|
|
اللغة والسلطة والدين في رواية tawargit d imik لمحمد أكوناض (قراءة أنتروبولوجية) بقلم: محمد أوسوس (رابطة تيرا للكتاب بالأمازيغية) تعتبر تيمة السلطة بمختلف تجلياتها وأبعادها التيمة الغالبة على المستوى الموضوعاتي في رواية (1) d imik tawargit للأستاذ محمد أكوناض، حتى جاز اعتبارها تشريحا لتمظهرات السلطة، ورصدا لرهاناتها المختلفة في المجتمع المغربي في فضاءاتها ونماذجها ورموزها التالية:1- سلطة الطالب (فضاؤها المسجد). 2- سلطة أمغار ( فضاؤها عام- مرموز إليه بالبيرو). 3- سلطة لجماعت (كاريزمات، رمزية):الممثلة في أزرور (ذكوريا)، إيطو (أنوثيا)- مجالها(أسايس). 1 - المسجد/طالب (تيطّولبا): يلعب المسجد دور الجذب في الرواية: إنه الفضاء المقدس الذي يمثل السلطة الدينية اللاهوتية، ذات الطبيعة الإكليريكية، وهو مجال تصريف الثقافة/ الإيديولوجية العربية الإسلامية المتمركزة على ذاتها والمستمدة لهيمنتها من سلطة النص واللغة العربية. وسلطة الفقيه التي يخشى عليها إنما يستمدها من سلطة الإيديولوجية الدينية التي يمثلها، والتي تشكل غطاء قدسيا لسلطة مخزنية ولغوية (قومية، مشرقية) سيكتشفها لاحقا، كيف ذلك؟ إن توهّم (طالب) في الرواية أنه يؤدي وظيفة دينية روحانية محضة مجردة من رهانات رمزية أو سلطوية جعله يفكر في سبل التواصل مع رواد المسجد، فاللغة التي يخاطبهم بها (العربية) لا تقوم بوظيفة تواصلية، ولا تحقق الأثر المرغوب فيه، وهو الفهم والهداية والوعظ، فيقرر خرق التقاليد ليلقي خطبة بالأمازيغية بعد معارضة شديدة من «طلبا» الآخرين الذين استشارهم: إذ ينصحونه بالحفاظ على الامتياز الطبقي والترقية الرمزية/السلطة التي توفرها الخطبة بالعربية بسبب التعالي والبعد عن الناس والغموض، وإلا فإنه سيفقد حظوته وهيبته الرمزية حين يخالط العوام، ويحدثهم بلغتهم. هكذا يجد «تاشنيارت» نفسه في قلب عراك لغوي، صراع رمزي، تنازعات ورهانات سلطوية لم تكن في حسبانه، ولم يكن واعيا بها: إن طالب يمثل منطق العتبة، ملتقى الطرق بين عالمين، سلطتين، فهو من جهة استدخل intériorisé ثقافة الأم (المهيمن عليها)، وفي الآن ذاته تشبع بالثقافة الدينية (المهيمنة)، ولذا صار مجال تقاطب، وبات جسدا متجاذبا بين المهيمن والمهيمن عليه، ممثلا (المهيمن/المهيمن عليه)dominant/dominé وحين أعلن القطيعة أو الثورة على ذاته، وعلى ما يمثله من سند سلطوي- دون وعي منه بتبنيه اللغة الأمازيغية لإلقاء الخطب يوم الجمعة- سينكشف حجاب السلطة التي كان يجسدها، وسيخلخل بذلك النظام، ذلك أن كل فعل لا يتوافق والنظام السائد يستوعى على أنه خرق وزعزعة، فالسلطة ليس لها من معنى إلا إذا وقع إخفاؤها وحجبها وبالتالي تقديسها، وهو ما يدافع عنه بقية «طّلبا» أصدقاء (ابراهيم تاشنيارت) حين تحفظوا من استعمال الأمازيغية في الخطبة: ira d tekkt akal بذريعة أن ذلك يجعل الفقيه يفقد هيبته وامتيازه الرمزي ويتساوى مع العوام الأميين، ذلك أنه وإلى غاية أوائل القرن الماضي عموما (بل وإلى الآن في الأوساط التقليدية بالمجتمع القروي خصوصا) كانت صورة المثقف في بلادنا هي «العالم» «الفقيه» أو «الشيخ»، وهي فئة تنتمي لنخبة تقليدية ولدها إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة الدينية والبنى الإكليريكية.. فالفقيه يشكل قناة نقل مفضلة بين المركز والهامش، بين الأعلى (السلطة المركزية) والأسفل (الجماهير الشعبية)، بينما كان الشعراء بالتعبيرات الشفوية (سواء العربية أو الأمازيغية) هم الأقرب من المثقف بالمعنى المعاصر لأنهم قد ينقلبون أو يؤولون إلى شكل من الاحتجاج على النظام. بعد إلقاء الخطبة بالأمازيغية سيكتشف طّالب أنه لا يمثل تطلعات الناس، كما لا يمثل فقط السلطة الدينية التي تمنحه ارتقاء اجتماعيا ورأسمالا رمزيا كما كان يتوهم وأصدقاءه، بل كان يشكل امتدادا للسلطة المخزنية التي يخدم مصالحها، ويدعمها من حيث لا يشعر في تدجين الناس وإخضاعهم للنظام المشروع كما تراه السلطة. إن وظيفة «طالب» هي تلقين وتبليغ خطاب السلطة وبسلطة الخطاب، وهو ما خلخله باختياره لغة العامة، لقد جعل الناس يستفيقون، فهو في الرواية يتحدث عن السرقة وعواقبها وآثامها، لكن (أزرور) يستوقفه ويناقشه، مما يؤشر على كون القوم قد تخلصوا رمزيا من سلطة الخطاب ليناقشوا (ويسائلوا) خطاب السلطة التي تريد استغلال الدين لتدجين الناس وممارسة الحجب والإخفاء، وصرفهم بالمشكلات والمفاسد الصغرى عن الانشغال بالقضايا والمفاسد الكبرى في البلاد من احتكار للثروة واستبداد وتفقير ونهب لخيرات البلاد من قبل الأقلية، ولكن هذا كله لم يكن ليتم لولا تخلص (لجماعت) من سلطة اللغة، ولغة السلطة (الدينية والمخزنية = العربية)، وهو ما أدى إلى أول صدام بين طالب (ممثل السلطة الدينية) وأمغار (ممثل السلطة السياسية المخزنية). في الحوار السياسي الذي تتخلله المواربات ومكر الخطاب بين طالب وأمغار، سيكتشف طالب لأول مرة أنه وكلت له دون وعي منه وظيفة السيطرة على عقول الناس لخدمة مرامي السلطة في التدجين ad ig midden g ufus ومصادرة حسهم النقدي وملكة المساءلة بإقناعهم أنه يرى ما لا يرون، لأن شعورهم بالمساواة مع طالب يفقده سلطته، وبالتالي يزعزع سلطة المخزن: سلطة طالب= سلطة لمخزن= خضوع الناس iskraf n midden g ufus nnun، لذلك فإن أمغار يحمل طالب مسؤولية فك قيود الناس وإطلاق العنان لألسنتهم حتى طالت تساؤلاتهم خطاب السلطة، وتحرروا من سلطة الخطاب (مناقشة أزرور لموضوع السرقة وتأكيده على اختلاسات المسؤولين..). إن كل مناقشة لخطاب السلطة هو احتجاج على النظام وقوانينه وتشكيك في شرعيته، وبالتالي تمرد وانقلاب، لأن الذي يسائل النظام وخطابه إنما يسائل الرؤية السياسية القائمة للعالم، ولمعنى هذا العالم، وهذا ما تجرأ عليه (سعيد ن أوكيبوض) في الرواية حين تحدى لقايد طالبا منه استعمال الأمازيغية كنتيجة وتداع لخطاب طالب، فالخطاب كما يؤكد ميشيل فوكو «يبدو في ظاهره بسيطا، لكن أشكال المنع الذي تلحقه تكشف باكرا، وبسرعة، عن ارتباطه بالرغبة والسلطة.. وما دام الخطاب ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول السيطرة عليها» (2). يلح أمغار في حواره/ تعليماته إلى طالب على أن مخاطبة الناس في المسجد بلغتهم فك لقيودهم (تخليص لهم من سلطة الخطاب) بينما ينبغي للغة (طّلبا) أن تقيد الناس، ولذا ينبغي أن يتشح خطابه بالغموض ويتفادى الوضوح لأن الوضوح يقلص من سلطته ويجعله قابلا للنقاش، ومناقشته تعني المساواة مع منتجه، وفي ذلك خلخلة لموازين القوى، ولأن غموض الخطاب هو الذي يميزه عن العامة والأميين، ثم إنه ينبغي أن يحسم الكلام، ولا يسمح للناس بإنتاج خطابات على هامش خطابه هو (المناقشة). فاللغة ملتحمة بالسلطة و»سلطة الكلام ليست إلا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة». وتكمن خصوصية الخطاب السلطوي (كدرس الأستاذ وخطبة الواعظ..) في أنه لا يكتفي بأن يكون مفهوما مستوعبا (بل إنه يمكن أن يكون كذلك في بعض الأحوال دون أن يفقد نفوذه، وهو لا يفعل فعله الخاص إلا شريطة أن يعترف به كخطاب نفوذ وسلطان» (3). إن شعور طالب أن خطابه بدأ يفقد هيبته وامتيازه وتعاليه مرده إلى أنه لا يستمد قوته من بنيته كخطاب بل من خارجانية النص (السلطة التي يمثلها والتي يترجمها) والتي تتعزز بالغموض الذي يضفي عليه سحرا وقدسية وتعاليا يكسبه طابعا طلسميا، ويجعله أقرب في تمثل الناس إلى التعازيم والتعابير الغامضة التي يرددها السحرة والكهان والشامانيون في المجتمعات البدائية في طقوس طرد الأرواح أو العلاجات البدائية، فعباراتهم تمتلك فعالية رمزية ذات طبيعة سحرية تستمد قيمتها وقدسيتها من الطقوس الدينية المصاحبة، ومن اعتراف الناس بالكهنة كوسطاء للاتصال بالعالم الغيبي العلوي وبالمقدس الديني، لذلك فـ»نسبة غموض الكلمات توازي نسبة المقدس ذاته» (4). إن طالب يصدر عن إيديولوجية سلطوية بطريركية ذكورية تقوم على الخضوع والسيطرة بواسطة أداتي اللغة والدين اللتين تتحولان إلى رهانات سياسية يصطدم بها العقل النقدي في شمال إفريقيا وتعيقان سيرورة تحرر الذهنيات. وتتميز هذه الإيديولوجية باثنومركزيتها وطائفيتها وتمركزها حول النص لتنتج ثقافة سلطوية تتناسل من هذا النص/ النقل وتخضع لجاذبيته وتدور في فلكه بلغة سحبت عليها قدسية النص وتحولت إلى لسان إكليريكي يكاد يكون مفارقا للواقع، وهذا ما أدركه تاشنيارت، إذ يصرح في الرواية بأنه حين يخطب بالعربية يشعر بأنه متعال محاط بحصون وقلاع من نسيج عنكبوت واه لا يصمد أمام أتفه الزوابع لأن مجرد الوعي باعتباطية سلطتها يفقدها الامتياز الرمزي الذي تحظى به في المتخيل الجماعي. إن ابراهيم تاشنيارت يخرج من الخطبة التي ألقاها بالأمازيغية بأول انجراح نرجسي، وخز للذات يكشف له أن أزمته في عمقها لغوية، وأن اللغة أكبر من الإنسان نفسه، وليست مجرد تواصل، إننا في داخل اللغة، نولد فيها وهي التي تجعل منا ما نحن ولا نخرج منها. إنها ليست مجرد أداة أو ملكة: إنها جوهر الإنسان، أن تكون إنسانا معناه في البدء أن تتكلم être homme, c’est d’abord parler لكن علاقة اللغة بالسلطة تكشف على أن هناك لغة الأعلى awal ufella لغة المخزن، اللغة المشروعة الرسمية المهيمنة «المقدسة « sacralisée، أداة التدجين المخزني، اللغة العلوية العالمة المكتوبة التي تجعل منه أداة حين يستعملها وتتكلم من خلاله كما في الرواية، وفي المقابل هناك لغة الأسفل awal uzeddar لغة العامة غير المعترف بها التي تجعل الناطق بها محقرا لصيقا بالأرض والواقع izdi d wakal والتي يشعر فيها بذاته وبدفء الوجود. والطالب مطالب بتوظيف لغة الأعلى (النخب والسلطة) حفاظا على المصالح الفئوية للجماعات المتنفذة، وحماية للنسق الأيديولوجي القائم على اعتباطيته، إذ يجد طالب نفسه داخل مثلث يشكل سياجا إيديولوجيا للعقل والمجتمع، أقانيمه الثلاثة هي: المخزن (السياسي)، اللغة، الدين (المقدس). ولغة السلطة تستند على المكتوب، والكتابة بالتالي إحدى رهاناتها وأدواتها في إنتاج السلطة، مما أضفى على المكتوب بدوره قدسية استمدها من النص المركزي وسلطته واللغة الموظفة فيه، وصار نظرا لثباته واستمراره مرادفا للسرمدي الأبدي غير القابل للمحو، وللقدر والسحر أيضا (إذ يمكن أكل الكتابة أو نقع الخط المكتوب في الطلاسم في الماء أو تبخيرها للاستشفاء من قبل الفقهاء (طلبا) منتجي الكتابة، بحيث إن «تيرا» تعني السحر ittyura as ، والقدر ittyura fellas والكتابة، فقد صار كل ما هو مكتوب مقدسا ولو لم تكن له علاقة بالدين في الوعي الشعبي. لذلك فإن المكتوب يتمايز عن المنطوق ويؤسس لأشكال فكرية ومعتقدية «عادة ما ترتبط - تاريخيا- بتيارات الفكر ‘المتسلطة‘ التي تتسم بطابع هيمني، حيث تعيد إنتاج الثقافة الرسمية..ذلك أن هناك فرقا بين نص ثابت يعيد إنتاج نفسه باستمرار، مما يكسبه سلطة اختراق الزمان والمكان، وكلام غير ثابت يخضع لإكراهات اللحظة المنفلتة دائما، ولا يمكنه أن يتحين أبدا في ظروف أخرى لإنتاج سلطته» (5)، وإدراك المعنى «الأول» و»الحقيقي» في النص المقدس موكول إلى «أشخاص شبه مقدسين» وعارفين، وينتمون إلى مؤسسات وظيفتها الكشف عن أسرار الكتب اللدنية، ورد المؤمنين إلى الطريق «المستقيم»، وهو ما جعل في وظيفة الوساطة التي يؤديها رجال الدين في تأويل النصوص الدينية وظيفة توفر لهم امتيازا اجتماعيا وتجعلهم «طبقة متنفذة تستفيد من علاقة متفردة مع الله ومع رجال السلطة، فهم وحدهم الذين يملكون سر قراءة الكلمة وتأويلها، وهم وحدهم الذين لهم حق إصدار الفتاوى لتبرير الوقائع الاجتماعية أو دحضها، وهي وضعية مكنتهم من أن يكونوا «حراسا للنصوص القديمة» (6). وهذا الأمر المتمثل في احتكار خريطة الفهم وإنتاج امبريالية المعنى هو ما كان يعزز سلطة ابراهيم تاشنيارت، وتقديس المكتوب وهو ما جعله يستنكف من الواقع ويتعالى على العوام، فهو يرفض قراءة المعيش اليومي لأنه متحرك ومدنس ودنيوي profane ولا يوفر للطالب المنخرط فيه إلا التدنيس، بينما ما هو مطمور في بطون الكتب هو علم طاهر وثابت، فكل ما هو مكتوب هو أقرب إلى الصدق والقدسية، وكل ما هو منطوق لا يمكن أن يكون إلا كلام أسايس، شعر إيماريرن، لغو وهذر، خطاب غير مشروع. إن هناك خطابين يتصارعان الشرعية والمصداقية، ويتنازعان جغرافية المعنى: - خطاب الشفوي المنطوق، وهو خطاب الواقع، لجماعت، خطاب للاختلاف différence يتم إنتاجه أدبيا في أسايس (رمز للفضاء الثقافي المحلي) لكنه متحرك ودينامي وغير ثابت ينتج حقيقته باستمرار من خلال تجدده، ولكنه هامشي وغير مشرعن ومقصي من دائرة الاعتراف لأنه يرتبط بالعامة والدنيوي والمدنس، وبالتالي لا يوفر لصاحبه أي ارتقاء أو امتياز سياسي أو ديني، وإنتاج المعنى فيه لا يخضع للوساطة أو المؤسسة والحضور يكون فيه جسديا يفسح المجال للذاكرة والجماعة. - خطاب المكتوب: خطاب للهيمنة والسلطة، مؤسساتي، المعنى فيه يخضع للرقابة والوساطة ويتسم بالمشروعية وإنتاج ثقافة عالمة متعالية على حركية الواقع، وهو حكر على نخبة من العلماء والفقهاء والمنتدبين من طرف الدولة، لذلك فهو يوفر الارتقاء والامتياز والتعالي، ويرمز له بفضاءين: فضاء المسجد (في شقه الديني) وفضاء مكتب أمغار/ لقايد (في شقه المخزني الإداري). وسي ابراهيم تاشنيارت وجد نفسه ممزقا بين هذه الرهانات والخيارات، رهان يوفر له المصالح السياسية والارتقاء المادي والرمزي، ورهان يوفر له الامتلاء الاجتماعي والانخراط في حركية الواقع والمجتمع لكن يجرده من سلطته الرمزية، وهو ما رمز له الكاتب بتوظيف كثيف للبعد الفانتازمي: الحمىtawla)) وما تنتجه من هستيريا والحلم (tawargit)، حيث يحلم طالب بسقوطه من صخرة حادة من أعلى الجبل، ليجد نفسه في السفح، لكن دون لسان، وهي تعبيرات عن صراع داخلي يعيشه طالب، تتجاذبه سلطة المخزن الذي يحفظ عنه أمثالا ومسكوكات متداولة في الوسط الشعبي (انظر أمثلة في ص-79 من الرواية) هذه المسكوكات الجاهزة المستبطنة كيفت ذهنه على الخضوع وتشربها كما تشربها غيره، فأنتجت أخلاق الطاعة، وولدت كما في جيله الأمازيغي فوبيا السلطة ستجعله يحاول دوما خدمتها واسترضاءها حرصا على مصالحه في فصل لاحق من الرواية. وتناول «الطالب» لقضية المرأة هو الانجراح النرجسي الثاني لذاته وللسلطة الذكورية التي يمثلها، إنها الصاعقة التي جعلته يفطن إلى أن معارفه المستقاة من بطون الكتب التراثية الميتة الجامدة تشكل سياجا وحجابا ذهنيا يمنعه من رؤية الواقع والمعيش اليومي المتحول باستمرار، وشعر بأنه يعيش في قمقم ضيق يحاكم من خلاله الناس، ويدين واقعهم، ويعتبرهم حشرات وضالين عن الطريق، لقد كان ينظر إلى الناس من خلال التراث الديني المكتوب، ولما نظر إليهم من خلال واقعهم ولغتهم تعرف إليهم، وتغيرت رؤيته للعالم، لقد تأتى له فهم هذا الأمر حين تضايق من التوافد المكثف للنساء على المسجد بعد تمزيغه للخطبة، فألقى فيهن خطبة نارية تمتح من النظرة الطائفية العنصرية المتلبسة لثوب الدين، والمستقوية به في دعم مركزية الرجل وهيمنته باعتباره مركز الحركة وبؤرة الفاعلية، مذكرا فيها بالحدود الصارمة بين الجنسين ومجالاتهما المفصولة مقدما صورة أفعوية مؤبلسة للمرأة تستثمر العقلية الفتنوية، فتجعلها سببا للقلاقل والتفرقة بين الناس مما يجعلها رديفا لإبليس في البلبلة والشرور، وهو ما استنكرته إيطو ن إيد بلا في فصل anezgum amaynu من الرواية حين انطلقت في مساءلتها لخطاب طالب في توصيف الواقع الذي يشهد بفاعلية المرأة في قبيلتها لا مفعوليتها فقط، ومن شهادتها هي باعتبارها معيلة أسرتها وزوجها المشلول (محند ن شالا) لسنين حتى وارته التراب محرجة طالب بسؤال/ مطرقة من شأنه هدم وتفكيك الإيديولوجية الذكورية السائدة المتلفعة بعباءة الدين: ماذا ترى محند ن شالا فاعلا بي لو كنت أنا المشلولة؟ إنه سؤال يفضح هيمنة الرجل وتشييئه للمرأة، إنها محاكمة لخطابه الذي سقط في أحكام تعميمية مجحفة، وكرس نظرة تعسفية مفضوحة، وهو الأمر الذي جعل طالب يراجع ذاته، ويسائل معرفته المستقاة من بطون الكتب ليدرك أن المرأة المؤطرة في ذهن طالب هي امرأة متخيلة متمثلة تقبع نماذجها في أحشاء الكتب التراثية، وهي غير امرأة الواقع المعيش، تلك التي تساهم في الحياة الاجتماعية، وتقف ندا للرجل في المحاورات الشعرية بأسايس، لكن هذا أشعره بأن هذه المساءلة لخطابه تضعف (تيطّولبا) أي المعرفة الدينية والسلطة الاعتبارية التي تخولها، وتشككه في شرعيتها حين يتساءل: ألا يعني هذا أن تيطولبا نفسها لا تقوم إلا على الأوهام؟ إن رؤية العالم التي تحملها الإيديولوجية السلطوية القائمة الماثلة في بعدها الديني في طالب، والتي يحجبها، وهي المجسدة في لقايد/ أمغار هي في حقيقتها تقسيم للعالم une vision est une division du monde بتعبير بورديو Bourdieu، إذ تنبني على تضادات ثنائية: مركز/ هامش مهيمن/ مهيمن عليه مجال مقدس/ مجال مدنس مكتوب/ شفوي رجل/ أنثى وهذه التضادات تؤسس للنظام القائم وبين حدودها فصل صارم، وهي خرق للحدود أو خلخلة لها تعد انتهاكا خطيرا للنظام. ومهمة طالب الحفاظ على هذه التضادات مع العمل على تكريس النظام القائم ومد الهيمنة وتوسيع مجال المقدس اللغوي والديني لخدمة السلطة السياسية والذكورية في الآن ذاته مع تقليص مجال (أسايس) مجال الثقافة الأمومية الأمازيغية عن طريق تبخيس لغته ووصم stigmatiser خطابه «awal n usays aya d»، هكذا ينعت في نبرة استعلائية كل خطاب احتجاجي يصدر عن المهيمن عليهم (أزرور)، لكن الذي حدث هو أن لغة (أسايس) الشاعرية زحفت على المسجد في خطبة طالب، فالتبس المقدس بالمدنس (المسجد بأسايس) لدى المتلقي، فوقعوا في المحظور: خرق المقدس sacrilège = الزغرودة، إذ للزغاريد مجالها الاحتفالي المدنس، فشعر طالب بأن سلطته انتهكت فقال مخاطبا تايدرت التي جاءت تعتذر: (terzît yi)، وأحس بان أسايس الفضاء الأنوثي الحميمي المهيمن عليه بدأ يكتسح تيمزگيدا الفضاء السلطوي المقدس والذكوري، فقد وقع «تدنيسه» مرتين: - باستعمال اللغة الأمازيغية: خرق للمقدس اللغوي/ السلطوي. - بالزغاريد وهو خرق للحدود الصارمة بين المجال الذكوري والمجال الأنوثي. وهذا يفسر اقتران الأمرين وتحالفهما في نظر طالب في زعزعة كيانه، وتعميق جراحه النرجسية، وتغيير وجهة حياته في آخر الرواية (إذ سيتزوج من تايدرت صاحبة الزغرودة)، فالزغرودة رغم أنها كانت من عوامل انهيار سلطته الرمزية إلى جانب تأسيس الجمعية في القبيلة، إلا أنها كانت تمثل طفولته وصوت أمه ولغتها وثقافته المقموعة، إنها خلاصة لمكبوتاته ومقموعاته، إنها المنسي المغيب، المطمور في ذاكرته، ولذلك سيعترف في ثنايا الرواية، وفي فصل لاحق بأن هذه الزغرودة تشكل جوهر كيانه العميق وهويته الثابتة، وما فوق ذلك مجردة أقنعة متغيرة تتنكر لذاتها. لقد أثارت الزغرودة (تاغريت) سخرية وتهكم لجماعت خصوصا حمو ن أيت علي الذي استغل الموقف ليهزأ بطالب على أنه حول المسجد إلى مرقص ومجال للغناء والاحتفال و(تالهاسوست) الذي اعتبر ما حدث تدبيرا شيطانيا ومؤشرا على حلول إبليس إلى المسجد، وربط ذلك بالمرأة المتواطئة معه. فعوض توسيع مجال المقدس ليبتلع أسايس، وهو ما سيحاوله المخزن/ لقايد لاحقا بعزمه بناء مدرسة عصرية (كأداة للتعريب والأسلمة الإيديولوجية) محل أسايس بعد أن فشل المسجد التقليدي في أداء هذه الوظيفة، فإن ما حدث في الرواية هو أن فضاء المسجد تحول إلى مجال لإنتاج خطابات وتعبيرات الهامش «المدنسة»: أمارگ، الزغاريد (تاغريت). لفهم هذا الفصل الصارم بين الحدود، وما يشكله خرقها من انتهاك خطير للنظام يجب درؤه بفعل طقوسي، نورد المعتقد السائد في سوس، والذي يفيد أنه إذا حدث وصاحت الدجاجة (الأنثى) صياح الديك (الذكر) يجب أن تذبح فورا لأن ذلك يشكل خرقا خطيرا للنظام القائم على التضادات وفصل الأدوار والمجالات بين الذكور والإناث، وزغرودة (تايدرت)، وفي فضاء المسجد هي شبيهة على المستوى الرمزي بصياح الدجاجة (أنثى) صياح الديك (ذكر). يشبه ذلك أيضا تقلد إحدى النساء وفي أحد الأسواق لـ(أقراب: محفظة الرجل) كما جاء على لسان أحد المستفسرين للطالب عن جواز ذلك أو تحريمه. فحمل أقراب هو سلوك ذكوري بامتياز. 2- أزرور/ لجماعت (المسودين) تيمّوزغا أو الخطابات الاحتجاجية للهامش: يعتبر أسايس بؤرة الإنتاجات الرمزية لثقافة مجتمع أيت أوسول الحية المتفاعلة مع الواقع والمتجددة، وهي ثقافة لها بلاغتها وجماليتها ومبدعوها ومتلقوها لكنهم خارج دائرة الشرعي والرسمي، وهم مبخسون من طرف السلطة الدينية السياسية، لأن خطابهم awal خطاب مقصي اعتباطيا من دائرة النظام ليقرن بـ’السيبة» كمفهوم مخزني تاريخي سائد في المغرب يعتبر مرادفا للانظام البري sauvage والذي يجب إخضاعه دوما للمراقبة والتدجين. والرواية تقدم لنا وصفا إثنوغرافيا لبعض ملامح الوعي الجماعي السائد لدى هذا المجتمع القبلي «أيت أوسول» (رمز المجتمع الأمازيغي عموما) حيث يتقاطع الديني والميثولوجي والخرافي، وحيث يمارس الأفراد إسلاما محليا يتراكب في أوعائهم وتمثلاتهم للعالم من حولهم مع الطقوس والمعتقدات المحلية في أبعادها الاسكاطولوجية والميثولوجية (الجدل بين بعض الأفراد في الرواية حول ربط نهاية العالم بوضع البغلة مولودا) والإيديولوجية (الاستسلام للقدر وتفسير كل الظواهر به واعتبار العلل مجرد أسباب ظاهرية تخفي وراءها اليد التي تتحكم في المصائر: القدر: تيرّا ن- ربّي)، تقديس كل ما هو مكتوب وربط الحقيقة به: nnan warratn mayan, mayan ad d iwin idlisen، ربط المرأة بالشر والغواية والفتنة... ويبدو أن الأفراد في جماعة أيت أوسول استدخلوا خطاب السلطة، خطاب المهيمن وشيمات shemes السيطرة والهيمنة إلى حد أنهم يدافعون هم أنفسهم من حيث لا يدرون على المهيمن وخطابه (من بعض تجليات ذلك احتقار الذات: غاسّا د إيس كا نشلّح) رغم بعض الخطابات الاحتجاجية التقليدية التي انبثقت من الهامش لمساءلة المركز ممثلة في كل من أزرور وإيطّو ن إيد بلاّ مثقفي القبيلة/ شعراؤها. يمر شخوص الرواية المنتمين إلى جماعة أيت أوسول الأمازيغية التي توصف لجهلها لغة السلطة بالأميين في تمثلهم للغة السلطة وفهم واستدخال النص/ الخطاب الديني كما ترسم لنا الرواية ذلك في ثناياها إما عبر قناة اللغة الأم والمقاربة اللفظية بين كلمات النص والمتداول في ثقافته (نموذج: نحن أقرب التي يفهمها أحدهم على أن المقصود منها هو (أحانو وأقراب) أو عبر الانصياع المطلق والذوبان في السلطة الرمزية لهذا الخطاب، والاكتفاء بالاستماع كفعل طقوسي هدفه المشاركة في الرأسمال الرمزي الذي ينتجه (أجور الاستماع إلى النص الديني: مجرد الاستماع، وكل أجر بمقدار وزن جبل قاف)، وهاتان الفئتان هما الأغلبية من المهيمن عليهم المستبطنين لخطاب السلطان والخاضعين لسلطة الخطاب. لكن هناك طرفا ثالثا يمثل نخبة هذه الجماعة/ المثقف التقليدي، وهو أزرور الذي يدرك أن العلاقة بالخطاب أو النص تمر عبر شبكة التأويل أو التلوين (إذ يخاطب الطالب الذي يريد إفحامه بنسبة خطابه إلى الكتب (المقدس): idlisen ger ifassen nnun, ar tn tssarum mklli tram لإضفاء صفة المطلق عليه. وهذه العبارة كشف خطير ومتنور ينسبه الكاتب إلى أزرور ليجعل منه نموذجا لمثقف تقليدي (يصدر عن ثقافة الجماعة وقيمها) لكنه متنور وعقلاني (يحمل بوادر فكر متفتح، فمفاد هذه العبارة هو الوعي التام بسلطة الخطاب الديني وآليات اشتغاله (التأويل) والوعي- وهذا أخطر- بتوظيف السلطة الدينية والسياسية للدين عبر التلوين المغرض للنص، وإخضاعه للمرامي السياسية المرغوب في نقلها، وفي هذا يلتقي بقولة علي بن أبي طالب: «القرآن بين دفتي كتاب لا يتكلم، وإنما ينطق به الرجال»، إنه فصل بين الدين والخطاب الديني. كشف عقلاني حداثي آخر صادر عن العقل ينسبه الكاتب لأزرور في معرض رده في سياق آخر على طالب الذي ادعى أن كلامه هو حقيقة لأنه خطاب المسجد، إذ شرح له كيف أن الحقيقة نسبية ترتبط بالإنسان، لا بالمسجد أو أسايس، وأن الخطأ والصواب قد يكون هنا وهناك، وهذه طعنة أخرى لخطاب المقدس (7) sacralisé. ينضاف إلى هذا وعيه برهانات السلطة على اللغة، وهو مضمن عبارة hak in awr imil التي علق بها على قرار طالب بإلقاء خطبه بالأمازيغية، ووعيه بطبيعة الممارسة السياسية التي تقوم على المواربات والمراوغات والمكر بينما طريق الشعب لا مواربات فيه: abrid n midden iga war untulen. إن كشوفات من هذا النوع هي من فتوحات العقل البشري في عصر الأنوار، فمن أين تأتت لشخص تقليدي يصدر عن جماعة يبنين وعيها الدين والأسطورة؟ يصف لنا الكاتب شخصية أزرور في فصل معنون باسمه (أزرور إيگوزولن)، فيجعل منه ممثلا للقيم الأصيلة للمجتمع التقليدي، ومستودعا لكل سمات الرجولة والفروسية بمعناها المادي والرمزي. ماديا: لكمييت (الخنجر)- أييس (الفرس)- عمامة (أباكشّو): رموز الذكورة والفروسية والرجولة. رمزيا: امتلاك سلطة الكلام awal وتشبعه بقيم المروءة والكرم والنبل (يجسد تيموزغا)، والحب (وفاؤه لروح زوجته تلايتماس)، والأصالة (يتحول إلى بطل إشكالي يحمل ويدافع عن قيم متلاشية في مجتمع متحول، حيث يغدو الفرس- رمز النبل والشجاعة (أييس) بغلا (أسردون) ثم حمارا (أغيول)- علامة على الخضوع والتدجين المطلق. يرفض الاعتراف بشرعية السلطة القائمة لأنها استمرار للسلطة الاستعمارية بدليل أنه عانى في عهدها من ويلات العذاب وغيابات السجون ضعف معاناته من مقاومته النبيلة للاستعمار بسبب تحديه القايد (ولطمه الذي يعد تطاولا على السلطة المخزنية، ورفضه الخضوع والمشاركة في أحواش بمناسبة احتفال رسمي لاستقباله، وهو ما سيدفع ضريبته بإضرام النار في كل ممتلكاته بفعل إجرامي وراءه أمغار «إيضر- د». إن أزرور يجسد في الرواية الهوية الأمازيغية بحمولتها التقليدية القيمية والرمزية واللغوية حيث التمسك بالأرض وتقديسها والتعلق باللغة الأم والتسلح بقيم المروءة والكرم والديموقراطية المحلية، وهو في الرواية يصدر عن حكمة الأجداد (تاموسّني) التي راكمتها الأجيال، فهو يمثل نور وفعالية العقل والخبرة الإنسانية المسائلة للنقل والمنفلتة من عقال التقاليد رغم تجذره فيها، وهو ما أكسبه في قومه سلطة كاريزماتية لدنية جعلته الأجدر في منطوق الرواية بتولي منصب «أمغار»، إنه ممثل سلطة خطاب الهامش الاحتجاجي الصادر عن المهيمن عليهم إلى جانب (إيطو ن إيد بلا) ممثلة الخطاب النسوي أو على الأقل الصوت الأنثوي المحتج ضد سلطة الذكور الاعتباطية، وهو الوجه الآخر لابراهيم تاشنيارت، فكلاهما يعلن الثورة من داخل مجاله، غير أن رفض أزرور تسجيل أبنائه في المدرسة العصرية والاكتفاء بالمسجد (timzgida) يجعل من أزرور شخصا لم يسلم من سطوة الاصطراع السلطوي الرمزي حيث يتصارع فيه المقدس والدنيوي، العصري ذو الومضات التنويرية، والتقليدي السلفي، العقل وسلطة الموروث (8). 3- مؤسسة (أمغار-تومغرا: السلطة المخزنية): يرمز لها مكانيا بمكتب القيادة، ويمثلها شخصان: القايد (العربفوني) وأمغار الأمازيغوفوني). يمثل لقايد السلطة المخزنية السائدة القائمة على الإيديولوجية العربية الموظفة للإسلام (طالب) وذات المرجعية والامتداد الشرقي (يرمز الكاتب إلى ذلك في النص ببناء مسجد كبير مؤثث ومزخرف مكان مسجد أين أوسول ذي المعمار المحلي من قبل أثرياء مشارقة وبواسطة السلطة المخزنية بعد أن قطع طالب مع كل بوادره الثورية السابقة، وانخرط علنا في طقوس السلطة وتجلياتها حتى صار يرفل بالحرير، ويغرق في الملذات كأنما يعمل بمبدأ «الحقيقة والمنفعة شيء واحد» البيكوني، ذلك أن من بين أساليب السلطة في التدجين ربط مصالح الناس بدوائرها المخزنية، وحجب أشكال استغلالها، وستعمل هذه الإيديولوجية على اجتثاث كل ما هو محلي واستنبات ما هو مشرقي، بدء بالإسلام كما مارسه المغاربة، وكما يعيشونه وكما كيفوه ثقافيا، إذ وقع تعريبه واستغلاله قوميا (فرض العربية في الخطبة) وتم تمهيد الأرضية للإسلام الشرقي المؤدلج المرتبط بالبترودولار: الاسلام الوهابي (استبدال المسجد الشرقي بالمسجد المحلي) الذي قاد إلى زرع بذور الإرهاب بالمغرب، وهو ما استبقه الكاتب ضمنيا في روايته بإدانته لهذه الإيديولوجيات الشرقانية المعززة بالتعريب ممثلا رمزيا في عزم السلطة على مصادرة مساحة أسايس (إقصاء الأمازيغية ورموزها ومجالات إنتاجها) لصالح مدرسة عصرية كجهاز إيديولوجي لتمرير التعريب): إن تحويل الفضاءات الرمزية استدماج كلي لها في إيديولوجية السلطة، وليس من قبيل الصدف أن تكون الكلمات العربية الوحيدة المستعملة في الرواية هي: القايد وطالب (ممثلا الإيديولوجية العربية الإسلامية) و(لجماعت) وهي قوم أيت اوسول الذين يراد تعريبهم وتذويبهم في بوتقة إيديولوجية السلطة، والذين بدأوا يدخلون خطابها. أما كلمة أمغار، فهي كلمة أمازيغية لأنها تحيل في أصلها على مؤسسة أمازيغية تقليدية قديمة تقوم على نوع من «الديموقراطية» المحلية (إينفلاس، ايت رّبعين، توزيع المهام: أمغار ن توكا، ....)، لكنها مؤسسة باتت في ظل دولة الاستقلال، وبعد تفكيك البنيات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع القروي مؤسسة مخزنية مفرغة من محتواها، لقد صار أمغار مجرد وسيط بين المخزن ولجماعت، يقع تعيينه وفرضه من طرف السلطة لانتهازيته وطموحه الطبقي السياسي الذي جعله يخدم مصالحها من أجل الحفاظ على مكاسبه التي راكمتها من خيانته لجماعته وعمالته للاستعمار، ولم يقع اختياره من طرف الجماعة بناء على كفاءته وتمثيليته كما كان معمولا به في «الديموقراطية المحلية»، ولذلك لقب في القبيلة باسم أمغار (إيضر- د) أي «الذي سقط من الأعلى». إن علاقة أمغار بالقايد تكشف عن تراتبية دلالتها الرمزية في الرواية: لقايد (ممثل السلطة: سائد= عربي). أمغار (وسيط: مسود/ سائد، يخدم السلطة لتدجين الجماعة (أشلحي ن سّربيس)= أمازيغي ينتمي إلى جماعة أيت أوسول. لجماعت: مسودة، مدجنة: أمازيغية. إن الأمازيغي في الرواية إما أن يكون مسودا فقط خاضعا، أو يكون خادما للسلطة السائدة، وهو ما يرفضه (أزرور) الذي لا يرى في السلطة القائمة إلا استمرارا للسلطة الاستعمارية، بما أنها تستلهم نفس أساليب المستعمر في الاضطهاد والهيمنة afus n tgelzzimt ka d ibadeln، وجدير بالذكر أن كلمة afus تتردد كثيرا في الرواية كرمز للسلطة المخزنية، ولخدامها من الأمازيغيين. خاتمة تنتهي الرواية بمشهد احتفالي في أسايس (رمز الثقافة الحميمية الأمازيغية) يظهر فيه من جديد من هجروه كتعبير عن تحول اجتماعي قسري وغير مرض فرضه المخزن وأذنابه، كما يلتقي فيه لأول مرة طالب (المثقف التقليدي الثائر الذي كان سباقا لإعلان ثورة من داخل بنيات السلطة التقليدية التي يتظافر فيها القدسي والسياسي والذي يستعيد ذاته بعد أن كان انغمس حتى النخاع في لذة السلطة ومكتبساتها حين أعلن القطيعة مع الأمازيغية). يلتقي بتايدرت وإيطو الثائرتين ضد إيديولوجية المجتمع الذكوري التي يفرضها تظافر الاجتماعي والديني، وأزرور ممثل الخطاب الثقافي الاحتجاجي المحلي في وعيه التقليدي: ممثل قيم الأسلاف وحكمة الأجداد وخطاب المهيمن عليه لتشكيل سمفونية لخطابات احتجاجية تعلن رفض تحويل أسايس إلى مدرسة للتعريب ومجال لهيمنة الإيديولوجية العروبية الإسلاموية. وانطلاقا من أن المتخيل الجماعي يلعب دورا أساسيا في رؤية العالم لدى الجماعة، وبالنظر إلى أن النصوص الحكائية تتيح لنا إضاءة جوانب من سلوكات وسير المهيمن عليهم والمهيمنين وعلاقات القوة بينهم، فإن حكايات الحيوانات المتداولة على امتداد تامازغا، والتي تتنازع أدوار البطولة فيها شخوص أساسية متكررة هي الأسد (إيزم) والذئب (أوشّن: ابن آوى تحديدا (chacalوالقنفذ (إينسي)، ستمكننا من مقاربة شخوص الرواية من زاوية أنتروبولوجية ثقافية، وستتيح لنا فهم دور المتخيل الجماعي في إنتاج النص الأدبي الأمازيغي المكتوب، ومدى اندراجه ضمن العقل الكتابي، وتخلصه من منطق الشفوي بمفهوم J.Goody. وإن أردنا أن نقيم موازاة أو إسقاطات لهذه الشخوص الحكائية الحيوانية héros des fables الأمازيغية، فيمكن أن نجد لكل حيوان منها مقابلا في الشخوص الروائية: 1- الأسد رمز للقوة والسلطة في الحكايات (باعتباره ملك الحيوانات في الغابة) يفرض الهيمنة والنفوذ على امتداد الغابة، ويخضع كل الحيوانات يمثله لقايد/ أمغار. 2- الذئب: في الحكاية يعتبر دائما خادما للسلطة (إيزم)، ولكنه مصدر إزعاج وفوضى وتشويش على النظام باستمرار، فهو يخدم نفسه بخدمة السلطة، ولكنه يتذبذب دوما بين الولاء لإيزم وتدبير المكائد له دون المنازعة حول شرعية سلطته، بل قد يصل إلى حد الجمع بين المتناقضات (تامغرا ووشّن: تافوكت د أونزار، شمس ومطر)، ويمثله في الرواية طالب الذي يمثل الغطاء الديني للسلطة (وأوشّن في الحكاية المؤسسة لسلطة الحيوانات هو غطاء لإيزم (9) ar sis iddal izem، ويخلخلها من داخلها). 3- القنفذ: ويعرف في الحكايات بحكمته وذكائه وخدمته للجماعة وتوظيفه لعقله في الدفاع عن المهيمن عليهم (المستضعفين) ضد الأقوياء المتسلطين (إيزم وأوشّن). إن القنفذ متضامن مع ذويه، ممثل مع ذويه لتطلعاتهم في المساواة، ويمثله في الرواية أزرور. 4- الحمار (أغيول): المهيمن عليه المستبطن لقيم الخضوع والتدجين، ومن ممثلي رمزيته في الرواية: تالهاسوست، وحمو ن أيت مبارك. نختم هذه الدراسة بالخطاب الذي يبثه الكاتب في الرواية من خلال حركية الشخوص وتوالد الأحداث، والذي يجسد المشروع الفكري والاجتماعي الذي ينخرط فيه هذا العمل الروائي نفسه: 1- الوعي بميكانيزمات إنتاج السلطة السياسية وأساليبها في الهيمنة والتدجين وفضح استغلالها للدين واللغة العربية. 2- بلورة وعي عصري حداثي بالأمازيغية يتجاوز الوعي التقليدي ويحول المجتمع القبلي إلى مجتمع مدني فاعل ومشارك في إنتاج السلطة التي يريدها ديموقراطية مدنية: (يرمز إلى ذلك بانبثاق جمعية أسيرم أوسكّا في غفلة من السلطة الدينية والسياسية، وهو ما أغضب (لقايد) وأسقط (طالب) بما يعني أن الوعي الحداثي يزعزع أركان السلطة القائمة بأبعادها وأجنحتها المختلفة. 3- فصل الديني عن السياسي وتأكيد نسبية الحقيقة ورفع الحجر الذي يمارسه المقدس على الحياة السياسية. 4- رفض سياسة التعريب والشرقنة مرموزا إليه برفض بناء المدرسة مكان أسايس، وإعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية في بعدها الإنساني التحرري التقدمي والديموقراطي. 5- إعادة الاعتبار للمرأة وخلخلة الحدود التقليدية التي تنبني على فصل صارم وتعارضات سلطوية بين الذكور والإناث. إحالات وهوامش: 1- صدرت رواية tawargit d imik سنة 2002 عن مطبعة فيديبرانت بالرباط في 60 صفحة بالحرف اللاتيني. 2- ميشيل فوكو- نظام الخطاب- ترجمة: محمد سبيلا- دار التنوير للطباعة والنشر- 1984- ص 10 3- نفس المرجع- ص 644- أحمد عصيد- الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي- منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي- ص : 138 5- اللغة الأم وسلطة المؤسسة – عبد السلام خلفي- 2000- الرباط-ص: 43 6- نفسه – ص: 53 7- أنوه هنا إلى ضرورة التمييز بين القدسي sacré والمقدس sacralisé، أي ما وقع تقديسه.8- وهو ما لم يسلم منه الكاتب (أكوناض) نفسه حيث ينطق عبره الصوت الذكوري بدون وعي، حين وصف شخصية إيطو الممثلة للخطاب النسائي بأنها في صفاتها وملامحها رجل (فهي أنثى/ذكر)، بما يعني ضمنيا أن كفاءتها واقتدارها وسلطتها إنما تفسر بصفاتها الذكورية، ولكونها امرأة مسترجلة، لا بكونها أنثى/ أنثى. وهنا يقوم الخطاب بمكره وألاعيبه، وبدون وعي من الكاتب بسحب ما كان أضفاه على المرأة من مكانة رمزية واجتماعية، ويعزو كفاءة إيطّو إلى ذكورتها (جسمانيا) واسترجالها على الأقل. إن الخطاب السلطوي الذكوري ما زال يعتمل في دواخل الكاتب (وهذا طبيعي، فهو وليد هذا الخطاب، وتشبع به من خلال التربية)، وقد عبر من خلاله وبدون وعي منه: إن الإيديولوجية الذكورية تنتزع من المرأة في النص بواسطة مكر الخطاب ما كان أعطاه لها الكاتب. 9- أنظر دراسة تامغرا ووشّن والاضطراب الكوني ضمن كتاب دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي- محمد أوسوس- منشورات إيركام – سنة 2008.
|
|