|
|
شعراء الظل، أو مبدعو القصيدة الغنائية الأمازيغية بسوس بقلم: سعيد جليل
نقصد بشعراء الظل، بداية، أولئك الشعراء الذين قلّما ذُكروا أو سلطت الأضواء على إنتاجاتهم الشعرية، وهم ليسوا قلة بسوس وحوز مراكش. كما أن دورهم حاسم في عملية تلقي الإبداع الفني؛ فالمتلقي الأمازيغي بسوس يتذوق القصيدة قبل اللحن والأداء، لذلك كان لزاما على "الرايس" أو قائد المجموعة العصرية (تارابّوت) أن يختار من الشعر أجوده بالتعامل مع شاعر متمرس، لكن هذا الشعر يظل بلا نسبة مهما انتشر وتقبلته الأسماع، أما صاحبه فمهما أنتج من القصيد فهو عاقر لا شيء يُنسب إليه، ويحدث أن يصرح شاعر بأنه صاحب القصيدة التي غناها فلان فلا يلقى من الناس إلا التهكم والسخرية، أما إذا بلغ ذلك مغني القصيدة فإنه يكف عن التعامل معه ويبحث عن شاعر آخر يحفظ سرَّه مقابل "البركة" (الثمن) التي يدسها في يده كلما زوده بما يحتاج إليه من قصائده. هذه الفوضى والضبابية والسطو أحيانا على إنتاج الآخرين يسم جانبا كبيرا من الساحة الشعرية الغنائية الأمازيغية تحت مسمى: إشكالية نسبة الشعر إلى صاحبه، مما يفرض على الباحث التساؤل عن أصل الظاهرة وأسبابها في وقت تخلصت فيه كثير من الثقافات المتقدمة من مثل هذا الأمر، وجعلت نسبة الشيء إلى صاحبه مبدأ أدبيا وأخلاقيا كبيرا، بل ضمنت له حقوقه الفكرية كاملة غير منقوصة، وكل من أراد توظيف إنتاج غيره في عمله الفني توجبَّ عليه أن يؤدي الحقوق إلى صاحبها إن كان معروفا وأقلها طلب الإذن بالموافقة والإشارة إليه ضمن مصادر العمل، وهذا سلوك حضاري لا يخالفه إلا مرتزق أو مكابر يمنعه تضخم "أناه" من الاعتراف بجهد غيره. وليس المتلقي الأمازيغي ذو الحاسة النقدية العالية أقل من غيره فضولا وسؤالا وبحثا لمعرفة صاحب هذه القصيدة أو تلك، ومن يقف وراء ذلك "الرايس" أو تلك "المجموعة الغنائية" ويُزودهم بالأشعار، كما أنه أذكى من أن تنطلي عليه ادعاءات السُّراق والمتشاعرين والمرتزقين من جهد غيرهم، وقد تصادف أحداً في أيت بها أو تيزنيت يعلق على مقطوعة بقوله: «رحم فلانا ناظم القصيدة ومغنيها، أما هذا الذي يقلده فلا يجيد حتى أداءها، فما بالك بنظمها وتلحينها !»... إن إشكالية نسبة الشعر إلى قائله تعترض الباحث في الشعر الأمازيغي كلما هم بدراسة شاعر من الشعراء الروايس، أو إنضامن-شعراء اسايس- أو نصوص المجموعات العصرية... بينما لا يطرح هذا الإشكال بالنسبة للشعراء المعاصرين الذين أصدروا دواوين توثق إنتاجاتهم (محمد مستاوي، علي صدقي أزايكو، الحسين جهادي.محمد وخزان..)، لذلك كثيرا ما يتوجه الباحثون إلى دراسة الدواوين المطبوعة تلافيا لإشكال النسبة. وأول ما طرح فيه هذا الإشكال دراسة وجمع شعر "سيدي حمو طالب" التي قام بها عمر أمارير في إطار بحث جامعي لنيل دبلوم الدراسات العليا، ومن تجليات ذلك الإشكال أن بعض الأبيات تنسب في منطقة من سوس إلى سيدي حمو طالب بينما لا تنسب إليه في جهة أخرى، ناهيك عن التغيرات التي تطرأ عليها من منطقة إلى أخرى، ولا زال بعض الناس يعتقدون بوجود ذلك الشاعر/الأسطورة تاريخيا –كما ذهب إلى ذلك عمر أمارير-في حين يعتقد البعض أن ذلك الشاعر لا وجود له، إنما هو رمز للذاكرة الجماعية الأمازيغية التي تختزن الحكمة، فكل ما يدخل في بابها فهي صاحبته بامتياز، وهو أمر مشابه لما طرحه الباحثون بصدد هوميروس والروائع الشعرية اليونانية. وحين دخل الروايس عالم التسجيل ما بين 1930-1936، أمثال: الحاج بلعيد، محمد بودراع، بوبكر أنشاد، بوبكر أزعري، عبد النبي التناني، الحسين أمزيل، الرزوق... عبر شركات بيضافون، كولومبيا، فيليبس[1]... كان نفس الإشكال مطروحا؛ إذ نجد أبياتا شعرية سجلها أكثر من رايس واحد، كما نجد الشعر التراثي المنسوب إلى سيدي حمو طالب مقحما في قصائدهم دونما إشارة إليه، على أن الروايس كانوا إذا أرادوا الاقتباس من ذلك الشاعر القديم يقدمون لذلك بقولهم:إرحمك أسيدي حمو طالب ئنا يـﯖلين ويتغير هذا البيت الموزون حسب وزن القصيدة التي يؤديها الرايس. وفي مرحلة لاحقة مع أحمد أمنتاكَ ومحمد أباعمران ومبارك أمكَرود الكبير والحسين أشتوك وسعيد أشتوك، جامع الحميدي، محمد بونصير، محمد الدمسيري... نجد حضورا للشعر القديم الذي يُجهل قائله وذلك من باب الاقتباس والتضمين ويختلف الروايس آنذاك في كمية الشعر المُقتبس الذي تمت الاستفادة منه. فمنهم من يفرط في ذلك، ومنهم من يتوسط، كما يختلفون في ذلك كيفا إذ منهم من يحسن الاقتباس ومنهم من يقحم بمناسبة أو دونها. كما تم في هذه المرحلة كذلك الاستنجاد بتراث الرايس الحسين جانطي وغيره من الذين لم يسجلوا إنتاجاتهم لكنها كانت محفوظة في صدور الذين يرافقونهم في الجولات الفنية بين القبائل وفي الحفلات والأسواق حيث تكون "الْحْلْقْتْ" (الحلقة) مناسبة لإتحاف الناس بما استجد من قصائد، وقد سبق للرايس أحمد أمنتاكَ أن صرح بأنه يحفظ للرايس جانطي قصائد كثيرة جيدة لم تُسجل ولم يسمعها أحد قط، ومن المعلوم أن أمنتاك كان على معرفة بجانطي وقد رافقه في مناسبات كثيرة، ونظرا لما يتصف به من ذاكرة قوية فإن محفوظه من شعر جانطي وغيره سيكون مهما، لذلك وجب عليه أن يتعاون مع الجمعيات والمؤسسات التي تعتني حاليا بالثقافة الأمازيغية لتوثيق ذلك التراث حفظا له من الضياع. وما يقال عن أمنتاكَ يقال عن الروايس بأشتوكن[2] الذين كان لهم اتصال كبير بجانطي بحكم انتمائهم لمنطقة واحدة، لذلك فقد استفادوا من تراثه خصوصا ما يتعلق بالنقد الاجتماعي والتأملات المختلفة في الحياة والأخلاق والناس... ناهيك عن الشعر الغزلي الجيد الذي يبتعد عن السطحية والاسفاف.وفي هذا الإطار، لكن بشكل آخر، التجأ بعض الروايس إلى شعراء (إنضامن) كانوا يرتجلون الشعر في مراقص أحواش (أسايس، إسوياس) لتزويدهم بالقصائد فكان أن برز أحمد الريح (أيت باها)، عمر إجوي وعمر برغوت ومحمد بيسموموين (مزوضة)، أحمد أوتمراغت (أكادير)، محمد أبوزيا، الحسين بوالهوا... لكن هؤلاء الشعراء لا يذكرون على أغلفة الأشرطة ولا في اللقاءات والمناسبات، لكنهم معروفون لدى أهل الحرفة والفن، ويدخل التصريح بأن هذا الشاعر هو الذي زوّد الرايس فلان بالقصائد الفلانية في باب إفشاء السر المهني، لذلك كلما سألت أحد الروايس عن مصدر قصائده يسارعك بالجواب: «أنا صاحب القصائد، ومبدع اللحن والعازف على آلة كذا، في الشريط»، بل إن مثل هذا السؤال أحيانا قد يؤدي إلى شنآن بين السائل والرايس، وكأن السؤال لا يجب أن يثار من أصله، لأنه يحمل بذرة التشكيك في القدرات الفنية للرايس التي لا تكتمل ولا يتم الاعتراف بها إلا بامتلاك قريحة شعرية فائقة!. إن الاعتراف "بكاتب الكلمات"، أو الشاعر منتج القصائد موضوع ذو حساسية بالغة لدى الروايس، إنه يدخل ضمن المسكوت عنه في ممارساتهم التي من طبيعتها الهيمنة والترؤس (الرئيس، الرايس) والقيادة وتولي زمام كل شيء، فكل تدخل في فنهم هو انتقاص من شخصيتهم أمام جمهورهم، وقد أشار الدمسيري في قصيدة "رزمخد ئوولّينو" إلى الذين ينتقصون من شأن الرايس جامع الحامدي بدعوى أن أحمد الريح هو الذي يزوده بالأشعار، وذلك في معرض دفاعه عن فن الروايس، يقول: .... ئخ أتسلاّن ئجامع ؤكان لحاميــدْ نّاناس غار "رّيح" أس ياكان ئموريـﯖ والدمسيري في هذين البيتين لا ينفي "التهمة" ولا يثبتها ظاهريا، لكنه في الحقيقة لا يعترف بكونها نقيصة، مثلما لا يعترف بما رمي به الروايس الآخرون (أهروش، بونصير، المهدي بن مبارك، بيهتي)، فهو يقدر أحمد الريح شاعرا متمرسا كبيرا، كما يقدر جامع الحامدي رايسا وصديقا ومرافقا له في سهراته، فهو بذكائه الفائق ينافح عن الرجلين بصيغة: وما العيب في أن يؤدي الحامدي قصائد أحمد الريح؟ أتستكثرون على شاعر مثل أحمد الريح أن يؤدي رايس كبير كجامع الحامدي قصائده؟.. إن الحامدي ليس فنانا صغيرا، وأحمد الريح ليس شاعرا مبتدئا.. لكن المشكل يبقى بالنسبة إلينا قائما، وهو: لماذا يبقى صاحب القصيدة في الظل ومغنيها وسط الأضواء؟. وطرح هذا السؤال القديم الجديد لا يعني أننا نحاكم أحدا كما أنه لا يعني أننا نسقط تعسفا معايير مرحلتنا على المراحل السابقة من تاريخنا الاجتماعي-الفني، إن هدفنا هو استجلاء ما يتحكم في العملية الفنية من علاقات وسلوكات وعقد نفسية قد تضر بالعملية ذاتها وبالذين يمثلون حلقات ضعيفة فيها، إذ لا يجدون السند للدفاع عن وظيفتهم التي ليست بالضرورة هينة. في فن الروايس، وربما في كل الفنون شعبية كانت أم "مثقفة" ليس هناك اكتفاء ذاتي، يبدأ الرايس متعلما، صغيرا، وذلك بمرحلة حفظ وتقليد إنتاج الرواد الكبار[3] (الحاج بلعيد، أنشاد ثم أموراكَ، أهروش، الدمسيري...)، ثم يقلد بعدها أستاذه المباشر[4] وبالتمكن من المقامات والعزف على الآلات يمتلك القدرة على الأداء واللحن، وربما إبداع قصائد شخصية، ثم يتمكن من التسجيل وإثبات اسمه ومكانته في الساحة الفنية، ويحاول معظم الروايس إنتاج نصوص تتفاوت في جودة السبك، وعمق الدلالة، لكنهم يلتجئون كثيرا إلى الشعراء –كتاب كلمات لاقتناء نصوص جيدة بطريقتين:1-طلب مطلق: حيث يُطلب من الشاعر تقديم نص جديد وجيّد كيفما كان موضوعه ووزنه. 2- طلب مقيد: أي اقتراح الوزن أوالموضوع،أو هما معا على الشاعر، فينطم وفق ذلك القصيدة. ويتميز أغلب شعراء الظل (إنضامن) بالانزواء، والبعد عن الأضواء، يزيد من ذلك النكران والإهمال الذي يطالهم، فمنهم من لا يبرح قريته إلا نادرا، ومنهم من يمارس حرفا لا علاقة لها بالفن، ومنهم من يتعاطى الفن هواية، ويمتنعون –كما أسلفنا-عن التصريح بالروايس والرايسات والمجموعات التي تغني قصائدهم، وخصوصا إن كانت أو كانوا من ذوي الشهرة الكبيرة لما في ذلك –بنظرهم- من الانتقاص من قيمة الفنان وإفشاء أسراره ونقضٍ لعهد مبرم بينهما!. ويعد "القَبول"[5] والشهرة والحوافز المادية أهم الدوافع والمشجعات التي تجعل الشاعر يعمد إلى التعامل مع الروايس أو الرايسات، وهذا ما أشار إليه إبراهيم بيهتي في بداية الثمانينيات:(...)روايس كولو مناصّا ن درانخ ئـﯖاتنْ كولّ مادّ مّا قّارخ ئنّايك أرتنضامخْ ئخ يولّ أوال نزر أماركانّ لّي دارسْ ئستن هلّي يوكر ئغيت س ئمـﮋاغنسْ كولّ ما طـﮊريت ئعدل باهرا لقلدانسْأيس ؤرتحاسبتْ أماركان لي دارسْ ئس نيت ئكا وينس ؤلا يسات تنضامنْ ئس كا فلاّس ئجلا لوقت أرت سيكيلنْ أشكويلا ماوكان ئحضان خ تاكانتْ ئسن ئواوال مسكين ؤردارس تيدّي نّس أرت ئمّـــال ئيّــان موتـــاسّــــــوّا لقلــــــدانـــس[6] والشاعر بيهتي يحدد في هذه الأبيات أن صفة الرايس أصبحت مشاعا لا تضبطها ضوابط، فكل من هب ودب يدعي أنه "رايس" لكن بمجرد الاستماع إلى قصائده –وهي عُمدة الفن وأساسه- يتبين أنه إما منتحل سارق لها بالسماع، أو باحث عن الشعراء المغمورين ليتزود منهم بما يحتاج إليه من القطع الشعرية، ويريد بيهتي أن يخرج بقاعدة عملية من نقده لهذه الظاهرة وهي كالتالي: كل من يفرط في الاعتناء بالمظهر الخارجي من الفنانين إنما يغطي على قصور داخلي مزمن من حيث افتقاره إلى ملكة شعرية، ولتدارك هذا النقص يتم الالتجاء إلى شعراء لهم ملكة شعرية قوية لكن تعوزهم الصورة الخارجية... تلك هي المفارقة التي يصورها النص، وهو نفس الأمر الذي يعبر عنه الحاج أحمد الريح أكبر شعراء الظل بسوس إذ يقول: «أكرض أيزّنزان أمارك» ويضيف في حيثياتها أن الحنجرة والمظهر الخارجي يضفيان "قبولا" على أداء الرايس،ف«كم مرة أديت قصائدي التي نظمتها لكنها لا تؤثر في الناس ولا يعيرونها انتباها، وبمجرد أن يؤديها الرايس فلان أو فلانة يتعالى الصياح والتشجيع والزغاريد،و كأن القصيدة أصبحت في الناس سحرا»، في حين يرى عمر برغوث وهو من كبار شعراء مزوضة،أن مهمته هي إنتاج القصيدة أما غناؤها وتلحينها فيتجاوز اختصاصه، إذ في الأمر تقسيم للعمل يجب أن يُحترم، أما الإشارة إليه أو عدمها فلا تهمه في شيء، ذلك أنه من العيب القول بأنني "أعطيت شيئا لفلان أو فلانة" لأن الواهب والمعطي هو الله أولا وأخيرا»[7] . ورغم تواري الشعراء عن الأنظار، إلا أن آثارهم كانت بارزة في الساحة الفنية، لا فيما يتعلق بالقصائد فحسب، بل كذلك في الصراعات التي تنشب بين الروايس أو بين الرايسات، إذ نجد في الثمانينيات معركة شعرية بين فاطمة تيحيحيت مقورن ورقية الدمسيرية تراوحت بين النقد والهجاء اللاذع، ولم تكن في الحقيقة إلا صراعا خفيا بين محمد بيسموموين ومحمد الدمسيري وعمر برغوت. ومن يتأمل المعارك الأخرى سيجدها تنطوي على نفس ما ذكرنا، ولا تشذ المجموعات العصرية وشعراؤها عما ذكرنا[8]. ومع ازدهار أغاني الرايسات[9] كثر الشعراء المزودون لهن بالقصائد، وكن أكثر جرأة في الاعتراف بفضل الشعراء على مسارهن الفني أكثر من الروايس، وبعضهن يفخر بأن فلانا شاعرها، بل منهن من تصحب الشاعر في الجولات الفنية والحفلات حيث يُقدم للناس ويعرّف به وبشعره، وكأنه عضو في الفرقة الغنائية، وأحيانا، يقوم بتقديم للحفل والفرقة الفنية، كما يلقي قصائده مستعينا بها وهو ما يلاحظ في علاقة الشاعر محمد بيسموموين برقية الدمسيرية وأعراب أتيكي.ويتحدد الشعراء (إنضامن) في ثلاثة أصناف: 1-شعراء ينتمون إلى مدرسة أحواش، أو الشعر المرتجل سواء في أيت باها وأشتوكن أو في مزوضة أو غيرهما من مناطق "تاشلحيت"، ومنهم: أحمد الريح، أحمد أودريس، سعيد ؤزرو، عمر برغوث، عمر عجاج... 2-شعراء ينتمون إلى مدرسة الروايس، حيث يتوفرون على أشرطة تجارية، ومنهم: محمد بيسموموين، أحمد أوتمراغت، الحسين أمنتاكَ[10]، صالح الباشا...3-شعراء ينتمون إلى مدرسة المجموعات العصرية (أوسمان، إزنزارن، لاقدام...)، وكانت لهم على عكس المذكورين سلفا، ثقافة مدرسية ووعي سياسي واجتماعي، ونمط مخالف في بناء القصيدة (الحنفي، عكواد، مستاوي،...). على أن هذا التصنيف إجرائي فقط، لأن هناك شعراء يصعب تصنيفهم مثل محمد بيسموموين الذي يرتجل الشعر في مراقص أحواش وينتمي إلى مدرسة الروايس ويزود المجموعات العصرية من صنف الموجة الجديدة الحالية بالقصائد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ليس شعراء المجموعات العصرية هم وحدهم الذين يتمتعون بوعي اجتماعي وسياسي، بل نجد بعض الروايس يتجاوز خطابهم ووعيهم السياسي ما نجده عند المجموعات الملتزمة كالرايس محمد الدمسيري[11].وباستثناء الشعراء الذين احترفوا مهنة "تارايست" نجد الآخرين يتخذون فن قرض الشعر هواية، ويمارسون مهنا مختلفة كالبناء والتجارة والصناعة التقليدية والفلاحة وتربية الماشية.... وغيرها من المهن الحرة وأكثرها قروية. أي أن شعراء القصيدة لازالوا مرتبطين بالوسط الحيوي للغة والشعر الأمازيغيين، وحتى الذين لهم نوع من الاستقرار بالمدن لا يترددون في زيارة مواطنهم الأصلية، ويفضلون حضور السهرات واللقاءات الشعرية التي تجرى في القرى النائية لما فيها من متعة شعرية وفنية كبيرة لا يساهم فيها الفنان والشاعر فحسب، بل يرجع فيها الفضل كذلك إلى جمهور متذوق متتبع لم تؤثر فيه المؤثرات المدينية كثيرا. بعد هذا العرض الموجز لإحدى مشكلات الشعر الغنائي الأمازيغي بسوس، أرى من الضروري إبداء ملاحظات متفرقة على سبيل الختم. 1-هناك شعراء كثر ينظمون أبياتا جيدة، إلا أنهم لا يحسنون تنسيق بنائها فهي أشبه بشذرات متفرقة، لذلك تحتاج تلك الأبيات المنظومة إلى إعادة ترتيب لتصير قصيدة جيدة وغالبا ما يقوم الرايس المغني بتلك المهمة، وهي التي تُسمى في الملحون بـ"الخياطة" والذي يقوم بها يطلق عليه "الخياط"، ونفس الشيء تقوم به المجموعات الغنائية، إذ بعد تلقيها للنص الشعري تقدم على إعادة الترتيب وعلى الحذف والإضافة ويلاحظ عند المجموعات الرائدة كإزنزارن وإيكَيدار وغيرها ما يمكن تسميته بـ"القصيدة الجماعية" التي يتعاون على بنائها عدة شعراء. 2-إن الفوضى التي يعرفها "سوق" إنتاج القصائد الغنائية ليست في صالح الفنان سواء كان رايسا أو مجموعة، وليست في صالح الشاعر الموهوب، إذ الأول مستغَل مفرط الأنانية، والثاني مستغِل مقهور لا حول له ولا قوة، مما أدى إلى نوع من "الإنكار المزدوج"، فالفنان يدعي كل شيء لنفسه وينكر علاقته بالشاعر، والشاعر لا يدعي شيئا لنفسه وينكر علاقته بالفنان، إنه المسكوت عنه في العلاقات الفنية الذي لا زال يلقي بظلاله في زمن يجب أن لا تضيع فيه حقوق المبدعين والمؤلفين نتيجة ممارساتهم أنفسهم،وبغض النظر عن الضرر الذي يعود عليهم قبل غيرهم،فإن هذا الإنكار والجحود يؤدي من الناحية المعرفية إلى تضليل الدارسين بنسبة الشيء إلى غير أهله،ومن الناحية الحقوقية إلى الإبطاء في عملية أجرأة حقوق الملكية الفكرية والأدبيات الإيجابية التي يجب أن تؤطر الساحة الفنية.ولئن كانت بعض المجموعات والفنانين الذين أصبحوا على وعي بأن العمل الفني عمل مشترك لا يجوز إقصاء كل من ساهم فيه، قد دأبوا على الاعتراف بالشعراء والعازفين والتقنيين والإيقاعيين عبر إثبات أسمائهم على الأشرطة والأقراص دون خوف أو عقد، فإن "فن الروايس" لازال يقاوم مثل هذا الاعتراف مثلما قاوم من قبل النزعات التجديدية في المقامات وإدخال الإيقاع والآلات العصرية، لكن التغيير آت لا محالة والزمن أقوى من كل مقاومة تحمي طرفا دون آخر. لقد آن الأوان لإنصاف فئة الشعراء،فئة أقل ما يمكن أن يوصف به حالها هو "قليل من الأخذ وكثير من العطاء، ومعاناة في صمت". سعيد جليلSaid-jalil @ hotmail.com **** الإحالات: [1] -محمد مستاوي، الرايس الحاج بلعيد، ط 2، 2004، مقدمة أحمد بوزيد الكنساتي، ص: 12. [2] -يُنقل كذلك عن سعيد أشتوك أنه كان يحضر حلقة الحسين جانطي أو المناسبات التي يغني فيها، فيستفيد مما يسمعه من أشعار. [3] - حدث هذا حتى بالنسبة للمجموعات الرائدة "إزنزارن الشامخ" التي ابتدأت مسارها بقصائد تراثية وأهما إنتاج الحاج بلعيد (تازنزارت، سعيد كيكش، ط 1، 2009، ص: 117). [4] -Roways, poètes chanteurs , Amazigh – Tachelhit – Abder LAKHSSASSI, Rétrospéctives, n°1, 2009, p: 73. [5] - الكلمة من أصل عربي تعني أن يحظى الفنان بقَبُول لدى جمهوره، ويلعب فيه المظهر والجمال والصوت الحسن دورا كبيرا، كما نجد للكلمة حضورا في أوساط الدجل والشعوذة من خلال "حجاب القبول".والقبول عند الروايس ليس شكليا، بل هو كذلك روحي مرتبط بتقديم الذبيحة السنوية للشيخ الواهب ،واستدعائه في مقدمات القصائد (سيدي أحمد أموسى، مولاي الحاج، مولاي ابراهيم...) [6] -ديوان إبراهيم بيهتي، جمعه سعيد جليل، ص: 162 (لا يزال مخطوطا). [7] - خلاصة رأي عمر برغوت بشأن تقديم القصائد للروايس، برنامج تيفاوين بثته قناة المغربية مساء يوم 22/04/2008 (تقديم وحوار خديجة رشوق). [8] - تازنزارت، سعيد كيكش، ص: 116-117، وكذلك 197، 212 و 213، 222. [9] - فاطمة تيحيحيت، رقية الدمسيرية، زبيدة تاتيكيت، الزهرة الدمسيرية،... [10] - تعامل هذا الشاعر كثيرا مع المجموعات الغنائية (بنات). [11] - نجد ذلك في قصائد جريئة بالنظر إلى زمنها: أكّرن (الدقيق)، رزمخد ؤوولينو، تيمزكيد (المسجد)، إضافة إلى شذرات مبثوثة بين قصائده الأخرى، كأنها رسائل مشفرة إلى الذين يفقهون الرموز والمعاني، وكلها تصب في التنديد بالظلم والشطط، والتهميش والتفقير، والدفاع عن الإنسان المستضعف البئيس.
|
|