|
افتتاحية: الأمازيغية بين الإقصاء والإلحاق بقلم: محمد بودهان ظلت الأمازيغية، منذ الاستقلال إلى نهاية الألفية الثانية، مقصاة كلغة وثقافة وهوية وتاريخ وانتماء على المستوى الرسمي والسياسي، أمام الهيمنة المطلقة للمنظومة العربية الإسلامية، بمضمونها السياسي والهوياتي والتاريخي والثقافي والإيديولوجي والقومي والديني، حتى أصبح ذكر الأمازيغية يحيل دائما على الاستعمار و"الظهير البربري" وضرب الإسلام ومحاربة اللغة العربية وإضعاف الوحدة الوطنية والقومية، مما يجعل إقصاءها واجبا وطنيا وعملا مشروعا ونبيلا. كانت أول إشارة إيجابية رسمية إلى الأمازيغية بعد عقود من إقصائها السياسي هو ما أعلن عنه الحسن الثاني في خطاب 20 غشت 1994 من قرار تدريس "اللهجات الأمازيغية"، وهو أول قرار ملكي لم يعرف طريقه إلى التنفيذ. بعد ذلك أدرجت "نشرة اللهجات" في أخبار الظهيرة للتلفزة المغربية بحيز لا يتجاوز 10 دقائق. ثم جاء "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" الذي ينص بنده 115 على إمكانية تدريس الأمازيغية في السنتين الأولى والثانية من التعليم الابتدائي «للاستئناس وتسهيل الشروع في تعلم اللغة الرسمية في التعليم الأولي وفي السلك الأول من التعليم الابتدائي». كما خصص لها "الكتاب الأبيض"، تطبيقا لما جاء في "الميثاق"، حصة أسبوعية للمستويين الأول والثاني من التعليم الابتدائي. هذه كلها مؤشرات قوية تدل على تراجع في مبدأ الإقصاء الكامل للأمازيغية، وبداية لتقديم "تنازلات" لفائدتها في نوع من محاولة "المصالحة" معها و"الاعتراف" بها أمام الكفاح السلمي والثقافي الطويل للحركة الأمازيغية. إلا أن قمة هذه "المصالحة" بالأمازيغية و"الاعتراف" بها تمثلت في إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 17 أكتوبر 2001، مع ما جاء به من إدماج للأمازيغية في المدرسة والإعلام. في الحقيقة، منذ إنشاء "ليركام" (المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية) أصبحنا نألف الكتابة بالحرف الأمازيغي "تيفيناغ" ونعثر في المكتبات على كتب بالأمازيغية، ونشاهد في التلفزة برامج وأفلاما ناطقة بالأمازيغية. بل من المنتظر، كما أعلن عن ذلك، إنشاء قناة تلفزية خاصة بالأمازيغية. يجب الاعتراف إذن أن هذه المكاسب تشكل تقدما كبيرا في طريق "الاعتراف" بالأمازيغية ورد الاعتبار لها مقارنة مع ما كانت تعانيه من إقصاء ثقافي وسياسي صريح وواضح. وهكذا أصبح الكثيرون، بما فيهم نشطاء أمازيغيون، يرددون بأن "الاعتراف" بالأمازيغية أمر لا رجعة فيه، وأن تنميتها عمل جدي متواصل. إلا أن السؤال الذي لا يطرحه هؤلاء هو: بأي معنى "يُعترف" بالأمازيغية بعد عقود من إقصائها؟ وبأي معنى "تُنمى" الأمازيغية بعد عقود من تهميشها؟ لقد رأينا أن الأمازيغية كانت مقصاة منذ الاستقلال، سياسيا وثقافيا، باسم المنظومة العربية الإسلامية كهوية وثقافة ولغة وانتماء وقومية. اليوم تغيرت الأمور. فهناك قرار بـ"الاعتراف" بها ورد الاعتبار لها. لكن بأي معنى وفي أي اتجاه، كما تساءلت أعلاه، يتم الاعتراف بالأمازيغية والمصالحة معها ورد الاعتبار لها؟ إن قرار الاعتراف بالأمازيغية المتمثل في إنشاء "ليركام" من طرف السلطة الحاكمة لم يكن تلقائيا، ناتجا عن تحول داخلي وذاتي في موقف هذه السلطة من هوية المغرب وانتمائه مع الاعتراف أن إقصاء الأمازيغية كان ظلما ينبغي رفعه وخطأ يجب تصحيحه بالعودة إلى الأمازيغية كهوية للمغرب والمغاربة وللحكم السياسي بالمغرب. بل كان هذا القرار اضطراريا ناتجا أولا عن الضغط الداخلي للحركة الأمازيغية، وثانيا عن ضغط خارجي لثقافة حقوق الإنسان التي تدعو إلى ضرورة احترام حقوق الإنسان بما فيها ثقافته ولغته وهويته. أمام هذا الاضطرار إلى الاعتراف بالأمازيغية، كان على السلطة، صاحبة قرار هذا الاعتراف، أن تبحث عن الطريقة المثلى والأنجع "للاعتراف" بالأمازيغية لكن دون مساس بالأسس الهوياتية والسياسية للمنظومة العربية الإسلامية التي تنتمي إليها هذه السلطة. إنها معادلة صعبة: كيف يمكن الاعتراف بالأمازيغية مع الحفاظ في نفس الوقت على المنظومة العربية الإسلامية التي تشكل الأساس الهوياتي والسياسي للسلطة بالمغرب كما هي، دون أي تغيير أو تعديل؟ أخيرا وجدت السلطة الحل لهذه المعادلة في اعتراف بالأمازيغية بشكل "يلحقها" بالمنظومة العربية الإسلامية ويدمجها فيها ويجعلها "ملحقة" بها رافدة وتابعة لها. وهكذا يؤدي هذا الاعتراف "الإلحاقي" إلى شبه إرضاء للمطالب الأمازيغية، ولكن داخل المنظومة العربية الإسلامية. وفي إطار هذه السياسة الخاصة "بإلحاق" الأمازيغية بالمنظومة العربية الإسلامية ظهرت مفاهيم جديدة تعبر عن هذا الإلحاق وتجسده، مثل "التعدد الثقافي"، "الأمازيغية كرافد"، "التنوع"... لتصبح الأمازيغية جزء من هذا "التعدد" الذي بات يميز هذه المنظومة العربية الإسلامية، وأحد روافدها الكثيرة التي تغني تنوع هذه المنظومة الذي لم يكتشف إلا مع ظهور المطالب الأمازيغية. إنه التفاف ذكي حول الأمازيغية بهدف استمرار إقصائها السياسي والهوياتي لكن مع نوع من "الاعتراف" الثقافي واللغوي بها في إطار المرجعية العربية الإسلامية. والغريب المفارق في هذا الاعتراف "الإلحاقي" بالأمازيغية، أنه يجعل منها خادمة لهذه المرجعية العربية الإسلامية وملحقة بها مع أن هذه المرجعية نفسها هي التي استعملت لإقصاء الأمازيغية لعقود طويلة. ومن نتائج هذا "الإلحاق" وأهدافه: ـ إبطال المفعول السياسي الهوياتي للأمازيغية بتحويلها إلى مجرد مسألة ثقافية تخص اللغة والشعر وجمع التراث كما سبق أن شرحنا في مقالات سابقة ذات صلة بالموضوع. ـ الحفاظ على المنظومة العربية الإسلامية كمرجعية هوياتية وسياسية وحيدة للمغرب والمغاربة. ـ التعامل مع القضية الأمازيغية كقضية أقلية تطالب بإدماجها في نظام الأغلبية "العربية" مع الاعتراف بثقافتها ولغتها. وإذا كان أحد قرارات الاعتراف الإلحاقي بالأمازيغية، وهو تدريس الأمازيغية، قد عرف فشلا ذريعا كما يعرف الجميع، فذلك لأن مسألة التدريس، عكس تنظيم المهرجانات ولقاءات حول الشعر والتراث، يتقاطع فيها ما هو ثقافي لغوي بما هو سياسي هوياتي. ولأن ما هو سياسي في القضية الأمازيغية، وهو ما يشكل جوهرها وحقيقتها، ينبغي أن يُحيّد ويستبعد، لذلك كان لا بد أن يفشل تدريس الأمازيغية. إن "الإلحاق" يشكل أحد مظاهر "السياسة البربرية الجديدة" التي سبق أن حللت مضمونها في مناقشات سابقة. إلا أنه يجب الاعتراف أن "الإلحاق" أفضل بكثير للأمازيغية من الإقصاء النهائي الذي كانت ضحيته منذ الاستقلال. ولكن الإلحاق، من جهة أخرى، هو استمرار لنفس الإقصاء للأمازيغية على مستوى مضمونها السياسي الهوياتي الذي يشكل، كما قلت، جوهر القضية الأمازيغية كقضية سياسية أصلا وأساسا. ومع هذا الإقصاء تضمن السلطة السياسية بالمغرب استمرار وجودها العروبي سياسيا وهوياتيا. وهو ما يتناقض كلية مع مطلب استعادة الهوية الأمازيغية للمغرب وللمغاربة المشروطة بتحويل الأسس العروبية للسلطة إلى أسسها الأمازيغية الحقيقية. فالمفارقة في مسألة الاعتراف الإلحاقي بالأمازيغية الذي دشنه إنشاء "ليركام" هو الاعتقاد بإمكان رد الاعتبار للأمازيغية دون أي تغيير يطرأ على المنظومة العربية الإسلامية. وهذا ما يلغي رد الاعتبار المزعوم للأمازيغية، لأن المغرب لا يعرف هويتين إثنتين، إحداهما عربية إسلامية وأخرى أمازيغية حتى يمكن الاعتراف بأحدهما بجانب الأخرى كما في بعض الدول التي تعرف تعددا في الهويات. وبالتالي فإذا كان المغرب عربيا إسلاميا في هويته، فهذا يعني إقصاء للأمازيغية ولو كان هناك "اعتراف" ثقافي ولغوي بها كـ"رافد" لهذه الهوية التي تبقى عربية إسلامية. فالطبيعي هو أن يكون المغرب أمازيغيا في هويته وانتمائه وتكون الثقافة العربية الإسلامية رافدا لهذه الهوية الأمازيغية الأصلية، وليس العكس كما في الاعتراف الإلحاقي بالأمازيغية. نلاحظ، مباشرة بعد إنشاء "ليركام"، تعزيزا لسياسة التعريب، وإنشاء مزيد من القنوات التلفزية التي تبث بالعربية، وتقوية لارتباط المغرب بالمشرق العربي، وغزوا مطردا للغناء المشرقي المسفّ لتلفزتنا وإذاعتنا، وتحويلا للمغرب إلى بلد مختص في احتضان المؤامرات العربية، واحتلال القضايا العربية الصف الأول في اهتمامات سياسيينا وإعلامنا وصحافتنا... وهذا ما جعل الكثيرين يتساءلون كيف يحدث هذا في عز "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"؟ أليس في الأمر نشاز ومفارقة؟ الجواب هو أن إنشاء المعهد كان بهدف إلحاق وإدماج الأمازيغية في المنظومة العربية الإسلامية كعنصر إغناء لها ورافد يثريها ويقويها ويعززها. ولهذا تعززت بالفعل مظاهر الثقافة العربية بالمغرب منذ إنشاء المعهد. فليس هناك إذن نشاز ولا مفارقة، بل هناك انسجام لا يمكن فهمه وإدراكه إلا باستحضار مسألة "الإلحاق"، إلحاق الأمازيغية بالمنظومة العربية الإسلامية عن طريق "ليركام". ويجب الاعتراف أن الذي سهّل هذا الالتفاف الإلحاقي على الأمازيغية دون مساس بأسس المنظومة العربية الإسلامية للمغرب، هو طبيعة الخطاب الأمازيغي ذي الطابع المطلبي حول اللغة والثقافة الأمازيغية دون أن يتعدى ذلك إلى المطالبة بالإعلان عن مملكة أمازيغية، بهوية أمازيغية وبملك أمازيغي، وذلك بسبب غياب مرجعية سياسية وفكرية وإيديولوجية تؤطر المطالب الأمازيغية. إذا كان الاعتراف الإلحاقي بالأمازيغية مريحا للسلطة، فإن هذه "الراحة" لن تكون إلا مؤقتة ولا تحل المشكل بصفة نهائية. فما دام أن الأمازيغية لم تعالج سياسيا، فإن المشكل باق ومستمر وسيكبر ويكبر ويكبر. |
|