|
|
محمد أركون والأمازيغية قراءة في مضمرات الخطاب (4/1) بقلم: إبراهيم أزروال
طالب محمد أركون بتوسيع المفكر فيه وتأسيس أطر الفكر الاستشكالي والخروج من هيمنة الأرثوذوكسيات بالمغارب. لا مناص من هذا المنظور، من تفكيك المواقع التاريخية الدوغمائية للفكريات المهيمنة، ومن تأسيس تقاليد ثقافية نقدية جديدة، خارجة عن المواضعات الإبستمولوجية للفكر التقليدي وقابلة للانفتاح على مكتسبات ومستجدات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولا يمكن تحقيق هذا المراد الإبستمولوجي والمنهجي، من دون تفكيك التراتبيات الفكرية بالمغارب، والكشف عن السياقات الثقافية والأنثروبولوجية لتشكل الأنظمة الفكرية اللاهوتية وتكيفها مع المستجدات الوقتية ومع الإشكاليات الجيو- تاريخية لعوالم ثقافية ثابتة ومتحولة، في ذات الآن. «لهذا السبب فإني أدعو إلى مراجعة شاملة لمسألة الفكر العربي والثقافة العربية في المغرب الكبير من أجل خلق الشروط الثقافية والعلمية لتأسيس فكر مغاربي نقدي قادر على توسيع منطقة المفكر فيه لكي تشمل كل المجالات المحروسة حتى الآن إما من قبل الأرثوذوكسية الدينية، وإما من قبل الأرثوذكسية السياسية، وإما من قبل تحالف الاثنتين معا.» (- محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – كيف نفهم الإسلام اليوم ؟ - ترجمة وتعليق: هاشم صالح – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 2000-ص. 42). 1- في مقتضى الإسلاميات المطبقة: ممّا لا شك فيه أنّ اللاّمفكر فيه تاريخيا عريق بالمغارب، وأنّ للمؤسسات الأرثوذوكسية يدا طولى في تسييج العقل المغاربي ومنعه من إضاءة عتماته التاريخية واستكشاف أغوار التعقيل الحر، وأكوان الدلالة المنداحة في سديم الاحتمال. لقد بقي الفكر المغاربي أسير المخثرات الوثوقية، والفذلكات المسكوكة للإيديولوجيات الرهابية والترهيبية للثغور. لا يعني القرب من بؤر الغير أو “السوى” الثقافي أو الحضاري تحصيل كفاءات التذاوت وإتقان التثاقف المرهف والأنيق، بل مراكمة التوجسات والرهابات، والإبقاء على وضعية الاستنفار الإيديولوجي القاضي باستبعاد الاستشكال والنقد والابتداع وتفضيل المرسخات المنضدة. وحين يصير إبدال المرابطة على الثغور الجغرافية والرمزية سيد الإبدالات يتقلص المدى الحيوي للثقافة بما هي استقصاء حر وديناميكي للمجاهل التاريخية والكونية، وترتدّ إلى مجرّد استعادات فقهية أو اجتهادات تكييفية لحفظ الوجود في عالم مختل التوازن الحضاري بعد القرن السادس عشر خصوصا. «إن كل علم التاريخ العربي والكولونيالي الذي جاء بعده ثم بشكل أخص كل الخطابات القومية التي رافقت الاستقلال في الدول المغاربية الخمس، كلها حاولت طمس هذا البعد أو إبقاءه في دائرة اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. فهذه الدول التي تشكلت بعد الاستقلال على هيئة “الدولة. الوطن. الحزب الواحد” فرضت خطا واحدا في التفكير وحذفت ما عداه. كل ما عداه أصبح مرميا في دائرة اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. أقول ذلك ونحن نعلم بأي دوغمائية وبأي ضمانة “علمية” راح خطاب التحرير الوطني ثم خطاب البناء الوطني الذي تلاه مباشرة يعارضان الخطاب الكولونيالي في إنكاره لوجود أمة ليبية، أو تونسية، أو جزائرية، أو مغربية، أو موريتانية. فقد راح هذان الخطابان يعتبران أن هذه الدول هي عربية وإسلامية بشكل محض أو مطلق، ولا توجد فيها أي عناصر أخرى. ثم حصلت نقاشات كثيرة وصراعات لم تنته بعد حول مسألة الهوية، ثم بشكل أخص حول التعريب ووظائف الدين في المجتمع.» (محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – كيف نفهم الإسلام اليوم؟ - ترجمة وتعليق: هاشم صالح – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية 2000-ص.36) لقد اختار مديرو الخطاب الفكري اصطناع هوية مستحدثة للمغارب، استنادا إلى مقتبسات منتقاة بعناية من أطر مرجعية متخالفة من حيث الأبنية النظرية والشرائط التاريخية، واعتمادا على تصور متعال ينفي معطيات التاريخ والأنثروبولوجيا المغاربيين، ولا يكاد يحفل إلا بالينبغيات الطوباوية لخطاب ترميقي مفكك المفاصل ومعدوم الرؤية الاستشرافية. وفي غمرة المنافحة عن الأركان المؤسسة لبنيتها النظرية ولتطلعها السياسي، اختارت النخب الاعترابية إرخاء أستار الصمت على الأنثروبولوجيا الثقافية للمغارب، وتكثيف سجف اللامفكر فيه وتشديد الحراسة الإيديولوجية على الحقائق الأنثروبولوجية – التاريخية القابعة خلف الخطاب النزاع، ظاهرا، إلى كيمياء التاريخ الحي لا إلى خيمياء الأنثروبولوجيا الآيلة إلى الانقراض! وتأسيسا على هذه الإستراتيجية الاستيعابية والتذويبية للمغارب التاريخية، أضحت المغارب استعادة استشباحية واستيهامية للمشرق المطمئن إلى تفرده الحضاري وإلى تجذره في قدس أقداس الحقائق الأنطولوجية. ومن هنا، فلا غرابة، أن تستحيل المغارب إلى مجرّد “قرين” إيديولوجي وسياسي للمشرق يعدّ العدة الاعترابية لإسماع صوت العروبة الخالدة للعالمين بعد الفاصل الاستعماري العابر!وفيما يخطئ الباحث الكولونيالي في التلوين أو التأويل أو في إدراك بعض الفوارق السيمنطيقية، فإن الباحث الاعترابي، سيعامل التاريخ والأنثروبولوجيا المغاربيين تعاملا متراوحا بين الإنكار النظري الصارم، أو التكييف الاستئصالي أو الاستلحاق الجزئي أو الكلي بالفضاء التاريخي – اللاهوتي المشرقي. ولا يملك الفكر الاعترابي إزاء الحقائق المجالية الصادمة بعد انطفاء اللهيب العروبي، إلا المكابرة الاستعلائية والذبّ من جديد على الأفضليات الميتا- تاريخية للمبادئ العروبية أو الصمت الإيديولوجي الناطق بالتأفف من عودة المكبوت التاريخي بالمغارب، أو بإدراج الخطاب الاستشكالي ضمن الخطابات الإيديولوجية أو السياسية الرثّة. «أما من الناحية السياسية فأنا اعتقد أن كل من يوظف “الأمازيغية “ في الصراع السياسي بالمغرب العربي فهو يضع نفسه موضع الأقلية، في حين أنّ المغرب كله تقريبا أمازيغي، وحتّى القبائل المعربة في الشاوية ودكالة وعبدة هي قبائل أمازيغية» ( - محمد عابد الجابري – حفريات في الذاكرة – من بعيد – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 2004-ص. 235) والتنصيص على أمازيغية المغرب في شاهد الجابري ليس قرينة على عودة الوعي التاريخي، أو أمارة على استجابة علمية أو إيطيقية لمقتضى الإبستمولوجيا التاريخية، لدى كاتب رباعية “نقد العقل العربي”، بل هي مجرّد إشادة عملية بأوعار طريق التعريب والاستعداد للبذل على درب “ الجلجلة “ العروبي! «لا بد من الانطلاق إذن من الحقيقة الواقعية وهي أن الوطن العربي ليس الآن بلدا واحدا وليس مجتمعا واحدا بل هو بلدان ومجتمعات – نريدها أن تصبح بلدا واحدا ومجتمعا واحدا ويجب أن نعمل من أجل هذا – وهي في الظرف التاريخي الراهن ما زال كل منها مطبوعا بخصوصية قوية تطبع بطابعها جملة من المسائل مثل مسألة العلاقة بين الدين والدولة. وإذن يجب أن ننظر إلى هذه المسألة على ضوء واقع كل بلد عربي على حدة. يجب أن نتجنب تعميم المشاكل القطرية تعميما يجعل منها مشاكل قومية ويجعل من الدعوة إلى الوحدة العربية دعوة إلى نقل المشاكل من إطار الخاص إلى إطار العام.» (-محمد عابد الجابري – وجهة نظر – نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 1992-ص.104) حين يفقد الخطاب الاعترابي قدرته على التعميم، وتسوية إشكاليات الخصائص والاستثناءات والفرادات، فإنه يؤشر، من حيث لا يعلم، على استعصاء المعطيات المجالية على بنيته النظرية وعلى مفاهيمه الإجرائية، وعلى مفارقة أركان العقل العروبي لبنيات تاريخية وفكرية متخالفة من حيث العناصر التأسيسية ومن حيث بناء المجريات والمنعطفات التاريخية. وبما أن رخاوة البناء لا تمنع الخطاب الفكراني من التمدد ومن البحث الإرادي عن حل المعضلة الخصوصية، فإنه سيكتفي بالتشعيب على الطريقة التكليمية وبالاسترسال في أشباه الإشكاليات وبالاستقواء بالخطاب المعياري للذات العربية-الإسلامية. لقد راهن الخطاب العروبي على المشاكلة والمجانسة والمطابقة وذهب خطاب العوربة أو خطاب القومية البعدية إلى حدّ تعريب التاريخ والآلهة واللغات الحامية- السامية أو الأفرو-آسيوية مثل المصرية والأمازيغية كما فعل علي فهمي خشيم في أسفار(سفر العرب الأمازيغ: بحث مفصل في عروبة اللغة الأمازيغية / لسان العرب الأمازيغ: معجم عربي – بربري مقارن / آلهة مصر العربية…الخ)؛ إلا أنّ المجانسة الخطابية لا تنفي المنافرة والمخالفة الإناسية – التاريخية ولا تعفي استراتيجيي هذا الخطاب من رضّة الاختلاف Traumatisme de la différence. «وهذا الكلام ليس من قبيل التخمين، فهناك ما يرجحه ويدعمه بالاعتماد على ما تقوله قبائل الطوارق عن نفسها، من كونها قبائل مهاجرة ذات أصول شرقية، إذ هي فروع، منحدرة –بالأساس – من “صنهاجة “ و”لمطة” و”هوارة “. وهذه القبائل كانت موجودة – كما يذكر مراحل (كذا في النص). والراجح أن “صنهاجة “ و”لمطة” قدمتا من الجنوب عبر تشاد، بدليل وجود كثير من الأسماء والكلمات ذات الأصل الحميري على خط السير هذا.» .( - محمد العرباوي-الكتابة البربرية: اللوبية – التيفيناغ ما حقيقتها؟ - ضمن – الأمازيغية-إشكاليات وقضايا –منشورات منتدى المواطنة –الدار البيضاء- 2004-ص.140-141). ينذر إقبال الاعترابيين على نظام الآلية التناقضية التحاجية، في المباحث التاريخية بفوضى دلالية كبرى، يحل فيها الترجيح العرقي-الإيديولوجي محل الشواهد والمستندات والأدلة التاريخية أو الأركيولوجية أو اللسانية، ويتبوأ فيها التخمين التداولي منصة البرهان القطعي. تعلن الإسلاميات المطبقة اهتمامها بالبوادق والمصاهر الأنثروبولوجية المغاربية على التخصيص والإسلامية على التعميم، وبالتشابك العنيف حينا والرهيف أحيانا أخرى بين الأنساق القانونية والتشريعية المتناقضة، والتفكير في كل ضروب الاتصالات الأنثروبولوجية الفاعلة في مجتمعات الاستضافة الثقافية. وتأسيسا على هذا المطلب، تتوسل الإسلاميات المطبقة في مخالفتها المنهجية للإسلاميات الكلاسيكية، تفكيرا منهجيا تقدميا -تراجعيا، وتستعين بالأجهزة الآلية للنقد التاريخي – الأنثروبولوجي الحديث. ومن الجدير بالذكر، في هذا الإطار، ربط أركون بين التفكير في الفضاء المغاربي وبين الإنسية المغاربية؛ فلا قيمة لأي تفكير في الوضع السوسيو-سياسي والسوسيو-ثقافي، بمعزل عن تصور منظورية استشرافية، تنشد إنسية أوثق ارتباطا بالتأنسن في حدود المحايثة! ومن البين أن التفكير النقدي المتجدد في التاريخية المغاربية يستلزم الجمع بين البحث في الوضع المعرفي والوظائف الاجتماعية – الثقافية للفعل الديني وبين استكشاف نسق التنسيقات الرمزية والأطر الاجتماعية الموظفة في تصور وخلق وبث المجازات التأسيسية وخلق الشخصيات الكاريزمية وإنعاش مثل الكمال الوجودي. كما يقتضي استحضار الخصائص المميزة للإسلام الحضري وللإسلام المرابطي وللأطر الاجتماعية للمعارف في كلا اللوغوسفيرين الرمزيتين واستزراع المجاذبات الفكرية فيما يسميه أركون بالفضاء التاريخي والأنثروبولوجي المتوسطي أو بالتاريخ المتوسطي للتفكير والثقافات. 2- في نقد مركزية الإسطوغرافيا العربية- الإسلامية: استعادةمعنى القديس الأمازيغي: لقد بنى الخطاب الاعترابي جسده النظري على فصل المغارب عن تواريخها وعن أزمنتها وعلى تركيب جدل للفصل والوصل، تصير بموجبه هذه الفضاءات التاريخية والثقافية معزولة عن مصادرها المعرفية والتاريخية وملحقة بالجغرافيا الثقافية الشرقانية. إنّ تاريخ اللاتاريخ يفصل الأمكنة عن أزمنتها، والثقافات عن موادها التكوينية وعن ديناميتها التوليدية وعن مجالاتها الحيوية، ليلحقها بتاريخ معياري، اسكاتولوجي، شكلاني، كوني. ثمة ميتا-تاريخ، هو التتويج المطلق لكل الترسيمات التاريخية ولكل أشكال اشتغال البشر على شرطهم الإنساني لصياغة تواريخ محتملة وعابقة بالمعنى. وحيث إن التأريخ في رحاب الميتا-تاريخ أداة دعم تربوي أو شحن دعوي لا غير، فإن نظر المؤرخ – المتكلم، لا يتسع لكل التدفقات السيرورية للشرط البشري، ولا للمنعرجات الحادة الكاشفة عن العودة اللامتوقعة للمسكوت عنه، وعن انبثاق اللامنتظر، وعن البروز العاصف للامحتمل والتراجيدي. يشهر التأريخ التكليمي، ترسيمته المعيارية في وجه الفرادة المغاربية، ليمتص تجليات الغرابة، وليزيل النتوء الإثنو-ثقافي عن المتن المنضد، وليعيد التأكيد على الاكتمال الكلي لمقولاته التداولية. «…وأقول إن اللجوء إلى محو هذه الشخصية (يقصد أغوسطين) المرموقة من فكر عاش قرونا عرف فيها أنواعا من التغيير والتجديد والثورة دون أن يفقد شيئا من حيويته التربوية ولا من قوته على المساءلة ولا من أفكاره الثاقبة اللاهوتية والفلسفية والسياسية والأخلاقية والسيكولوجية من جهة، كما أن الإعراض عن هذا الشاهد الفذ على خصوبة الفكر البشري والذي ظهر ومارس مهنته الكهنوتية وسط جمهور من الأمازيغ، بذريعة أنه عبر عن فكره باللغة اللاتينية وخاطب مسيحيين وفي خدمة روما الاستعمارية من جهة أخرى، أقول إن هذا وذاك يعنيان ببساطة التوقيع على صك الاعتراف بالعقوق الفكري والروحي لشعب يقدم وكأنه ارتضى بأجمعه تبني هذا المنظور الظلامي كوسيلة لتحديد هويته وقدره التاريخي». (- محمد أركون – رهانات المثاقفة بالمغرب الكبير بعد الاستقلال – مقاربة أنثروبولوجية -2 ترجمة: عبد الكريم شوطا – مراجعة: محمد عابد الجابري - فكر ونقد – العدد – 20- يونيو 1999-ص. 32) فبدلا من استعادة معنى القديس أغوسطين، وإعادة التفكير في كثير من القضايا المرتبطة بتاريخ الفكر المغاربي وبمصادره وينابيعه المختلفة وبتاريخ الهيرمينوطيقا والتأويل اللاهوتي، اختارت الإسطوغرافيا الاعترابية، إلحاق هذا القديس بجغرافيا فكرية ولاهوتية غير جغرافيّته الأصلية. فلا مناص، أمام “تخانة” اللاّمفكر فيه التاريخي واللاهوتي، من استشكال الفذلكات التاريخية، والحرتقات الثقافية، وتقوية النزوع نحو المعرفة التاريخية ونحو التأمل الإبستمولوجي الغني في المسارات الللاحبة للمعالجات التاريخية للمغارب. تفتقد الإسطوغرافيا الاعترابية إلى ثقابة النظر الفكري وإلى التحرر من الضغوط ومن الإملاءات اللاهوتية؛ ولذلك فهي كثيرا ما تسير بموازاة منتظرات المتكلم المتفقه، الباحث في التاريخ عن المؤتلف لا عن المختلف، عن المعنى الغائي الراسم لتاريخ ذي خطوط ماورائية، محبوكة ببراعة غيبية، آيلة إلى المشهد الأكبر: المشهد القيامي.إنّ تاريخا يحكمه اقتصاد النجاة يفتقر حتما إلى المادة النسغية للتاريخ، أي اقتصاد المعرفة. وتلك نقلة جوهرية، إبستمولوجية وإيطيقية، لم تلتفت إليها العلمانيات السادرة في”الغيب” الحداثي وفي الغيبوبة التوفيقية. وكما تقيس الإسطوغرافيا الاعترابية كل المادة التاريخية بمقاييس المشهدية المنتظرة، فإنها تقرأ البدايات من منظور انبثاق حركية استثنائية، تجب ما قبلها وتعتبره مجرد تمرينات غير جديرة بالتاريخ المحمل بالمعنى المكتمل. ومن هنا، فلا غرابة أن يعمد المؤرخون الاعترابيون إلى “إماتة “ التواريخ السابقة للإسلام المغاربي، وإحالة كل ضروب التثاقف والتفاعل الثقافي فيها إلى العدم التاريخي والى الصفر الثقافي. وهكذا، قادت الفكرانية المنقوعة في اللاهوت،” المؤرخ”الاعترابي إلى نفي الزمان، والى إنكار الزمانية والتاريخية، فيما أكثر، نظريا، من حتمية التاريخية وتعزيز الوعي التاريخي. لا يمكن لمن يصارع الزمان الحضاري، بأسلحة المتكلمين، سوى أن يرى في الفواصل التاريخية والعقدية والتاريخية السابقة للإسلام، مجرد رماد غيري لا يمت بصلة للشعلة المتأججة، منذ أن عانقت السماء أرض العروبة بحنو قدساني مخصوص! «ففي جميع هذه المجالات التي تحدد الأساس الذي تقوم عليه الشخصية لم يتمكن المغرب العربي والإسلامي بعد من تعويض إستراتيجية الرفض والإقصاء، التي أرستها المذاهب الدينية والكتابات التاريخية التقليدية والتي خلفتها، في ممارسة نفس المهمة بقوة أكبر، الإيديولوجيات الوطنية، إيديولوجيات العراك. لم يستطع المغرب العربي الإسلامي تجاوز هذه الستراتيجية إلى ستراتيجية أخرى تعمل من أجل الإدماج الفكري والثقافي لجميع مظاهر الغنى في جغرافيته وتاريخه وانثروبولوجيته». (- محمد أركون – رهانات المثاقفة بالمغرب الكبير بعد الاستقلال – مقاربة أنثروبولوجية -2 ترجمة: عبد الكريم شوطا – مراجعة: محمد عابد الجابري - فكر ونقد – العدد – 20- يونيو 1999-ص. 34) ليست المغارب غنية فقط بتاريخها التثاقفي المستدمج للمعتقد التعديدي الأمازيغي واليهودي والمسيحي والإسلامي، وللتقاليد الفلسفية والأدبية والفنية والأسطورية الإغريقية والرومانية، بل هي غنية بخبراتها الإناسية وبتجربتها في التمثل والاستيعاب والاستدماج. ثمة تذاوت أنثروبولوجي تفصح عنه تركيبة اللسان وبنى الثقافة وتشكيل التاريخ وتنظيم المجتمع، إلا أن الخطاب”التأسيسي” للوطنيات المغاربية، لم يستوعب هذا التذاوت الأنثروبولوجي وهذا التراكب التاريخي، فانحصر، لأسباب نفسانية وإبستمولوجية وسياسية، في وثوقيات لاتاريخية شرقانية الاهتيام. والحق أنه يستحيل التفكير في العمق التاريخي أو في التركيبة الأنثروبولوجية أو في أركيولوجيا الاعتقاد بالمغارب من منظور خطاب وظيفي غارق في المنافحة العقدية وفي الاستنساخية الفكرانية وفي الامتثالية الفكرية المشبعة بالهذائية والتعالي والأسطرة. وفي هذا الإطار، يعقد أركون آمالا كبيرة على البودقة الأنثروبولوجية المغاربية في الإبانة عن فعاليّة مناهج التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا الثقافية وعن قدرتها على إنارة عتمات إشكالية الاعتقاد. يساعد التمفصل الأنثروبولوجي المعقد بين القانون الديني الأرثوذوكسي والأعراف الأمازيغية، على توفير مختبر بحثي للعلوم الاجتماعية وللإسلاميات المطبقة لاستشكال المقولات الأرثوذوكسية وللكشف عن النفس البشرية وهي تعيد صياغة الرمزيات بكثير من التوسمات الثقافية ومن التركيب المذوب للخصائص وقليل من الإملاءات النصية. «لا يوجد حتى الآن أي عرض شامل للتاريخ النقدي للفكر في المغرب الكبير. وأقصد بذلك التاريخ النقدي الذي يأخذ بعين الاعتبار التجليات اللاتينية والعربية والأمازيغية والفرنسية لهذا الفكر (وهذه هي اللغات الأربع التي شهدها المغرب الكبير على مدار تاريخه الطويل). ينبغي أن نعلم أن الخيار القومي الذي ساد في بلدان المغرب بعد الاستقلال لم يأخذ بعين الاعتبار إلا خط التجليات العربية للفكر، دون أن يحل مشكلة طريقة الاستملاكات المغاربية لموضوعات هذا الفكر العربي بالذات ومشاكله وحقول واقعه وعلومه. إذا ما أنجزنا هذا البحث أو التحري العلمي الواسع والشامل داخل النطاق التاريخي واللغوي والثقافي لبيئة محددة (هي البيئة المغاربية) فإننا نكون قد قدمنا مساهمة لشرح إشكالية الاعتقاد داخل السياقات الإسلامية». ( - محمد أركون – الفكر الأصولي واستحالة التأصيل – نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي – ترجمة وتعليق: هاشم صالح - دار الساقي – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 1999-ص.99) ومن الواضح أن الفضاء الموصوف يوفر الأرضية التاريخية لاستقصاء مراحل وآليات التشاكل والتزاوج والتقاطع والانقطاع بين الأمشاج المكونة لنسيج الأنثروبولوجيا الثقافية المغاربية، إلا أن الفكر الاعترابي لا يرى في الطروس الثقافية للمغارب إلا نتوءات فكرية ومكدرات تاريخية برسم الاجتثاث. وهكذا انضاف ما سماه عبد الوهاب المؤدب بالموت الأنثروبولوجي إلى الموت التاريخي لإفراغ المغارب، تاريخيا وأنثروبولوجيا، من مخزونها ومن خبراتها الألفية، وتأهيلها، إيديولوجيا ونفسيا، لتمثل وتمثيل دور الذيل التاريخي، باسم تمركز شرق أوسطي مضمر أو محوريّة عروبية متأسلمة معلنة. «إنّ الموت الأنثروبولوجي يلغي الديونيزوسي. لقد جاء هذا الموت في تونس بعد أن رفضت السلطة السياسية الاهتمام، بما يسميه الفقه الإسلامي العرف، أي مجموع العادات التي انتقدها الفقهاء وتأسفوا لوجودها، بل أدانوها لينتهي بهم الأمر في آخر المطاف إلى تخصيص حيز لها لتعيش وتحيا في الهوامش». (عبد الوهاب المؤدّب- الإسلام الآن – حوارات مع فيليب بتي – ترجمة: كمال التومي – مراجعة: محمد بنيس والمؤلف – دار توبقال للنشر – الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 2010-ص.31-32) تصدر إيديولوجيا التعريب، إذن، عن رغبة نفسية – فكرية في تعريب التاريخ المغاربي نفسه، وفصله عن امتداداته المتوسطية والصحراوية، وعن ارتباطاته التثاقفية والتذاوتية والتحاورية مع الأنساق الثقافية البونيقية والإغريقية والمصرية والرومانية. ثمة انبهار بالمتعاليات التاريخية الإسلامية، وسعي إلى إسقاطها على تواريخ مخصوصة وعلى سيرورات لا تندرج، بالسهولة الفكرانية أو العقدية، المتصورة في سيرورة التاريخ العربي – الإسلامي المؤقنم والمؤسطر. فبدلا من إبراز المواقعية المغاربية في سياق التدافع الثقافي والحضاري على ضفتي المتوسط، ونوعية المنجز المعرفي المغاربي في خضم التواهب والتناهب بين مختلف البنى الأنثروبولوجية، يقدم الباحث المعترب المغارب بمثابتها فضاءً متصحّرا، ومتدنّي المكانة الحضارية. وهكذا، يبدأ المؤرخ المعترب أسفاره بقطع المغارب عن سيرورتها التاريخية وعن زمانها الثقافي – التاريخي وعن ابتكاريتها اللسانية – الأنثروبولوجية، وبوصلها بالزمان الثقافي العروبي، وبالسلالة العاربة من باب الديدن الاعترابي الأثير: لا تكتمل الثقافة إلا بالاشتراك في السلالة!ولئن رفضت الفكرانية الإسلامية ثقافة ما قبل الإسلام دينيا، واستعادتها ثقافيا، من باب الحدب على الذاتية الثقافية رغم المنافرة العقدية، فإن الفكراني المغاربي المعترب، اختار أن يجب ما قبل عقبة بن نافع بدون استعادات ولا استثناءات! فحتى يستوي الخطاب التاريخي على الأسس التداولية للاعتراب التداولي، فإن المؤرخ الاعترابي، سيدخل المغارب في مسارات التاريخ المتعالي، بعد تطهيرها، كليا، من بصمات أبوليوس والقديس تارتوليان والقديس أغوسطين ودوناتوس ومن التوقيع السياسي لتاكفاريناس ويوبا ويوكرتن. فمن البيّن أنّ رهاب الغير يقود إلى التنكر لحقائق التاريخ، وإلى الخلط بين المعرفة والاعتقاد، وإلى عدم التمييز بين التاريخ بمثابته واقعات منقضية والتاريخ بما هو سيرورة مفتوحة لجدل الإرادة والبنية، ولصراع الغائيات البعيدة والغائيات القريبة. لا يتصور الفكر الاعترابي التاريخ إلا بما هو تجليات قدسانية لأبطال ذوي مواصفات متعالية خاصة ولفعلهم القدسي المحمل بالمعنى القيامي؛ وحين لا تتسع الأنماط التعليلية الاعترابية لاحتواء الفعالية المغاربية، فلا ضير من عقد مفاضلات عكاظية، وتحرير الوسيلة التاريخية بما ينصب الانبثاق العروبي –الإسلامي لحظة حضور المغارب على خريطة التاريخ الكوني تحقيقا! وعليه، فلا تكفي المطالبة بالفصل بين الزماني والديني كما يعتقد دعاة العلمانية القانونية أو الإدارية أو التقنية، بل لا بد من إقرار فصل إبستمولوجي بين المعرفيات والاعتقادات واستبعاد الاعتبارات والحسابات اللاهوتية من الكتابة التاريخية على نحو كلي، والحال أن الاعتراب”التاريخي”، لا يبحث عن تقرير وتعليل واستقراء معنى الحقيقة التاريخية، بقدر ما يبحث عن استبدال الميثولوجيا بالتاريخ، سدا للذرائع وإقرارا بالمؤالفة العابرة للكرونولوجيا الزمانية الغضة. لا يمكن بناء الحقيقة التاريخية بالاجتزاء والانتقاء والوصل التلويني بين ما ينفصل، جغرافيا وتاريخيا، وإفراغ تاريخ المستلحقات الثقافية من توثباته الوجودية ومن دلالة أمشاجه المتمرحلة بل بإحضار كل الأنساغ وعرضها أمام أنظار الإبستمولوجيا التاريخية واستقراء كلياتها بما قد يمكن من رسم فلسفة تاريخية منفتحة واستشرافية وبعيدة عن دوغميائية الميتا-تاريخ والميثولوجيا التوحيدية. ولا يمكن إبطال مفاعيل المركزة التاريخية الشرقانية باصطناع مركزية مغاربية من نفس العيار، بل باحتضان المجرى العميق للكينونة المغاربية في انفتاحها الخصب والمخصب مع الغيريات المتأهبة لمعانقة الكوني بأذرع إنسية. وتأسيسا على هذا الفحوى، فمن الضروري نقد المركزية الشرقانية في غرارها التاريخي الكلاسيكي من جهة وفي نموذجها العربي – الإسلامي من جهة أخرى. وهكذا، فلا مفر من الاندماج في تثقاف تفاعلي ندي والانقطاع عن تثقاف لا ثقافي، حائل دون ظهور الطاقات الكمونية والتطلعات الاستشرافية للمغارب. «أعتقد أنه يوجد مستوى في وعي المغاربة تتجمع فيه بواعث المطالبة بالمزيد من الإنجاز. أشعر شعورا غامضا وعميقا أن المغربي لا زالت له مطالب يقدمها إلى التاريخ، فهو ينتظر المزيد ويريد المزيد ويطالب بالمزيد. فهو غير راض على ما حقق في القرون الماضية. لا يقول مثل المصري: قد وصلت إلى حد من الإنجاز لا يمكن أن أتصور تجاوزه والتفوق عليه، وهذا الفرق في النفسانية واضح لكل من عاش في البلدين». (- عبد الله العروي – التحديث والديمقراطية – ضمن – محاورة فكر العروي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الأولى – 2000-ص.30-31) ليس التشوّف إلى كيانية توّاقة إلى التجاوز الإيجابي لموروثها وإلى استقطاره في العلمانية المتأنسنة، وإلى التطلع إلى وعود ثقافية منجزة بشراكة مع الشركاء المتوثبين، لا الفرقاء المغرمين بالتلذذ الاستيهامي بأمجاد ميتا-تاريخ أو ميثو-تاريخ هو أدنى الى السرديات الميثية التنويمية، ضربا من” التنرجس” المضاد أو من الشوفينية الإقليمية أو من الاهتداء الأهوج “بريح الغرب”. إنه تطلع الروح المتوثب، للانتهاض قصد تحصيل معاني التواريخ المنسية أو المطمورة في رمال الانتماء المستعار، والتطلع إلى كيانية متأهبة لسلك الدروب اللولبية للصيرورة. يمكن النظر المتوغل في أركيولوجيا المثاقفات، وفي أوجاع التواريخ المهجنة، وفي استشراف أعالي الأنسنة الكونية، من الانقطاع عن كوننة اللاهوت و”لهوتة” التاريخ و”طقسنة” الجسد، والاندماج في شراكة حضارية منتجة ومبدعة، لا في “الانسلاب” والاغتراب عن مساقط التشخصن والإبداع. هل يحق للمغاربي، وفق هذا المبتغى، الموافقة على فحوى ومغزى قولة واسيني الأعرج؟ «المشرق عمق ثقافي وحضاري للثقافة المغاربية، والمغرب رافد مهم من روافد الثقافة العربية في غناها وتعددها وانفتاحها على الآخر الذي يشكل اليوم رهانا صعبا في كيفيات التعامل معه». ( - واسيني الأعرج – التأسيس الروائي المغاربي – سلطان المركز وطموحات الأطراف - ضمن – حوار المشارقة والمغاربة – الجزء الأول – كتاب العربي –العدد 65- الطبعة الأولى – 2006-ص. 186). من البيّن، إذن، استحالة إخراج الثقافات المغاربية من تخثرها، ومن انقيادها إلى الأطر الفكرية الشرقانية، إذا حصرنا النظر في معاتبة المركز ومطالبته بالتسوية الثقافية، عبر التذكير بالمساهمات المغاربية التاريخية في بناء العلوم العربية – الإسلامية وتحقيق بعض ما سماه عبد الله كنون بالنبوغ المغربي! لا يمكن للشراكة الثقافية أن تقوم وتنمو إلا بإعادة تحديد قواعد التداول الثقافي، وإعادة النظر الجذرية في المساقات التنميطية للاهوت النافي للذاتيات الثقافية وللتواريخ المتألقة خارج الحدوس البراهمانية – الإبراهيمية وخارج اهتياماتها بالماواء وبالطقسانية وبالشكلانية الأدائية. ومن البديهي، إذن، أن يستلزم استشكال الصراطية الماورائية والميتافيزيقية تفكيك وحدة اللاهوت وما تنطوي عليه من وحدانية وامتثالية، وتمهيد سبل الاختلاف التعددي الخلاق. «فالمطالبة بالهوية التعددية تؤكد وحدة الاختلاف، وفي ذلك خطر على اللاهوت، لأنّه ينبني على مبدإ وحدة ضرورية تضم كل المؤمنين». (عبد الكبير الخطيبي – النقد المزدوج – منشورات عكاظ – الرباط – المغرب – 2000-ص.50) ومن الطبيعي أن يكثر اللاهوت عدده وبرامجه الحجاجية، وأن يقيم الارتباط بين الوعي بالذاتية الثقافية الأمازيغية وبين المفاعيل التغريبية للاستعمار وللاستصباء الاستشراقي للنخب الثقافية المحلية المغتربة. «إذن، لم يكن هناك نزعة بربرية انفصالية في الجزائر إلا بعد أن طبق المستعمر الفرنسي سياسته الإدماجية العنصرية المبنية على خلق تمايز بين الجماعات العرقية المؤلفة للمجتمع الجزائري. لذا، فإن هذا البحث يناقش العلاقة بين ممارسة سياسة الإدماج الفرنسية وظهور وعي بربري (قبائلي) أصبح يطالب بالحق في الاختلاف الثقافي ومن ثم بالحق في هوية معترف بها في جزائر اليوم كما سوف نرى». (عمر عسوس – بربر الجزائر والتعريب – دراسات عربية – العدد 1-2نوفمبر – ديسمبر 1995-ص.11-12) يقف الحجاج الاعترابي هنا، عند العتبة الاستعمارية، فيما يتطلب عنفوان الفكريات، هنا والآن، اقتحام الصرح التاريخي واستشكال البداهات التاريخية واستيعاب كلية التاريخ المغاربي والانزياح عن الاستعمال اللاهوتي للتاريخ. ولئن مال الخطاب النقيض،أحيانا، إلى المزايدة المحاكاتية واستعارة مفردات حجاج الخصم الفكراني كما في نقض محمد شفيق للقومية العربية، فإنه لا يقوم إلا بتأجيل لحظة التعرية التاريخية للمفارقات الكبرى للتاريخ الاعتباري ولأجهزته التصورية، والحال أن لا فصل بين نقد التاريخ التكليمي- الاعتباري ونقد البرنامج التدليلي للاّهوت.
|
|