|
|
لماذا لم ينتشر الإسلام بأوروبا مثلما انتشر ببلدان أسيا؟ بقلم: محمد بودهان
يقدر اليوم عدد المسلمين في العالم بمليار وثلاثمائة وخمسين مليون مسلم (أرقام 2003). مليار منهم تقريبا يوجد في أسيا وحدها دون احتساب مسلمي البلدان العربية، مع أكبر عدد بأندونيسا (240 مليونا). أما أوروبا كلها فلا يتجاوز عدد مسلميها 40 مليونا، وهم في الغالب من المهاجرين ذوي الأصول غير الأوروبية. هذه الأرقام والمعطيات تطرح السؤال التالي: إذا أخذنا بعين الاعتبار "الفتح" العربي لجزء من أوروبا (إسبانيا) التي حكمها العرب لأزيد من ثمانية قرون، فالمنتظر، بناء على ذلك، أن يكون الإسلام حاضرا ببلدان أوربية أخرى، أو يكون قد انتشر على الأقل بهذه القارة أكثر مما انتشر بالقارة الأسيوية ـ في جزئها غير العربي طبعا ـ التي لم يسبق أن حكمها ولا "فتحها" العرب باستثناء بلاد فارس المجاورة للبلاد العربية التي انطلق منها الإسلام. لماذا بقي إذن انتشار الإسلام محدودا بأوروبا في الوقت الذي يناهز فيه عدد مسلمي أسيا ـ في جزئها غير العربي دائما ـ مليار مسلم؟ أولا يجب استبعاد انتشار المسيحية بأوربا قبل الإسلام كسبب حال دون اعتناق الأوروبيين للإسلام، وإلا لحالت كذلك الديانة البوذية، التي كانت منتشرة هي أيضا ببلدان أسيا قبل الإسلام، دون اعتناق سكان هذه البلدان للدين الجديد، خصوصا أن البوذية لا تزال إلى اليوم هي الديانة الأولى في العالم. كما أن المسيحية كانت منتشرة بالشام وفلسطين والعراق ومصر وشمال إفريقيا، ومع ذلك لم تمنع سكان هذه البلدان من اعتناق العقيدة الجديدة. فهذا لتفسير "المسيحي" كان من الممكن اعتماده لو لم تكن هناك حالة الديانة البوذية كمثال مضاد يدحض ذلك التفسير. ويزداد السؤال أهمية و"تشويقا" إذا عرفنا أن العرب بذلوا مجهودا "فتحيا" كبيرا لـ"نشر" الإسلام بأوروبا حيث بلغوا جبال "البيريني" جنوب فرنسا وحدود النمسا من الجهة الشرقية، عكس بلدان أسيا التي لم تطأها أقدام العرب "الفاتحين" مثل اندونيسيا والهند وباكستان وبانغلاديش... في الحقيقة، الجواب عن السؤال يكمن في هذه "الفتوحات" نفسها. لقد كانت هذه الأخيرة غزوا واحتلالا لبلدان الشعوب الأخرى غير العربية، مع كل ما كان يرافق ذلك الغزو من قتل وإبادة واغتصاب وسبي واستغلام (تحويل الأطفال إلى غلمان) ونهب وسلب واسترقاق للسكان غير العرب. وكل ذلك، وهذه هي المفارقة الكبيرة، كان يتم باسم الإسلام الذي هو أصلا يحارب هذه السلوكات الهمجية الجاهلية التي أحياها ومارسها "الفاتحون" العرب على غيرهم من الشعوب. وهذا ما حصل بالفعل ببلاد الأندلس عندما استولى عليها العرب بالحرب والقوة، وحولوها إلى أرض عربية انتزعت من أصحابها الأصليين والشرعيين، لينشروا بها، ليس الإسلام الذي احتل ذلك البلد الأوروبي باسمه، وإنما العروبة العرقية بممارساتها الجاهلية المنافية لروح الإسلام الذي يدين تلك الممارسات ويرفضها. فالعرب لم ينشروا إذن الإسلام بالأندلس، ولا بأي بلد من تلك التي "فتحوها"، لأن ذلك لم يكن هو هدفهم من "فتح" تلك البلدان. بل الهدف كان نشر جاهليتهم التي وجدوا الفرصة الذهبية لممارستها من جديد، وبشكل مشروع يستند إلى الدين الحنيف الذي كيّفوه وأولوه ليخدم جاهليتهم الجديدة. وقد تمثلت هذه الجاهلية، فيما يتعلق بالأندلس، في نهب خيرات هذا البلد الإيبيري وسبي نسائه وقتل رجاله واستغلام أطفاله والاستيلاء على أرضه. ولهذا ظل السكان الأصليون للأندلس، طيلة ثمانية قرون من تواجد العرب بها، غير مسلمين إذ كان الإسلام مقصورا على المحتلين العرب ولم يتجاوزهم إلى الأهالي الإيبيريين، وذلك لأن العرب لم يبذلوا أي مجهود دعوي لنشر الإسلام بينهم، لأن ذلك لم يكن هو الغاية من احتلالهم للأندلس كما سبقت الإشارة، كما أن إقناع الناس بالدين الجديد ـ أي دين ـ لا يكون بالقتل والحرب والنهب والسطو والسبي والاغتصاب، كما كان يفعل العرب في ما يسمونه "الفتوحات"، التي هي في الحقيقة فتوحات جاهلية لا علاقة لها بروح الإسلام وقيمه. لقد كانوا يتصرفون أثناء هذه "الفتوحات" كقطاع طرق ـ تماما كما كانوا يفعلون في الجاهلية ـ يقتلون وينهبون ويسلبون ويغتصبون ويسبون، وهذه كلها قيم جاهلية حاربها الإسلام، لكن العرب أحيوها وعادوا إليها جهارا وعلنا يمارسونها بزهو وافتخار. إن احتلال واستعمار إسبانيا، مع كل ما صاحب ذلك من ممارسات جاهلية لا تمت بصلة إلى الإسلام، كان سببا رئيسيا وكافيا لنفور الأوروبيين من الإسلام الذي لم يفرقوا بينه وبين تلك الممارسات الجاهلية الهمجية، ما دام أن العرب أنفسهم كانوا يبررون تلك الممارسات باسم الإسلام. وهو ما جعل الأوروبيين يخافون من الإسلام خوفهم من العرب، ويتصدون لمحاربته كجزء من محاربتهم للعرب المحتلين، وهو ما فعله "شارلوماني" ملك فرنسا الذي أوقف زحف العرب بجنوب فرنسا لمنعهم من التقدم نحو باقي البلدان الأوروبية. ومنذ احتلال العرب لهذا الجزء من أوروبا، والأوربيون ينظرون إلى الإسلام كعدوهم الأول، نظرا للطابع العروبي الجاهلي الهمجي القبيح الذي ألصقه العرب بالإسلام في اجتياحهم للبلاد الإيبيرية. ومنذ ذلك الوقت وهم ـ الأوروبيون ـ يستعدون لمواجهة هذا الإسلام "الجاهلي" وطرده من ديارهم إلى أن نجحوا في ذلك سنة 1492 ميلادية عندما حرروا بلاد الأندلس من الاحتلال العربي الذي دام ثمانية قرون، بعد أن حاولوا، من خلال الحروب الصليبية، تحرير بلدان أخرى غير أوروبية سبق أن احتلها العرب باسم الإسلام على غرار ما فعلوه بإسبانيا. هذا هو الأصل التاريخي للعداء الأوروبي المسيحي للإسلام، والذي يجد مصدره في غزو العرب لبلاد الأندلس، حيث قدموا صورة عن الإسلام كدين غزو وسبي ونهب وسلب واحتلال، مع أن تلك الصورة تعبر عن سلوكاتهم ذات الأصل الجاهلي التي جاء الإسلام لمحاربتها والقضاء عليها. لكنهم استغلوه واستعملوه لاستمرار جاهليتهم تحت غطاء الدين الحنيف الذي هو بريء منها. أما بلدان أسيا المسلمة (دائما دون احتساب إيران وتركيا والدول العربية) فلم تعرف مثل هذه الثقافة الإسلاموفوبية (الخوف من الإسلام) المنتشرة بأوروبا، كما أن عدد المسلمين بها يناهز المليار. لماذا؟ الجواب هو أن هذه البلدان (أندونيسيا، الهند، بنغلاديش، باكستان، أفغانستان...) الأسيوية لم تتعرض لغزو عربي كالذي عرفته إسبانيا الأوروبية، وهو ما يفسر انتشار الإسلام بها أكثر من أية قارة أخرى، لأن الإسلام الذي عرفته واعتنقته هو الإسلام الحقيقي الذي اقتنعت به دون إكراه ولا عنف ولا "فتح" ولا حرب، والذي لم يصلها مقرونا بالممارسات الجاهلية "للفتح" العربي كما حدث في إسبانيا وببلدان أخرى في الشام وشمال إفريقيا، وهي الممارسات التي نفّرت الأوروبيين من الإسلام ودفعتهم إلى إعلان الحرب عليه كما سبق أن شرحنا. فالإسلام المنتشر بهذه الدول الأسيوية لم يأتها إذن بواسطة جنرالات الغزو العربي كخالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو موسى بن نصير أو طارق بن زياد أو عقبة بن نافع... ولا عن طريق "الفتوحات" التي شوهت الإسلام وأعطته وجها همجيا قبيحا يقترن بالقتل والاحتلال والسبي والنهب. رغم أن القرآن لا يدعو بشكل صريح إلى غزو الشعوب واسترقاقها وسبي نسائها واحتلال أراضيها ونهب خيراتها، إلا أن فقهاء السلاطين العرب، الذين كانوا يستفيدون من غنائم ونساء هذا الغزو، نشروا ورسخّوا فكرة أن ممارسة الغزو والسبي والنهب جزء من الإسلام لا يكتمل إلا بها، واعتبروها "جهادا في سبيل الله"، وهي (الممارسة) في الحقيقة "جهاد" في سبيل العروبة العرقية ونوازعها الجاهلية. فالجهاد في الإسلام، وكما مارسه الرسول (ص) نفسه، ذو وظيفة دفاعية يفرضه رد العدوان ولا يرمي إلى غزو الشعوب واستعمارها والعمل على تعريبها العرقي وتغيير هويتها وانتمائها. وهنا نستحضر أن الرسول (ص)، لما أراد أن يدعو هرقل الروم، وغيره من ملوك البلدان الأخرى في تلك الفترة، إلى الإسلام، لم يرسل لهم جيوشا تغزو شعوبهم وتغتصب نساءهم وتحتل أراضيهم باسم الإسلام، بل كتب لهم رسائل ودية وسلمية لا يتضمن خطابها عنفا ولا تهديدا ولا وعيدا ولا استكبارا. فلمَ لم يقتد الخلفاء الذين جاءوا بعد الرسول (ص) بهذا السلوك الحضاري الإنساني والإسلامي الحق، فيرسلوا إلى الشعوب الأخرى غير المسلمة دعاة ومبشرين يعرّفونهم بالدين الجديد بدل إرسال عصابات متعطشة للدماء والنساء؟ وبهذا الأسلوب، أسلوب الدعوة والموعظة الحسنة، انتشر الإسلام باندونيسيا وبنغلاديش وباكستان وأفغانستان، انتشارا لم تعرفه البلدان التي تعرضت "للفتح" بدعوى نشر الإسلام. بل يمكن القول إن الرحالة الأمازيغي ابن بطوطة ساهم في نشر الإسلام ببلدان أسيا التي زارها، أكثر مما ساهم في ذلك عقبة بن نافع أو طارق بن زياد ببلدان تامازغا والأندلس. فـ"الغزو" الذي يدعو إليه الإسلام هو غزو الأرواح والقلوب، وليس غزو الأوطان والبلدان. إن حالة الانتشار الكبير للإسلام ببلدان أسيا (من غير تركيا وإيران والدول العربية)، بشكل يفوق بكثير انتشاره بإفريقيا وأوروبا، ودون غزو ولا "فتح"، يؤكد بجلاء أن "الفتح" لم يكن عاملا لانتشار الإسلام بقدر ما كان عائقا لهذا الانتشار بسبب ما كان ينتج عنه من مقاومة للغزاة ورفض لدينهم وثقافتهم، كما حصل في إسبانيا حيث أدت هذه المقاومة في الأخير إلى الطرد النهائي للإسلام الذي كان مرادفا للاحتلال العربي. وخريطة انتشار الإسلام اليوم في العالم، تقدم الدليل الساطع على أن انتشار الإسلام، بالقارات التي سبق أن انتشرت بها العروبة التي فرضها "الفاتحون" العرب، هو انتشار محدود كما في أوروبا وإفريقيا،
التي كان يجب أن تكون قارة مسلمة عن آخرها لو لم يكن هناك "فتح" عربي لجزئها الشمالي، عكس أسيا التي يعرف بها الإسلام ازدهارا لافتا لأنها خالية من العروبة باستثناء الدول العربية التي هي أصلا بلدان عربية. فحيثما وصل "الفتح" العربي وصلت العروبة والتعريب أكثر من وصول الإسلام. وحيثما غاب "الفتح" العربي حضر الإسلام بشكل كبير مع غياب كامل للعروبة كما في بلدان أسيا. وهذا ما يسمح لنا بالجزم أنه لو لم تكن هناك "فتوحات" عربية لكان الإسلام، ليس هو الديانة الأولى التي تمثلها اليوم البوذية، بل لكان هو ديانة كل العالم. فهناك إذن علاقة عكسية بين انتشار الإسلام وانتشار العروبة المرتبطة بـ"الفتح". فهما يتنافيان ولا يجتمعان، مثلما يتنافى الإسلام والجاهلية، التي وجدت امتدادا لها في العروبة العرقية وما يرتبط بها من سياسة قومية وتعريبية. أما في بلاد الأمازيغ بشمال إفريقيا، وكذلك ببلاد فارس، فالأمر يختلف عن حالة الأندلس، ذلك أن الحكم بقي عربيا في هذه الأخيرة مع كامل السيادة السياسية والهوياتية للعنصر العربي، وهو ما يشكل استعمارا حقيقيا كان لا بد من مقاومته، وهو ما نجح فيه الإسبان بمساعدة باقي الأوروبيين. أما في المغرب، فإن الأمازيغيين قاوموا هم كذلك الغزو العربي الذي رفضوه، مع كل ما حمله معه من قيم وثقافة ودين، والذي كان يرمي إلى استعمارهم واحتلال أرضهم. وقد استمرت هذه المقاومة طيلة المدة التي بسط فيها العرب نفوذهم السياسي والهوياتي على البلاد الأمازيغية. وهذا ما يشير إليه المؤرخون العرب عندما يكتبون بأن الأمازيغ "ارتدوا" اثنتي عشرة مرة قبل أن يعتنقوا الإسلام بصفة نهائية. وبما أن العرب لم يكونوا ـ وإلى اليوم ـ يفرقون بين الإسلام، الذي استغلوه وكيّفوه لخدمة جاهليتهم الجديدة وأنانيتهم البدائية، وبين عروبتهم العرقية بمضامينها الهمجية الجاهلية، فقد كانوا ينظرون إلى كل من يحارب ـ ولا زالوا إلى اليوم ـ العرب على أنه يحارب الإسلام. ولهذا قالوا إن الأمازيغ "ارتدوا" اثنتي عشرة مرة، لأنهم طردوا العرب اثنتي عشرة مرة. لكن بمجرد ما استرد الأمازيغ سيادتهم السياسية والهوياتية على أرضهم التي استرجعوها من أيدي المحتل العربي، احتفظوا بالإسلام كدين روحي لا يستعمل لاحتلال أرضهم كما كان يفعل العرب، ووضعوا فصلا بين الإسلام كدين يتوجه إلى كل العالمين وبين العروبة العرقية كثقافة جاهلية حاربها الإسلام نفسه. وهكذا نشأت دول أمازيغية مسلمة حافظت على الإسلام مستقلا عن العروبة إلى أن احتلت فرنسا المغرب سنة 1912، حيث ستعود هذه العروبة العرقية، بفضل فرنسا، إلى فرض سيطرتها السياسية والهوياتية على الأمازيغيين. وهنا نفهم لماذا فر إدريس الأول إلى بلاد الأمازيغيين ولماذا رحبوا به واستقبلوه. لجأ إليهم لأنه كان يعرف أن عدوهم هو المحتلون العرب الذين نجح الأمازيغ في طردهم سياسيا وهوياتيا من أرضهم التي سبق أن احتلها أولئك العرب تحت اسم "الفتوحات". وبما أن هؤلاء العرب أصبحوا يطاردون إدريس لقتله، فليس هناك من بلد يضمن له الحماية بشكل أفضل كبلد عدو العدو. ونفس الشيء في ما يتعلق بالأمازيغيين. فقد استقبلوا إدريس ورحبوا به باعتباره عدو العدو. فالمبدأ الذي طبق في حالة لجوء إدريس إلى الأمازيغيين وقبولهم لهذا اللجوء، هو مبدأ عدو عدوي صديقي. عادت إذن العروبة العرقية ذات الأصول الجاهلية، منذ الاحتلال الفرنسي، إلى المغرب لاستغلال الإسلام مرة أخرى لفرض سيطرتها السياسية والهوياتية على الأمازيغيين كما فعل الغزاة الأوائل منذ خمسة عشر قرنا. لهذا فإن المطلوب اليوم هو حماية الإسلام من هذه العروبة العرقية الجديدة التي تشوهه وتسيء إليه، وذلك بالفصل بين العروبة والإسلام أولا كإجراء ضروري للفصل الثاني بين العروبة والدولة التي ينبغي أن تكون دولة أمازيغية مستقلة عن العروبة، دينها إسلام مستقل كذلك عن العروبة العرقية.
|
|