|
|
مولاي علي شوهاد: رؤية فلسفية في الشعر والفن. بقلم: عبد الرحمان بن المختار
تصدح الثقافة الأمازيغية بأصوات إبداعية خلفت أصداء قوية في الثقافة المغربية برمتها، وجعلتها تقترن بمجموعة من المفاهيم الخاصة، كمفهوم «التسامح» و»الخصوصية المغربية» و»القيم المغربية»... ولقد ظلت هذه الأصوات تشتغل في الهامش بعيدا عن المركز، ومتروكة لحالها، تعاني الغربة والإقصاء، في وسط كان من المفروض عليه أن يحتضنها ويفتخر بالانتماء إلى هويتها الأمازيغية العريقة. هوية تشهد عليها المعطيات التاريخية والجغرافية واللسانية والحقوقية والأنطربولجية والسوسيولجية، وغيرها من الحقائق العلمية. شهود لا يشك في عدالتها ونزاهتها إلا مغفل، سلبت منه الإديولوجيا وعيه الحقيقي، وحجبت عنه رؤية الوقائع كما هي، لا كما يريد هو أو يظن. لكنه رغم هذا الإجحاف، ورغم كل محاولات الاحتواء والتقزيم والتحقير والتبخيس والتخوين، فقد بقيت الأمازيغية تدافع عن شرفها واثقة من وجودها، في الوقت الذي اختفت فيه العديد من اللغات القديمة التي مرت عبر شمال أفريقيا، حيث تعايشت معها الأمازيغية منذ قرون خلت. لقد رحلت الفنيقية واليونانية واللاتينية والفرعونية والعبرية والوندالية، وبقيت الأمازيغية صامدة في وجه عوامل التعرية الثقافية واللغوية القاسية، وهذا كله لسبب بسيط واضح، هو أن الوجود الأمازيغي على هذه الأرض، وجود طبيعي وأصيل وعميق، أصالة وعمق تجسده يوميا أصوات حرة وملتزمة، تنثر بذور هذه الثقافة العريقة والمتسامحة حيثما ولت وجهها، مستثمرة في ذلك آليات فنية ورمزية ومعرفية، كالكتابة – بمختلف اللغات – والشعر والموسيقى والطقوس الدينية والاجتماعية، حريصة في ذلك على حفظ الموروث من القيم ومكارم الأخلاق، ونقله إلى الأجيال اللاحقة، في عالم ينسلخ تدريجيا عن هويته الإنسية والثقافية، وينجرف نحو هاوية الانحطاط والخواء الروحي. ويشكل الشعر / أمارك أهم المداخل الفنية لتصريف منظومة القيم الأمازيغية، على اعتبار قيمته التاريخية وشعبيته العريضة في الوسط الأمازيغي. وفي هذا الإطار يلمع واحد من النجوم التي أضاءت سماء عالم الشعر والفن الأمازيغي المعاصر، إنه الفنان الملتزم مولاي علي شوهاد شاعر المعشوقات الخمس: الحرية – الطبيعة – التراث – الشعر – الجمال.مسيرة إبداعية حافلة بالعطاء الغزير والكلمة الأصيلة لمدة ثلاثة عقود، لكنها لم تحظ بالمواكبة النقدية والدراسية الكافية، وبالتغطية الإعلامية المنصفة من قبل منابر إعلامية كان من الواجب عليها أن تكون جسرا أمينا بين المجتمع وبين المنشغلين بقضاياه الثقافية والمصيرية عوض الانغماس في سلوكات شاذة، متجاهلة الواقع وحقائقه الصارخة، بإصرارها على سياسة الانتقاء والتمييز، سياسة لسان حالها يقول: «إلاد ؤرشاش نواضو إسار إسنخليف، إغ إسو يات تسكا غ إكران إفل تياض». كانت البداية عند علي شوهاد مع «أسايس / أسرير». هذا الفضاء الثقافي والفكري الذي تميز به المجتمع الأمازيغي، يشكل ملتقى عموميا لتداول الأفكار وتكريس ثقافة الحوار، وممارسة الشعر والموسيقى والرقص والغناء. إنه بحق مدرسة نموذجية لتلاحم الفن مع الفكر، حيث يعبر ليس فقط عن قيم الجمال وحاجات الترفيه والتسلية، وإنما يجسد أيضا المكانة المركزية التي يشغلها البعد الثقافي والرمزي في حياة الإنسان الأمازيغي، كما يعبر عن مدى وعي هذا الأخير بذاته وبواقعه. لقد كان إذن ل «أسايس» أثره القوي في صقل مواهب علي شوهاد وشحذ قريحته الشعرية، وإرشاده إلى مجموعة من الروافد الفنية والرمزية، التي سيستثمرها في تشييد عالمه الشعري والفني المتسم بخصوصيته الصوفية – التأملية وكثافته الرمزية – الخيالية. أسس علي شوهاد مجموعة «أرشاش» رفقة نخبة فنية متألقة مكونة من الحسين وخاش، ابراهيم اسكران، محمد الصالوت، والمرحومين عزيز الهراس وعبد الكبير شوهاد. وبميلاد أرشاش- الأسطورة، فتحت أبواب النافذة التي سيطل منها علي شوهاد على العالم بألغازه وتأملاته الشعرية حول حركية الوجود وصيرورة الزمن، منخرطا في رحلة سرمدية من التساؤلات الأنطولوجية التي لا تتوقف عند حدود الأحكام الدوغمائية الجاهزة والمقولات السطحية المبتذلة، وإنما تتطلع إلى استكشاف الأعماق، وإشباع هذا الحرمان الوجودي المزمن عبر فسحة الأمل ونزهة الشعر، حيث هناك تجري أحداث المطاردة الدائمة لذلك المجهول الذي يحير الذات، وحيث تتجسد الكينونة الجوهرية للإنسان، ككائن يتميز برغبته الأزلية في تجاوز الكائن نحو الممكن: «يوف إغك ؤر ؤفيخ، اكا بدا نترجو ليغ راسول افخ». إن اللافت في هذه التجربة الشعرية – الفنية الرائدة هو قدرتها على الإصغاء إلى نداء الذات وهمس الوجود وحس الطبيعة، في زمن الضجيج والصخب والاستلاب. إنها تجربة يعرف صاحبها كيف وأين ومتى تكون الكلمة، وكيف وأين ومتى يكون الصمت، ويرى بأنه من يتجرأ على حرق مراحل الزمن وتجاهل نواميسه، سيحرقه الزمن ويتجازه التاريخ: «وانا إسوقن كين إ وساي نس إميك ضوفنت، أد ؤر ياسي ما راس إطار لعوان إكز أكال». ومن هذا المنطلق يدرك بعمق معنى المقولة « لزوم الصمت في أوقاته ضروري حتى يسمعنا الآخرون»، ويعي جيدا أن الصمت هو الكلمة بعينها في سموها وطلاقتها وتحررها، وليس بالضرورة نفيا لها أو انسحابا منها: «إخ ياد انا يان ؤكرخ مدن إنا ؤكرناخ، إك أركاز اكان لمسكين أور أسوكت أوال». إننا أمام مدرسة فنية، تتغيى الغوص في فلسفة الشعر والفن سعيا، من خلال ذلك، إلى استبطان البعد التراجيدي للوجود، وما يتولد عنه من حالات الاغتراب والقلق الوجودي لدى الذات. «أجانخ أودي أجانخ ؤكان إما أزمز أد، إخف إنو كاد ؤحلخ». وانطلاقا من هذا الوضع المأسوي، سيرتبط الشعر بصورة أخرى معاكسة للصورة التراجيدية السابقة، حيث سيبرز هذه المرة كرهان تتمسك به الذات في سعيها لاستيعاب توتراتها، وتطلعها نحو السلام والاستقرار، فيتدخل لتخفيف حدة التوتر عن طريق عقد نوع من المصالحة والتعايش بين الذات وتناقضاتها، لدرجة قد نصبح فيها أمام حالات من عشق الهم والتغني به، عشق الموت، عشق الألم.... « تشومعيت تجدرت إخف نم ؤر نري غمكاد، ليغ إلكم لاجال نم إكام لحال لعيد». إنها المفارقة الغريبة التي يطرحها الشعر/ أمارك: الأنس والحزن، الألم والأمل، السكون والتوتر...، وقد تحدث عنها الشاعر كثيرا: «تودرت نومدياز أيسنطاق غ ؤمارك إنات، أر إزور إواوال ألا لاي لا لا أد حنون، يان غيل كرا وطان إجي نغ إسمد وطاني ...» ولعل قصيدة / أغنية «أمارك» تمثل نموذجا رائعا لتجسيد هذه الازدواجية، ومطلعها «ؤر إكي ؤمارك ماد إتزي يان أت نسرس...» وهكذا فقد نجحت هذه التجربة الإبداعية في خلخلة مجموعة من التصورات النمطية حول الفن- بصفة عامة – ووظائفه، والتي سادت بسبب الممارسات الفنية المتسمة بطابعها الفرجوي – الفلكلوري والنفعي، وباختزالها للفن كشكل من أشكال الترفيه والتسلية والاسترزاق. ولذلك فالأداء الفني والشعري عند علي شوهاد لا تحركه هواجس الربح والمكافآت والنجومية وكسب الجماهير، وإنما هو أداء ينطلق متحررا من هذه الأغلال المادية الثقيلة، ملتزما بقناعة مبدئية، لا تزعزعها تقلبات الدهر، بسمو الرسالة الفنية، ويتحرك من منطلق الوعي بأن المبدع الحقيقي لا ينبغي له أن يخضع لأحكام الآخرين وإملاءاتهم. ولهذا نجد خطابه الشعري والفني نقديا بامتياز، تتكاثف فيه نبرة التحدي والاعتزاز بالذات، سواء على مستوى نصوصه الشعرية أو على مستوى العناصر الموسيقية والغنائية. يمكن أن نقول إذن بأن مولاي علي استطاع أن يجترح لنفسه موقعا، يكون الأداء من خلاله محرجا ومتورطا، بنقد المعايير السائدة والخطابات المزيفة والمؤدلجة، وبانفلاته الدائم من قبضة الاستلاب، ووقوفه في وجه الهيمنة بمختلف تجلياتها المادية والثقافية والسياسية، رغم ما قد يسببه له ذلك من إقصاء وتهميش: «كيخ ؤكني لفرغان نيك أمو صحان .... كيخ لباز يورو باباس ياسيتن وول نس، تفيي ؤر إلين إدامن ؤر أيي تيميم» ولا شك أن تجربة إبداعية هذه هي خصوصياتها، تجعل الذات المتفاعلة تستشعر وجود عمق فلسفي ترتكز عليه، ورؤية فكرية واعية تتأطر بها. فرغم الالتباس الذي تثيره دائما العلاقة بين الشعر والفكر، إلا أنه في عالم مولاي علي يغدو الشعر تحليقا في ملكوت الحكمة والتأمل، وتفلسفا في سرادب اللغة والكلمة: «ؤرجو بنيخ إغربان فلغرم ؤلا أكال، أرقازح أرد ياك لساس/إسلي أسيخ فلاس». وهكذا نجد القصيدة / الأغنية الشوهادية / الأرشاشية تنضح بإشارات فكرية مشرقة وأحاسيس وجدانية صادقة، كما أنها تفيض جمالا وبهاء على مستوى أشكالها الفنية والبلاغية، ولم يكتف الشاعر الفنان بهذا وحده – وكأن مواهبه الفنية الأخرى تدفعه في اتجاه البحث عن موقع لها داخل مسيرته الإبداعية- فعمل على أدائها في قوالب غنائية بألحان عذبة سلسة تشنف الأسماع وتغوي العقول، فزادت بها سموا وهيبة، في إطار تناغم عجيب مع نغمة الأوتار وتلاحم وجداني مع مناجاة الإيقاع المستلهم من عوالم «أسايس»: أهنقار – أجماك – أوزال – أكناو – سايسلا، واللائحة طويلة، ومن حين لآخر تخترق هذه الأجواء الروحية آهات حزينة، تثير صورا في المخيلة، لكنها تنفلت من قبضة المنطق، وتتمرد على مقاييس العقل، فتستشعر الذات مع هذا الزخم من التراتيل والترانيم، شبكة من أحاسيس: الوجد والحنين والسكر والانتشاء والخشوع والهيام، وهكذا تصبح القصيدة / الأغنية مع علي شوهاد شيئا لا يمكن امتلاكه والإحاطة به، شيء يتمتع بصيرورة غير قابلة للنفاذ، شيء يتحقق معه الإدراك الجمالي بما هو استسلام الذات المتلقية لسحر الذات المبدعة. وهنا نتوقف لنتساءل عن سر هذا النجاح الذي حققته أرشاش، واستمراريتها في مسيرة الإبداع الأصيل بأسلوبها الخاص متحدية جميع الصعوبات، من أجل تقديم الجديد والأفضل في جميع إطلالتها الإبداعية، هذا في وقت تعثرت فيه، مع الأسف، مسيرة العديد من المدارس الفنية المشهورة والمرموقة. إن سر هذا النجاح الباهر يكمن – في نظرنا—في ثلاث عوامل أساسية وهي: أولا: الحضور القوي للشخصية الإبداعية لمولاي علي، شعرا ولحنا وغناء. فمولاي علي هو الخزان الشعري للمجموعة، وأسلوبه الشعري المبني على الرمزية وكثافة التصوير، إضافة إلى غزارة حمولته الفكرية والثقافية، وتشبعه بالقيم الحضارية الأمازيغية، هو الذي منح للمجموعة تميزا شعريا عن باقي المدارس الفنية الأخرى. أما على مستوى الغناء، فحضور صوت مولاي علي في أرشاش يمنح لهذه الأخيرة لمسة ساحرة، على اعتبار قدراته الغنائية المذهلة وتحكمه العجيب في النبرة إلى حد جعلته يمارس نوعا من التفلسف حتى في الغناء والأصوات، ويرجع هذا إلى إتقانه للارتجالات الصوتية، وتميزه بمساحة صوتية واسعة تخول له التنقل بين المقامات الغنائية بدون عناء كبير. كل هذا يجعل الأداء الغنائي عند مولاي أداء خصبا لا يمكن الملل منه، بحكم هذا الغنى والتنوع الصوتي. ثانيا: النوتة الموسيقية العذبة المميزة لأرشاش، والتي يعرف الفنان الكبير الحسين وخاش كيف يصل إليها، ويعتصرها من أعماقه، ليوقعها بأنامله الساحرة على الآلة الموسيقية. هذا العازف الماهر المعروف بعبقريته المذهلة في مداعبة الأوتار، وقدرته الفائقة على النفاذ إلى أعماق النفس بمعزوفاته وتقاسيمه البديعة. ثالثا: الأداء الغنائي الجماعي، وهو طبعا خاصية أساسية تميز أرشاش، كمدرسة فنية تنتمي إلى «فن المجموعات» – في مقابل «فن الروايس»- إلا أن ما يميز الأداء الجماعي عند أرشاش هو ذلك الانسجام والتناغم الرائع بين مختلف الأصوات، إضافة إلى المهارة والاحترافية في توزيع الأدوار الصوتية، مما يضفي على الأغنية بعدا جماليا تعدديا، يحميها من السقوط في منزلق الرتابة والملل – نستحضر في هذا السياق مثلا أغاني « نملت» و» فكتاخ لوصيت»، كما نشير هنا إلى بعض الأدوار المميزة التي أداها وخاش في « إزاكي زمان» و» إليق نيت لعاقل» وهذا التناغم بين الأصوات والاحترافية في توزيعها، يردان إلى كونها جميعا تنحدر من منطقة جغرافية – فونولوجية واحدة، يطبعها الصوت الجبلي، ويتقاسم أصحابها تربية فنية مشتركة، تمتد جذورها إلى «أسايس / أسرير»، دون أن نغفل طبعا الدور الذي لعبته التجربة الفنية التي جمعتهم طويلا، وكان لها أثر كبير في صقل مواهبهم الغنائية، وفي تطوير حسهم الفني، وبالتالي تحقيق الانسجام والتكامل بينهم عند الأداء. وهكذا فالحديث عن وجود مجموعة أرشاش بهيبتها التاريخية، لا يمكن أن يكون موضوعيا بدون وجود شخصية مولاي علي، هذه الشخصية المتعددة المواهب التي خلفت بصمات واضحة في إبداعات أرشاش طيلة العقود السابقة، وكان لها الدور الريادي في حسم المسار الفني الذي سلكته هذه المجموعة، فعلى هذه الأخيرة أن تدرك صراحة وبروح فنية عالية بأن استمرارية أرشاش كمدرسة شامخة ومحترمة في الشعر الأصيل والموسيقى العريقة والقيم النبيلة، رهين بحضور هذا الصوت الفني العظيم، وهذا لا يعني أن دور الأصوات الأخرى ليس أساسيا، ذلك أن جمالية وسمو الخطاب الأرشاشي يكمن أساسا في تعدد وتنوع صناعه- وهذا طبعا في حد ذاته يبعث برسالة عميقة حول أهمية قيم التعددية وثقافة التشاركية في تحقيق النجاح والمردودية- إضافة إلى ذلك التفاعل والتكامل الفريد بين مختلف بنياته الشعرية والغنائية والموسيقية، بل وحتى السيميائية. على أرشاش إذن أن تعي بأنها ليست مجرد لحظة فنية عابرة، أو مجموعة غنائية عادية، ينحصر وجودها وتأثيرها في دائرة الفن والغناء، بل تتجاوز ذلك بكثير، لتتدخل في تشكيل الوعي الهوياتي، وإغناء الحقل المعرفي الأمازيغي بمعطيات لغوية وثقافية هامة، يمكن لها أن تعزز البحث اللساني والأنطربولوجي والسوسيولوجي هي هذا الميدان. ومن هذا المنظور يتعين على المجموعة أن تكون في مستوى الرسالة العظيمة التي تحملها، وأن تدرك بأن أرشاش لم تعد ملك نفسها تتصرف فيه كما تشاء، بل تعدته لتصبح ملكا للثقافة المغربية برمتها، بل ملك الإنسانية جميعا. لقد صمدت أرشاش طيلة العقود السابقة، رغم التهميش الرسمي والإقصاء المؤسساتي، فجسدت لنا نموذجا أخر في صمود الذات الأمازيغية الحرة، بعد النموذج الرائع الذي رأيناه في قصيدة «أركان». لقد استمرت أركان في الصمود، فلتستمر أرشاش...وفي الختام تحية تقدير وإكبار إلى كل المبدعين الشرفاء، وفي مقدمتهم عميد أرشاش مولاي علي شوهاد.
|
|