|
|
افتتاحية: هل العربية لغة الوحدة؟ بقلم: محمد بودهان كلما نوقشت مسألة اللغة بالمغرب، وفي سياق تثار فيه المطالب الأمازيغية، إلا وتم التأكيد والتذكير بأن اللغة العربية هي لغة "الوحدة"، أي اللغة التي توحّد المغاربة كشعب واحد ينتمي إلى وطن واحد. يعود اليوم هذا "التأكيد" و"التذكير" بقوة بمناسبة النقاش حول الجهوية التي أعلن عنها الملك في خطاب 3 يناير 2010. نقرأ مثلا في يومية "التجديد" ليوم 17 فبراير 2010: »إن اعتزازنا بالأمازيغيات المختلفة وإصرارنا على تقديرها تواصليا وإعلاميا في إطار الجهات المقترحة لا ينبغي أن يكون على حساب إيماننا العميق بأن العربية هي الأصل الذي يؤسس نسيج الأمة«، »فالعربية هي جوهر الوحدة أولا ودائما«. وما يهمنا في هذا "التأكيد" و"التذكير" ليس ما يثبتانه ـ العربية لغة الوحدة ـ، بل ما ينفيانه بشكل قد يكون، حسب الحالات والسياقات، صريحا أو ضمنيا لكنه واضح ومفهوم. ما ينفيانه هو أن اللغة الأمازيغية ليست لغة "الوحدة"، وهو ما يعني أنها قد تكون لغة تقسيم وتفرقة يهددان الوحدة الوطنية، أو لا تساهم، في أحسن الأحوال، في توحيد المغاربة كما تفعل اللغة العربية. وهذا موقف يكرر، بشكل مضمر، "لطيف" أكذوبة "الظهير البربري" دون أن يسميه. فهل كل هذا صحيح؟ أي هل العربية عامل وحدة المغاربة؟ وهل الأمازيغية لا تلعب هذا الدور التوحيدي؟ إذا ثبت أن العربية هي أساس الوحدة الوطنية للمغاربة، وأن الأمازيغية لا يمكن أن تتحقق معها هذه الوحدة، فأنا مستعد لتكريس ما تبقى من حياتي للدفاع عن العربية وإقناع الأمازيغيين بالتخلي عن لغتهم الأمازيغية وتبني العربية بديلا عنها، ضمانا وحماية للوحدة الوطنية. لكن إذا ثبت أن الأمازيغية يمكن أن تكون هي كذلك ـ على فرض أن العربية هي حقا لغة الوحدة ـ أساسا للوحدة الوطنية للمغاربة، فمن حقي، وحق كل مغربي، أن أدافع عن الأمازيغية وأدعو المغاربة إلى التعلق بها وتعلمها ضمانا وحماية للوحدة الوطنية. لننطلق من بعض الأمثلة لتوضيح علاقة اللغة بالوحدة الوطنية بصفة عامة قبل أن ننتقل إلى مناقشة علاقة اللغة العربية بهذه الوحدة. لا أحد يجادل أن فرنسا دولة موحدة. لكن لغتها ليست هي العربية، بل الفرنسية. الشيء الذي يسمح بالقول، قياسا على الذين يرون أن العربية هي لغة الوحدة، أن أساس وحدتها هي لغتها الفرنسية. ونفس الشيء نلاحظه ويمكن قوله بالنسبة لكل الدول الموحدة وطنيا دون أن تكون لغتها هي العربية. فتركيا، ذات اللغة التركية، دولة موحدة، وإيران ذات اللغة الفارسية موحدة، وأنجلترا ذات اللغة الإنجليزية موحدة، واليابان ذات اللغة اليابانية موحدة، وهلم جرا. ماذا تبين وتؤكد هذه الأمثلة؟ تبين وتؤكد أن العربية، إذا كانت لغة الوحدة بالمغرب، كما يقول أصحاب هذا الرأي الذي نناقشه، فهذه الوظيفة الوحدوية، ليست إذن مقصورة على العربية وخاصة بها بوصفها لغة عربية، بل هي وظيفة عامة ـ نحن هنا نساير فقط الذين يقولون بأن العربية لغة الوحدة ـ نجدها في جميع اللغات، كما توضح الأمثلة السابقة. هذا في الحالة، طبعا، التي ترجع فيها الوحدة الوطنية إلى اللغة كما يقول أصحاب "العربية لغة الوحدة" الذين نرد عليهم في هذه المناقشة. النتيجة إذن أنه، كما أن العربية عامل وحدة ـ دائما حسب منطق أصحاب "العربية لغة الوحدة ـ، فكذلك يمكن لأية لغة أخرى أن تلعب هذا الدور، كما رأينا في الأمثلة السالفة. وبالتالي ـ وهذا ما يهمنا ـ فإن الأمازيغية تتوفر هي كذلك على هذه الوظيفة الوحدوية، إذا كانت هناك حقا وظيفة وحدوية للغة. إذن، فكما يحق لنا الدفاع عن العربية بسبب ما يعزى إليها من عامل التوحيد، فمن حقنا كذلك الدفاع عن الأمازيغية لقدرتها على توحيد المغاربة وضمان الوحدة الوطنية للمغرب. لكن يمكن كذلك، في اتجاه معاكس للوحدة، المفترضة في كل لغة كما رأينا وليس فقط في اللغة العربية، الإتيان بأمثلة مضادة، توضح أن اللغة قد تكون سببا للتقسيم والتجزئة. ـ فقبل توحيدهما سنة 1990، كانت الألمانيتان دولتين منفصلتين ومستقلتين إحداهما عن الأخرى (ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية) مع أن لغتيهما لغة واحدة هي اللغة الألمانية. ـ هناك اليوم كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية كدولتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى مع أن لغتهما واحدة، هي اللغة الكورية. ـ كذلك نجد أن العالم العربي مقسم إلى أكثر من 20 دولة مستقلة ومنفصلة بعضها عن البعض الآخر، رغم أن لغة هذه الدول العربية واحدة، وهي اللغة العربية. ـ بل نجد أن انفصاليي "البوليساريو" يدعون إلى الانفصال السياسي عن المغرب رغم أن لغتهم هي نفسها اللغة الرسمية للدولة المغربية، التي هي العربية. أما على مستوى آخر مخالف، فقد نجد دولا موحدة بلغات متعددة، كما في إسبانيا وبلجيكا وسويسرا والعراق... ماذا نستنتج من هذه الأمثلة والنماذج؟ نستنتج أن اللغة الواحدة يمكن أن تكون عامل توحيد، أو عامل انقسام، كما أن التعدد اللغوي يمكن أن يكون كذلك عامل وحدة وطنية. لماذا هذا التضارب والتناقض في الوظائف والأدوار السياسية (الوحدة والتجزئة الوطنيان) للغة؟ في الحقيقة لا تبدو هذه المظاهر المرتبطة باللغة متضاربة ومتناقضة إلا بالنسبة للذين يعزون للغة وظيفة التوحيد الوطني، كالذين لا يرون الوحدة بالمغرب إلا في ظل اللغة العربية الضامنة في رأيهم لهذه الوحدة، وما سواها من اللغات ـ ويقصدون الأمازيغية تحديدا ـ فقد تكون مصدر فرقة وشقاق. أما اللغة في حد ذاتها، كلغة، فليست لها علاقة سببية بالوحدة ولا بالتقسيم، كما بينت الأمثلة التي ذكرناها أعلاه. فمن تكون لغتهم العربية لا يعني أنهم بالضرورة موحدون أو منقسمون، بل قد تكون هناك وحدة أو قد يكون هناك انفصال وتجزئة بالرغم أن لغة الجميع هي اللغة العربية. ذلك أن الأساس الأول للوحدة الوطنية هو الإرادة السياسية للعيش المشترك فوق أرض مشتركة. هؤلاء الذين تجمعهم هذه الإرادة السياسية قد تكون لغتهم هي العربية أو الأمازيغية أو الفرنسية أو أية لغة أو لهجة أخرى. كما أن وراء الانقسام والانفصال إرادة سياسية كذلك لإقامة كيانات سياسية منفصلة، رغم أن لغة هذه الكيانات الانفصالية قد تكون واحدة وموحدة، مثل اللغة العربية الواحدة التي هي لغة الدول العربية المنفصلة ككيانات سياسية مستقلة عن بعضها البعض. وليتذكر هؤلاء الذين يربطون الوحدة الوطنية للمغرب باللغة العربية، ويحذرون من الأمازيغية، مكررين ضمنيا أسطورة "الظهير البربري"، أن المغرب كان موحدا، تحت الاستعمار الفرنسي، الذي كانت لغته هي الفرنسية. فاستنادا إلى منطق هؤلاء، الذين يربطون بين الوحدة الوطنية واللغة العربية، نستنتج أن اللغة الفرنسية هي عامل وحدة المغرب منذ 1912. ونعرف أن دولا كثيرة تبنت، لأسباب تاريخية وسياسية، لغات رسمية أجنبية، كالسينيغال والبرازيل والهند، دون أن يؤثر ذلك على وحدتها، كما أننا نجد دولا عربية لم تمنعها "لغة الوحدة" من الانقسام والحروب الأهلية، كما في فلسطين المنقسمة بين حكم فتح وحكم حماس، أو كما في اليمن الذي يعرف حربا أهلية (2010) بين الحوثيين والحكم المركزي. فلو كنا نؤمن بمنطق أصحاب "العربية لغة الوحدة"، لسارعنا بالرد عليهم، بناء على أمثلة فلسطين واليمن وانقسام الدول العربية، بأن العربية هي لغة التقسيم والتجزئة بامتياز، وبالتالي يجب تركها والابتعاد عنها حفاظا على الوحدة الوطنية. مثل هذه المواقف التي ترهن الوحدة الوطنية للمغرب باللغة العربية، وتحذر ضمنا أو صراحة باللغة الأمازيغية كلغة "تقسيم" و"انفصال"، تسيء كثيرا إلى اللغة العربية عندما تقول بأنها لغة الوحدة، وفي نفس الوقت توجد دول عربية تعيش الانفصال والتجزئة والحروب الأهلية. وهو ما يبرز العربية، ليس كلغة وحدة وتوحيد، بل كلغة انفصال وتفرقة وحروب أهلية، خصوصا أن الشعب العربي هو الشعب الوحيد في العالم المقسم إلى أكثر من عشرين دويلة، رغم أن لغته هي العربية. فكيف تكون العربية لغة الوحدة وهي عاجزة عن توحيد أصحابها الأصليين؟ في هذا الربط، بين العربية والوحدة، تجنٍّ على هذه اللغة وإساءة إليها، وذلك من ناحيتين: ـ إبرازها كلغة ترتبط عمليا بالتقسيم والتفرقة، وليس بالوحدة المفقودة، كما في حالة الدول العربية. ـ ارتباط العربية بالعروبة العرقية، التي هي نزعة عرقية جاهلية وقبلية، يعزز عنصر الانقسام المرتبط بالعروبة بمضمونها الإثني والقبلي والعرقي. كل هذه الاستنتاجات ليست، طبعا، حقيقية ولا منطقية إلا عندما ننطلق من استدلال الذين يحذرون من الأمازيغية ويدعون إلى التمسك بالعربية بالمغرب لأنها "لغة الوحدة". كما أن هؤلاء، أصحاب "العربية لغة الوحدة" عكس الأمازيغية حسب رأيهم الأمازيغوفوبي، ينطلقون كذلك من الوحدة اللغوية للعربية (الوحدة النحوية والمعجمية) في مقابل ما يسمونه تعدد "اللهجات الأمازيغية" كما لو أن "وحدة" اللغة العربية شيء لصيق بها نشأ معها ولم يبنَ تدريجيا نتيجة ظروف مساعدة وعوامل سياسية وتعليمية. فالوحدة المعجمية والنحوية للغة ما تفرضها المدرسة التي تلقن نفس اللغة للجميع. فلو توفرت مثل هذه الظروف والعوامل للغة الأمازيغية، لأصبحت لغة موحدة هي كذلك. فعندما بينا أن اللغة لا تربطها علاقة سببية بالوحدة ولا بالتقسيم، فذلك ينطبق على كل مكوناتها التي تجعل منها لغة موحدة معجميا ونحويا أو مجرد لغات شفوية لم ترق بعد إلى مستوى الكتابة لغياب تعليمها المدرسي. من جهة أخرى، كيف نتكلم عن علاقة العربية بالوحدة الوطنية بالمغرب، في الوقت الذي لا نجد فيه مغربيا واحدا يستعمل هذه اللغة في تواصله وتخاطبه اليومي؟ فكيف يمكن لها أن توحدهم أو حتى أن تفرقهم؟
|
|