|
|
افتتاحية: بدل دسترة «ليركام» على غرار مؤسسات عمومية أخرى، هناك على العكس توجه نحو إلغائه والاستغناء عنه. لماذا؟ بقلم: محمد بودهان
لما صدر ظهير أجدير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (ليركام) في 17 أكتوبر 2001، كان ذلك اعترافا رسميا بالأمازيغية وتعبيرا عن الرغبة في إنصافها والنهوض بها. اليوم يعترف دستور 2011 بالأمازيغية كمكوّن للهوية المغربية (تصدير الدستور) وكلغة رسمية ـ بشروط طبعا (الفصل الخامس). هذا الترسيم الدستوري للأمازيغية يعني إذن «تقدما» في مسار الاعتراف بالأمازيغية والنهوض بها. وهذا «التقدم»، الذي يجسده الانتقال إلى مرحلة جديدة هي مرحلة الترسيم الدستوري للأمازيغية، يفترض أن المرحلة السابقة، مرحلة ظهير أجدير التي يمثّلها «ليركام»، قد حققت كل الأهداف التي رسمها وكل الغايات التي حددها هذا الظهير المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. فهل بالفعل حقق ظهير أجدير كل الأهداف التي رسمها والغايات التي حددها؟ إذا عرفنا أن مخطط تدريس الأمازيغية عرف فشلا ـ بل إفشالا ـ كليا جعل هذا التدريس في حكم المنعدم الذي لا وجود ولا أثر له، فسنعرف أن كل الأهداف الأخرى، التي نص عليها ظهير «ليركام»، لا يمكن أن ينجح تحقيقها لارتباط هذا التحقيق بنجاح تدريس الأمازيغية كشرط أول واقف لإنجاح المشاريع الأخرى للأمازيغية. ينص الفصل الثاني من ظهير أجدير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية «على إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي». فأين هو إشعاع الأمازيغية في الفضاء الاجتماعي الوطني والجهوي والمحلي؟ هل توجد شوارع وساحات عمومية بأسماء مكتوبة بالأمازيغية تعبيرا عن هذا الإشعاع للأمازيغية في الفضاء الاجتماعي؟ هل توجد علامات مرور أو تشوير طرقية مكتوبة بالأمازيغية كدليل على هذا الإشعاع للأمازيغية في الفضاء الاجتماعي؟ هل توجد مؤسسات رسمية تعلو واجهاتِها كتابةُ أسمائها بالأمازيغية تأكيدا لهذا الإشعاع الاجتماعي للأمازيغية؟ لا شيء من ذلك، رغم أن ظهير أجدير ينص على ضمان إشعاع الأمازيغية في الفضاء الاجتماعي. وينص الفصل الخامس من ظهير أجدير على «إعداد برامج للتكوين الأساسي والمستمر لفائدة الأطر التربوية المكلفة بتدريس الأمازيغية والموظفين والمستخدمين الذين تقتضي مهنتهم استعمالها». فكم من موظف ومستخدم تلقى تكوينا أساسيا أو مستمرا في الأمازيغية؟ لا أحد رغم أن ظهير أجدير ينص على هذا التكوين. لماذا إذن لم تنجز هذه المهام التي حددها ظهير أجدير، ولم تتحقق هذه الأهداف التي رسمها ونص عليها؟ لأن تدريس الأمازيغية (إدراجها في المنظومة التربوية كما جاء في الفصل الثاني المشار إليه أعلاه) لم ينطلق بعدُ ـ نعم أقول لم ينطلق بعدُ بالمعنى الحقيقي لمفهوم «التدريس»ـ مع أنه الشرط الأول والواقف ـ كما سبق أن قلت ـ للنهوض بالأمازيغية في المجالات والقطاعات الأخرى. إذا لم يحقق ظهير أجدير، من خلال المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مهامه وأهدافه، فلماذا تم الانتقال إلى المرحلة «الأعلى» قبل الانتهاء من المرحلة التي سبقتها؟ رب قائل يعترض أنه لم يكن ضروريا ولا مفيدا للأمازيغية انتظار إنجاز كل المهام المنصوص عليها في ظهير أجدير ليتم بعد ذلك الانتقال إلى مرحلة ترسيم الأمازيغية، مع أن سبب التماطل في إنجاز هذه المهام يرجع إلى غياب مثل هذا الرتسيم للأمازيغية. هذا صحيح تماما لو أن ترسيم الأمازيغية جاء واضحا وكاملا وغير مقيد، وليس ملتبسا وناقصا ومشروطا كما جاء في الفصل الخامس: «تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء. يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية». ـ فتحديد، عبر قانون تنظيمي، «...كيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية...»، هي مهام سبق أن نص عليها ظهير أجدير، ولم ينجز منها أي شيء كما سبقت الإشارة. وهذا يعني عودة إلى نقطة الصفر كنوع من «السيزيفية» ( نسبة إلى «سيزيف» Sisyphe، الذي تقول الأسطورة الإغريقية بأن الآلهة، حتى تعاقبه، حكمت عليه بحمل صخرة ووضعها على قمة الجبل. لكنه كان كلما أوصلها إلى القمة تتدحرج إلى الأسفل فيعيد حملها من جديد إلى ما لا نهاية. فأصبحت «السيزيفية» تعبر عما هو تكرار دائم لا تقدم فيه ولا جديد) العبثية التي تجعل الأمازيغية تراوح مكانها رغم تجديد القوانين التي تدعو إلى العناية والنهوض بها (انظر مقالنا «ترسيم الأمازيغية: فرصة للتقدم إلى الأمام، أم مناسبة للتراجع إلى الخلف؟» بالعددين 173 و174 لشهري شتمبر وأكتوبر 2011). فما كان مفترضا أن يكون قد نُفذ وانتُهي منه بصفة تامة وجدية (إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة) لينطلق منه ترسيم الأمازيغية كتراكم تحقق وأُنجز، أصبح هو المهمة الجديدة لترسيم الأمازيغية، أي إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة. ليس هناك إذن تراكم ولا تقدم إلى الأمام، بل هناك مراوحة ودوران في نفس المكان. النتيجة أن دسترة الأمازيغية تعطي الانطباع ـ مجرد الانطباع ـ بأن هناك تقدما إلى الأمام، في حين أن الأمر يتعلق بالعودة إلى الخلف، أي العودة إلى المشاريع الواردة في ظهير أجدير لـ17 أكتوبر 2011.ـ ومن جهة أخرى، من حقنا أن نطرح السؤال التالي: إذا كان ظهير أجدير، الصادر عن إرادة ملكية لا تناقش في قراراتها واختياراتها، وذات موقف واحد وموحد حول الأمازيغية، لم ينجح في إنجاز ما نص عليه من أهداف ومهام لصالح الأمازيغية، فكيف تنجح في ذلك مجرد قوانين تنظيمية تصدر عن أحزاب (المشكلة للبرلمان) متعددة الاتجاهات والإيديولوجيات، وذات مواقف متضاربة ومتباينة حول الأمازيغية، ومنها من لا يكنّ أي ودّ لهذه الأخيرة؟ ـ وحتى فرضية مواصلة مؤسسة «ليركام» (المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية) إتمام مهامها المتعلقة بإدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي، مما قد يشكل إنجازات يأخذها بعين الاعتبار وينطلق منها القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية، الذي سيصدر تطبيقا للفصل الخامس من الدستور، فحتى هذه الفرضية لم تعد ممكنة لأن معهد «ليركام» أصبح قانونيا في حكم الملغى ضمنيا، إذ لم يعيّن، تطبيقا للفصل السادس من ظهير أجدير المنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الأعضاء الجدد لمجلس الإدارة الذي انتهت ولايته في ماي 2010. وهو ما يجعل المعهد، منذ هذا التاريخ إلى اليوم (دجنبر 2011)، في حكم المنعدم قانونيا. ذلك أن مجلس الإدارة هو الذي يتولى إدارة المعهد (الفصل الرابع من ظهير أجدير)، ويرسم الخطط ويضع البرامج ويقترح المشاريع التي يرفعها إلى الملك لإجازتها والمصادقة عليها (الفصل السابع من الظهير). هذا المجلس غائب إذن منذ ماي 2010، وهو ما يجعل المعهد غائبا وملغى ضمنيا ولا وجود له من الناحية القانونية. ففي الوقت الذي كان منتظرا أن ينص الدستور الجديد على المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كمؤسسة دستورية، أسوة بالعديد من المؤسسات العمومية التي نص عليها هذا الدستور في الفصول 161 إلى الفصل170، نفاجأ بالإلغاء الضمني لهذه المؤسسة التي لم يعيّن أعضاء مجلسها الإداري ليخلفوا الأعضاء المنتهية ولايتهم، حتى يستمر وجودها القانوني والشرعي. النتيجة أن مؤسسة «ليركام» هي اليوم في وضعية غير شرعية وغير قانونية. ـ وهذا الإلغاء الضمني لمؤسسة «ليركام»، فضلا على أنه يحمل دلالة على أن القانون التنظيمي قد يعني العودة مجددا إلى نقطة الصفر بالنسبة لإدماج الأمازيغية في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة، فهو يثير السؤال التالي: لماذا تخلت المؤسسة الملكية عن «رعاية» الأمازيغية كشأن سيادي خاص بالملك، لتصبح هذه «الرعاية» شأنا خاصا بالبرلمان يدخل في إطار سلطاته التنظيمية؟ قد يرجع ذلك إلى ما قلناه عن فشل مؤسسة «ليركام» في تحقيق الأهداف التي ينص عليها ظهير أجدير لصالح الأمازيغية، فضلا عن فشلها «كسياسة بربرية جديدة» لم تنجح في وضع حد نهائي لمشكل الأمازيغية. فبعد أن أصبح هذا الفشل المزدوج أمرا واقعا، لم ترغب المؤسسة الملكية في استمرار «رعايتها» لمشروع فاشل. لهذا أرادت التخلص منه بالرمي به إلى صراعات وحسابات وأهواء الأحزاب المشكلة للبرلمان. الشيء الذي سيجعل من الأمازيغية قضية صراع سياسي تستعملها وتستغلها هذه الأحزاب حسب ما تجنيه من منافع سياسية منها، سواء كان ذلك بالدفاع عنها والعمل على النهوض بها، أو بمناوأتها والاعتراض على مشاريع تنميتها ورد الاعتبار لها. وهو ما سيحولها إلى «مطية لخدمة أغراض سياسية»، في تنافٍ صارخ وواضح مع ما جاء في الخطاب الملكي بأجير في 17 أكتوبر 2001، الذي أكد فيه الملك «أنه لا يمكن اتخاذ الأمازيغية مطية لخدمة أغراض سياسية كيفما كانت طبيعتها». وهذا ما يعني ويؤكد التخلي عن الأمازيغية كشأن سيادي ملكي، والتخلي، نتيجة لذلك، عن مؤسسة «ليركام» نفسها التي أصبحت في حكم الملغاة قانونا، كما سبق شرح ذلك. قد يبدو عاديا و»ديمقراطيا» انتقال الأمازيغية من الحقل السيادي للملك إلى حقل «ممثلي» الأمة، وهو ما يعني انتقالها من مجال استبدادي وفردي إلى مجال «ديموقراطي»، كشأن وطني تصبح معه موضوعا للنقاش والتدافع السياسي والأخذ والرد بين «نواب الأمة». لكن إذا كان ديموقراطيا أن تكون القضايا الوطنية العادية من اختصاص البرلمان، فالسؤال هو: هل الأمازيغية في وضع قضية عادية حتى تترك للبرلمان مثل كل القضايا العادية؟ فما كان منتظرا من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، هو أن يجعل من الأمازيغية قضية عادية، وذلك «بتطبيع» المغاربة معها من خلال تعميم تدريسها بصدق وجدية وإرادة سياسية حقيقية، مع ما يصاحب ذلك من استعمالها التدريجي في الفضاء العام، وكتابتها على واجهات المؤسسات العمومية وعلامات المرور مثلا. وهو ما كان سيجعل منها، بعد عشر سنوات من بدء النهوض بها ورد الاعتبار لها، قضية عادية يمكن للبرلمان أن يستأنف إعداد مشاريع النهوض بها انطلاقا من التراكمات السابقة التي تحققت في مرحلة «ليركام». لكن الذي حصل هو أن فشل تدريس الأمازيغية، لغياب إرادة سياسية لإنجاح هذا التدريس، كما سبق أن كتبنا، نتج عنه ـ وياللمفارقة! ـ أن هذه الأمازيغية «نجحت» داخل أسوار «ليركام»، لكنها استمرت تعيش الحصار والإقصاء خارج هذه المؤسسة، أي في الفضاء العام ومؤسسات الدولة. وهو ما جعلها تراوح مكانها كقضية ذات وضع إقصائي خاص، أي كقضية غير عادية، وهو ما يتطلب حلولا غير عادية. هذه الحلول غير العادية تتمثل في استمرار رعايتها من طرف الملك لتستفيد من تمييز إيجابي كشأن سيادي، إلى أن «يتقوى عودها» وتستعيد عافيتها لتتحول بعد ذلك إلى قضية تدخل ضمن اختصاصات البرلمان.كان من الممكن إذن أن تكون هذه المرحلة البرلمانية شيئا عاديا، وتطورا طبيعيا كمرحلة جديدة متقدمة مقارنة مع المنجزات السابقة، التي تحققت في ظل ظهير أجدير. أما وأن الأهداف التي حددها هذا الظهير الملكي نفسه لم يتحقق منها الشيء الكثير، فإن الانتقال بها من اختصاص ملكي سيادي إلى اختصاص برلماني، هو تهرب من الفشل الذي عرفه مشروع «ليركام» كما سبق بيان ذلك. وبالتالي فإن وضعها في يد برلمان لا تزال أحزابه تحمل ثقافة أمازيغوفوبية بيّنة، هو موقف لا يخدم الأمازيغية. وهنا يظهر الالتباس في العلاقة بين الأمازيغية والمؤسسة الملكية. ـ لقد كان إنشاء «ليركام» قرارا ملكيا شجاعا جاء لينصف الأمازيغية. لكن لم تواكب هذا القرارَ، الشجاع والمنصف، إرادة سياسية حقيقية لتفعيل هذا الإنصاف للأمازيغية وحمايته وتنفيذه على أرض الواقع. الشيء الذي جعل تدريس الأمازيغية يفشل حتى قبل أن يبدأ، دون أن يكون هناك أي تدخل من المؤسسة الملكية لحمل الوزارة المعنية على تعامل جدي مع مشروع تدريس الأمازيغية. ـ لم تدرج الأمازيغية ـ حسب علمي ـ ضمن اللغات المقررة بالمعهد المولوي حيث يدرس أولياء العهد والأمراء والأميرات، كدليل على أن المؤسسة الملكية تعتبر، فعلا، الأمازيغية «ملكا لكل المغاربة بدون استثناء» كما جاء في خطاب الملك بأجدير يوم 17 اكتوبر 2001، وأنها فعلا «رصيد مشترك لجميع المغاربة بدون استثناء» كما جاء في الفصل الخامس من دستور 2011. ـ لم يحمل أي مولود ينتمي إلى القصر اسما شخصيا أمازيغيا كاعتراف عملي ورمزي من المؤسسة الملكية بالمكوّن الأمازيغي لهوية المغرب، إذا اعتبرنا أن هذه الهوية «متعددة» كما جاء في تصدير الدستور الجديد. هكذا تكون المؤسسة الملكية تتعامل مع الأمازيغية كشيء «أجنبي» عنها يهم «أقلية» خاصة لها مطالب لغوية وثقافية وإثنية. وهنا لا تكون الأمازيغية «ملكا لكل المغاربة بدون استثناء» (طهير اجدير) ولا «رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء» (دستور 2011). والتخوف، كل التخوف، هو أن البرلمان، عندما سيناقش القانون التنظيمي الخاص بالأمازيغية، سيتعامل معها كقضية «أقلية» عرقية وإثنية، في الوقت الذي يجب عليه أن يتعامل معها كقضية كل المغاربة جميعا، وكمطالب لكل المغاربة كذلك، وكانتماء هوياتي لهم جميعا. لكن إذا كانت الأمازيغية ستخسر كثيرا بهذا الانتقال لـ»رعايتها» من سلطة الملك إلى سلطة البرلمان، فإنها ستربح كثيرا لأنها ستتخلص هي نفسها من قدسية الفصل 19 (الدستور السابق) الذي كان يقيدها كشأن ملكي سيادي، لتصبح حرة في الدفاع عن نفسها بكل الوسائل، في حالة اتخاذ البرلمان لقرارات تسير عكس ما تنتظره الحركة الأمازيغية من الدستور الجديد.
|
|