|
مولاي محند والحركة الريفية (الجزء الثالث) بقلم: القجيري محمد قد يكون ملف لجوء المخزن لسلاح الغازات السامة ضد المقاومة الريفية من بين الملفات الشائكة وغير المؤكدة رغم الاستنتاجات التاريخية ورغم وجود بعض الحجج والأدلة التاريخية والوثائقية التي تشير إلى تورط المخزن إلى حد ما بجانب اسبانيا وفرنسا في الحرب القذرة، لا سيما بعدما اكتشفت بعض الأدلة التاريخية من أرشيف أركان العامة للجيش الألماني التي ظهرت إلى الوجود في سنة 1990، والتي تشير إلى تورط اسبانيا في قصف الريفيين بالغازات السامة. ومعلوم أن المخزن كان يحارب إلى جانب اسبانيا، وبالتالي لا نستبعد لجوءه هو أيضا للغازات السامة. إن ما يثير الشكوك أيضا في تورط السلطات المخزنية في حرب الغازات السامة بالريف هو سكوتها عن هذه الحرب دون اتخاذ أي موقف لصالح ضحايا الغازات السامة، علاوة على تضييقها على كل من دافع عن ضحايا هذه الغازات أو حاول النبش فيها كما حصل مع جمعية الدفاع عن ضحايا الغازات السامة التي منعت من تنظيم ندوة دولية حول آثار الغازات السامة على الطبيعة والإنسان في أبريل 2001 ويناير 2002 بالحسيمة. وعن أسباب هذا المنع يقول الدكتور سيباستيان بالفور الذي كان مقررا أن يشارك في الندوة «إن منع الندوتين حول حرب الغازات السامة بالريف راجع بالأساس إلى تورط السلطان في هذه الحرب ضد حركة التحرير لمحمد بن عبد الكريم»(31). وهنا نتساءل كيف يعقل أن تمنع عقد الندوات في الحسيمة حول حرب الغازات السامة بالريف في حين تناقش وتعقد بالجارة الإسبانية، بل أكثر من ذلك تناقش داخل البرلمانات الإسبانية. كما حصل مؤخرا في يوم 26 يوليوز 2005 عندما طرح حزب اليسار الجمهوري الكطلاني ملف الغازات السامة بالبرلمان الاسباني (cortes) وقدم عضوان بالبرلمان المحلي الكطالوني ملتمسا إلى حكومة ثباتيرو يسائلها حول أسباب استعمال الغازات السامة ضد المقاومة بمنطقة الريف. والذي حظي هذا الملتمس بالموافقة داخل البرلمان الكطالوني، هذا بالإضافة إلى أن العضوين الكطالونيين حثا الحكومة نفسها على الاعتراف بجرائمها التاريخية بالريف. وبعد تقديم هذا الملتمس، نظم الحزب نفسه ندوة صحفية بمقر البرلمان بحضور إلياس العماري، رئيس جمعية الدفاع عن ضحايا حرب الغازات السامة بالريف، وحمّل المشاركون في الندوة الدولتين الإسبانية والمغربية مسؤولية ما لحق بالمنطقة الريفية من أضرار ناتجة الحرب التي لا زالت امتداداتها قائمة لحد اليوم، وأكثر من هذا هناك من نادى بضرورة الاعتذار للشعب الريفي عما صدر عن دولتهم من إرهاب في حق سكان الريف عندما قصفوا وأبيدوا بالغازات السامة. وكمدخل للمصالحة مع الريف يجب على الدول المشاركة في حرب الغازات السامة بالريف الاعتراف بهذه الجريمة الشنعاء والالتزام بكل ما يترتب عن هذه الاعترافات. لكنه ثمة سؤالا يطرح نفسه بإلحاح: إلى متى ستبقى هذه الدول المتهمة في حرب الغاز بالريف غير معترفة ومعتذرة للشعب الريفي الأمازيغي باستعمالها للأسلحة الكيمياوية المحظورة عالميا حسب معاهدة جنيف سنة 1925 التي حظرت استعمال الغازات السامة في الحروب؟ فإلى متى ستتعقل هذه الدول وتواجه تاريخها بشجاعة وتقدم الاعتذار للشعب الريفي كما فعلت إيطاليا عندما اعتذرت للشعب الاثيوبي في سنة 1996، بسبب استعمالها للغازات السامة بأثيوبيا في سنة 1935 و 1936، أيام إيطاليا الفاشية، وأيضا عندما قدم رؤساء أمريكا الاعتذار للأفارقة عما اقترفوه أجدادهم في السابق من إجرام في حق الأفارقة السود عندما كانوا يشحنون إلى أمريكا كعبيد. وكذلك عندما اعتذر الألمان والاسبان للشعب اليهودي عما ارتكبوه في السابق من إبادة جماعية في حق اليهود أيام محاكم التفتيش السيئة الذكر، والجدير بالذكر هنا أنه في أواخر سنة 2005 صادقت دول الأمم المتحدة بالإجماع على قرار لتحديد ذكرى محرقة اليهود التي ارتكبتها ألمانيا النازية آنذاك، وذلك كل يوم 27 يناير من السنة. وهذا القرار يدعو جميع دول العالم لبرامج تربوية لترسيخ فكرة المحرقة لدى الأجيال. وبهذا سيكون يوم 27 يناير من كل سنة، يوما عالميا للاحتفال بذكرى المحرقة اليهودية. والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا هو لماذا هذه «الحكرة" للريف والأمازيغ عامة الذين لم يحصلوا على أي اعتذار في التاريخ من المجرمين والقتلة الذين ارتكبوا أبشع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بمنطقة تمازغا منذ أزيد من 14 قرنا مرورا بفترة الإرهاب العربي الأموي ووصولا إلى فترة وريثه الإرهاب المخزني، الذي حارب في العصر الحديث إلى جانب الاستعمار الفرنسي-الاسباني وشارك معهم في قصف الريفيين بالأسلحة الأكثر فتكا في التاريخ، التي لولاها لما انهزم الجيش الريفي ولما استسلم مولاي محند للقوات الفرنسية، وقد أورد في هذا الصدد الكاتبان الألمانيان رودبيرت كونز ورولف دييتر مولر في كتابهما المشترك "ألمانيا، اسبانيا وحرب الغاز في المغرب الاسباني 1922-1927" أنه من الممكن أن لا يستسلم محمد بن عبد الكريم الخطابي وتواصل الحرب لولا استعمال الغازات السامة التي كانت إرهابا على الإنسانية جمعاء"(32). فبهذه الطريقة وضع التحالف الأمبريالي حدا لطموح مولاي محند في إرساء مشروعه الجمهوري وأنهى ما أبدعه من طريقة جديدة في مواجهة الاستعمار، وهي حرب العصابات التي أخذت عنها كثير من الشعوب التي كانت تحت الاحتلال ويستحيل مواجهة هذا الاحتلال بالطرق التقليدية ونخص بالذكر منها الفيتنام بقيادة هوشي منه والصين بقيادة ماوتسي تونع ودول أمريكا اللاتينية بقيادة تشي كيفارا وآخرون... مولاي محند من الاستسلام إلى المنفى السحيق: لقد أدت الانتصارات العسكرية المتكررة التي حققتها القوتان الاستعماريتان الفرنسية والإسبانية، ضد حركة المقاومة الريفية بقيادة مولاي محند، إلى استسلام بعض القبائل الريفية التي ساهمت في تشتيت الجيش الريفي، وجعلت مولاي محند وبعض رجال المقاومة يفكران في إيقاف الحرب، ويفاوضان القوات الفرنسية حول شروط الاستسلام التي حددت كما يلي: -ين: إصدار عفو شامل على جميع المقاومين. -سين: السماح لرجال مولاي محند بالعودة إلى قبائلهم دون متابعة أو انتقام -كراض: إرجاع الأسلحة الثقيلة مقابل الاحتفاظ ببندقية لكل أسرة. -كوز: التزام مولاي محند بمغادرة بلاد الريف والإقامة في بلد أجنبي من اختياره يقبل بمنحه صفة اللاجئ السياسي رفقة أفراد أسرته وكل من رغب في مرافقته. وطبعا بعد أن منح قائد القوات الفرنسية بتركيست الجنرال إيبوس وعده بالأمان لمولاي محند وضمانة من فرنسا لحمايته وحماية عائلته ورفقائه والمحافظة على ممتلكاتهم العقارية بالريف، اضطر قائد الريف أن يستسلم للقوات الفرنسية بتركيست في فجر يوم 27 ماي 1926، وعند وصوله إلى مقر القيادة الفرنسية في تركيست استقبله الجنرال إيبوس وأركان حربه قائلا له: «باسم القائد العام للقوات الفرنسية المارشال بيتان أرفع يدي بالتحية العسكرية للرجل الذي حاربنا بشرف وأوقف الحرب بشرف»(33). غير أن حرب الريف لم تنته باستسلام قائدها بل بقيت مشتعلة إلى غاية 10 يوليوز 1927. وهو التاريخ الذي أعلن رسميا عن نهاية حرب الريف. أما فيما يخص مصير قادة الريف الذين فاوضوا فرنسا حول شروط الاستسلام فبعد أن أصبحوا في قبضتهم خرقت فرنسا شروط الاستسلام عندما صادرت الأراضي التي تعود إلى أسرة مولاي محند وأيضا أسرة رجال المقاومة وذلك وفق الظهائر الشريفية التي أصدرها الخليفة مولاي الحسن بن المهدي بن اسماعيل وأيضا خرقت شروط الاستسلام عندما خرقت فرنسا شرط المنفى الاختياري الذي أراده مولاي محند، وكذلك عندما فرضت فرنسا الإقامة الإجبارية على رجال المقاومة. فهذا الذي كان وزيرا للخارجية الريفية محمد أزرقان فرضت عليه الإقامة الإجبارية في الدار البيضاء، وبوجيبار في الجديدة. ومحمد بن علي الشهير بالفقيه بولحية في آسفي، والقائد حدو في الصويرة. هكذا نكثت فرنسا بعهدها واقتادت مولاي محند إلى فاس تحت الحراسة المشددة. ووضعته في سجن فاس لمدة ثلاثة أشهر في انتظار قرار الحكومة الفرنسية بشأنه، وبهذه المناسبة المشؤومة احتفل السلطان مولاي يوسف مع فرنسا بالقضاء على ثورة الريف وشكر فرنسا كثيرا على أنها خلصته من «فتان» و»شيطان» الريف كما دأب السلطان يوسف يصف مولاي محند، وقد بعث في هذا الصدد برقية جوابية إلى الجنرال تيودر استيغ جاء فيها «إن برقيتكم قد غمرتني بالسعادة، لأننا نرى في هذا الحدث نهاية التضحيات التي قدمتها فرنسا والمغرب من أجل الأمن وعودة السلام»(34). وخلال تواجد مولاي محند في سجن فاس زاره سلطان المخزن مولاي يوسف ودار بينهم حوار ساخن ومن بين ما ذكر وقيل عن هذا الحوار حسب الروايات الشفوية أن مولاي يوسف فاجأ مولاي محند في سجنه وقال له: «لقد جاؤوا بك يا فتان الريف». فما كان من مولاي محند إلا أن أجابه بقوله: «لقد جئت يا أسير فرنسا». وبحكم أن مولاي محند كان أميرا على الريف ورئيسا لدولة الريف الأمازيغية فإنه لم يكن يعترف بالسلطان يوسف الذي لم يكن سوى دمية بين أيدي الفرنسيين والذي كان موقفه عدائيا تجاه القضية الريفية وكان كثيرا ما يصرح بأن الريفيين ليسوا منه حيث كان يقول: «إنني لا أعرفهم»(35). حسب التصريحات المنسوبة إليه في الصحف الفرنسية، وبسبب هذا العداء والحقد الذي يكنه يوسف للريفيين، فقد كانت علاقة مولاي محند جد متوترة مع يوسف ولم يكن يعترف به كسلطان وقد صرح في هذا الصدد مولاي محند للصحافي سكوت مورمايالي «الريف لا يعترف بسلطة مولاي يوسف الآن وفي المستقبل. سيادة مولاي يوسف على المغرب أسطورة قررت القوى الكبرى أن تؤمن بها، ولكننا نعلم أن يوسف هو سجين الفرنسيين وأنه لا يستطيع ولا يريد أن يقوم بأية مبادرة باسمه، نحن لا نريد الاعتراف بسيادة أي أسير، حتى لو حمل لقب سلطان، وعدا عن ذلك فإن لقب يوسف على العرش مشكوك فيه منذ أن خلع الفرنسيون إثنين من إخوته ونصبوه»(36). وعودة إلى مصير مولاي محند بعد استسلامه فقد انطلقت في باريس المباحثات بين الحكومة الفرنسية والحكومة الإسبانية لتقرير مصير مولاي محند. حضر قسما من هذه المباحثات سلطان المخزن يوسف وباي تونس، اللذان كانا في زيارة رسمية لفرنسا للاشتراك في احتفالات العيد الوطني الفرنسي في يوم 14 يوليوز 1926. والغريب في الأمر هنا هو أن كل من يوسف وباي احتفلا بالعيد الوطني للاستعمار الفرنسي في حين كانت تونس والمغرب تحت الاحتلال الفرنسي وليس لهما أي عيد وطني اللهم إذا استثنينا عيد الاحتفال بعقد الحماية الاستعمارية لحماية كراسي العملاء. وفي خضم أجواء هذا الاحتفال الفرنسي شارك السلطان يوسف إلى جانب رئيس الجمهورية الفرنسية، وأيضا إلى جانب الجنرال الاسباني بريمودي ريفيرا الذي حضر للتوقيع على الاتفاقية المتعلقة بمصير مولاي محند والذي نال هو أيضا نصيبه من الاحتجاج والصفير المنظم بإحكام من طرف الشيوعيين خلال استعراض الجيوش الفرنسية لقوتها وأيضا للاحتفال بالقضاء على دولة الريف الأمازيغية. وفي هذه الأجواء بالذات وغمرة فرحة السلطان يوسف والفرنسيين والإسبان بالقضاء على ثورة الريف وأيضا بالاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي (14 يوليوز) استغل يوسف الحدث وألقى خطابا بمناسبة مأدبة الغذاء المرافقة بكؤوس الشراب، وهذا نص المداخلة: «إنه لمن دواعي الامتنان العظيم أن نلبي دعوة حكومة الجمهورية الكريمة للقدوم إلى فرنسا. وبعد الانتصار السحيق للجيوش الفرنسية ولقواتنا، والتي وضعت حدا لتمرد هدد دولتينا، وإعادة الأمن والسلام إلى الأمبراطورية الشريفة، يسعدنا أن نعبر لسعادتكم عن عميق تأثرنا الذي أحسسناه هذا الصباح ونحن نتأمل أمام ضريح البطل المجهول موكب الجنود، إخوة الذين أنجزوا في إمبراطوريتنا جليل الأعمال وبرهنوا على الشجاعة وطاقة التحمل، ويسرنا كذلك أن نعبر لكم عن عظيم عرفاننا لفرنسا حامية المغرب، على ما قامت به من مجهود جبار لتحقيق مهمتها الحضارية في بلدينا (...) نحن ورعايانا لن ننسى أبدا مدى التضحيات العظمى المقدمة من طرف فرنسا، للتعبير عن حقيقة الحماية التي اعترفنا بها بكل صدق (...) أقدم لكم سيدي الرئيس كل تمنياتي لسعادتكم الشخصية، وأرفع كأسي لعزة فرنسا وازدهارها»(37). وبخصوص المباحثات الفرنسية الإسبانية حول تقرير مصير مولاي محند التي انطلقت في يوم 14 يونيو 1926، فقد استمرت شهرا كاملا، بسبب الخلاف الذي برز بين المعسكر الفرنسي والمعسكر الاسباني المدعم من طرف المخزن المغربي، فالمعسكر الأول كان يريد إبقاء مولاي محند معتقلا في المغرب، أو إبعاده إلى فرنسا، في حين كان المعسكر الثاني يصر على أن يكون مصير مولاي محند نفيا أبديا بعيدا عن الريف وعن شمال إفريقيا كلها. بعدما كان هذا المعسكر الإسباني المخزني في السابق يطالب بمحاكمة مولاي محند كمجرم حرب!! ومن ثمة إعدامه، فمثلا لو كان مولاي محند في حكم وقبضة السلطان يوسف لكان مصيره وحتفه التعذيب ثم الإعدام على الطريقة البوحماروية، نسبة إلى بوحمارة الذي اعتقل في الريف وأخذ في قفص إلى فاس وأعدم هناك بأمر من السلطان عبد الحفيظ سنة 1909. إذن بعد مفاوضات عسيرة بين ممثلي فرنسا واسبانيا اتفق الجانبان على أن يكون مصير مولاي محند نفيا أبديا في إحدى المستعمرات الفرنسية في جزيرة منعزلة بالمحيط الهندي تسمى لاريونيون (la réunion) كما اتفق الجانبان أيضا على أنه لا يمكن تنفيذ أي مقترح يخص مصير مولاي محند إلا بموافقة الطرف الآخر. رغم احتجاج ومعارضة بعض المتطرفين الاسبان والمخزنيين الذين كانوا يطالبون بإعدامه، وبهذا فإن مولاي محند كان محظوظا جدا لأنه لم يتعرض سوى للنفي. وفي هذا الصدد يقول السكرتير العام لعصبة حقوق الإنسان «كيرنو» في تقريره إنه «لا بد من التفكير في المصير الذي كان سيلقاه على يد السلطان، لو كان هذا الأخير هو القاضي الوحيد. وإذن فإن عبد الكريم كان محظوظ جدا في نهاية الأمر لكونه لم يتعرض سوى للنفي»(38). بهذا الشكل تقرر مصير مولاي محند إلى منفاه السحيق، وغادر مدينة فاس يوم 27 غشت 1926 متوجها نحو الدار البيضاء لكي تنقله باخرة «عبدة» نحو جزيرة فريول قرب مدينة مرسيليا الفرنسية. ومن هناك نقلته باخرة أخرى تسمى «أميرال بيير» إلى منفاه السحيق. وبتاريخ 10 أكتوبر 1926 وصل مولاي محند إلى جزيرة لاريونيون في المحيط الهندي شرقي جزيرة مدغشقر بأكثر من 600 كلمتر، وقضى فيها العشر السنوات الأولى في إقامة شبه إجبارية، غير أنه مع وصول الجبهة الشعبية إلى سدة الحكم بفرنسا، سمحت له بالحرية التامة في تنقلاته داخل الجزيرة مثل أي مواطن لاريونيوني، وخلال تلك الفترة راسل مولاي محند الحكومة الفرنسية عدة مرات يطلب منها مستقبله ومستقبل أبنائه كما رجاها أن تنقله إلى الريف أو فرنسا، وإذا تعذر الأمر ورفضت إسبانيا الطلب فإلى الجزائر أو تونس، غير أن الحكومة الفرنسية رفضت الطلب واعتبرت أن الوقت غير مناسب لترحيله من الجزيرة. وما بين سنة 1936 و 1946 سعت عدة دول أوربية إخراج مولاي محند من الجزيرة بهدف الاستفادة منه ومن تأثيره على شعوب شمال إفريقيا ومن ثمة استغلاله كورقة رابحة ضد مصالح فرنسا في نفس المنطقة وخاصة من طرف الألمان والإيطاليين والاتحاد السوفياتي سابقا، غير أن محاولتهم لم يكتب لها النجاح وباءت بالفشل، وإلى جانب هذه المحاولات، سعت كذلك بعض الدول العربية تحرير مولاي محند من المنفى ونقله إلى إحدى البلدان المسماة عربية في الشرق الأوسط الكبير بغية الاستفادة من شعبيته واستغلاله في المصالح العربية البريطانية ضد مصالح فرنسا وتركيا. وفي هذا يندرج قيام بعض زعماء العرب وعلى رأسهم الملك عبد العزيز آل سعود تأسيس «لجنة إنقاذ عبد الكريم الخطابي» سنة 1936، والتي استمر عملها حتى سنة 1938، برئاسة محب الدين الخطيب. وأيضا عندما طالبت المسماة الجامعة العربية بأوامر من بريطانيا بإطلاق سراح مولاي محند وباي تونس الحليف السابق لفرنسا بعد الصفقة المشبوهة التي قام بها عبد الرحمن عزام باشا، أمين عام الجامعة العربية مع بريطانيا والحكومة الأمريكية إذ مباشرة بعد عودته من نيويورك وتوقفه في باريس طالب رسميا في مؤتمر صحفي باسم الجامعة العربية بإطلاق سراح مولاي محند ليس حبا فيه وإنما من أجل المصالح العربية والبريطانية، ومعلوم أن هذه الأخيرة هي التي أنشأت المسماة الجامعة العربية بهدف القضاء على الأمبراطورية العثمانية. والجدير بالذكر كذلك أن مولاي محند كان يعتبر إنشاء الجامعة العربية فكرة خطيرة يجب الحذر منها لأن مؤسسها هو الاستعمار البريطاني، أسسها لمواجهة تركيا العثمانية. الذي كان مولاي محند معجبا بها وبكمال أتاتورك مؤسس دولة تركيا الحديثة. رحلة العودة بين المناورات المغربية وقصة النزول: في خضم الأحداث والتحولات الكبرى التي عرفتها الساحة العالمية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من تغير في السياسة والعقلية الاستعمارية، انتهجت الحكومة الفرنسية سياسة الليونة تجاه مستعمرتها وخاصة في مراكش (المغرب)، حيث عينت مقيما عاما جديدا فيها هو إريك لابون المعروف باتجاهه الليبرالي والمعتدل في سياسته، وفي خضم هذه الأحداث بالذات ظهرت عدة أصوات فرنسية من المستوى الرفيع تطالب بإطلاق سراح مولاي محند معللة ذلك بالأسباب الصحية لمولاي محند وأيضا بالأسباب السياسية....وطبعا هذه الأسباب وغيرها بلورت القرار الفرنسي القاضي بإطلاق سراح مولاي محند ونقله إلى فرنسا. وعن هذا الموضوع يقول فانسن أغيول (vincent auriol)، رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، إنه «أمام إلحاح الجنرال كاترو (catroux) وتزكية إيرك لابون (eirik labonne) عام 1946، تمت المصادقة على هذا القرار أثناء اجتماع مجلس الوزراء في فبراير 1947» (39) ومباشرة بعد هذا القرار أعلنت الحكومة الفرنسية النبأ ونشرت عدة صحف فرنسية وعالمية خبر ترحيل مولاي محند إلى فرنسا. إذن بعد أن أمضي مولاي محند 21 سنة في منفاه السحيق بجزيرة لاريونيون قررت الحكومة الفرنسية نقله إلى فرنسا، وخصصت له ميزانية جد جيدة لإقامته المؤقتة في بلدة فيلنوف- لوبيه (villeneuve- loubet) ناحية نيس، كما وعدته بحرية تامة في تنقلاته واستقباله لمن يشاء من الزوار في فرنسا. هذا والجدير بالذكر إلى أن ترحيل مولاي محند إلى فرنسا كان سيمهد لعودته إلى الريف وإعطاء للريف صلاحيات واسعة جدا تهم استقلال الريف مقابل امتيازات ومصالح فرنسية ستستفيد منها في المنطقة ضد خصمها اللدود إسبانيا. لقد كانت فرنسا تعلم علم اليقين أنها ستخرج من مراكش عاجلا أم آجلا وكانت تخشى على مصالحها بالمنطقة الأمازيغية، خصوصا وأن الاستعمار العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية بدأ ينكمش ويسقط مع حصول عدة من دول التي كانت تحت الاحتلال على استقلالها. لقد أدركت فرنسا إذن أن دورها سيأتي لا محالة ففكرت في إطلاق سراح مولاي محند للاستفادة منه بعدما أصبحت العلاقة الفرنسية المخزنية جد متوترة. وبهذا يمكن القول إن قرار ترحيل مولاي محند إلى فرنسا كان بالدرجة الأولى من أجل الضغط على محمد الخامس. يقول روبير مونطاي إن ترحيل مولاي محند كان يهدف إلى «مواجهة محمد بن يوسف، سلطان حزب الاستقلال» (40) الذي كان قد تمرد على فرنسا وبلغ مستوى التحدي السياسي في رحلته المثيرة إلى طنجة في شهر أبريل 1947، والتي كانت ردا على رحلة مولاي محند إلى فرنسا. التخوف من عودة مولاي محند إلى الريف وراء زيارة محمد الخامس لطنجة: وبخصوص الرحلة التاريخية والمثيرة التي قام بها محمد الخامس لمدينة طنجة الريفية التي لم يسبق أن زارها أي سلطان مخزني منذ نصف قرن، فقد جاءت نتيجة انتشار خبر إطلاق سراح مولاي محند من المنفى وعودته إلى فرنسا ثم الريف. وكانت بتواطؤ أنكلو سكسوني وخاصة بتشجيع بريطانيا كما عللت ذلك فرنسا حينما أكدت أن بريطانيا هي التي سعت لتحقيق زيارة محمد الخامس لطنجة، حيث كانت بريطانيا تخشى على مصالحها بهذه المدينة الريفية التي كانت تحت النفوذ الدولي تحكمها ثماني دول عظمى ومنها بريطانيا. إن زيارة محمد الخامس لمدينة طنجة من 9 أبريل إلى 14 منه من سنة 1947 قد سبقته عدة تحضيرات واسعة ومدروسة من طرف المخزن على الرغم من الظروف الصعبة والحساسة جدا والوضعية القانونية والدولية لمدينة طنجة. وعلى الرغم أيضا من الأحداث الدموية والمأساوية التي وقعت بالدار البيضاء قبل يومين من زيارة محمد الخامس لطنجة. وعن هذا الموضوع يقول شارل أندري جوليان في كتابه «المغرب في مواجهة الأمبرياليات» قائلا: «أراد سيدي محمد أن يؤكد وحدة مملكته بالذهاب إلى طنجة التي لم يسبق أن زارها أي سلطان منذ نصف قرن. وفي 7 أبريل 1947، ارتكب جنود سينغاليون من ثكنة بالدار البيضاء وبكل حرية، مذبحة في حق المغاربة بدون أن يتدخل [لمنعهم] لا الضباط ولا قوات الأمن" (41) لاشك أن المغزى الحقيقي لزيارة محمد الخامس لمدينة طنجة في هذه الظروف بالذات كان لأجل إبعاد مولاي محند عن الريف ولأجل أن يفرض هيبته على الريف بأكمله، خصوصا وأن محمدا الخامس كان يعتقد أن ترحيل مولاي محند إلى فرنسا كان سيمهد لعودته إلى الريف ليكون في مكانه أي سلطانا على الريف وعلى مراكش أيضا. وفي محاولة من محمد الخامس لاكتساب حلفاء جدد إلى جانبه، وهذه المرة من دول العربان ضد الزعيم الريفي، ألقى في يوم 10 أبريل 1947 خطابه الشهير بحدائق المندوبية بطنجة أمام أنصاره، زعم فيه أن هوية الريف عربية وأن المغرب بلد عربي ينتمي إلى الأسرة العربية وأعلن فيه عن مساندته للمسماة الجامعة العربية، التي تأسست قبل عامين بفرنسا من طرف المخابرات البريطانية. وكما هو واضح فإن خطاب محمد الخامس الذي تميز بتجاهل فرنسا كان إعلانا مخزنيا صريحا لعروبة المغرب وانتماء المغرب للمشرق العربي بدل المغرب الإفريقي أو المغرب الفرنسي كما كان سائدا آنذاك. وكان من نتائجها أن عمدت الحكومة الفرنسية إلى عزل المقيم العام بالمغرب إريك لابون في يوم 23 ماي 1947 وتعيين مكانه رجلا عسكريا هو الجنرال جوان، كما سارعت في ترحيل مولاي محند من منفاه السحيق بجزيرة لازيونيون إلى فرنسا على متن باخرة تجارية بنامية تدعى «س.س كاتومبا» المشؤومة، ونسميها بالمشؤومة لأن بها سيختطف منها مولاي محند بمصر كما سنتطرف إلى ذلك فيما سيأتي ومن ثمة سيتغير المسار التاريخي الذي كان يتجه إليه مستقبل الريف بعد إطلاق سراح قائده. مؤامرة إنزال مولاي محند بمصر: كل ما اشرنا إليه من حيثيات زيارة محمد الخامس لطنجة، رافقته أحداث أخرى، إذ مباشرة بعد وصول محمد الخامس إلى طنجة اجتمع مع علال الفاسي الذي كان إذاك تحت الإقامة الإجبارية ومع عبد الخالق الطريس رئيس حزب الإصلاح الوطني ومع محمد بن عبود مدير مكتب «المغرب العربي» بالقاهرة ورئيس الوفد الخليفي التطواني بالجامعة العربية. واتفقوا على إبعاد مولاي محند عن فرنسا والريف، حيث وضعوا خطة إفشال وصول مولاي محند إلى فرنسا. في الحقيقة مؤامرة إنزال مولاي محند بمصر تمت بالتنسيق مع المخابرات الاسبانية التي لم تكن تسمح لفرنسا باستخدام مولاي محند ضد مصالحها بالمنطقة الريفية، وأيضا بالتنسيق مع الجناح الفرنسي الموالي لأطروحة المخزن وبتواطؤ بريطاني – عربي. وهكذا بعد هذا الاجتماع، تحرك الطريس وابن عبود إلى مدريد للاتصال بالمسؤولين الإسبان لإخبارهم بخطة إنزال مولاي محند بمصر ثم بعدها طارا إلى القاهرة يرافقهما مسؤول إسباني يعمل بسفارة إسبانيا في القاهرة ثم التحقا بمكتبهم بالقاهرة المسمى مكتب «المغرب العربي» في انتظار وصول الباخرة التي تقل مولاي محند إلى قناة السويس بحوالي أسبوع. أما علال الفاسي الذي كان تحت الإقامة الإجبارية وممنوع عليه من دخول فرنسا فقد طار فجأة إلى فرنسا تحت غطاء أنه سيشارك في المهرجان الفكري الاستعماري الذي نظمه «دار الفكر الفرنسي». وفعلا شارك في هذا المهرجان، وقد كتب في هذا الصدد الشيخ محمد اليمني الناصري مقالا بعنوان «لا صداقة لنا مع الاستعمار» في جريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 21-05-1947 يقول فيه: «في الوقت الذي تبذل فيه الوطنية المغربية جهدها لعدم التورط في الارتباط بفرنسا، وفي الوقت الذي تقوم فيه فرنسا بالعدوان على مواطنينا ولا تعاقب المجرمين، في هذا الوقت بالذات وفي هذه المناسبة سافر زعيم حزب الاستقلال إلى باريس ليصرح هناك فور وصوله بقوله: "إن الفرنسيين أصدقاؤنا، وإن الشعب المغربي الذي أخلص لفرنسا في أخطر أوقاته، لن يغير موقفه منها في المستقبل وأنه يريد أن تكون فرنسا حليفته الدائمة...". هذا ما قاله علال الفاسي أو الزعيم الوطني الكبير كما يحلو للاستقلاليين تسميته في حفل تكريم أقيم له في "دار الفكر الفرنسي". ومباشرة بعد هذا الحفل التكريمي الاستعماري، اجتمع علال الفاسي مع المتآمرين الفرنسيين الموالين لأطروحة المخزن لطلب المساعدة في قضية إبعاد مولاي محند عن فرنسا والريف، ثم طار إلى القاهرة، قبل وصول باخرة كاتومبا المشؤومة بثلاثة أيام فقط إلى قناة السويس. وعن هذا الموضوع يقول محمد سلام أمزيان قائد ثورة الريف لسنة 1958: إنه "حينما زار الملك محمد الخامس طنجة، وقبل أن يصل عبد الكريم إلى القاهرة، ذهب علال الفاسي إلى طنجة واتفق مع الملك على أمور كثيرة، ومن هناك ذهب إلى فرنسا حيث اتفق مع الفرنسيين، ومن فرنسا ذهب مباشرة إلى القاهرة لترتيب إنزال عبد الكريم من باخرته في القاهرة قبل أن يتوجه إلى فرنسا كما كان مقررا من طرف الفرنسيين الذين كانوا يتوقعون أن يكون وجود عبد الكريم في فرنسا في صالحهم وضد الإسبان" (42). وأيضا ضد أطراف أخرى مخزنية وحزبية مغربية على السواء. لنعد إلى زيارة علال الفاسي إلى فرنسا التي يلفها الكثير من الغموض والاستغراب في آن واحد، خصوصا وأنها جاءت مباشرة بعد الخطاب الطنجاوي العروبي المناهض لفرنسا. وأكثر من هذا، و ما يثير الاستغراب في هذا الشأن هو التحرك السريع لعلال الفاسي إلى باريس في الوقت الذي كان فيه تحت الإقامة الإجبارية وممنوع عليه من مغادرة طنجة في حين غادرها بسهولة إلى باريس، وهذا ما يثير الشكوك في تورط الحكومة الفرنسية في رحلة علال الفاسي إلى باريس ثم القاهرة في قضية إبعاد مولاي محند عن المنطقة. أسئلة كثيرة تبقى عالقة دون أجوبة مقنعة عن هذه الفترة الغامضة والسوداء من تاريخ المغرب المعاصر، وما سنتساءل عنه نحن هنا هو هل كان هذا التحرك السريع لعلال الفاسي (وهو تحت الإقامة الإجبارية) من طنجة إلى باريس ثم القاهرة كان لأهداف وطنية محضة تتمثل في إنقاذ مولاي محند أم أن ذلك كان لأهداف تآمرية تتمثل في إبعاد مولاي محند عن الريف. غير أننا نرجح الشطر الأخير من التساؤل، خصوصا وأن مواقف علال الفاسي اللاحقة من مولاي محند كانت جد عدوانية ومناهضة له. ثم لماذا هذا السكوت الكلي عن مولاي محند أيام تواجده في منفاه السحيق بجزيرة لاريونيون لمدة تزيد عن عشرين سنة، ولم يطالب لا علال الفاسي ولا الطريس ولا ابن عبود ولا أي حزبي آخر، ولو مرة واحدة بإطلاق سراحه، لكن حينما قررت فرنسا إطلاق سراحه، رأوا أن عودته تشكل حظرا عليهم وعلى مستقبلهم السياسي، فراحوا يتآمرون عليه ويخططون لإبعاده عن المنطقة. وإجمالا يمكن القول إن التحرك السريع لكل من علال الفاسي وعبد الخالق الطريس ومحمد بن عبود إلى مدريد وباريس ثم القاهرة بعد اجتماعهم بمحمد الخامس بطنجة يبين بوضوح أن خطة إبعاد مولاي محند عن المنطقة كانت خطة مخزنية حزبية مغربية واستعمارية قام بتنفيذها علال الفاسي الذي كان يمثل السلطان في الرباط والطريس وابن عبود اللذين كانا يمثلان خليفة السلطان في تطاوين، وهؤلاء في نفس الوقت يمثلان فرنسا وإسبانيا على اعتبار أن وصولهم إلى القاهرة كان عن طريق مدريد وباريس. (يتبع في العدد القادم)
|
|