الأمازيغية والمؤرخون
المغاربة: الحسن الوزان أو"ليون الافريقي" نموذجا.
بقلم:
اليماني قسوح (آيت حذيفة، الحسيمة)
إن تناول هذا الموضوع
بالدراسة والتحليل، يكتسي اهمية قصوى، فيما يتعلق بفهم جوانب من حاضرنا
من خلال العودة الى ماضينا. ذلك ان الكثير من القضايا والمواقف
والحقائق التي ندافع عنها اليوم في اطار نضالنا، هي حقائق وقضايا
ومواقف سبق وان أكدها وطرحها ألسلف على لسان نخبة من المثقفين
والمفكرين، هؤلاء، وبحكم مجموعة من الظروف الموضوعية والذاتية، نجهلهم،
ونادرا ما نستحضر مواقفهم وأدوارهم، الشيء الذي انعكس سلبا على الفهم
الموضوعي لواقعنا وحاضرنا، وأعاق نفاذ وامتداد رؤيتنا إلى المستقبل.
ولعل
هذا الأمر هو ما يدفعنا دائما إلى العودة لقراءة مسارنا التاريخي
وتعميق رؤيتنا في الماضي، لتتضح لنا الرؤية بجلاء في اطار الخطوات التي
نخطوها نحو المستقبل.
وفي هذا الإطار، تأتي
هذه المقالة المتواضعة لتسليط الضوء على حضور الوعي بالذات الأمازيغية
عند احد المؤرخين المغاربة، الذي ظل مجهولا من طرف ابناء وطنه لمدة
طويلة من الزمن. إنه الحسن الوزان الذي ظلت وستظل شخصيته خالدة، بحكم
عطاءاتها العلمية المتنوعة، ومواقفها
الموضوعية المتميزة، إبان فترة دخل فيها الشمال الإفريقي وضعية مختلفة
تماما عن الوضعية التي انتقلت اليها أوربا، وقد شاءت الظروف ان يعيش
ويحتك صاحبنا بكلتا الوضعيتين اللتين أثرتا عليه بشكل او بآخر.
في الحقيقة، إنه من
الصعب الإلمام بمختلف مواقف وإسهامات شخصية يعترف ويشهد لها الجميع
بعبقريتها وعطاءاتها المتميزة، مثل الحسن الوزان، سيما وأن الأمر في
مثل هذه الدراسة، يتطلب على الباحث الإطلاع والإلمام بمختلف الإنتاجات
والإنجازات التي خلفها المعني بالأمر، الأمر الذي نفتقده، لذلك أنبه
القارىالكريم الى أنني سوف أركز في موضوعي هذا على مجموعة من القضايا
التاريخية واللغوية التي اثارها او ناقشها او دافع عنها "ليون
الإفريقي" في مؤلفه المعروف ب"وصف إفريقيا"، قضايا أرى شخصيا ان لها
صلة بالأمازيغية.
وقبل
هذا اوذاك، تتساءل: من هو الحسن الوزان؟ ماذا عن مؤلفاته وتكوينه؟ وما
السياق التاريخي لظهوره؟، وما هي القضايا التي طرحها وناقشها أو دافع
عنها في مؤلفه، والتي تعبر وتجسد حضور الوعي بالذات الأمازيغية في عصره
او على الأقل عنده؟.
1-
جوانب من سيرة الحسن
الوزان:
ينتمي الحسن الوزان او
ليون الإفريقي الى قبيلة بني زيات الزناتية، الواقعة غرب بلاد غمارة من
سلسلة جبال الريف، بين ساحل البحر المتوسط ومجرى وادي "لاو" القريب من
مدينتي أشاون تيطاوين.
اختلف الؤرخون في
تحديد وضبط سنة ولادته، لكن الراجح ان الوزان ولد حوالي 1483م(1)، أي
قبل استرجاع غرناطة من طرف الايبييريين بنحو عشر سنوات.
انتقل "الموريسكي"
الصغير مع أسرته الى فاس التي درس بها مختلف المعارف والعلوم التي صقلت
موهبته، فظهر نبوغه بشكل مبكر، مما لفت اليه نظر سلطان فاس محمد
الوطاسي الذي قربه اليه، وأسند اليه ـ على حداثة سنه ـ مهام سياسية
خطيرة في ظرف كان المغرب خلاله يشكو علة التقسيم والاحتلال، هذه المهام
السياسية المسندة الى الحسن الوزان، بالإضافة الىالنشاط الديبلوماسي
والتجاري لأسرته، هي التي دفعته الى القيام برحلات عديدة داخل وخارج
المغرب. وفي طريق عودته الى المغرب بحرا من رحلة قادته الى الأراضي
الليبية والتونسية ما بين 1516م و1520م، أسر من طرف قراصنة ايطاليين
بالقرب من جزيرة جربة، وأخذوه الى نابولي ثم قدموه هدية الى البابا
ليون العاشر بروما.
وفي
البيئة الإيطالية التي كانت تعرف انتشارا واسعا لأفكار النهضة، وبعد
إتقانه للغة اللاتينية والإيطالية، تولى التدريس في مدرسة بولونيا
الشهيرة و قام بتأليف عدة كتب باللغة الايطالية واللاتينية في التاريخ
والجغرافيا واللغة، وتتصل موضوعتها اتصالا وثيقا بأبناء
الشمالي
الإفريقي وبلادهم ولسانهم، صنف كثيرا من المؤلفات التي ضاعت فلم يعرف
عنه غير الإسم، كما أننا نجهل جوانب أخرى تتعلق بالشوط الأخير من حياة
الوزان، فلا ندري متى واين كانت وفاته؟
2
ـ مؤلفه: وصف إفريقيا.
قيل
بأن هذا الكتاب يمثل القسم الثالث من كتاب ضخم كان قد ألفه الحسن
الوزان باللغة العربية(2)، ولم يبق منه الا هذا القسم الذي ترجمه
المؤلف الى اللغة الإيطالية بمدينة روما.
يتضمن
الكتاب، الذي يتألف من جزئين، معلومات مفيدة قد لا نجدها في اي كتاب
آخر، تهم جغرافية إفريقيا العامة وتاريخ شعوبها وخصائص أخلاقهم
ولغاتهم... يعرفك بالقبائل والمدن، يوجهك الى القديم والوسيط والحديث
في رحلة سياحية تتعرف فيها على التاريخ والجغرافيا والوضع
الاجتماعي والإقتصادي والسياسي. بأرقام واحصائيات ومسافات شبه مدققة،
مع وجود طبع الهفوات والأخطاء.
لذا
يمكن القول ـ مع الأستاذ حسن الفكيكي(3) ـ بأنه يستحيل على كل مؤلف
تقصي هذه الشخصية التي أولاها الأوربيون، على اختلاف تخصصاتهم، عناية
واهتماما بالغا من خلال إقبالهم على نشر وترجمة مؤلفه هذا الى مختلف
لغاتهم.
3
ـ منهجه في الكتابة:
لقد
كتب الوزان بذهنية وعقلية متفتحة وبمنهج شمولي جعل كل دارس له يصفه
بالنزاهة والحياد، فهو لم يتأثر بعاطفة قرابة او دين او وطن، تجده يمدح
مكانا وقوما في جهة، ويذم نظيرهما في جهة اخرى، تبعا لما شهد وعرف، وفي
هذا الإطار يقول: "ولا يخفى علي ما يصيبني من خجل عندما أعترف وأكتشف
عيوب الأفارقة، فافريقيا في الواقع هي التي أرضعتني، فيها كبرت وقضيت
أجمل وأطول قسط من حياتي، لكن عذري عند الجميع هو ما أضطلع به من دور
المؤرخ الذي يلزمه قول الحق الواقع دون أي اعتبار، ولا إرضاء رغبات اي
كان، ذلك هو السبب الذي اضطررت من أجله اضطرارا الى أن اكتب ما أكتب
قاصدا ألا أبتعد عن الحقيقة في شيء، وأن أترك جانبا محسنات الأسلوب
وزخرفة القول"(4).
4
ـ السياق العام لعصر ليون الإفريقي:
ليكون فهمنا وإلمامنا،
بمواقف هذا الرجل، أكثر موضوعية، علينا أن نضع هذا الفكر وهذه المواقف
في سياقها التاريخي، لأن الإنسان ابن بيئته يتأثر ويؤثر وبخاصة المثقف،
فما بالك بالمؤرخ الذي يريد الكتابة عن أحداث وقعت في الماضي وهو يعيش
ظروفا اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية غير مريحة.
لقد ألف الحسن الوزان
كتابه "وصف افريقيا" في بيئة أوربية إبان عصر النهضة التي انطلقت من
إيطاليا ابتداء من القرن13م، وساهمت في تطوير الحياة الثقافية
والفكرية، وأثرت بشكل كبير وواضح في الحركة الإنسانية، ومن نتائج هذه
النهضة أيضا، الدور الذي أصبحت تلعبه اللغات
القومية
في مواجهة اللغة اللاتينية، ففي السابق كانت العلوم والآداب حكرا على
فئات اجتماعية معينة، والتي تتقن اللغة اللاتينية، لكن مع النهضة ظهرت
الحاجة الى لغات قومية تفهمها مختلف الشرائح الاجتماعية.
وقد ساهم مجموعة من
رجالات الفكر في هذه النهضة، أهم هؤلاء: "دونتي" (1321م-1265م)، أب
الأدب الإيطالي باعتباره أول من نظم شعرا باللغة الإيطالية، وهي ثورة
فكرية جاءت لتعطي الحق لمختلف الشرائح الإجتماعية، ويقول في اعتماده
الإيطالية "إنما اخترت هذا الطريق يدفعنني حبي للغة وطني لكي أرفع أولا
من شأن المحبوب ثم لكي أغار عليه ثانيا، ثم لكي أدافع عنه ثالثا" ويضيق
"سوف تبزغ كالنور الجديد وكالشمس الجديدة التي سوف تشرف عندما تغيب
الشمس القديمة".
إن هذا الموقف الذي
يعتز فيه "دونتي" بلغته، هو الذي جعله أول رائد لعصر النهضة، ولعل هذه
الإشارة لها ما يبررها، لأن الوزان بحكم وجوده بإيطاليا يكون قد اطلع
على مثل هذه المواقف النهضوية، لذلك سوف يعبر عن مواقف قريبة وشبيهة
بمواقف "دونتي"، على الأقل فيما يخص
الاعتزاز باللغة الأمازيغية. وبديهي أيضا، أن يتأثر الفكر والوعي
التاريخي للحسن الوزان، بمعطيات العصر، ذلك أن عصر النهضة يعتبر نموذجا
للوعي التاريخي، من خلال ظهور كتابات تميزت بشدة وعيها بالإرث والتراث
الحضاري، ودراسته دراسة تعتمد التحليل والاستنتاج والبحث العلمي
المتحرر من القيود... الشيء الذي جعل بعض النقاد الأوروبيين يؤكدون على
أن فكر ليون الافريقي جاء مصبوغا بالصبغة الأوربية(5).
5
ـ مظاهر الوعي بالذات الأمازيغية عند الحسن الوزان.
سوف نحاول رصد هذا
الوعي ـ كما سبقت الاشارة الى ذلك ـ انطلاقا من عرض وجهة نظر الوزان من
بعض القضايا المتصلة بالجغرافيا والتاريخ واللغة والكتابة... عند
الإمازيغ، الأفارقة في تعبير الحسن الوزان.
وقبل الدخول في جرد
وعرض هذه القضايا نرى من اللازم توضيح مدلول أحد المصطلحات المركزية
والثابتة في كتاب الوزان "وصف افريقيا"، ألا وهو مصطلح "إفريقيا"،
كمجال جغرافي وبشري له جذوره التاريخية وخصائصه اللسنية والثقافية، هذا
المجال، يحد حسب الوزان "شمالا من مصب النيل ويمتد غربا الى أعمدة
هرقل، ثم تمتد غربا من هذا المضيق الى نون الذي هو آخر أجزاء ليبيا على
ساحل البحر المحيط، ومن ثم يبتدئ جنوب افريقيا ليمتد على طول البحر
المحيط الذي يحيط بها كلها الى صحراء كاوة"(6).
وقد
جزأ الوزان إفريقيا تجزيئا عموديا باعتباره مميزاتها الاقتصادية
والطبيعية، الى أربعة أجزاء من خلالها،يبدو ـ للوهلة الاولى ـ وجود
نوع من التجزيء والغموض في هذا التحديد، غير أن متتبع محتويات الكتاب
يخلص الى وجود رؤية خاصة وموحدة لدى الوزان بخصوص مدلول "افريقيا". فقد
استعمل الوزان مجموعة من الكلمات والعبارات المتناسبة، حيث استعمل
"إفريقيا" فيما يفيد "تامازغا" "والافريقي" فيما يفيد الامازيغيي
واللغة "الافريقية" فيما يعني اللغة الامازيغية. وفي هذا الإطار، نشير
الى أنه ليس من المستبعد ان يكون الوزان قد تأثر بالكتاب الإغريق
اللاتينيين الذين سمو الأمازيغ عامة ب"الافارقة" وصنفوهم الى ليبيين
ونوميديين وموريين(7)، وستتضح الفكرة التي اقترحناها أكثر من خلال
القضايا التالية:
يان : قضية الإسكان في
”افريقيا“ ومعنى كلمة ”البربر“:
يبدأ الوزان حديثه في
هذا الجانب، بعرض مواقف المؤرخين والجغرافيين حيث يقول في هذا الصدد:
"يزعم الجغرافيون والمؤرخون ان إفريقيا في القديم والجغرافيين
خالية..."(8). من هنا يتضح ان الوزان شك في هذه المواقف حينما استهل
كلامه باستعمال فعل "زعم" الذي يوظف غالبا
فيما
يشك فيه أو يعتقد كذبه(9).
أما بخصوص معنى كلمة
"البربر"، فيقول: "...هي كلمة ًمشتقةً حسب رأي بعضهم (المؤرخين
والجغرافيين العرب) من الفعل العربي بربر بمعنى همس، لأن اللهجة
الإفريقية كانت عند العرب بمثابة أصوات الحيونات العجماوات، ويرى البعض
الآخر ان بربر مكرور (بر) الذي هو الصحراء باللغة العربية يحكى أن
الملك افريقش، عندما غلبه الأشوريون او الاثيوبيون، هرب الى مصر، ولما
وجد نفسه مطاردا عاجزا عن مقاومة العدو، استشار قومه في أي سبيل
يسلكونه للنجاة، فأجابوه صارخين: "البربر" أي الى الصحراء معبرين بذلك
عن كونهم لا يعرفون أي حل سوى عبور النيل واللجوء الى صحراء إفريقيا،
وهذا تفسير لكلمة بربر متفق مع رأي من يقول ان أصل الأفارقة من
اليمن"(10).
لقد أحالنا الوزان في
تفسيره لكلمة "البربر" على مدلولها وحمولتها كما جاءت في
الأسطوغرافياالعربية التي قسمت الى رأيين، ويظهر جليا ان التفسير
المعطى لهذه الكلمة الغرض منه حسب الرأي الأول الحط من قيمة اللغة
الأمازيغية التي شبهت بأصوات الحيوانات والعجماوات، وتأكيد الأصل
اليمني للأفارقة الذين أراد بهم الوزان الأمازيغ حسب الراي الثاني
سين: قضية أصل
ألأمازيغ:
بعد ايراده لمجموعة من
الآراء والفرضيات التاريخية بخصوص اصل "الأفارقة البيض"، والتي قسمها
الى ثلاثة اتجاهات، كلها تتبنى الأصل الشرقي: فلسطين، اليمن، أواسط
أسيا، يخلص الى القول بانه "مهما اختلفت مظاهر الأفارقة البيض والسود،
فإنهم ينتمون الى نفس الأصل، ذلك أن الأفارقة البيض، إما أتو من
الفلسطين والفلسطينيون ينتسبون الى مصرائيم بن كوس، وأما من بلاد سبأ
وسبأ ابن هامة بن كوش"(11). ويواصل كلامه قائلا: "وهناك افتراضات أخرى
لا أذكرها بالضبط لأني لم ار منذ عشر سنوات ولم امس أي كتاب في التاريخ
الإسلامي"(12).
إن مشكلة أصل
الأمازيغيين من المواضيع التي استأثرت باهتمام المؤرخين والنسابين
الذين كتبوا عن سكان شمال افريقيا، ذلك أن كل حديث عن الأمازيغ يبدأ
عادة بمسألة أصلهم، وهنا نجد مفهوما إيديولوجيا في الواقع صيغ وتناقلته
مختلف طبقات المؤرخين والنسابة، ورغم اختلافها فإن آراءهم حول أصل
الأمازيغ تلتقي لترجع هذا الأصل خارج بلاد تامازغا(13)، وأعتقد مع
الأستاذ محمد حنداين(14) أن مشكلة الأصل ليست هي بالضرورة مشكلة علمية،
بل هي مرتبطة بطبيعة النظرة التي ينظر بها المغربي الى نفسه، ثم إن
مشكلة الأصول لا تهم الأمازيغ وحدهم بل هي مشكلة البحث العلمي
والاركيولوجي بالنسبة لجميع المجتمعات، وفي هذا الصدد، كان الاستاذ
محمد شفيق قد عبر على أن: "طريق البحث في هذا الموضوع سيختصر في العقود
الأخيرة من القرن المقبل (يقصد القرن الحالي 21م)...، لأن وسائل
المقارنة الانتروبولوجية بين الشعوب أصبحت جد دقيقة، بفضل الاكتشافات
الأخيرة التي حققها العالمان: "جان دوصي" و "جان بيرنار" المتخصصان في
فحص الكريات الحمراء على مستوى أشكال سطوحها، ولقد تمكن هذان العالمان
من اقتفاء آثار شعوب هاجرت مواطنها الأصلية منذ خمسة عشر الف سنة"(15).
كراض:
قضية اللغة الأمازيغية:
إن الحسن الوزان وهو
يتحدث عن أصل الأمازيغ وتسميتهم وقبائلهم...، لم تفته الفرصة للتعبير
عن موقفه تجاه لغة هذا الشعب، وفي هذا الاطار يقول: "إن هذه الشعوب
الخمسة (يقصد بعض القبائل الأمازيغية الكبرى) المنقسمة الى مئات
السلالات وآلاف المساكن، تستعمل لغة واحدة تطلق عليها اسم "أوال أمازيغ"،
اي الكلام النبيل، بينما يسميها العرب البربرية، وهي اللغة الافريقية
الأصلية الممتازة والمختلفة عن غيرها من اللغات، ولما كانت مشتملة على
عدد من المفردات العربية استدل البعض بذلك على أن الأفارقة ينتمون الى
السبئيين، وهم سكان اليمن كما أسلفنا. لكن أنصار الرأي المخالف يؤكدون
ان هذه المفردات إنما أدخلها العرب عندما جاؤوا الى افريقيا
وفتحوها"(16). ثم يضيف: ".. والافارقة الذين هم أقرب الى مساكن العرب
وأوثق صلة بهم هم أكثر الافارقة استعمالا للكلمات العربية في لهجتهم.
فغمارة إلا اقلهم يستعملون العربية، لكنها عربية رديئة، وكذلك الشأن في
عدد كبير من قبائل هوارة، والسبب في ذلك أن هذا الشعوب على اتصال شفوي
مستمر مع العرب"(17).
هكذا يبدوا أن وجهة
نظر الحسن الوزان بخصوص اللغة الآمازيغية تقوم على ما يلي:
1
ـ وحدة اللغة الامازيغية، (لغة واحدة، أوال أمازيغ،)
2
ـ الإعتزاز باللغة الامازيغية، من خلال تمجيدها والتحدث عنها بإعجاب
(الكلام النبيل، اللغة الاصيلة الممتازة)
3
ـ اطلاع مسبق على النقاش الذي الذي دار حول اللغة الامازيغية في
مرحلة تاريخية سابقة، يبدو ذلك من خلال عرض بعض الآراء والمواقف التي
قيلت حول هذه اللغة، موقف يجعلها فرعا من اللغة العربية، وموقف مدافع
عن اصالة اللغة الأمازيغية.
كوز/أكوس: قضية
الكتابة المستعملة عند الامازيغ (قضية الحرف)
طبيعي وموضوعي أن تكون
للغة الامازيغية، بحكم قدمها أبجديتها الخاصة، وهي المعروفة ب"تيفيناغ"
التي يعود تاريخ ظهورها بشمال إفريقيا الى فجر التاريخ(18)، وقد تحدث
الوزان عن هذه القضية قائلا: "يعتقد المؤرخون العرب اعتقادا جازما أنه
لم تكن للأفارقة كتابة أخرى غير المرسومة بالحروف اللاتينية، ويقولون
إن العرب عندما فتحوا إفريقيا لم يجدوا فيها غير الكتابة اللاتينية،
وهم يعترفون بأن للأفارقة لغتهم الخاصة، لكنهم يلاحظون أنهم يستعملون
عادة في كتابتها الحروف اللاتينية، كما يستعمل الالمانيون ذلك في
اوروبا."(19)، ثم يضيف "... ويذهب فريق آخر من مؤرخينا الى انه كانت
للافارقة لغة مكتوبة خاصة بهم، لكنهم افتقدوا هذه الكتابة من جراء
احتلال الرومان لبلاد البربر وطول مدة حكم المسيحيين الذين فروا من
ايطاليا، ثم القوط(الوندال) من بعدهم"(20).
بعد ذكره لهذه الآراء
بخصوص الكتابة الامازيغية، ينتقل الى مناقشتها وتفسيرها، مؤكدا على
استعمال الأمازيغ لتيفيناغ في الكتابة والتأليف، ومما يذكره في هذا
هذا الإطار أن الولاة ملزمون في الواقع با تباع عادات حكامهم إن أرادوا
إرضاءهم، و ذلك ما حصل للفرس الخاضعين للعرب، فقدوا هم أيضا كتابتهم،
وأ حرقت جميع كتبهم بأمر من علماء المسلمين الذين ظنوا أن الفرس لن
يكونو ا مسلمين سنيين مخلصين مادامت لديهم كتب في العلوم الطبيعية
والقانون و الديانة الوثنية، فأحرقوا جميع هذه الكتب و منعوا العلوم،
وذلك مافعله أيضا الرومان و
القوط
(يقصد الوندال) لما حكموا بلاد البربر"(21). والسلوك نفسه سوف يتكرر مع
دخول العرب الى شمال إفريقيا. يقول الوزان: "في الوقت الذي كان حكم
افريقيا بيد المبتدعة الفارين من خلفاء بغداد، أمروا بإحراق جميع كتب
الأفارقة المتعلقة بالتاريخ و العلوم، متوهمين أن الابقاء على هذه
الكتب من شأنه أن يترك الأفارقة على نخوتهم القديمة ويدعوهم الى الثورة
و الارتداد عن الاسلام" (22).
وبناء على هذا، يشك
الحسن الوزان في الآراء التي تنزع عن الأماريغ كتابتهم الخاصة، و في
نفس الوقت يحمل الاستعمار مسؤولية القضاء على هذه الكتابة و الارث
الحضاري، يقول: "و لا أطن أن الافارقة استعملوا هذه الحروف (يقصد
الحروف اللاتينية) واتخذوها لكتابة لغتهم الخاصة إذ لا شك أن الرومان
لما انتزعوا هذه الأماكن من أيدي أعدائهم، محوا حسب عادة المنتصرين
جميع النقوش الحاملة لآثار المغلوبين بخطهم الأصلي، قصد إذلالهم وجعلوا
عوضها كتابتهم، وهكذا كانوا يقضون في آن واحد على كرامة الأفارقة وعلى
كل مايذكر بماضيهم حتى لايتركوا شيئا يذكر غير الشعب الروماني"(23).
يواصل كلامه، بعد ذكر ما فعله القوط بالبنايات الرومانية و العرب
بالبنايات الفارسية، والأتراك بالأماكن المسيحية...، يقول: فليس من
الغريب إذن أن تكون الكتابة الافريقية قد ضاعت منذ سبعمائة سنة التي
يستعمل فيها الافارقة الكتابة العربية، و تحدث الكاتب الافريقي ابن
الرقيق في تاريخه طويلا عما اذا كانت للافارقة كتابة خاصة أم لا،
وانتهى الى القول بأنه كانت لهم كتابة، وأن من أنكر ذلك يمكنه أن ينكر
أيضا وجود لغة خاصة بهم، وأضاف أنه من المستحيل على شعب ذي لغة خاصة أن
يستعمل في كتابته حروفا أجنبية."(24).
يبدو من الفقرة
الأخيرة من كلام الوزان، أن الكتابة الأمازيغية لم تكن مستعملة أيام
عصره، و يحمل المسؤولية في عدم الاستمرار في تداولها الى الامازيغ
أنفسهم الذين اقبلوامنذ سبعمائة سنة على الكتابة العربية. ويذكرنا
الوزان أن هذه القضية أثارت انتباه وأهتمام مؤرخين أمازيغ سبقوه، كابن
الرقيق القيرواني الذي أكد على توفر الأمازيغ على لغة و كتابة خاصة
بهم، مبينا العلاقة التلازمية التي تجمع وتربط بين الجانبين
(اللغة+الكتابة).
سموس: ذكر مزايا
الأمازيغ و الأشياء المحمودة عنهم.
لقد أخذ الوزان على
عاتقه، مسؤولية الالتزام بالموضوعية في كل ما كتب عن ألامازيغ، لذلك
تجده يذمهم و يكشف عن عيوبهم وأخطائهم من جهة، ويمدحهم ويذكر مزاياهم
وأشياء محمودة عندهم، كالكرم والتسامح والاهتمام بالعلم... الخ، وفي
هذا الاطار يذكر: "بأن الافارقة الذين يسكنون بلاد البربر، ولا سيما
ساحل البحر المتوسط، يهتمون كثيرا بالتعلم ويتعاطون الدراسة بكامل
العناية، وفي طليعة ما يدرسون الآداب والكلام والفقه، وكان من عادتهم
في القديم أن يدرسوا الرياضيات والفلسفة وحتى علم الفلك، غير أنه منذ
اربعمائة سنة خلتّ، كما أشرت الى ذلك من قبل، منعهم فقهاؤهم وملوكهم من
تعاطي معظم هذه العلوم، وذلك ما حدث للفلسفة والتوقيت الشرعي"(25).
يبدوا أن نص الوزان
هذا، حجة لدحض من يدعي بأن الامازيغ لم يتعاطوا العلم، وفي نفس الوقت
يضعنا امام قضية معاصرة لها جذور تاريخية تعود الى العصر المرابطي،
يتعلق الامر بمواقف بعض الجهات المعارضة والرافضة لتدريس بعض العلوم،
كما حدث ويحدث مع مادة الفلسفة.
أخيرا وليس أخيرا،
نشير الى قضية المعجم الجغرافي الذي وظفه واستعمله الحسن الوزان في
كتابه "وصف افريقيا"، معجم له علاقة وطيدة باللغة الامازيغية، ذلك ان
معظم أسماء الأماكن والمدن والقرى ذات اصل ومدلول أمازيغي، وبالتالي
فهي تظل كشاهد عيان على أمازيغية المجال
المدروس، وأمازيغية المؤلف الذي استعملها ووظفها، غير أن كثرة الترجمة
والنقل غير السليم من الأمازيغية الى الايطالية واللاتينية، ثم الى
الهولندية والفرنسية فالعربية...، أدت الى فقدان، في كل مرحلة من هذه
المراحل، الكثير من الكلمات والاسماء الامازيغية شكلها ومدلولها، مع ما
يرافق ذلك من تحريف لعدد من المفاهيم من طرف المترجمين، وهذا يطرح
العديد من المشاكل بخصوص توطين ومعرفة مدلول بعض الكلمات، سيما وأن
المترجمين يجهلون الأمازيغية، في الوقت الذي يتم فيه تعريب المجال من
خلال استبدال وتغيير الأسماء الامازيغية للمدن والبوادي...بغيرها.
الاستنتاجات:
ان المسائل والقضايا
التي ذكرت، لم يخضع اختيارنا لها، لنوع من الانتقاء أو التجزيء كما قد
يعتقد البعض، بل حاولت ان أثير كل القضايا التي لها علاقة بالامازيغية،
والتي تجسد حضور ووجود "الهاجس الامازيغي" أو ما سميته بالوعي بالذات
الامازيغية، لدى المؤرخ المغربي
الحسن
الوزان، الذي هو واحد من بين العديد من المؤرخين المغاربة الآخرين
الذين حضر عندهم هذا الوعي بشكل او بآخر في كتابتهم، نذكر على سبيل
المثال لا الحصر: ابن الرقيق، ابن عبد الحليم، مؤلف "مفاخر البربر"،
ابن خلدون، سيدي ابراهيم اوماست الذي ألف كتابا بالامازيغية تحت
عنوان: "لخبر ن سوس" ...الخ.
قد يختلف كل واحد من
هؤلاء عن الآخر، فيما يخص دواعي وظروف ومظاهر الاهتمام بالامازيغية
عنده، لكن، كلهم يمثلون ويعكسون وعيا نخبويا.
وبخصوص الحسن الوزان،
يبدو من خلال عرض وجهة نظره في القضايا المذكورة، حضور النغمة
الاعتزازية والدفاعية، فيما يتعلق مثلا باللغة والكتابة الأمازيغية،
كما يتبين نوع من المحاباة عند ذكره لمزايا الامازيغ والاشياء المحمودة
عندهم، او عند ذكره لأقسام افريقيا، مما
أثار
انتباهي أيضا، الطريقة التي عالج بها الوزان هذه القضايا.
لقد انخرط في نقاش
واقعي وموضوعي يبدأه غالبا في كل قضية، بعرض المواقف والطروحات
المتعارضة، ويقابل بينها، قبل ان يبدي ويعبر عن موقفه.
وفي هذا الاطار، نجد
ان المؤلف (الحسن الوزان) يستحضر المؤرخ والجغرافي العربي، كرأي وموقف
معارض لمعظم القضايا المرتبطة بالأمازيغية، بينما نجد الموقف المؤيد
لهذه القضايا، يتبناه وبحسن المؤرخون المغاربة، الذين نادرا ما يذكر
الوزان أسماؤهم كابن الرقيق وابن خلدون.
اخيرا يمكن القول، إن
الحسن الوزان بطرحه ومناقشته لهذه القضايا والتعبير عن رأيه فيها، يكون
قد أبان على أمازيغيته، وبالتالي يحق لنا أن نسميه ب"ليون الأمازيغي"
بدل "ليون الافريقي"، واستطاع ان يملك القدرة على الارتفاع فوق مجال
الرؤية المحدودة داخل المجتمع،
وأنه
بذلك امتلك كذلك القدرة على ان تمتد رؤيته الى المستقبل من خلال نفاذ
رؤيته بعمق وثبات في الماضي. وعليه، نستنتج مع "ادوار كار" ان المؤرخ
لايقترب من الموضوعية سوى بمقدار ما يقترب من فهم الحاضر والمستقبل،
لذلك فتفسير المؤرخ للماضي واختياره الوقائع والقضايا المناسبة
والكتابة ذات المغزى، انما تتطور مع تطور ثقافة المؤرخ ووعيه التاريخي
ببروز غايات جديدة(26).
ومهما قيل يستحيل
علينا تقصي شخصية الحسن الوزان التي جمعت بين علوم وتخصصات عديدة، لذلك
نعتبر هذه المساهمة مجرد خطوة تحتاج الى خطوات ومساهمات أخرى لتتضح لنا
الرؤية اكثر بجلاء بخصوص هذه الشخصية أو غيرها ومواقفها من الامازيغية.
الإحالات والهوامش:
1 (
ـ محمد حجي ومحمد الأخضر في كتاب: "وصف افريقيا" للحسن الوزان، ج:1 دار
الغرب الاسلامي، ط: 2 . ج 1 .1981 ص 7
2
ـ نفسه
3
ـ انظر البرنامج الاذاعي: رحلة في التاريخ: استحضار لشخصية خلدها
التاريخ: أعلام الأمس عبر مفكر اليوم. بتاريخ 22/12/1999. من اعداد
نعيمة بوعلاق وسمير الريسوني.
4
ـ الحسن الوزان مصدر سابق،ج:1.ص:89
5
ـ نفسه ص:18
5
ـ نفسه ص:28
5
ـ محمد شفيق، ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الامازيغيين، مطبعة دار
الكلام، 1989، ص:11
8
ـ الحسن الوزان مصدر سابق ج:1.ص:34
9
ـ انظر منجد الطلاب، ط:30 دار المشرق ، بيروت .ص :284
10ـ
الحسن الوزان مصدر سابق ،ج:1،ص:34. وللمزيد من المعلومات بخصوص كلمة
البربر يمكن الرجوع الى محمد شفيق مرجع سابق ، صص:15-16
11
ـ الحسن الوزان ،
مصدر سابق ، ج :1.ص:35
12
ـ نفسه ص:36
13
ـ علي اومليل: الخطاب
التاريخي لمنهجية ابن خلدون ، ط:2 1404/1984، مطبعة النجاح الجديدة ،
الدار البيضاء ، ص:101
14
ـ شمال افريقيا
(المغرب) دراسة في التاريخ والثقافة ط، :1. 1996صص.2-3
15
ـ محمد شفيق ، مرجع
سابق،ص:21
16ـ
الحسن الوزان مصدر سابق، ج:1،ص39
17
ـ نفسه
18
ـ محمد شفيق مرجع سابق،ص:61
19
ـ الحسن الوزان مصدر سابق،ج:1.ص:69
20
ـنفسه، صص:69.70
21
ـ نفسه
22
ـ نفسه
23
ـ نفسه
24
ـ نفسه ص:71
25
ـ نفسه،ص:85
26
ـ ادوار كار، ماهو التاريخ؟، ترجمة ماهر كالي وبيرعاقل ،
بيروت،1976ص:114.
نقلا عن: عبد المليك
التميمي، مجلة عالم الفكر ، ص: 76. الموضوعية والذاتية في الكتابة
التاريخية المعاصرة"مجلة عالم الفكر عدد 4 المجلد 29،ابريل،يونيو 2001