئ والأهداف السامية التي تقوم عليها مجتمعاتها الناشئة، تنتقل هذه التشريعات إلى ذكر أسماء المتعاقدين، وإلى الاتفاق على إسناد السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية إليهم مجتمعين (وهذا معناه تنازلهم عن هذه السلطات التي كانت لكل واحد منهم في حياتهم الفوضوية السابقة، وإعطائها لمجلسهم الجماعي كما تقول نظرية العقد الاجتماعي المتطورة التي صاغها الفيلسوف جان لوك) ونجد في صلب هذه التشريعات التنصيص على قواعد القانون التي تحكم مجتمعاتها وتنظمها. ثم تنتهي بخاتمة تحث فيها الأعيان الحكام على الوحدة وعلى الدوام على المشورة في كل أمر. ومما تجدر الإشارة إليه قيام هذه التشريعات بالإعلان عن انفتاحها على كل من يريد الانضمام إلى مجتمعها والانتساب إليه، مما يؤكد حقا إرادة المؤسسين في بناء مجتمع يقوم على الحق والقانون، وليس على العصبية الجنسية أو الطائفية أو الجهوية أو غير ذلك من عصبيات التمييز العنصري. ولكي أعزز قراءتي الجديدة لهذه التشريعات ببرهان مادي، وبالتالي أبعدها عن أي سرد إنشائي، أو اصطناع إيديولوجي، فإنني أورد هنا نص عقد اجتماعي "أمقن" نموذجي لقبيلة (أيت وادريم)، مؤرخ في عام 1235 هجرية الموافق لسنة 1811 ميلادية، الذي نقلته حرفيا من كتاب (ألواح جزولة) للأستاذ محمد العثماني السوسي، وذلك ليقف القارئ بنفسه على صحة هذه القراءة الجديدة، مع الإشارة أن أقدم نص تمكن هذا الباحث من العثور عليه يعود إلى عام 904 هجرية موافق 1498 ميلادية. نص العقد: (الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا ومولانا محمد صلاة تدوم بدوام جودك وعطفك، وعلى آله وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم لقائك يا رحمن الرحيم. فبحول الله وقوته وتوفيقه عقدنا عقدا ومؤاخاة ومسالمة ومتاركة ومتابعة بين بني وادريم من حد أقطار القبيلة ومن انتسب إليها وانضاف إليها وانتصر إلى أربابها، عقدا يوجب لهم حفظ الدماء والأموال والأعراض، ويوجب رجوع كل شارد إلى وطنه بلطف الله وشفقته على عباده الضعفاء، وأن يقبض الأعيان القريب والبعيد والجانب والأخ بيد واحدة، ويوجب بحول الله أن يكون الجميع يدا واحدة يتواصلون ويتزاورون ويتراحمون ويتوامنون ويتشاورون في محدثاتهم، ويسلكون في مشورتهم الأصلح، ويتصابرون ويتواصون على الفلاح، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويثوبون ويندمون على ما سلف أن صدر منهم من الكبائر والسيئات وقبائح المنكر، ويتعاونون في أمور دينهم ودنياهم على أن يكون اعتماد أمور القبيلة في يد الله ويد أعيانها الآتي أسماؤهم، واتفق رأيهم على ما سيذكر من الأنصاف في كل حادثة، لا قديم إلا الله، وعلى ذلك يكون عرفهم وعرف أعقابهم إن شاء الله، ويكون الأنصاف الآتي على الأثلاث الثلث للمصالح، والثلثان للأعيان، فالله يجعل البركة في رأيهم). ثم عدد اللوح الأعيان وأسماء القبائل والعشائر التي ينوبون عنها، وعقب قائمة الأعيان بقوله: (وهؤلاء الأعيان هم الذين يسعون في بلدهم، وهم الذين يحكمون في كل واقعة ومحدثة وسد الخلات، وعليهم بتقوى الله والصبر لكل بلية، والاعتصام بالله في كل واقعة أو متوقعة، والدوام على المشورة في كل أمر وأن لا يتحاسدوا ولا يتباغضوا وليكونوا إخوانا بحول الله وقوته وبركة نبيه عليه الصلاة والسلام). وفيما يلي بنود القانون المتفق على سريان أحكامه على أفراد مجتمعهم: (من كسر العافية (الأمن والسلام) يعطي مائتي مثقال وتخرب داره، وزاﯖ (ينفى من الوطن)، ومن اتهم بذلك فخمسين يمينا. ومن قتل فأربعون مثقالا في الدية، ومائة مثقال في الإنصاف، وفيها الذبيحة والدار، ومن اتهم بالقتل فخمسين يمينا. ومن سرق في الدار فعشرة مثاقيل، ويغرم متاع الناس، من اتهم بها في الدار فأربعة وعشرون يمينا، وفي الغابة سبعة مثاقيل، والمتهم فيها اثنا عشر يمينا. ومن مات في النقاب سارقا فلا دية ولا زﯕﯕ (نفي) ولا إنصاف عليه. ومن اتهم بالسرقة في الحرمات فخمسين يمينا. ومن سرق في السوق أو حارب في طرقه، أو سرق في الموسم أو حارب في طرقه، يغرم متاع الناس ومائة مثقال في الإنصاف، ومن قطع الطريق في غير السوق من غير قتل ولا جرح فعليه أربعون مثقالا. ومن ضرب بالمكحلة (البندقية) أو السكيــــن وجرح فسبعة مثاقيل مع الإحسان للمجروح، ومن طلع الزناد وسل المدية من غير ضرب فمثقال واحد. ومن جرح بالحجر فمثقالين، ومن تضارب بالدبز والنعــــــال والأسواط حتى أثر ذلك فعشرة أوجه، وفي ما بين النساء ربعية سمن لحيهم. و من بينت عليه الفاحشة فسبعة مثاقيل، ومن اتهم بها فخمسة من أخوانه. ومن أحرق الشعير يغرم متاع الناس، ويعطي عشرة مثاقيل. ومن حمى ونعر في بعض ما ذكر فخمسة مثاقيل. ومن كسر دعوة النفاليس (الأعيان الحكام) فمثقال واحد. وغير ذلك باجتهاد الأعيان). إذن واضح من تصفح أجزاء هذا الصك أن واضعيه انصرفت نيتهم وإرادتهم إلى إبرام عقد اجتماعي لتأسيس كيان مدني سياسي موحد، بدليل أنهم نصوا صراحة على ذلك بعبارة واضحة، تفيد في مبناها وفي معناها (التعاقد) أكدوا فيها كونهم عقدوا عقـدا ومؤاخاة ومسالمة... عقدا يوجب لهم حفظ الدماء والأموال والأعراض... وأن يكون الجميع يدا واحدة يتواصلون ويتراحمون ويتوامنون ويتشاورون في محدثاتهم، ويسلكون في مشورتهم الأصلح، ويتوبون ويندمون على ما صدر منهم سابقا من الجرائم والأخطاء. وأنهم حينما أسندوا السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية لمجلسهم الجماعي المكون من نواب نسيجهم المجتمعي، فذاك يفيد ضمنيا أنهم قد تنازلوا لهذا المجلس عن تلك السلطات التي كانت لكل واحد منهم قبل إبرام العقد، والتي كانت هي مصدر وسبب الظلم والانتقامات والصراعات المتبادلة، لأنه كما قال أرسطو في كتاب السياسة ( أغلب الناس قضاة سيئون في مصالحهم وقضاياهم الشخصية). وهكذا فبعد ما كان كل واحد منهم يشرع القانون حسب== هواه، ويحدد العقوبة التي يرغب فيها، وينفذها بنفسه على الشخص الذي يعتقده متهما، فقد اتفقوا على التنازل عن كل هذه السلطات لفائدة مجلسهم الجماعي تحقيقا للعدل والسلام والعيش المشترك. حول القيمة الكبرى للعقود الاجتماعية الأمازيغية باعتبارها تراثا إنسانيا ناذرا من المعلوم أن نظرية العقد الاجتماعي ساهمت في تنوير الشعوب الأوربية وفي توعيتها بسيادتها وبحقوقها الطبيعية المدنية والسياسية، لكن على الرغم من ذلك فقد تعرضت لانتقاد شديد لا سيما من طرف الفيلسوف إمانويل كانط الذي اعتبرها في كتابه (نظرية القانون) وهما قائما على مجرد فذلكات خيالية، لعدم استنادها إلى أي عقد اجتماعي مادي، أو إلى أية وقائع تاريخية حدثت فعلا، مؤكدا أن أصحابها لا يرمون من ورائها إلا تبرير حق المحكومين في التمرد أو الثورة على الحاكم (أنظر كتاب فلسفة القانون والسياسة للدكتور عبد الرحمن بدوي). وبالفعل فإن كان العقل يوحي منطقيا أن البشر الأولين أسسوا مجتمعاتهم المدنية السياسية الأولى، على التراضي وعلى سلطة العقل، وليس على أية سلطة أخرى كانت مادية آو معنوية، لافتراض أنهم آنذاك كانوا متساوين في القوة والسلاح والأملاك، فإن نقد كانط لها يعتبر إلى حد ما وجيها لعجز أصحابها (هوبز، لوك، جان جاك روسو) على الإتيان بأي عقد اجتماعي يعزز وجودها، ويثبت صحتها. لكن يبدو أن هذه القراءة الجديدة للتشريعات الأمازيغية، (ئمقن) التي كشفت عن طبيعتها الحقوقية كعقود اجتماعية سياسية محضة، قد أبرزت عنصرا أو دليلا وبرهانا ماديا جديدا يفرض نفسه في الساحة من شأنه أن يقوض ويفند نقد كانط للنظرية الآنفة الذكر ويجعل بالتالي هذه النظرية صحيحة ومؤكدة، لثبوت وجود عقود اجتماعية سياسية حقيقية في المغرب، كانت محل تطبيق عملي من طرف مجتمعات بشرية اختارت عن طريق التراضي وحكمة العقل تكوين مجتمعات مدنية سياسية تحكم نفسها بنفسها بواسطة قانون متفق عليه. إذن يمكن القول إن المغرب لو لم يكن متقوقعا ومنغلقا على نفسه في عصر الأنوار الذي عرفته أوروبا لكان ذلك قد أدى إلى وقوع التواصل وتلاقح الأفكار بين شعوب البحر الأبيض المتوسط، مما يتيح بلا شك لفلاسفة نظرية العقد الاجتماعي التعرف على العقود الاجتماعية السياسية الأمازيغية المعمول بها في المغرب وبالتالي اعتمادهم عليها في دعم نظريتهم ببرهان قوي، أو كان ذلك أيضا قد أتاح للفيلسوف كانط زيارة بلادنا والاطلاع بنفسه على هذه العقود فيقتنع بصحة النظرية عقليا وعمليا، ولا يجازف بالتالي بنقده الخاطئ لها. ومن هنا تغدو هذه التشريعات الأمازيغية "ئمقن" تراثا إنسانيا نادرا، ذا أهمية كبرى، يجدر المحافظة عليها والعناية بها، بل وتدريسها في كليات حقوق العالم ، لكونها تؤرخ لواقعة تأسيس البشر في حياتهم مجتمعات سياسية مدنية بالتراضي والإرادة المشتركة، وليس بالسلطة المادية أو المعنوية كما يعتقد أو كما تحكيه الكثير من كتب التاريخ. ظهور العقود الاجتماعية السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية: عندما اكتشفت المعيار الآنف الذكر الذي يميز بين العقد الاجتماعي وبين الدستور، تذكرت ما كنت قرأته في كتاب (الديمقراطية في أمريكا) لمؤلفه إلكسيس توكفيل، عن تأسيس الكيانات المدنية السياسية الأولى في أمريكا، التي اتحدت بينها فيما بعد لتكون المجتمع المدني السياسي الكبير المعروف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية، فوجدت بعد تطبيق هذا المعيار على بعض الدساتير المؤسسة لبعض الولايات، أن مصطلح العقود الاجتماعية السياسية هو الاسم العلمي الحقيقي الذي يطابق هذه التشريعات وليس اسم الدساتير الذي يطلق عليها خطأ. ذلك أن تلك التشريعات تشهد بدورها مثل التشريعات الأمازيغية، على اجتماع واضعيها واتفاقهم رضائيا على إنشاء - لأول مرة - هيئة سياسية مدنية تحكم نفسها بنفسها، بقوانين متفق عليها. إذن لما كان المعيار الذي يميز العقد الاجتماعي السياسي عن الدستور, هو قيامه بخلق كيان مدني سياسي لم يكن موجودا من قبل، فمن البديهي إذن أن تعتبر التشريعات الأولى لبعض الولايات الأمريكية، عقودا اجتماعية سياسية صرفة، وليس دساتير كما هو شائع بين الجميع، ومن هنا يبدو أنه مثلما وقع خطأ إطلاق اسم الأعراف على العقود الاجتماعية الأمازيغية فقد وقع نفس هذا الخطأ على العقود الاجتماعية المنشئة للولايات الأمريكية. ومرة أخرى لكي يكون القارئ على بينة من هذه الحقيقة أورد هنا مقتطفا من التشريع الأول المؤرخ سنة 1650، الذي أسست به جماعة من المهاجرين مجتمعهم السياسي عندما أرست بهم سفينتهم على شواطئ (نيوإنجلند) منقولا من كتاب "الديمقراطية في أمريكا " المتقدم ذكره. ومما لا شك فيه أن قراءته ستذكر القارئ بما سبق أن اطلع عليه في تشريع (أيت وادريم) السالف الذكر، لوجود تشابه شبه كامل بين التشريعين. نص التشريع الأمريكي: (باسم الله آمين، نحن المذكورة أسماؤهم بعد، رعايا ملكنا الموهوب الجانب المخلصين له، الملك جيمس... إلخ. بعد أن قمنا بمجد الله ولنشر الدين المسيحي ولشرف ملكنا ووطننا، قمنا برحلة لإقامة أول مستعمرة في الأجزاء الشمالية من فيرجينيا، نعلن نحن الحاضرين في وقار أمام الله، وأمام بعضنا بعضا، أن نتعهد بأن نؤلف من أنفسنا هيئة سياسية مدنية تهدف إلى تنظيم شؤوننا وصيانة أنفسنا، ولتحقيق الأغراض السالف ذكرها نتعهد جميعا بفضل ذلك الميثاق أن نقوم الحين بعد الحين وبحسب ما تقتضيه الحاجة بوضع القوانيـن والقرارات واللوائح والدساتير العادلة التي تسوي بين الناس والتي تراعي خير المستعمرة العام وأن نقيم بحسب الحاجة حكاما وقضاة نتعهد لهم بالإذعان والطاعة...إلخ)) هذا وإن ما يؤكد تشابه العقود الاجتماعية الأمريكية ونظيرتها الأمازيغية، هو ابتداؤها أيضا بقوانين العقوبات، على اعتبار أن هذه القوانين هي التي تضمن المحافظة على حسن النظام في المجتمع وتكفل لأفراده الأمن والاستقرار وسلامة الأخلاق، حسب ما ذكر إليكسيس توكفيل في كتابه السابق، وكما أكد الفيلسوف أرسطو كذلك هذه الحقيقة في كتابه السياسة بقوله: (إن التشريعات الإنسانية الأولى كانت تهتم أكثر بضروريات الحياة ). ولعل هذه الحقيقة هي التي جعلت أيضا مشرعي ولاية (بلايموت) و(كنتكيت) و(نيوهافن) و(رودآيلند) يبدأون نظامهم بقوانين العقوبات. غير أن المفكر إليكسيس توكفيل لاحظ في كتابه المذكور أن تلك القوانين الأمريكية كانت قاسية جدا لا تشرف العقل البشري، لكونها كانت تحكم بالإعدام على الجرائم المرتبطة بضمير الإنسان مثل إقرار إعدام من يعبد إلاها آخر غير الله، ومن يمارس السحر، والزنا وهتك العرض، والاعتداء على الأصول، كما كانت تشدد العقوبات على السكارى والكسالى وحتى على الكذبة البلقاء، أو مجرد إطالة شعر الرأس أو غير ذلك من الجرائم البسيطة. ومن هنا يمكن أن نستنتج أن العقود الاجتماعية الأمازيغية كانت أرحم من الأمريكية، وأنها تشرف العقل البشري لكونها لم تقرر إطلاقا عقوبة الإعدام في أية جريمة كيفما كانت، كما أنها لم تتبن عقوبة الجلد، أو الرجم، أو القصاص المقررة للقتل مقابل القتل، أو العين بالعين، أو السن بالسن، أو غير ذلك من العقوبات القاسية المعمول بها في كثير من أمم العالم آنذاك، وأحيل القارئ هنا على كتاب "ألواح جزولة" للمزيد من التوسع في هذا الموضوع. واللافت للنظر أن المجتمعات المدنية والسياسية الأمريكية والأمازيغية، لا تتشابه في شكل ومضمون عقودها الاجتماعية فحسب، بل تتشابه أيضا في تنظيمها لكل الشؤون المتعلقة بحاجيات أفراد مجتمعها، من صيانة الطرق، وإنشاء المدارس والمعابد، وتوثيق عقود الزواج والولادة، وتكييف قانون الإرث مع ما تقتضيه مصالحها (ذلك أن الأمريكيين تراجعوا عن قاعدة توريث الابن الأكبر التي كان معمولا بها في وطنهم الأصلي انجلترا، في حين أن الأمازيغ أضافوا إلى قانون الإرث والطلاق، حق المرأة في (تمازالت) الذي تأخذ بموجبه نصيبا عادلا في الأموال المكتسبة أثناء قيام الزواج نتيجة عملها ومجهودها في تنمية أموال الأسرة، كما منعوا توريث البنت لا سيما إذا كانت متزوجة بأجنبي عن القبيلة. (أنظر كتاب نظام الكد والسعاية للأستاذ الملكي الحسين بن عبد السلام). وباختصار فإنه مثلما عبر توكفيل في كتابه عن دهشته من دقة تنظيم الجمهوريات الأمريكية بقوله: (فعند دراسة القوانين التي سنت وأذيعت في ذلك العصر المبكر من عصور الجمهوريات الأمريكية لا يسع المرء إلا أن يندهش من سعة إلمام المشرع بشؤون الحكم، ومن النظريات التقدمية التي يأخذ بها والتي كانت أرقى وأشمل من آراء المشرعين في أوربا في ذلك الوقت). فقد اندهش أيضا كثير من الباحثين من دقة تنظيم هذه المجتمعات الأمازيغية، لما لاحظوه من قيام هذه المجتمعات بالتنظيم المحكم لكل الأمور المرتبطة بحياتها، مثل تنظيم الرعي، سقي الحقول والرعـي، والسوق، والمخازن الجماعية، والمساجد، والمدارس العتيقة، وتعيين الفقهاء وعزلهم ، كما لم يفتهم تنظيم حتى فتح مواسم الحصاد، ومواسم قطف الثمار والفواكه، وإدارة الأملاك الجماعية، وإعلان الحرب، وإقرار السلم وغير ذلك من الشؤون التي تحافظ على استقرارهم وسلامهم الاجتماعي. وأعتقد أنه بعد هذه المقارنة الأولى من نوعها بين نظام التشريع الأمازيغي ونظام التشريع في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية نشأتها، ستمكن المهتم بشؤون الحقوق والنظم السياسية، من أن يضيف إلى معلوماته حقيقة وجود نظام تشريعي أما زيغي ديمقراطي معاصر للنظام الأمريكي، إن لم نقل أقدم منه كما تذهب كتابات بعض الباحثين التي تؤكد عمل الأمازيغ بهذا النظام منذ أقدم العصور. وعلى كل حال فإن إضافة هذه المعلومة الهامة ستمكن المرء على الأقل من الانتباه إلى الهفوة التي وقع فيها توكفيل في كتابه عندما نسب إلى الأمريكيين الأوائل وحدهم عبقرية إثبات نظام تشريعي ديمقراطي غير مسبوق، ومن ثم يقوم المرء تبعا لذلك بإنصاف الأمازيغ لعلمه أنه كان لهم أيضا نفس هذا النظام التشريعي الديمقراطي. المراجع: 1-أعراف قبائل زيان –روبير أسبينيون –ترجمة محمد أوراغ –منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. 2- Le droit coutumier et les législations au Maroc منشورات منظمة تاماينوت3-القانون والمجتمع بالمغرب –منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. 4-ألواح جزولة –محمد العثماني السوسي. 5-مطارحات ميكافيلي –نيكولا ميكافيلي. 6-معجم لسان العرب لابن منظور. 7-مجلدات المعسول –المختار السوسي. 8-سوس العالمة –المختار السوسي. 9-المعجم العربي الأمازيغي –محمد شفيق. 10-أغاراس ن وورغ –الصافي مومن علي. 11-في الحكومة المدنية –جان لوك. 12-السياسة –أرسطو 13-نظرية القانون –إمانويل كانط. 14-فلسفة القانون والسياسة –عبد الرحمان بدوي. 15-الديمقراطية في أمريكا –إليكسيس توكفيل. 16-نظام الكد والسعاية –الحسين بن عبد السلام الملكي. 17 القانون العرفي الريفي - دافيد مونتجمري هارت (الأستاذ الصافي مومن علي، محامي بالدار البيضاء)
|
|