|
وإذا كانت سياسة المخزن المناهضة للريف والمتعاونة مع الاستعمار، قد نفذت جل شروط الإسبان التي تمخض عنها احتلال مزيد من أراضي الريف، فإن الإسبان قد استغلوا سذاجة المخزن وفرضوا من خلاله على الريفيين مزيدا من الشروط االقاسية التي تتجه نحو تركيع شعب الريف الأمازيغي أكثر، وقبوله بأمر واقع الاحتلال وذلك من خلال حماية هذا الإحتلال الإسباني من طرف الاحتلال الآخر الذي هو المخزني، ولاسيما بعد مؤتمر مدريد سنة 1880 بسبب تزايد العمليات العسكرية للريفيين ضد الإسبان وأيضا ضد السفن الأوروبية الاستعمارية، وأهم هذه الشروط إرسال مزيد من القوات المخزنية إلى بلاد الريف و تعيين قواد و عمال من الجيش المخزني في بلاد الريف باستبدال زعماء القبائل المحليين بعناصر من الجيش المخزني وهو ما تحقق بعض منه بالفعل، كما حظر المخزن في إطار تنفيذ المخطط الإسباني الرامي إلى احتلال منطقة الريف وتركيع الريفيين، السفن والمراكب الريفية من الإبحار في سواحلها بدون أخذ الرخص من السلطات الإسبانية أو المخزنية، واعتقال رياسها إن لم يدلوا برخص الذهاب والإياب في حالة ترددهم على أكثر من ميناء -ريفي طبعا- ويضاف إلى ذلك المنع غير المبرر للسفن والمراكب من دخول موانئها التي يسيطر عليها الجيش المخزني ويحتلها، وهذا ما يمكن أن نستشفه بسهولة من رسالة السلطان الحسن الأول إلى القائد محمد بن أحمد الكبداني، حيث نقرأ فيه ما يلي: »... وبعد, فقد بلغ لشريف علمنا أن البابورات وردت من وهران حاملة للمسلمين الذين كانوا يخدمون بالواسطة (عمال ريفيين موسميين بالجزائر) ورامت إنزالهم بمراسي بني شيكر وبني بوكافر وبني سعيد فمنعتها العسة من ذلك وطردتها فطلعت مع الساحل لنواحي بادس. وعليه فنأمرك أن تكون على بال منها وتجعل العسة الكافية القوية بمراسي إيالتك وتضبط أمرها... « (156). ولمن يود أن يطلع على مزيد من الرسائل المخزنية حول سياق هذا الموضوع، أحيل القارئ والمهتم هنا إلى العدد الثاني من مجلة حوليات الريف المتوقفة عن الصدور، فهي تحتوي على العديد منها، لكن بقراءة نقدية للتعاليق والكتابات المرافقة لها، ولاسيما كتابات عبد الرحمان الطيبي ومحمد أونيا المتواجد حاليا بالمعهد الإركامي المخزني، فهو يبرر سياسة المخزن في تلك الفترة مثلما يبرر عبد الرحمان الطيبي إرهاب المخزن بالمنطقة ويدافع عنه بشكل ديماغوجي ومتعمد بالتحايل على التاريخ والقفز عن العديد من المعطيات التي يمكن أن تبين حقيقة المخزن اللاوطنية وخيانته للريفيين، وأكثر من هذا أعماله الإجرامية والإرهابية ضد شعب الريف الأمازيغي. وتبعا لما سبق، شهدت منطقة الريف كذلك في فترة حكم الحسن الأول في سنة 1889 اجتياح جيش المخزن لبلاد الريف وترويع وترهيب أهالي الريف، وذلك بقتل الريفيين واعتقالات عشوائية واسعة النطاق، وفرض عقوبات قاسية على القبائل الريفية لعدم امتثالها لأوامر السلطان برفضها إيقاف المعارك ضد الاحتلال الإسباني، فضلا عن امتناعها بتوجيه رجالها للالتحاق بالمحلة السلطانية التي كانت تقوم بحملة واسعة الإرهاب بالريف الغربي، وما هي إلا سنوات قليلة، حتى جرد المخزن في سنة 1893 حملة إرهابية أخرى، هذه المرة ضد سكان ازمورن بنواحي الحسيمة، وبنفس السنة كذلك وجه المخزن حملة إرهابية إلى منطقة الناضور التي كانت تشهد هذه المنطقة المقاومة في تلك الفترة معارك شرسة ضد الاحتلال الإسباني، بقيادة ميمون المختار وعلي الروبيو، ويعود السبب في ذلك إلى عاملين أساسيين، العامل الأول بسبب استرجاع أهالي الناضور لبعض الأجزاء من أراضيهم المغتصبة في جهة تمليليت التي كان قد منحها المخزن للاسبان بمقتضى الاتفاقيات التي أبرمها مع الحكومة الإسبانية في عهد عبد الرحمان بن هشام وخلفه محمد بن عبد الرحمان، وخاصة في اتفاقية توسيع حدود مدينة تمليلت التي سبق أن أشرنا إليها، أما العامل الثاني والذي فجر الوضع أكثر في المنطقة وأدى إلى اندلاع المعارك المسلحة بشكل عنيف جدا ضد الإسبان وخاصة في معركة سيدي ورياش أواخر سنة 1893 فيعود السبب في ذلك إلى قيام المحتلين الإسبان ببناء حصن عسكري لمراقبة الريفيين على هضبة استراتيجية جدا بالمنطقة تسمى »لعري« تشرف على ضريح سيدي ورياش وتطل على العديد من المواقع التي حوله كآيت شيكار و إفراخانن و إمزوجن و تمليلت.. وما يهمنا نحن في هذا السياق هو أن ثورة الناضور الباسلة لم تنته إلا بتدخل الجيش المخزني عندما أرسل السلطان الحسن الأول أخاه المدعو مولاي عرفة على رأس جيش كبير إلى نواحي تمليلت، ليس لتحرير تلك المدينة المحتلة وإنما لإرغام قبائل الناضور على العدول عن محاربة الإسبان والتخلي عن قطعة من أرضهم لصالح الإستعمار الإسباني، وأثناء وجود مولاي عرفة في تمليلت جرت هناك محادثة بينه وبين ماثياس الحاكم العسكري لتمليلت في يوم 23/11/1893 »واعتذر مولاي عرفة لما حدث بإسم أخيه السلطان، ووعد ماثياس بتأديب المتمردين والثائرين« (157). وهو ما حدث بالفعل, فمباشرة بعد تواجده بتمليلت وقعت مناوشات بين الإسبان وقبيلة إمزوجن فنهض مولاي عرفة مرة أخرى على مائة من الفرسان لعقاب وترهيب هذه القبيلة، المهم أن ثورة الناضور بشكل عام التي سقط فيها العديد من الشهداء الأبرار تعامل معها المخزن بقسوة بالغة جدا، حيث مارس هناك أبشع أشكال القتل والخراب والدمار، وقد أخمدت الثورة بوحشية نادرة من طرف المستعمرين الإسباني والمخزني، هذا وقد طالب الاستعمار الإسباني بإعدام متزعمي معركة سيدي ورياش وهما ميمون المختار وعلي الروبيو، وكانت نهاية المعركة في سيدي ورياش بتوقيع معاهدة مراكش يوم 5 مارس 1894 التي نصت بعض فصولها على ما يلي: غرامة حربية تقدر ب20 مليون بسيطة والتزام المخزن بمعاقبة الريفيين وتحديد المنطقة المحايدة لتمليلت وحمايتها من طرف المخزن والزيادة في القوات المخزنية إلى المنطقة لكي لا يتكرر مثل ما وقع بسيدي ورياش، هذا فضلا عن توسيع مساحة تمليلت على حساب المناطق المجاورة لها تحت الحراسة المخزنية من أعلى سلطة مخزنية في البلاد. وهكذا بعد أن تم القضاء على الثورة, قرر المخزن في شهر أكتوبر من سنة 1895 وفي عهد السلطان عبد العزيز أن يخصص إحدى قطع أسطوله الحربي لمراقبة السواحل الريفية من طنجة إلى تمليلت قصد حراسة وحماية القواعد العسكرية الإسبانية المتواجدة بالريف وحراسة الثغور الريفية المحتلة من طرف الإسبان وذلك بشكل أفضل من السابق, وقصد ترصد تحركات أهل الريف وضبط القوارب الريفية التي تحمل البضائع والسلع التجارية أو ما يسمى بالتهريب وإيداع رياسها ورجالها بالسجن مع سرقة الأمتعة والقوارب وحمولتها. كانت بداية العهد العزيزي استعماريا إذن، ولم تكن سياسته في صالح الريف، فعوض أن يدافع عن مصالح الريف ويحرس السواحل الريفية من الهجومات والتهديدات الأوروبية المحتلة وخاصة الإسبانية منها، كان يحرس قواعد الاحتلال الإسباني وسفن دول أوروبا الإستعمارية التي كانت تقوم بعمليات استطلاعية للأراضي الريفية قصد غزوها واحتلالها كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وفي إطار هذه السياسة المخزنية اللاوطنية سيصدر السلطان عبد العزيز في سنة 1896 أوامره إلى عامل فاس وتطاوين وطنجيس بالهجوم على الريفيين »الفساد« -حسب تعبيره- وإلقاء القبض عليهم وذلك بسبب ما يسمى بالقرصنة الريفية والتهريب، وأيضا بسبب المعركة الدامية التي وقعت بسواحل الريف بين أبناء إبقوين والسفينتين الحربيتين المتحالفتين الإسبانية والفرنسية التي أسفرت عن سقوط القتلى والجرحى بالإضافة إلى الأسرى بين الطرفين، وفي إطار مساعي الأوربيين وخاصة الفرنسيين لإطلاق سراح أسرى الأوروبيين اشترط الريفيون في مقابل ذلك تحرير إخوانهم الريفيين المحتجزين في سجون الاحتلال الإسباني بصخرة أنكور وكذلك المحتجزين في سجون المخزن بمدينة طنجيس، وهو الشيء الذي جعل حكومة فرنسا من خلال قنصلها بطنجيس تقوم بعدة مساع لدى المخزن لكي يفرج عن الأسرى الريفيين المسجونين في طنجيس، إلا أن المخزن رفض أن يطلق سراح الريفيين وهدد أهالي إبقوين بالعقاب الشديد والهجوم عليهم إن لم يعملوا على إطلاق سراح المعتقلين الأوروبيين، وبما أن فرنسا حريصة على سلامة أبنائها فقد ظلت تضغط على المخزن وهددتته في أكثر من مرة حفاظا على حياة الأسرى الفرنسيين المعتقلين في سواحل الريف، وهكذا بعد ضغوطات فرنسية تم إطلاق سراح الأسرى من كلا الطرفين، وقد تم ذلك في يوم 10 نونبر 1897. لكن المخزن العزيزي سوف لن ينسى هذا التحدي والعصيان الريفي لأوامره، إذ مباشرة بعده في سنة 1898 سيرسل السلطان عبد العزيز حملة إرهابية مخزنية كبيرة إلى منطقة ابقوين بقيادة أشهر طغاة المخزن وفي مقدمتهم السفاح بوشتى البغدادي وإلى جانبه عم السلطان المدعو مولاي بوبكر بن الشريف وتحت إمرة وأوامر السلطان عبد العزيز. وقد جاءت هذه الحملة الإرهابية بعد هزيمة الجيش المخزني بقيادة المدعو مولاي عبد السلام الأمراني الملقب ب »بوثمنت« وطرده من بلاد الريف. مع وصول الإمدادات المخزنية ودخول السفاحين بوشتى البغدادي وبوبكر بن الشريف إلى العاصمة أجدير، يقول الأنتربولوجي والمؤرخ الأمريكي دافيد هارت إنه أثناء انتظار وصول مزيد من الإمدادات الأخرى »دخل عم السلطان مولاي بوبكر بن الشريف والقائد بوشتى البغدادي في مفاوضات مع أهل بقيوة لكسب الوقت، بعد أن تيقنا بعدم جدوى مقاومة القبيلة بالسلاح. واتفق رؤساء الجيش على كتابة رسالة مغلوطة باسم السلطان وقراءتها على أهل بقيوة لتمويه القبيلة أن السلطان لم يرسل المحلة قصد الهجوم عليها، بل أرسلها فقط للدخول في الحوار معهم للوصول إلى حل يرضي الطرفين« (158). وفي إطار تنفيذ الخطة المخزنية الماكرة، ذهب الغادر بوشتى البغدادي إلى سوق أحد الرواضي نواحي إزمورن وتلا عليهم تلك الرسالة المنسوبة إلى السلطان، غير أن أحد كبار إبقوين وهو علي اللوه (توفي في سنة 1927 بعد مشاركته في حرب الريف) فطن بالرسالة والمكيدة البوشتتية وحذر رجال إبقيوين من المكر والغدر المخزني حيث قال لهم: »إنكم إن أقدمتم على الاستسلام الأعمى فسوف تتركون نساءكم ثكالى، وأبناءكم وأموالكم نهبا للصوص المعتدين، وقبل هذا وبعده سوف تجنون على قبيلتكم عارا لا ينمحي أبد الدهر... أطيعوني هذه المرة وأعصوني في كل شيء.. « (159). لكن بعض أهالي إبقيون لم يقتنعوا بتحذيرات علي اللوه، وصدقوا كلام المخادع السفاح بوشتى البغدادي، الذي استدعى حوالي 200 رجل من كبار إبقوين إلى العاصمة أجدير، مكان المعسكر المخزني، ففتك وبطش وقتل أولئك الريفيين الذين حضروا إلى أجدير للمفاوضات، حيث ضربوا هناك بوابل من الرصاص وهم ساجدون يؤدون الصلاة، واستشهد عشرات المصلين الريفيين إضافة إلى الاعتقالات ولم ينج منهم إلا القليل جدا، وعن هذه الخطة الإرهابية التي رسمها السفاحان بوبكر الشريف وبوشتى البغدادي كتب العربي اللوه، نجل علي اللوه الذي نجا من من مجزرة و مكيدة أجدير يقول: »وهنا لابد من الإشارة إلى أن ابن البغدادي قد توجس خوفا من أن يصاب من رجال »بقيوة« بمثل النكسة والهزيمة التي كبدوها نظيره السابق »بوثمنت« (عبد السلام الأمراني) فلذلك نزع إلى الأسلوب المعتاد في ذلك العهد لدى رجال الدولة، وهوالمكر، والخداع والغدر، متى استعصى عليهم الأمر، وتوقعوا العجز عن القضاء على أي ثائر متمرد، مثل المنهاج الذي سلكوه للقبض على الريسوني كما تقدم، على أن قصة القبض على ولد البشير امسعود ليست بغريبة على القراء، فهي أشهر من أن تعرف، ذلك أن السلطان مولاي الحسن الأول، احتياطا منه وحذرا من استفحال أمره، قد تصدى بنفسه لقمع ثورته، ولكن بعد معارك قاسية، كان الفوز والإنتصار فيها لولد البشير، فلم يسع صاحب الجلالة إلا أن ينتهج طريق المكر والخداع والغدر(...) أما بوشتى البغدادي فإنه احتياطا من أن يصاب بنكسة هزيمة في هجومه على أهل »بقيوة« قد رسم لجيشه خطة فريدة من نوعها للمكر و الغدر والفتك بأولئك الذين حضروا إلى المحلة لتجديد الولاء والطاعة لصاحب الجلالة، حيث أعلمهم بأنه حين يؤذن المؤذن لصلاة المغرب، وتقام الصلاة، ويدخل القوم في صفوف الصلاة فإنه يجب أن يكونوا على حذر واستعداد، حيث ستعطي لهم علامة بالنفخ في البوق وعند انطلاق صوت البوق، يجب أن يبادروا إلى الفتك والبطش بهم بكل ما يمكن من السرعة« (160). بعد عملية أجدير الإرهابية قاد المجرم بوشتى البغدادي في صباح اليوم الموالي من مجزرة أجدير الشهيرة بالعودة بجنوده إلى قبيلة إبقيوين التي كانت تدافع عن شواطئها وترد على الاعتداءات الأوروبية وعلى الاحتلال الإسباني لأراضي الريف بما يسمى بالقرصنة، ليرتكب المخزن هناك أبشع أشكال الأعمال الإرهابية ومجازر بشعة في حق أهالي إبقيوين من قتل وذبح الناس الأبرياء بدون التمييز بين الصغير والكبير والمسن والمرأة والرجل واغتصاب النساء وهتك الأعراض وترويع العائلات ونهب وسرقة الممتلكات من أصحابها وحرق المنازل والمزارع بنهج المخزن لسياسة الأرض المحروقة وإشعال النار في المنطقة بأكملها، وطرد الناس من أرضهم فضلا عن التعذيب والاختطافات والاعتقالات العشوائية حيث تم اعتقال أزيد من 400 شخص من أبناء إبقيوين ونقلهم إلى سجون ومعتقلات المخزن الرهيبة بالصويرة جنوب المغرب، وقد توفي هناك العديد من سجناء إبقيوين جراء التعذيب وأيضا جراء المدة الزمنية التي قضونها في سجون الصويرة وخاصة بالنسبة لكبار السن، ولم يتم الإفراج عن ما تبقى من الأحياء إلا بعد تدخل بعض البلدان الأوروبية ومنها فرنسا. بهذا الشكل سحقت قبيلة إبقيوين وأبيد جزء كبير من سكانها من طرف المخزن العزيزي الإرهابي، وظلت المنطقة لفترة طويلة تحت الحصار المخزني وتحت الضربات العسكرية الإرهابية المتتالية من طرف هذا الجيش العزيزي الذي يبدو أنه لن يشفي غليله إلا بعد أن يبيد المنطقة كلها ويمحوها من الخريطة ومن جغرافيتها، كما يمكن أن نستشفه بسهولة من رسالة المخرب أحمد بن موسى إلى المخربيين بو بكر والبغدادي يأمرهم فيها: »بزيادة التضييق ببقيوة وعدم رفع اليد عليهم حتى لا يتركوا منهم دارا ولا من ينفخ نارا ومن عثر من القبائل المذكورة على أحد منهم يأت به إليكم« (161). طبعا لأن العديد من الناجين من مجازر بوشتى البغدادي وبوبكر بن الشريف قد فروا وهربوا إلى مناطق بعيدة عن المعسكر المخزني، فمنهم من فر وهرب إلى تطاوين أمثال الحاج علي اللوه، ومسعود، ومحمد بورجيلة وغيرهم من الذين فروا عن طريق البحر، ومنهم من فرا أيضا إلى سبتة وتمليلت وكذلك إلى الجزائر حماية لأنفسهم من بطش وإرهاب المحلة المخزنية المشؤومة والملعونة التي أبادت جزأ كبير من ساكنة إبقوين واستأصلت هذه القبيلة، كما يمكن أن نستخلصه من خلال الرسالة السلطانية الجوابية للسفاح بوشتى البغدادي بمناسبة فرحة وغمرة البلاط السلطاني المخزني بالقضاء على قبيلة إبقيوين حيث تقرأ فيها ما يلي : » وصل كتابك بتوجيه مكاتيب من عند عمال الريف، وبما بلغك من أن المحلة السعيدة استأصلت قبيلة بقيوة وتركت دورهم بلا قلاع، وصار بالبال أما المكاتيب المذكورة فقد وصلت محلها وطية تصلك أجوبتها لتوجهها لكبراء المحلة بقصد حيازة مالهم منها ودفع الباقي لأصحابه، (...) وقد صدر الأمر الشريف لكبراء المحلة بالبقاء ماكثين في محلهم (إزمورن) الذي هو به الآن وسوغ لهم نصرة الله الانتقال لقصبة المخزن (سنادة) التي بقبيلة بني يطفت في مجاورة بلاد بقيوة أن اقتضته المصلحة« (162). وزيادة على ذلك، فإن المحلة المخزنية ستقوم بعد ذلك بعدة هجومات على مناطق الريف الشرقي الأخرى لتقتل وتسفك وتعتقل »متمردين« ريفيين آخرين، ولعل من الأسباب الحقيقية لهذه الهجومات المخزنية على مناطق الريف الشرقي وفي مقدمتهما منطقة إبقيوين كان بدوافع انتقامية من الريفيين وذلك لتمردهم الدائم على السلطان ولتمسكهم باستقلال الريف وأيضا لترضية خاطر الاستعمار الإسباني. يقول محمد أزرقان، صاحب مخطوط »الظل الوريف«، ووزير الخارجية لدولة الريف (1921-1926) قائلا » إن حملة الشريف المولى أبو بكر والقائد البغدادي قد تمت بقصد الانتقام من بقوة تطييبا لخاطر إسبانيا باطنا، قصد تربيتها بإدعاء خروجها على الطاعة ظاهرا« (163). ومهما يكن من أمر، المهم أن حملة بوشتى البغدادي الذي لازال حتى يومنا هذا ملعونا ومكروها في الريف قد نفذت كل تعليمات السلطان عبد العزيز وأحرقت القرى والمداشر ودمرت المناطق السكنية ومارست عمليات التقتيل والإبادة الجماعية لساكنة إبقيوين التي بقيت ذاكرة مشؤومة وموصومة في التاريخ الريفي وعارا على التاريخ المخزني الاستعماري، وهي بالفعل ذكرى موشومة في ذاكرة سكان الريف الذين يعرفون تفاصيلها جيدا ويحتفظون بذكريات وروايات شفوية لأجدادهم الذين عاشوا الحدث المأسوي الدموي، وهي تحكي تفاصيلها من جد لأب ومن جدة لأم وهكذا دواليك، وتعرف عند سكان الريف ب (roam mik taccin ibeqquyen)، أي عام هلاك ابقيوين، وترجمتها الحرفية هي »عام أكلها إبقوين«. كل ما أشرنا إليه من أحداث دموية مأساوية وقعت بالريف وذهب ضحيتها نسبة كبيرة من ساكنة الريف، أدت إلى زعزعة الثقة كليا بالمخزن الذي بقي مرفوضا و غير مرغوب فيه في الريف حتى يومنا هذا، فضلا عن أعوانه بالمنطقة وقطعت العلاقة نهائيا بين بلاد الريف وبلاد المخزن وأصبح الريفيون أكثر من أي وقت مضى يرفضون التعامل والاندماج مع المغرب المخزني، هذا الاندماج الذي أصبح أمرا مستحيلا وصعب التحقيق، وخلاصة الموضوع يقول جرمان عياش عن حوادث الريف » كان حقا قلقا عميقا وجد معقد بلا ريب. نجم عن حدة الغضب ضد الغزاة، وكذلك عن الشعور بالألم من جهة، وبخيبة الأمل من جهة أخرى، حيال السلطان، عندما ستتجدد مثل هذه الحوادث حتى نهاية القرن. ذلك أن جيوش السلطان ستعود إلى الريف في أربع مناسبات لتقتيل الناس وتحطيم المساكن. وكان ذلك في كل مرة بسبب النزاعات المحلية مع الإسبان. فهل يصح القول بناء على ذلك إن الريفيين أصروا على ألا يكونوا مغاربة؟ « (164). ومما لاشك فيه، أن كل هذه الأحداث والأعمال المخزنية الإجرامية في الريف فضلا عن تحالف المخزن مع الاستعمار ضد مصالح الريف كانت له انعكاسات كبيرة على الساحة وخاصة داخل الريف حيث قامت هناك عدة ثورات ريفية ضد سياسة المخزن الطاغية المنحازة إلى الاستعمار، إضافة إلى ثورات أخرى بنفس المنطقة لبعض أعوان المخزن على المخزن نفسه، وما يهمنا نحن في هذا السياق هو أنه كلما ظهر ثائر في بلاد الريف مهما كانت توجهاته وأهدافه يعلن الثورة على المخزن إلا وسارع بعض الريفيين إلى مساندته ودعمه في ثورته على المخزن إما بدافع أخذ الثأر من مجازر المخزن الرهيبة في الريف أو بدافع الاطاحة بالنظام المخزني بأكمله، كما حصل عندما تحالف بعض الريفيين مع ثورة الجيلالي بن إدريس الزرهوني الشهير، بوكاشتيف المغربي (Pougatchev) والمعروف بلقبي بوحمارة أو الروكي، الذي انتصب ضد السلطان عبد العزيز سنة 1902. والجدير بالذكر هنا أن لقب الروكي كان يطلق في تلك الفترة على كل شخص تمرد على السلطان، فالروكي في القاموس المخزني يعني الخارج عن الطاعة ونفس الشيء يقال عن عبارة » مساخيط سيدنا« المشهورة هي أيضا في القاموس المخزني، بيد أن ثورة الجيلالي الزرهوني الذي ابتدأ حياته الأولى كموظف طبوغرافي في الجيش كانت بإدعائه الأحقية في العرش بأنه الابن الأكبر ونجل الحسن الأول، وانطلاقا من هذا الادعاء الذي لا يمكن الطعن فيه أو تصديقه بدون أدلة تؤكد ذلك أو عكسه، تمرد الملقب بوحمارة على السلطان عبد العزيز واستطاع ان يؤسس منطقة نفوذ تابعة له في منطقة الريف الشرقي عاصمتها سلوان قرب مدينة الناظور، وقد دامت حركته الفاشلة من خريف 1902 إلى صيف 1909، حيث تم إخمادها من طرف السلطان الجديد عبد الحفيظ الذي تمرد على أخيه عبد العزيز، هذا الأخير عزل في سنة 1907، وصار أخوه عبد الحفيظ في مكانه سلطانا على المخزن، بيد أن إخماد ثورة الجيلالي الزرهوني كانت بقسوة بالغة جدا، حيث ذهب ضحيتها العديد من الريفيين، وأعدم السلطان الجديد عبد الحفيظ كل الرجال المقربين لبوحمارة، أما هذا الأخير فقد قتل بوحشية نادرة جدا، حيث بعد اعتقاله في الريف أخذ في قفص مثل حيوان مفترس إلى فاس، عاصمة المخزن، و هناك أعدم في قفصه على يد السلطان عبد الحفيظ في سنة 1912. لم تكن هذه الثورات الكثيرة في الريف التي كانت جلها ضد سياسة المخزن الطاغية أن تغير شيئا في سياسة المخزن اتجاه المنطقة، أو تجعل سلاطين المخزن يتراجعون عن اساليبهم اللاوطنية وانحيازهم إلى الاستعمار الأوربي، والأدهى من هذا، أنهم كانوا يحاربون كل الذين يقفون في وجه الاستعمار الأوربي بالمنطقة الأمازيغية، كما حصل على سبيل المثال مع الزعيم عبد القادر الجزائري الذي كان قد التجأ في تلك الفترة إلى إخوانه الريفيين هروبا من الاعتقال والبطش الفرنسي الاستعماري في الجزائر، غير أن سلطان المخزن عبد الحفيظ قام بتوجيه جنوده إلى الريف لاعتقال الزعيم الأمازيغي عبد القادر الجزائري ولإرغامه على الاستسلام للفرنسيين حلفاء المخزن، وفي الوقت نفسه لعقاب الريفيين على قيامهم بحماية أخيهم الثائر الأمازيغي عبد القادر الجزائري.
(يتبع في العدد القادم)
|
|