|
|
حوار مع الكاتب محمد الصالح ونيسي «الأغنية الأوراسية ازدهرت في العهد الاستعماري، وانكمشت بعد الاستقلال» حاوره: نورالدين برقادي (الجزائر)
اختار الكاتب محمد الصالح ونيسي سنة 1999 التقاعد المسبق، لا لكي يؤانس المتقاعدين على طاولات المقاهي، بل فضل مغامرة الكتابة، بداية بكتابه الأول "عيسى الجرموني رائد الأغنية الأوراسية"، الصادر سنة 2000، عن المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار بالجزائر، وصولا إلى كتابه الأخير "جذور الموسيقى الأوراسية...."، الصادر نهاية 2008، عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية بالجزائر. وللاقتراب من عالمه كان لنا معه هذا الحوار الذي اجري بمدينة خنشلة والخاص باليوم الأدبي. حاوره: نورالدين برقادي (الجزائر) سؤال: كتابكم الأخير "جذور الموسيقى الأوراسية" يعد الأول في هذا الموضوع، ما هي النتائج التي توصلتم إليها من خلال هذا البحث؟ جواب: من بين النتائج التي توصلت إليها أن الأغنية الأوراسية ازدهرت في العهد الاستعماري، وانكمشت بعد الاستقلال، وربما يعود ذلك إلى القمع الذي سلطه الاستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري فكانت الموسيقى وسيلة من وسائل التعبير عن الذات، وأنا أبحث وأسجل، أكتشفت وجود هوة سحيقة بين الإنسان الأوراسي وثقافته وفنه وتاريخه، ومنذ الاستقلال، لاحظت نفور وعزوف الباحثين عن الخوض في مثل هذه المواضيع الحساسة والتي يشكل الخوض فيها مغامرة وخطورة، وذلك لعدة عوامل منها السياسة الثقافية واللغوية الأحادية المتبعة في ذلك الوقت، ومن أهم النتائج التي توصلت إليها أيضا، هو أن دراسة الموسيقى والغناء الشعبي ضرورة ملحة لدراسات أخرى مثل الدراسات التاريخية والاجتماعية والأدبية، وإهمال الموسيقى يجعل الدراسات الاجتماعية الأخرى مبتورة وناقصة، ويشكل ثغرة علمية ذات مردود سلبي على الثقافة ككل. فكم من لحن وكم من أغنية نفضت الغبار عن حادثة تاريخية أو قضية اجتماعية، وقد كتبت في إحدى صفحات الكتاب "لا أتصور وجود إنسان عاقل وسوي لا يتذوق الموسيقى". سؤال: بلغ عدد إصداراتكم إلى غاية اليوم العدد 09، كيف تنظر إلى مشكلة النشر في جزائر اليوم؟ جواب: تجربة النشر المتفتح على السوق تجربة حديثة نسبيا بالجزائر، إذ أنها برزت مع الانفتاح السياسي والاقتصادي الذي عرفته البلاد في التسعينات من القرن الماضي وإني أعتبر الأزمة أزمة مقروئية بالدرجة الأولى، ثم تأتي مشكلة كفاءة وأهلية المؤلف في الدرجة الثانية، والمقروئية والمؤلف هما الحلقتان الأساسيتان في عملية النشر. ويأتي الناشر في آخر السلسلة، لأنه يمثل الرابطة بين الكاتب والقارئ، فإذا ارتفع مستوى الكاتب والقارئ تحتم على الناشر أن يرفع من مستواه أيضا. وتجدر الإشارة إلى أن المقروئية تتأثر بالظروف السياسية وتحولات المجتمع، فعندما سطع نجم التيار الإسلامي في العشريتين الماضيتين، صاحبه رواج الكتاب الديني، وعند أفول هذا التيار وصعود الموجة الاستهلاكية، انصرف القراء إلى كتب الطبخ والحلوى وما شاكلها، وعبر بروز موجة مذكرات الساسة والمثقفين، تحولت الأنظار إلى الكتب التاريخية، وهلم جرا. سؤال: يعاني الكاتب المقيم بمدن الداخل، من غياب دور الإعلام، من خلال التعريف بالإصدارات الجديدة، كيف تتعامل مع هذا الأمر؟ جواب: أعتقد أنه لا يجب علينا أخذ هذه المسألة من هذه الزاوية، زاوية كتاب المدن الداخلية وكتاب المدن الكبرى، فالكثير من كتاب مدن الداخل، (خنشلة، بسكرة، سعيدة) على سبيل المثال أثبتوا وجودهم بنشاطهم المتميز على حساب الكثير من كتاب المدن الكبرى، والإشكال مرتبط بالباحث أو الكاتب في حد ذاته. فمثلا، ورغم إقامتي بمدينة خنشلة لعشرات السنين، استطعت إصدار (09) تسع مؤلفات وفي ظرف قياسي (09) تسع سنوات، فالكتابة موهبة وجودة وإتقان، فنحن نعاني من نقص فادح في الكتاب المختصين وفي جميع المجالات. ونحن نعيش الوضع الكارثي والمستوى المتدني الذي آل إليه عالم الكتاب ليس في الجزائر فقط، بل في ما يسمى ب (العالم العربي)، فدولة أوروبية صغيرة مثل اليونان، ذات العشرة ملايين نسمة، تنتج عشرة أضعاف ما تنتجه الدول العربية الاثنتان والعشرون مجتمعة، وبملايينها الثلاثمائة، والإعلام يعاني نفس ما يعانيه النشر.وفيما يخص مؤلفاتي، فقد نالت حقها من الإعلام المكتوب والمقروء والمرئي، ولكنه إعلام إشهاري لا غير لغياب النقد والنقاد – فمثلا لا يوجد عندنا مختصون في علم الموسيقى الإثنية أو الشعبية أو في علم اللسانيات واللغات الشعبية الوطنية. فقد سلكت في كتاباتي مسلكا جديدا مغايرا تماما للأسلوب الكلاسيكي في الكتابة الذي يعتمد السطحية ودراسة الظواهر دون الولوج في الجواهر. وللأسف، فقد انتهج بعض أشباه المثقفين لغة التجريح والقذف في مقالات لا تمت بصلة للنقد الأكاديمي العلمي البناء. سؤال: تقدمون برنامجا إذاعيا تاريخيا عبر أمواج إذاعة خنشلة الجهوية، في نظرك، هل لا زال المستمع الجزائري يهتم بالتاريخ الوطني، بعد كل الذي كتب والذي قيل في السنوات الأخيرة من تصريحات وتصريحات مضادة؟ جواب: برنامجي الإذاعي (سق ؤول نو مزروي) أي (من أعماق التاريخ) بإذاعة خنشلة الجهوية، هو سليل برنامج سابق قدمته لإذاعة باتنة سنتي 2006 / 2007 وكان عنوانه (الأوراس... تاريخ وثقافة)، وهو برنامج مثل (كتبي) يتناول لأول مرة تاريخ الأوراس السياسي والثقافي واللغوي والفني. وفي هذا البرنامج، ألح دائما على وجوب دراسته وتدريس التاريخ مع تصحيح وتنقيح بعض المفاهيم البالية لجعله يتماشى والمفهوم العصري للتاريخ، وأعترف لك بأن حبي وشغفي بالتاريخ منذ نعومة أظفاري هو الذي فتح لي أبواب الكتابة في مجالات أخرى كالموسيقى والقصة الشعبية والقواميس والآداب الشعبية.... لأنه علم يعتني بالإنسان كظاهرة طبيعية يتناول كل الجوانب المتعلقة بالحياة الإنسانية وأعتقد بأن التصريحات والتصريحات المضادة التي أدلى بها كتاب ومؤرخون ومجاهدون مؤخرا هي ظاهرة صحية تخرج التاريخ (وخاصة تاريخ الثورة) من الدائرة القدسية الضيقة التي وضعه فيها قلة من أدعياء الثقافة والمؤرخين (المؤدلجين). ومثلما تعاني البلاد من نقص المختصين في المجالات العلمية المذكورة آنفا، فإنها تعاني وبصورة أفدح من غياب المؤرخين المختصين. وإني مؤمن من أن فضح بعض التيارات الإيديولوجية الوافدة إلينا سواء من الشرق أو الغرب والتي رهنت تاريخنا وحنطته، كفيل بوضع تاريخنا القديم والحديث في مكانه الصحيح، ويجب أن نعترف أن هناك الكثير من (الطابوهات) لا تزال تغلف تاريخنا وتمنع الكتاب والقراء من قراءته قراءة حديثه تتماشى وروح القرن الواحد والعشرين سؤال: أستاذ ونيسي، لعل الغائب الأكبر عن الساحة الوطنية عامة والثقافية خاصة، هو غياب دور الجامعة في المجتمع، ما هي قراءتك لواقع الجامعة اليوم، بالنظر لما هو مطلوب منها تأديته؟ جواب: الجامعة مؤسسة تؤثر في المجتمع وتتأثر به، وقد تدهور مستواها مع تدهور المستوى الثقافي والسياسي والاقتصادي للمجتمع ،خصوصا مند الثمانينيات من القرن الماضي ،حيث أصبحت مرتعا لتجار الإسلام السياسي، مما جعلها تنحرف انحرافا خطيرا عن رسالتها العلمية والتثقيفية، والجامعة مرآة للمدرسة التحضيرية والابتدائية، فعندما تتمكن من إدراك الاحتياجات البيداغوجية لتلميذ السنة الأولى التحضيرية أو الابتدائية، حينذاك يسهل علينا إدراك الاحتياجات البيداغوجية لطالب السنة الأولى الجامعية. سؤال: تؤكد بعض الدراسات الأكاديمية بأن كلاّ من اللغتين العربية والأمازيغية في طريق الانقراض. بحكم موقعكم كباحث في الثقافة الشعبية، كيف يمكن تفادي هذا المصير التراجيدي؟ جواب: إن نحن أخذنا تطور اللغات الأوروبية الحديثة (الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية، الإيطالية) كمعيار، وخصوصا بعد تخلصها من اللغة اللاتينية المقدسة، فإن اللغة العربية الفصحى آيلة للزوال بدليل أنها لا تزال ومنذ مئات السنين لغة نخبوية لا لغة شعبية، فأستاذ الجامعة عندما ينتهي من محاضرته بالفصحى، ويخرج إلى السوق والمقهى والبيت، فإنه يستعمل لهجته (العربية الدارجة أو الأمازيغية) وفي مصر والمشرق العربي، بدأت العربية الدارجة تغزو المجالات العلمية والفنية والسينيمائية والمسرحية، وهذه سنة الحياة، خصوصا ونحن في عصر الانترنيت وغزو الفضاء، ومعظم الناس عندنا غير واعين بالمشكلة اللغوية، فاللغة هي الركن الأساسي في الهوية الوطنية لشعب من الشعوب، وما دمنا نعتبر اللغة لهجة، فلن يكون لنا تصور واضح لمستقبل هذه اللغات في بلادنا (الفصحى، الدارجة، الأمازيغية) فالعربية الدارجة هي لغة بنيتها أمازيغية وألفاظها عربية، فالعبارة الكاريكاتورية للكاريكاتوري البارع (أيوب) التي كتبها مؤخرا في جريدة (الخبر) ونصها: (لو كان أنا منك نقلب عليه الدنيا) هي ترجمة حرفية للجملة الأمازيغية (مدا نتش سيك، آذ ضرنغ فلاسن الدونيث) وفي الفصحى يتوجب كتابتها (لو كنت مكانك) بحذف الضمير المنفصل (أنا، نتش) وإبدال (مكانك) بحرف الجر في الدارجة والأمازيغية. وإن نحن اعتبرنا المسار التاريخي العريق لكل لغة من اللغات المذكورة، فإن اللغة الأمازيغية المدعومة بأربعة آلاف سنة، والتي تعرضت لمحاولات الطمس من كل المستعمرين، فالمنطق يقتضي منا القول بأبديتها، خصوصا بعد انتعاشها الملحوظ مؤخرا، وبالنسبة للعربية الفصحى فإن بقاءها مرهون بفصلها عن القداسة وجعلها لغة تتماشى والعصر، لا لغة اقتباس واقتناص للمصطلحات من اللغات الحية الأخرى وإلا فإن مصيرها سيكون مثل مصير اللغة اللاتينية التي قضت عليها قداستها إلى الأبد، وإن تطور أية لغة مرتبط بمدى تقدم متكلميها ووعيهم بهويتهم وتاريخهم واللغة لا يمكن فصلها عن التاريخ، فهي جزء منه.سؤال: أستاذي الكريم، رغم مرور ما يقارب النصف قرن من استرجاع السيادة الوطنية، إلا أن الجزائر لم تستطع خلق انتلجنسيا، ويبقى سؤال الكاتب الراحل عمار بلحسن "انتلجنسيا أم مثقفون بالجزائر" معلقا، كيف ترى الأمر؟ جواب: الأنتيلجينسيا intelligentsia تنبع من مجتمع مؤمن بهويته وتاريخه وتجذره في الحضارة البشرية، وهي نتاج مخاض المجتمعات وزبدتها، وما لم يتم الفصل أو إدراك الهوية الحقيقية للشعوب المغاربية، فلن تكون هناك (أنتليجنسيا). وسيبقى مثقفوها تبعا وتلاميذ للثقافة الغربية أو الشرقية. فمعظم مثقفينا يبدون عقدة نقص تجاه هاتين الثقافتين ويخشون إبراز هوياتهم الثقافية، بدليل استجدائهم لصكوك الغفران في كل محاولاتهم الأدبية من هنا أو هناك. وقد شرحت آرائي هذه في كتبي وفي كثير من المقالات الصحفية، وتساؤل المرحوم عمار بلحسن في محله. سؤال: آخر ظاهرة ثقافية شاهدناها في السنوات الأخيرة، قيام البعض من الساسة والمثقفين بكتابة مذكراتهم، هل ننتظر مذكرات الأستاذ ونيسي؟ جواب: كتابة المذكرات عمل حضاري سبقتنا إليه الشعوب والأمم المتحضرة منذ قرون وبما أننا لا زلنا نعيش حياة قبلية في القرن الواحد والعشرين، فإن الواحد منا ينظر يمنه ويسره قبل أن يقدم على كتابة المذكرات، لأن سلطة القبيلة و(العرش) لا تزال سارية المفعول، والإنسان الأمازيغي منذ القدم معروف بخدمته للآخر أكثر من خدمته لنفسه... أبوليوس والقديس أوغستين كتبا كتبا للاّتين والمحدثون كتبوا لغيرهم، والجنود الأمازيغ ماتوا بالملايين في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والسلطان يغمراسن الزياني، عندما طلب منه مستشاروه ووزراؤه كتابة اسمه على مسجد دشنه، أجاب بالنفي وبالأمازيغية التي لا يتكلم غيرها قائلا: (يسنيت ربي) أي (الله أعلم بالنيات)، وقد آن الأوان لكتابة المذكرات التي تساهم بشكل صريح في كتابة التاريخ، وفيما يخصني، فقد شرعت فعلا في كتابة مذكراتي. سؤال: ماذا عن مشاريع الأستاذ ونيسي، في مجالي الكتابة والإذاعة؟ جواب: فيما يتعلق بمشاريعي، فإني منكبّ الآن على إتمام رواية عنوانها (أكسل ذ ديهيا)، وهي رواية تاريخية تصور الأحداث السياسية والعسكرية بالأوراس أواخر القرن السابع الميلادي، ومن ناحية أخرى فقد عزمت على إعادة إصدار كتاب (عيسى الجرموني رائد الأغنية الأوراسية) في طبعة ثانية أنيقة، وهي في طريق الطبع، وكذا إعادة إصدار (القاموس الشاوي – الفرنسي – العربي) في طبعة ثانية مزيدة ومنقحة وموسعة.
|
|