|
افتتاحية: على هامش النقاش الدائر حول مطلب الاستقلال الذاتي للريف وسوس: الاستقلال الذاتي للمغرب أم لجهات المغرب؟ بقلم: محمد بودهان مقدمة: كثر الحديث وتوسع النقاش، منذ فاح ماي الأخير، داخل الأوساط الأمازيغية، وخصوصا بالريف، حول مطلب منح هذه المنطقة نظام حكم ذاتي (نستعمل في هذا المقال عبارتي "الحكم الذاتي "والاستقلال الذاتي" كمترادفين) في إطار دولة فيدرالية. فمنذ هذا التاريخ (فاتح ماي) نظمت ندوات بالناظور حول موضوع الحكم الذاتي والنظم الفيديرالية، وصدرت بيانات تطالب بتمتيع الريف بالحكم الذاتي كما أنشئت لجنة تحضيرية لتأسيس "الحركة من أجل الحكم الذاتي للريف". لكن مطلب الحكم الذاتي، الذي ظهر أصلا بالريف، سرعان ما تجاوز حدود هذه المنطقة ليصبح مطلبا أمازيغيا تتبناه جهات أخرى مثل سوس حيث أصدرت مجموعة من الجمعيات تسمي نفسها "حركة المطالبة بالحكم الذاتي لسوس الكبير" بلاغا يحمل اسم "بلاغ ‘تينزرت‘ حول الحكم الذاتي لسوس الكبير". مقترح الحكم الذاتي فكرة قديمة بالريف كان يدافع عنها بعض النشطاء الأمازيغيين منذ أزيد من عشر سنوات، أي قبل ظهور المبادرة التي اقترحها المغرب حول منح الحكم الذاتي للصحراء. ولم تكن هذه الفكرة تضايق السلطات، لهذا ظلت تراقبها من بعيد دون تدخل أو اتخاذ موقف، إلى يوم فاتح ماي 2007 عندما حولت الحركة الأمازيغية بالناظور تظاهرة عيد العمال إلى تظاهرة للمطالبة بالحكم الذاتي للريف، رافعة لافتات كتب عليها: "الحركة الثقافية الأمازيغية بشمال المغرب تطالب بالحكم الذاتي للريف". وهي اللافتة التي كانت سببا لمشادات بين مناضلي الحركة الأمازيغية ومسؤولين أمنيين أرادوا نزع تلك اللافتة ومنع رفعها، انتهت (المشادات) بـ"انتصار" المناضلين الأمازيغيين الذي جابوا شوارع المدينة بتلك اللافتة. منذ هذا التاريخ بدأت السلطات تنزعج من مطلب الحكم الذاتي للريف، وهو ما جعلها تتدخل، بطريقة أو أخرى، للفصل بين الريف وفكرة الحكم الذاتي التي ظلت لصيقة به وملازمة له منذ ظهورها. وقد لاحظنا هذا "الفصل" في الندوات والمناظرات التي نظمت حول موضوع "الحكم الذاتي" بالناظور، سواء من طرف أحزاب سياسية أو جمعيات أمازيغية: فلم تعد عناوين تلك الندوات والمناظرات تنص بشكل خاص على الريف مثل: "الحكم الذاتي بالريف"، بل أصبحت عناوين ذات طبيعة ثقافية عامة مثل: "نظم التسيير الذاتي"، "النظم الفيدرالية وأشكال الحكم الذاتي في العالم وفي المغرب"... لماذا هذا الانزعاج المفاجئ للسلطات من فكرة الحكم الذاتي للريف ابتداء من يوم فاتح ماي؟ التفسير السهل و"البديهي"، هو أن هذا المطلب يشوش على المبادرة المغربية للحكم الذاتي للصحراء. وليس صعبا تبيان أن هذه "بديهية" خادعة ككثير من البديهيات. في الحقيقة،إن الذي تتخوف منه السلطة، ليس هو مطلب "الحكم الذاتي" لهذه الجهة أو تلك، وإنما هو كون هذا المطلب مرتبطا بالأمازيغية أصلا وبالريف منشأ. وهما (الأمازيغية والريف) العدوان التاريخيان للسلطة العروبية بالمغرب. ولكن لماذا لم تتضايق هذه السلطة من مقترح الحكم الذاتي للريف الذي قلنا بأنه كان رائجا ومتداولا منذ أزيد من عشر سنوات؟ لأن هذا المقترح لم يكن سوى مجرد فكرة يدافع عنها قلة من نشطاء الحركة الأمازيغية. أما ابتداء من فاتح ماي، فالأمر لم يعد مجرد فكرة بل أصبح مطلبا ـ وشتان بين الفكرة والمطلب ـ تتبناه وتدافع عنه حركة أمازيغية لها امتدادات اجتماعية وشعبية. هنا غيرت السلطة رأيها وموقفها لأنها اعتبرت أن الربح السياسي، الذي كانت ربما تعتقد أنها ستجنيه من مقترح الحكم الذاتي بالريف من خلال ما قد يوفره لها من فرصة سانحة لإعمال مبدأ "فرق تسد" لإضعاف الحركة الأمازيغية، أقل مما قد يسببه لها من خسارة سياسية حقيقية. إخراج السلاح التقليدي المضاد للريف: الانفصال والمخدرات. من الطبيعي مغربيا، بعد أن بدأت السلطة تتوجس خيفة من عواقب مطلب الحكم الذاتي بالريف، أن تكون هناك هجمة ضد الدعوة إلى منح استقلال ذاتي لهذه المنطقة استعمل فيها السلاح "الثقيل" المضاد للريف، الذي (السلاح) هو "الانفصال" و"المخدرات". ـ من السهل، عندما يتعلق الأمر بالريف، مع ما يرتبط به من ذاكرة وتاريخ ومقاومة وتمرد، القول إن الدعوة إلى الحكم الذاتي هي دعوة انفصالية عنصرية تهدف إلى التقسيم والتفرقة. وهكذا رأينا كيف أن الوزير "الريفي" السيد مصطفى المنصوري، في إحدى حلقات برنامج "حوار"، وفي رده على سؤال حول ما يروج في الريف من مطالبة بمنح الحكم الذاتي لهذه المنطقة، رأينا كيف اتهم أصحاب هذه الدعوة بأنهم انفصاليون، رافضا هذا المشروع لأنه ـ هو ـ "وحدوي" كما قال، مشيرا، كما نفعل عندما يتعلق الأمر بعملاء أو خونة، بأن أصحاب هذه الدعوة الانفصالية أشخاص "معروفون". إنه لأمر غريب حقا أن يصدر مثل هذا الموقف، الذي يربط بين مطلب الحكم الذاتي والانفصال، عن وزير عضو في حكومة نصبها وعين أعضاءها الملك. لأنه إذا كان صحيحا أن الدعوة إلى الحكم الذاتي هي دعوة إلى الانفصال، فمعنى ذلك أن المبادرة المغربية لمنح الحكم الذاتي للصحراء ستكون مبادرة انفصالية، وسيكون أصحاب هذه المبادرة، وعلى رأسهم الملك، انفصاليين! ـ هناك آخرون يطعنون في مطلب الحكم الذاتي بدعوى أن الأموال المتوفرة بالريف، والتي يمكن توظيفها في بناء مؤسسات الحكم الذاتي، هي أموال متحصلة من تجارة المخدرات. لينتهوا إلى التساؤل التالي: كيف يمكن بناء دولة محلية (حكم ذاتي) بأموال المخدرات؟ إذا كان أصحاب هذا الرأي يرون (على افتراض حسن النية لديهم) في انتشار تجارة المخدرات بالريف، وما يدره ذلك من مال حرام، مبررا لرفض منح هذا الريف حكما ذاتيا تموله المخدرات، فإن هذا المبرر نفسه هو السبب Raison الأكثر وجاهة ومدعاة لمنح الريف حكما ذاتيا. لماذا؟ وكيف ذلك؟ إذا كانت منطقة الريف معروفة بتجارة المخدرات، فلأن جهات تابعة للسلطة المركزية لا تريد القضاء على هذه التجارة لأنها هي المستفيدة الأولى منها، كما هو الشأن كذلك فيما يخص التهريب الذي يعتبر المستفيد الأول منه، ليس تلك الأرملة التي تهرب خمسة كيلو من الأرز من مليلية أو سبتة، بل المسؤولون الذين يتقاضون رشاوى عن التهريب، وهو ما يسمح باستمراره لأنه يدر أرباحا طائلة على هؤلاء المسؤولين. إذن المسؤول عن استمرار ظاهرة التهريب وانتشار تجارة المخدرات هي السلطة المركزية ومختلف الموظفين والمسؤولين التابعين لها، والذين يتعيّشون بهذا التهريب وهذه التجارة للمخدرات. النتيجة، إذن، هي أن القضاء على اقتصاد التهريب وتجارة المخدرات بالريف يمر عبر القضاء على وضعية الريع والإتاوات الناتجة عن ممارسة التهريب وتجارة المخدرات، والتي يستفيد منها (الوضعية) مسؤولو السلطة المركزية، المفترض فيهم محاربة التهريب والمخدرات، والذين هم المنتفعون الحقيقيون من تجارة المخدرات. والقضاء على هذه الوضعية من الريع والإتاوات لا يمكن أن يتحقق إلا بالتحرر من السلطة المركزية التي يستفيد مسؤولوها من تلك الوضعية. وهذا التحرر يتمثل في إقامة حكم ذاتي بالريف يسهر فيه أبناؤه بأنفسهم على تنظيم شؤونهم وتدبير اقتصادهم. وتدخل في إطار هذا التنظيم وهذا التدبير محاربةُ تجارة المخدرات بعد توفر إرادة جدية لذلك، عكس ما كان عليه الأمر مع السلطة المركزية. فهذه السلطة حافظت على تجارة المخدرات وحمتها بالريف لتبتز في النهاية هذا الأخير وتحاصره بتهمة المتاجرة في المخدرات كلما طالب بحقوقه السياسية والاقتصادية واللغوية والهوياتية. إذن ليس هناك من سبيل آخر للقضاء على تجارة المخدرات بالريف إلا الاستقلال الذاتي للريف. مطلب أمازيغي أصلا ومنشأ: ليس موضوع هذا المقال هو الدفاع عن مطلب الحكم الذاتي للريف، والرد على خصومه ومعارضيه، بل هو تحليل لهذا المطلب في ضوء علاقته بالهوية الأمازيغية. لنتذكر جيدا أن مطلب الحكم الذاتي ـ وكذلك مطلب العلمانية ـ، سواء كما ظهر بالريف أو في جهات أخرى ـ باستثناء المقترح الخاص بالصحراء ـ، هو مبادرة أمازيغية 100% في أصلها ومنشئها. وعندما أقول إنها مبادرة أمازيغية، لا ينبغي أن يفهم من ذلك أنني أريد أن أقول إن أصحاب المبادرة هم أمازيغيون عرقا وانتماء، بل أريد أن أقول إنها مبادرة تدخل ضمن المطالب الأمازيغية المتعلقة باللغة والهوية الأمازيغية. فالهدف الأساسي للمطالبة بالحكم الذاتي لدى النشطاء الأمازيغيين، ليس هو فقط التحكم في الموارد الاقتصادية المحلية واستثمارها لصالح المنطقة بدل توظفيها لتنمية المركز، بل الهدف هو تنمية اللغة الأمازيغية والحفاظ على الهوية الأمازيغية اللتين (اللغة والهوية) أقصاهما، بل حاربهما، الحكم المركزي. فمطلب الحكم الذاتي في هذه الحالة هو مطلب ذو طبيعة خاصة، لأن الداعي إليه ليست المبررات الاقتصادية، بل دواعٍ لغوية وهوياتية ترمي إلى رد الاعتبار للغة الأمازيغية والاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب. لكن اليوم، مع تقدم النقاش حول الحكم الذاتي كما يقترحه مناضلو الحركة الأمازيغية، بدأت تختفي، شيئا فشيئا، مبرراته اللغوية والهوياتية لينصب النقاش على ما هو عام ومشترك في كل أنظمة الحكم الذاتي، مثل الموارد الاقتصادية، النظام الضريبي، إعادة توزيع الثروات، اختصاصات الحكومة المحلية، الحدود الجغرافية... حقيقة أن هذه العناصر مهمة وضرورية في كل نظام حكم ذاتي جهوي، وأن الاتفاق حولها والحسم فيها شرط لإقامة نظام حكم ذاتي في إطار دولة فيدرالية. إلا أن هذه العناصر، على أهميتها، تأتي في الدرجة الثانية في الحالة الأمازيغية، لأن الداعي الأول إلى الحكم الذاتي ليس هو استفادة السكان من ثروات منطقتهم أو مشاركتهم في القرار السياسي الذي يخص جهتهم، بل خدمة اللغة والهوية الأمازيغية أولا، أي أن الهدف من إقامة نظام حكم ذاتي جهوي هو تنمية اللغة الأمازيغية وإقرار الهوية الأمازيغية للمغرب، اللتين أقصاهما الحكم المركزي. وهنا يطرح سؤالان رئيسيان، لم تطرحهما الحركة الأمازيغية المدافعة عن الحكم الذاتي للجهات، مرتبطان باللغة والهوية الأمازيغيتين اللتين كانتا وراء ظهور المطالبة بالحكم الذاتي عند هذه الحركة. لنطرح هذين السؤالين ونناقشهما. السؤال الأول: ماذا ستكون لغة وهوية الحكومة المركزية؟ما دام أن المغرب اليوم هو دولة عربية، ذو هوية عربية وعضو بجامعة الدول العربية، لغته الرسمية هي العربية، فإن الحكومة المركزية، في إطار نظام فيدرالي تتمتع فيه الجهات بحكومات جهوية، ستحتفظ بهذه الثوابت اللغوية والهوياتية العروبية، أي تبقى سلطة مركزية عربية، بهوية عربية ولغة رسمية هي العربية. وهذا ما يتعارض مع أهداف المطالبة بالحكم الذاتي التي هي، كما سبق أن شرحنا، رد الاعتبار للغة الأمازيغية والاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب كله. أما إذا كانت الحكومة المركزية ذات هوية عربية ولغة رسمية عربية، فإن الحكم الذاتي للجهات يكون قد دعم هذه الهوية وعزز هذه اللغة بجعلهما، وبشكل شرعي ودستوري، لغة وهوية الحكم المركزي، وأعطى لهما المشروعية من خلال النظام الفيديرالي. هكذا يؤدي إذن مطلب الحكم الذاتي إلى عكس ما يرمي إليه هذا الحكم Effet pervers، أي دعم وتثبيت الهوية العربية للحكم المركزي بدل إحلال الهوية الأمازيغية الأصلية مكانها. السؤال الثاني: ماذا ستكون لغة وهوية الجهات ذات الاستقلال الذاتي؟ ستكون عربية أو أمازيغية حسب الجهات والمناطق. مثلا جهة الرباط، مقر الحكومة المركزية ذات الهوية واللغة العربيتين، ستكون بلا شك عربية، وكذلك الصحراء ستكون هويتها ولغتها عربيتين... أما في الريف وسوس والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي، فستكون اللغة والهوية أمازيغيتين. وهذا بدوره سيتعارض مع أهداف المطالبة بالحكم الذاتي التي هي استعادة الهوية الأمازيغية للمغرب، سيتعارض مع تلك الأهداف على عدة مستويات: 1 ـ إذا سلمنا مع الحركة الأمازيغية أن هوية المغرب هي هوية أمازيغية واحدة حاول التعريب طمسها وإخفاءها، فإن ما ينتج عن النظام الفيديرالي من جهات ذات هوية أمازيغية وأخرى ذات هوية عربية، سيتناقض مع مبدأ وحدة الهوية الأمازيغية للمغرب، ويعطي بالتالي المشروعية للهوية العربية المعترف بها للجهات "العربية"، خصوصا أنها هوية السلطة المركزية كما رأينا، ويؤكد وجود مناطق "أمازيغية" وأخرى "عربية". والحال أنه لا توجد بالمغرب جهات "أمازيغية" وأخرى "عربية" بحدود لسنية وترابية ـ وهي العناصر المحددة للهوية: الموطن واللغة ـ كما في الدول ذات الهويات المتعددة مثل إسبانيا أو بلجيكا أو سويسرا أو العراق مثلا، لأن هوية المغرب واحدة وهي الأمازيغية. 2 ـ إن استعمال فروع اللغة الأمازيغية بجهاتها "الأمازيغية" كلغات رسمية لتلك الجهات سيحول دون أي توحيد للغة الأمازيغية، ويساهم في ترسيم لهجاتها الثلاث. وهو ما يتعارض مرة أخرى كذلك مع أحد المطالب الرئيسية للحركة الأمازيغية، ألا وهو وحدة اللغة الأمازيغية التي انقسمت إلى ثلاثة فروع رئيسية بسبب إقصائها السياسي وعدم استعمالها كلغة إدارة وسلطة. 3 ـ ثم إن قيام جهات "أمازيغية" ككيانات مستقلة وذات سيادة جهوية تتمتع بالحكم الذاتي في إطار فيديرالي، يمنح للأمازيغيين بهذه الجهات وضعية "أقليات" متعها الحكم المركزي العروبي بحقوقها اللغوية والثقافية والهوياتية تبعا لخصوصياتها التاريخية والإثنية. وهذا ما يشكل ربحا ودعما لهوية السلطة المركزية العروبية التي تظهر كهوية الأغلبية على حساب الهوية الأمازيغية التي تظهر كهوية مقصورة على أقليات جهوية ذات حقوق لغوية وثقافية خاصة لأنها حقوق أقليات إثنية. وهذا شيء مريح للسلطة المركزية العروبية التي يبرزها النظام الفيديرالي كسلطة ديمقراطية تحترم حقوق "الأقليات" الجهوية. كل هذه النتائج تتعارض، كما نرى، أولا مع حقيقة كون الأمازيغية هي هوية الأغلبية ـ إذا كان لا بد من الكلام عن "أغلبية" و"أقلية" ـ من السكان بالمغرب، وثانيا مع الهدف من الحكم الذاتي الذي هو استعادة الهوية الأمازيغية لكل المغرب، التي على عكس هذا الهدف، يضعفها الحكم الذاتي الجهوي بجعلها مسألة أقليات إثنية تطالب بحقوقها اللغوية والثقافية الخاصة. لا مقارنة مع وجود الفارق: نلاحظ إذن أن هذه النتائج التي يؤدي إليها الحكم الذاتي "للمناطق" الأمازيغية ليست في صالح وحدة اللغة الأمازيغية ولا تخدم الهوية الأمازيغية للمغرب، التي كان هاجس استعادتها والاعتراف بها كهوية للمغرب وراء مطلب الحكم الذاتي. لماذا الاستمرار إذن في المطالبة بالحكم الذاتي كمطلب أمازيغي دون إدراك لمخاطره على الأمازيغية التي كانت وراء هذا المطلب؟ لقد قلت في البداية إن الأمازيغية كانت هي المحرك لمطلب الحكم الذاتي الذي كان جزءا من مطالب الحركة الأمازيغية. لكن بمجرد ما انطلقت النقاشات حول هذا المطلب، حتى بدأت الأمور تبتعد شيئا فشيئا عن موضوع الأمازيغية وأصبح الحديث ينصب فقط على الجوانب الاقتصادية والإدارية والضرائبية والمؤسساتية، مع غياب تام للمحور الأساسي للأمازيغية وآثار الحكم الذاتي عليها. لماذا؟ إن السبب الرئيسي لعدم إدراك مناضلي الحركة الأمازيغية، المدافعين عن نظام الحكم الذاتي، لآثاره السلبية على الأمازيغية، هو انطلاقهم من نماذج جاهزة وناجحة من أنظمة الحكم الذاتي لبلدان تعرف تعددا في الهويات، مثل سويسرا وبلجيكا، وخصوصا إسبانيا التي بهر نظامها للحكم الذاتي للجهات، لا سيما في منطقة "كاطالونيا"، النشطاء الأمازيغيين، خصوصا القريبين منهم من إسبانيا، التي استوحوا منها مبكرا مطلب الحكم الذاتي للريف. فبما أن لغة وهوية منطقة "كاطالونيا" كانتا مقصاتين وغير معترف بهما في ظل الدولة المركزية تحت نظام فرانكو الذي لم يكن يعترف إلا بلغة واحدة وهوية واحدة هي الفشتالية Castillan، ثم أضحت تلك الهوية الكطالانية معترفا بها وأصبحت اللغة الكطلانية هي اللغة الرسمية للمنطقة، فكذلك ستستعاد الهوية الأمازيغية للمغرب ويعترف بالأمازيغية كلغة رسمية في إطار نظام الحكم الذاتي للجهات بعد أن كانتا (الهوية واللغة) مقصاتين في ظل الدولة المركزية العروبية. هذا هو المنطق الذي يفسر تحمس النشطاء الأمازيغيين، وخصوصا في الريف، لنظام الحكم الذاتي على الطريقة الإسبانية. وهنا مكمن الخطأ، لأنهم ينطلقون من قياس فاسد ومقارنة خاطئة بين وضعية اللغة والهوية الأمازيغيتين في المغرب ووضعية اللغة والهوية الكطالانيتين بإسبانيا، أو في بلدان تعرف تعددا في اللغات والهويات، مع أنهما وضعيتان مختلفتان ولا يمكن قياس احدهما على الأخرى: فاللغة والهوية الكاطلانيتان أو الباسكيتان بالنسبة إلى إسبانيا، أو الفلامانيتان بالنسبة إلى بلجيكا، أو الجرمانيتان بالنسبة إلى سويسرا، هما لغة وهوية خاصتان بجهة بعينها معروفة بحدودها الترابية واللسنية (وهي العناصر التي تدخل في تعريف الهوية: الموطن واللغة)، ولا تغطيان كل التراب الوطني لإسبانيا أو بلجيكا أو سويسرا. وبالتالي فإن منح الحكم الذاتي لتلك الجهات كان مفيدا للغاتها وهوياتها الجهوية (وليست الوطنية) التي تحررت، بفضل الحكم الذاتي، من الحكم المركزي الذي كان يقصي تلك اللغات والهويات ولا يعترف بها أمام اللغة الواحدة والهوية الواحدة لذلك الحكم المركزي. أما في المغرب، فالأمر يختلف لأن اللغة والهوية الأمازيغيتين ليستا مقصورتين على منطقة بعينها دون المناطق المغربية الأخرى. وبالتالي فإن تطبيق الحكم الذاتي على مناطق تعتبر أمازيغية، مثل الريف وسوس، لا يخدم اللغة والهوية الأمازيغيتين لكل المغرب بقدر ما يضعفهما ويفتتهما ويعطي المشروعية للغة والهوية العربيتين للسلطة المركزية ولجهات أخرى قد تحتفظ بهما في إطار نظام الحكم الذاتي للجهات، كما سبق أن شرحنا سابقا. وهذه نتائج تسير في اتجاه معاكس للهدف من المطالبة بالحكم الذاتي الذي هو استعادة اللغة والهوية الأمازيغيتين للمغرب كله. وليس مبالغة إذا قلنا بأن السلطة العروبية بالمغرب، قد تلجأ مستقبلا، إذا وجدت هويتها العربية مهددة من طرف الأمازيغية، إلى أن تفرض هي نفسها نظام الحكم الذاتي الجهوي على "المناطق" الأمازيغية لتتخلص من المطالب المزعجة للحركة الأمازيغية التي تريد إعادة تمزيغ كل المغرب، وليخلو الجو لعروبتها كهوية للأغلبية وللحكم المركزي بعد أن تحوّل المطالب الأمازيغية، بفضل نظام الاستقلال الذاتي للجهات، إلى مسألة أقليات وخصوصيات جهوية وإثنية كما سبقت الإشارة. وهذا يعني أن السلاح الذي يستعمله الأمازيغيون المطالبون بالحكم الذاتي لفرض الهوية الأمازيغية هو نفسه السلاح الذي ستستعمله السلطة للقضاء على هذه الهوية الأمازيغية. هل هذا يعني أنه يجب، حتى لا نضعف الأمازيغية ونقسمها، التخلي عن المطالبة بنظام الاستقلال الذاتي الجهوي لأنه يتنافى مع الحفاظ على الهوية الأمازيغية قوية وواحدة لكل المغاربة؟ لا أبدا، وإنما يعني فقط أن هناك ترتيبا آخر للأولويات يحتل فيه مطلب الاستقلال الذاتي للجهات المرتبة الثانية، بعد الحسم في استقلال ذاتي من مستوى آخر، له علاقة مباشرة باستعادة الهوية الأمازيغية لكل المغرب، ويكون هو شرط نجاح الاستقلال الذاتي للجهات. مستويان من الاستقلال الذاتي: نحن إذن أمام مستويين من الاستقلال الذاتي. إذا كان موضوع المستوى الثاني هو الجهات، فما هو موضوع المستوى الأول؟ موضوعه هو المغرب بكامل ترابه، هذا المغرب الذي لا زال مرتبطا بالمشرق العربي وتابعا للعروبة كهوية مركزية تحكم انتماءه وتحدد هويته. فالذي تحتاجه إذن الأمازيغية، وبشكل مستعجل، هو تحرير المغرب، بمجموع ترابه، من سلطة العروبة قبل تحرير الجهات من سلطة الحكم المركزي للدولة المركزية. فالمغرب، اليوم، على مستوى الهوية، فقد استقلاله وحريته وأصبح تابعا وخاضعا للهوية العربية التي يتبناها كهويته الوحيدة التي فرضتها السلطة على كل المغاربة من خلال التعليم والإعلام وتزوير التاريخ. المطلب المستعجل إذن، ليس هو الاستقلال الذاتي للجهات، بل هو الاستقلال الذاتي للمغرب نفسه وبكامله تجاه العروبة، وذلك باستعادته لهويته الأمازيغية الواحدة وغير المتعددة، والقطع الهوياتي النهائي مع الهوية العربية التي هي هوية الشعب العربي وليس الشعب الأمازيغي بالمغرب وشمال إفريقيا، مع ما يترتب عن هذا الاستقلال الهوياتي من جعل الأمازيغية هي لغة السلطة والحكم. إذن النضال الأمازيغي، اليوم، يجب أن يسير في ها الاتجاه ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، أي تحرير المغرب من سلطة العروبة وكل مخلفاتها وتداعياتها السياسية وجعله دولة أمازيغية بسلطة أمازيغية وبشعب أمازيغي وهوية أمازيغية على أرض أمازيغية. وعندما يتحقق هذا المستوى الأول من الاستقلال الهوياتي واللغوي للمغرب، ويصبح دولة أمازيغية بسلطة مركزية أمازيغية ولغة رسمية أمازيغية موحدة، آنذاك فقط ننتقل إلى المستوى الثاني من تطبيق الاستقلال الذاتي الجهوي لمناطق المغرب الأمازيغي، وليس للمناطق الأمازيغية للمغرب، تبعا لخصوصياتها وحاجاتها ومؤهلاتها وثرواتها، دون أن يكون لذلك أي تأثير سلبي على الهوية الأمازيغية لكل المغرب التي يمكن أن يضعفها أو يقسمها الاستقلال الذاتي للجهات، لأن مسألة الهوية يكون قد حسم فيها عندما تحرر المغرب من الهوية العربية وأصبحت سلطته المركزية أمازيغية ولغة الحكم أمازيغية، وهو ما يترتب عنه أن هوية ولغة الجهات تبقى هي نفسها هوية ولغة الحكم المركزي الأمازيغي، لأن هوية الأجزاء مستمدة من هوية الكل. نلاحظ إذن أن نموذج الاستقلال الذاتي الذي يناسب حالة المغرب في علاقته بالهوية الأمازيغية، ليس هو نموذج البلدان ذات الهويات المتعددة كإسبانيا أو بلجيكا، بل هو نموذج الأنظمة الفيديرالية ذات الهوية الواحدة، مثل ألمانيا. ففي هذا البلد، هناك سلطة وطنية مركزية بلغة وهوية ألمانيتين، ثم جهات ذات حكم ذاتي لكن بلغة وهوية ألمانيتين كذلك، عكس ما نجده في إسبانيا أو سويسرا أو بلجيكا التي تعرف (هذه البلدان الثلاثة) تعددا في الهويات، مع ما يستتبع ذلك من تعدد في اللغات كذلك. بداهة مطلب الحكم الذاتي بالريف؟! وأخيرا، ما الذي يجب أن يتغير في الريف لو منح له حكم ذاتي حسب النموذج الذي يطالب به المتحمسون لهذا الحكم الذاتي؟ ما الذي سيدل على أنه هناك بالفعل حكما ذاتيا للريف بالنسبة لمغربي من الريف هاجر المنطقة في ظل نظام الدولة المركزية ثم عاد إليها بعد تمتيعها بالاستقلال الذاتي؟ ما الذي يؤشر على أن هناك حقا حكما ذاتيا للمنطقة؟ كل النقاشات، كما سبقت الإشارة، تركز على الجوانب المالية والاقتصادية والمؤسساتية والإدارية لتخلص إلى أن الحكم الذاتي يتحقق عندما يكون هناك برلمان وحكومة جهويتان، بالإضافة إلى التحكم في ثروات الجهة الطبيعية والضريبية لاستثمارها لصالح تلك الجهة بدل توظيفها في المركز كما في نظام الدولة المركزية. تبعا لهذه المحددات لنظام الحكم الذاتي للجهة، فإن ذلك المواطن الذي يعود إلى الريف بعد أن أصبح يتمتع باستقلال ذاتي لن يدرك هذا الاستقلال بمجرد عبوره للحدود، لن يدرك ذلك إلا إذا زار مقرات الحكومة الجهوية وحضر مناقشات البرلمان الجهوي. مع أن الذي يهم المواطن، فيما يتعلق بالحكم الذاتي، هو تجسيده في الحياة والمعاملات اليومية، وليس في المؤسسات التي ترمز إلى الاستقلال الذاتي كوجود حكومة جهوية وبرلمان جهوي. لنفرض أن هذا المواطن بمجرد وصوله إلى ميناء الناظور وجد تلك اللوحة، التي كتب عليها عادة "المغرب يرحب بكم" بالعربية، مكتوبة بالأمازيغية، كما أن رجال الأمن والجمارك يتحدثون كلهم الأمازيغية، والإجراءات الإدارية للدخول إلى المغرب تتم كلها بالأمازيغية. هنا سيدرك ذلك المواطن أن هناك بالفعل حكما ذاتيا للريف لأن كل شيء أصبح أمازيغيا، سواء لغة الموظفين أو المعاملات الإدارية. ولا يهم بعد ذلك هذا المواطن هل هناك حكومة وبرلمان جهويان أم لا. نريد بهذا المثال أن نوضح أن العنصر الأساسي الذي يؤكد، بالنسبة للمواطن العادي، أن هناك استقلالا ذاتيا لمنطقة الريف، هو عنصر الموارد البشرية العاملة بمختلف الإدارات المحلية والجهوية عندما تصبح كلها متكونة من أبناء المنطقة المتحدثين مع المواطنين بالأمازيغية السائدة بالمنطقة. لأن الحاصل اليوم في الريف، ولا شك في المناطق الأخرى التي تعتبرها السلطة أمازيغية، أنك عندما تدخل إلى أية إدارة مثل بريد المغرب أو مصلحة الضرائب مثلا وتتحدث الأمازيغية، يستفزك الموظفون الأجانب عن المنطقة بنبرة آمرة: "تكلم العربية". فتشعر بأنك أنت الأجنبي عن المنطقة وليسوا هم، وأن مواطنتك ناقصة ومهانة. وهذه الحالة لا تختلف في شيء عن حالة الاستعمار الذي يفرض على السكان الأصليين لغته ونظمه وقوانينه ورجاله. ونعلم أن هذه الحالة من الاستعمار "الوطني" كانت وراء انتفاضة سكان الريف في 1958 ـ 1959، الذين وجدوا أنفسهم ينتقلون من يد الاستعمار الإسباني إلى يد استعمار عربي "وطني". ولهذا فإن الفهم الشعبي لدى السكان للحكم الذاتي الذي يتحمسون له يتمثل، ليس في قيام حكومة وبرلمان جهويين، بل في "جلاء" العرب، ليس كعرق، بل كهوية ولغة تفرض عليهم في الإدارات والمحاكم وكل المرافق العامة. بالنسبة لهم يتحقق الحكم الذاتي إذن عندما تدخل إلى الإدارة فتجد كل موظفيها يستعملون الأمازيغية ويشتغلون بلغة السكان لأنهم ينتمون إلى نفس المنطقة. كيف نفسر أن جل المشتغلين بشركة "صوناصيد" التي أنشئت بالناظور لاستغلال مناجم الحديد بالريف هم "عرب" استقدموا من خارج الريف ولا يتحدثون لغة السكان؟ كيف نفسر أن مستخدمي إدارات "اتصالات المغرب" بمنطقة الريف غالبيتهم أجانب عن المنطقة ولا يتحدثون لغة السكان؟ كيف نفسر أن إدارة مطار العروي/الناظور جلهم كذلك من خارج المنطقة ولا يتحدثون لغة السكان، حتى أن مجموعة من المعطلين سبق لهم أن وجهوا رسالة إلى المسؤولين يحتجون فيها عن تشغيل "أجانب"عن المنطقة في حين أنهم أولى بتلك المناصب من الشغل؟ كيف نفسر أن رجال السلطة والأمن والجمارك بالريف جلهم كذلك من خارج الريف؟ لا يمكن أن نفسر ذلك إلا بكونه نوعا من الاستعمار الذي أصبح عاديا ومقبولا لطول عهده. إنه نوع من الاستعمار: ـ لأنه يقصي أولا لغة السكان من استعمالها في الإدارة. ـ ولأنه يقصي ثانيا السكان أنفسهم من تسيير شؤونهم. ـ ولأنه يساهم ثانيا في تفقيرهم وتهميشهم من خلال حرمانهم من مناصب شغل كانوا هم الأولى بها قبل الأجانب عن المنطقة. فبالنسبة للمواطن العادي، لا يهمه من الحكم الذاتي وجود برلمان وحكومة جهويتان، بل وجود قواد وباشوات وشرطة ودرك وموظفون ينتمون إلى المنطقة ويتواصلون مع المواطنين بلغتهم. وهذا الجانب الخاص من الحكم الذاتي، المتمثل في توظيف وتشغيل أبناء المنطقة بمرافق المنطقة، لا يتطلب بالضرورة حكومة وبرلمانا جهويين للريف، بل يكفي أن تكون هناك سياسة لامركزية حقيقية تراعي خصوصيات الجهة وتحترم سكانها وتكفّ عن إرسال بعثات "أجنبية" تحكمهم وتسير شؤونهم، مما يقوي الفساد ويشجع على الارتشاء لأن هدف "الأجنبي" عن المنطقة هو الاغتناء وليس خدمة السكان. وهذا ما يفسر انتشار التهريب وتجارة المخدرات كما سبق أن شرحنا ذلك. فاللامركزية التي تدعي الدولة أنها تنهجها ينبغي أولا أن تطبق على هذا الجانب المتعلق بالموارد البشرية قبل جانب الضرائب وكيفية استثمارها. فالريف، والجهات الأخرى كذلك، ليس في حاجة إلى رئيس جماعة قروية أمازيغي مجرد من كل سلطة فعلية، في حين يكون القائد غير الأمازيغي والأجنبي عن المنطقة هو صاحب السلطة الفعلية والحقيقية. اللامركزية الحقيقية تعني لامركزية ممارسة السلطة، كالقائد والباشا والعامل والوالي، قبل أن تعني جمع الأزبال والاعتناء بالإنارة العمومية. لهذا، وفي انتظار توفر شروط قيام نظام فيديرالي للجهات، في إطار دولة أمازيغية ذات حكم مركزي أمازيغي، ينبغي المزيد من النضال في اتجاه "منطقة" (جعله من المنطقة) رجال السلطة وباقي الموظفين ليكونوا منتمين إلى الجهة ومتحدثين لغة الجهة، في إطار لامركزية حقيقية وليست شكلية. وهو ما يخلق شعورا بالعدل والمساواة بين كل الجهات لدى السكان، ويقضي على ما يشعر به سكان هذه الجهة أو تلك من أنهم ضحية ظلم وتعامل عنصري للدولة واستغلال لجهتهم على حساب أخرى تعتبر "عربية".
|
|