|
|
عن الوعي الحداثي لمفهوم الهوية الوطنية والأمة المغربية بقلم: عبد الكريم مومن
«لننظر في الذي قالوه وكتبوه في كتبهم، فإن كان موافقا للحق أخذناه عنهم وعملنا به وشكرناهم عليه، وإن كان غير موافق للحق تركناه ونبهناه عنه» (الفيلسوف ابن رشد) مقدمة قد يبدوا الحديث عن الهوية الوطنية وتناول موضوع الأمة نشازا في الأوساط المهتمة بالغرب ذي المسار الديمقراطي العريق، ذلك أنه يحيل إلى معانقة الفكر المحافظ وإلى استلهام تحليلات الكراهية والشوڤينية، إذ أن مجرد البحث في مسألة الهوية دليل على افتقادها. ولكن في مجتمعنا المغربي الذي لا يزال يبحث له عن موطن قدم في عالم الديمقراطية والمواطنة الحقة، يعد تناول السؤال الحارق للأمة والهوية من أولى الأولويات وتحدي حضاريي يتطلب جرأة فكرية صريحة. وما كنت لأدلي بدلوي المتواضع وأخوض في الموضوع لولا ما عرفه وما يعرفه حاليا شمالنا الإفريقي وبعض بلدان الشرق الأوسط من فوران شعبي وتغييرات سياسية، وكذا مستجدات التعديل الدستوري المرتقب في بلادنا، إضافة إلى أن مفهوم الهوية السائد يعاني –في تصوري-من خلل ما في برنامج حاسوبه الوطني أي (logiciel) للوجيسييل الوطني. فمن نحن أو من هم المغاربة؟ هل هم شعوب الـﯖرامنط والناسامون والماكليس والاطلانط الذي تكلم عنهم هيرودوت في تحرياته Les Enquêtes) القرن 5 ق م)؟ أم هم الموريون والماسيل والمازيسيل الذين ورد ذكرهم في المصادر الإغريقية واللاتينية، وتحولوا بترا وبرانس ابتداء من القرن الثامن الميلادي. أو كما يقول ابن خلدون: «هذا الجيل من الآدميين –ويعنى بهم الأمازيغ –هم سكان المغرب القديم ملئوا البسائط والجبال من تلوله وأريافه، وضواحيه وأمصاره، والذي لهم من الحكايات وكثير من الأخبار لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملئت بها الدواوين». أم نموذج الفسيفساء الحالي وخليط الشعوب والروافد والمكونات، (أي نموذج melting Pot وsalad-bowl عند الانكلوساكسون؟). هدا النموذج الذي ينطوي على سمو مكون على الآخرين المتسامح والمعترف بالمكونات الأخرى كتدبير للخلاف، والذي هو في الواقع نوع من المن تتقدم به الثقافة المهيمنة"السامية" (prééminente)؟. فالمغاربة (أي الأمازيغ الذين يسمون اليوم بالمغاربة) عموما هم أولئك الذين عمروا شمال إفريقيا من خليج سرت إلى المحيط، ويمثلون وحدة أثروبولوجية وثقافية مع خصوصيات وأطياف شتى، وهم اللذين صنعوا تاريخ هذه الربوع المترامية الأطراف جغرافيا وزمنيا وبنوا حضارتها بألوانها البونيقية والرومانية والعربية. لماذا فضلنا الحديث عن الأمة المغربية وليس عن الدولة؟ لأن الدولة لا تعطى سوى هياكل ومؤسسات للأمة، والأمة تمنح العمق الثقافي والحضاري للدولة، وكلما كان هذا الأساس الثقافي والحضاري سليما ومتطابقا ومنطقيا مع معطيات التاريخ والجغرافية، كلما كانت الدولة قوية بمؤسساتها السياسية وباستقرارها; وديباجة المنتظم الدولي لسنة 1945 تتكلم عن الأمم وليس عن الدول إذ تقول: نحن شعوب الأمم المتحدة مصممون على تجنيب الأجيال القادمة لويلات الحرب. فليس هناك تعريف خاص ومحيط بالأمة ولكل منا فكرته حول الأمة أو بتعبير أدق حول الفكرة الوطنية: l'idée nationale، فالشعور بالانتماء للأمة شعور تلقائي، أي يقام على مجموعة من أحاسيس وقيم لا تقوم على براهين، وكثيرا ما تكون الأفكار ضبابية ومتضاربة يدخل فيها السياسي والثقافي والديني واﻹثني. والمرجح أن الفكرة الوطنية لدى المغاربة كانت حاضرة بالمعنى الحديث للكلمة ولو بشكل جنيني عندما قاوموا هيمنة الأتراك العثمانيين (المسلمين)، وكذا إبان معركة وادي المخازن. لكن ما نحن بصدده هو التمييز بين مفهوم الأمة السياسية بالمفهوم الحداثي العصري والأمة الثقافية nation politique vs nation culturelle. فلقد أسست الثورتان الفرنسية والأمريكية – وليدتا فلسفة الأنوار – لنموذجين مختلفين لمفهوم الأمة: فيدرالي أمريكي، ووحدوى يعقوبى فرنسي، لكنه يشكل في كلتا الحالتين قطيعة مع الماضي وانخراطا في الحداثة المبنية على أساس المواطنة والتعاقد السياسي الحر. أما المعنى الديني للأمة (communauté) فينفرد به- تقريبا في عصرنا الحاضر- العالم الإسلامي والديانة اليهودية التي تربط المعتقد الديني بالنسب، والذي يجعل من الدين ثابتا هوايتيا لا محيد عنه تماما كما كان التصور المسيحي للأمة في القرون الوسطى قبل الإصلاح الديني. صحيح أن هناك شعوب وأمم متدينة كالهند وبولونيا وإيرلاندا وأمريكا مثلا، يغلب على كثير من أفرادها الفكر الديني، لكنها لا تحكم بالدين، فهي مجتمعات تحكم بقواعد مدنية تسرى على الجميع وتسعى لتوفير العدل والحرية والمساواة. فالأمة السياسية بالمنظور الحداثي تبنى على فكرة المواطنة، أي على فكرة إنسانية بامتياز، وتتأسس على مجموعة من واجبات وحقوق محترمة من طرف الجميع، بتعاقدات محينة حسب الظروف والمستجدات، بغض النظر عن العرق واللون والثقافات الدينية، أى تعاقدات تصون حرية وكرامة الأفراد في إطار مؤسسات مدنية وتمنح الجنسية لمن رغب فيها حسب قانون الأرض droit du sol. ولا بد من الإشارة بان تأصيل هذا النموذج الإنساني للأمة وتطبيقه الفعلي كان مشوبا بفترات عصيبة وأزمات سياسة من قوى محافظة وشوڤينية(حالة فرنسا) وفرض التمييز العنصري ségrégation الذي عاشته الولايات المتحدة من أواسط القرن التاسع عشر إلى ستينات القرن الماضي. ويجدر القول كذلك إن صدى الثورتين أعطت فكرة الأمة –الدولة Etat-Nation وأدت إلى وحدة ألمانيا وايطاليا في القرن التاسع عشر، بيد أن هاتين التجربتين قامتا على أساس فكرة القومية الثقافية الإثنية للأمة بالرغم من استلهام الأسس الإيجابية للمفهوم السياسي المتميز والمتحرر للأمة الفرنسية والأمريكية. وهذا المفهوم الثقافي العرقي الخالص المبني على القومية المتوقدة ويسعى لمنح الجنسية حسب الانتماء العرقي droit du sang كثيرا ما يحمل في ثناياه بذور الفكر المتعصب والفاشي. وهذا كان من بين أسباب اندلاع الحروب العالمية. هل الأمة مجرد مجال جغرافي وتاريخ مشترك كما يقول فردينان برودل (F.Braudel) ؟ أم أن الأمة كيان سياسي يصنعه الوطنيون اصطناعا كما ذهب إلى ذلك ارنست كلنرE.Gellner ؟ خلافا للفكرة السائدة بان الأمة امتداد طبيعي لهوية متجذرة في التاريخ. فنظرا لما سبق ذكره عن المفهوم الحديث للأمة السياسية وانطلاقا من تجارب الأمم، نلاحظ فيما يخص امتنا المغربية أن هياكل ومؤسسات الدولة الحديثة صاغتها فرنسا الحامية وألبستها النخبة السياسية المغربية لباس أمة بمفاهيم غير معبأة تفيد التموقع السياسي والاقتصادي أكثر مما يفيد المصلحة العليا للأمة، فتم التطابق بين النمط المركزي اليعقوبى الفرنسي للدولة وبين أيديولوجية الاستبداد الشرقي تطابقا أعطى لبلادنا ثنائية عقيمة كرأس جانوسJanus روما ذي الوجهين. لذا يجب أن يكون أساس الأمة السياسية والوحدة الوطنية بين المغاربة هو انتماؤهم إلى الأرض المغربية (الشرعية الترابية) وإلى الشعور المشترك بتاريخ الوطن وذاكرته (الشرعية التاريخية) وبقوة أواصر القيم المشتركة وإرادة العيش الجماعي ) le vouloir vivre ensemble الشرعية الحداثية) التي تتجاوز أواصر العرق واللون والجنس والعقيدة والانتماء السياسي وتعتمد الحقوق المدنية والاجتماعية والثقافية المتعارف عليها دوليا في مرحلتنا التاريخية من تطور البشرية. فماذا عن التاريخ المشترك والذاكرة الوطنية (التي يجب أن لا تستثني أية حقبة تاريخية؟) عموما تجدر الإشارة إلى أن جل تاريخ إفريقيا الشمالية بالمعنى الواسع عايشه وصنعه المغاربة في موطنهم الأصلي ما عدا ثلاث فترات في اعتقادي حيث تجاوزوا حدودهم الجغرافية الطبيعية وهي فترة شيشونق وتأسيسه لأسرة 22 بمصر الفرعونية، وفترة الاحتلال المورى Les Maures) ( لشبه الجزيرة الأيبيرية، وكدا تدمير حضارة سونغى بغرب إفريقيا. وقد يبدو بديهيا استنفار رموز التاريخ الطويل للمغاربة مند العصر القديم إلى عصرنا الحالي باهتمام النخب الثقافية مع مراعاة خصوصيات المراحل، لكننا نجد أنفسنا أمام تاريخ مختزل انتقائي مفترى عليه، أسقط منه تاريخ آخر لم يكتب وهو المتصل بحركة المجتمع وخارج صخب السلطة. إضافة إلى أنه يفتقد أحيانا للمنهجية ولا يخضع للنظرة النقدية، ليصبح مادة مكرسة يعاد إنتاجها بكل ما فيها من فجوات والتباسات وتدليس، وهذا ما توقف عنه العلامة ابن خلدون. وقد يطول بنا الحديث عن رموز- إن اقتصرنا عن الشخصيات فقط - صنعت التاريخ من ايرباس وماسينيسا إلى الخطابي مرورا بابن تومرت وابن تاشفين والمنصور الذهبي لكن المهم هو استحضارهم في إطار وعي تاريخي جديد لا يسقط عليهم مفاهيم عصرنا الحالي وضمن كتابة تاريخية وطنية نزيهة ترنو إلى إعادة تأثيث الذاكرة التاريخية. كثيرا ما نسمع عن عدم قدرة المغاربة على صنع حضارة كبرى وبناء صروح معمارية شاهقة: هناك أمم عديدة أهدرت دماء أبنائها وطاقاتها وهي تصارع التاريخ بينما الحرب هي مع الجغرافيا صانعة الحضارات وثروات الأمم، هذا ما قاله المؤرخ وعالم الاقتصاد دايفيد لا ندسD.Lands في كتابه عن ثروة الأمم وفقرها: فتش عن الجغرافيا فهي تصنع التاريخ والحضارات أيضا، فالأنهار الكبرى هي مهد الحضارات الكبرى (النيل-الفرات والكانج والمسيسبي). هناك مقولات ونظريات تفسر أيضا الأصل الطبقي لنشوء الحضارات: فلكي تكون هناك حضارة وإبداع لا بد من وجود مجتمع ارستقراطي، ونعني بالأرستقراطية طبقة من المحظوظين اجتماعا لا يخوضون في غمار الحياة اليومية وعنائها، مما يحرك جهودهم نحو التنظير الفكري والتصورات المجردة في جميع الميادين يمكن أن ترقى بهم إلى الكونية، لهذا نجد 30 ألف مواطن أثيني كانت تقوم بخدمتهم 200 ألف من "العبيد" تزيل عليهم كاهل العمل اليدوي المضني. فأثينا بهذا الوضع اللامتكافئ وغير العادل أعطت للإنسانية حضارة لا نزال ننهل من معيننا بعد 25 قرن. أما بالنسبة لسكان إفريقيا الشمالية فقد أخذوا بمجتمع يجنح أصلا للعدالة الاجتماعية وعدم التمايز، أي أنهم بدؤا من حيث يجب أن ينتهوا، وطبيعي إذن أن لا ينتجوا حضارة ذات أساس ارستقراطي. زد على ذلك أن تضاريس الشمال إفريقي باستثناء مصر لا تسمح بقيام مجتمعات عبودية كالتي ظهرت حول النيل وبلاد رافدين والكانج. وإضافة إلى أن سكان شمال إفريقيا لم يكونوا قوة بحرية مهيمنة، تنشئ مراكز ومستعمرات تجارية، وإلا لكانت جزر الكناري جزءا من الكيان المغربي نظرا للامتداد الجغرافي الطبيعي والانثربولوجي. بالرغم من كل هذا وذاك فقد بصموا بحضاراتهم تاريخ منطقة البحر الأبيض المتوسط الغربية، ذلك لأن لكل أمة نصيبا من حضارة العالم. واستطاع المغاربة أن يبلوروا تاريخيا أنظمة مجتمعية متميزة، ويقيموا تشريعات، ويسنوا قوانين تتجاوز المجال الجنائي والعقوبات إلى مجال الالتزامات والعقود، وقوانين زراعية وبيئية كنظام اللف الذي يتوخى التوازن بين المجموعات البشرية، ومؤسسة إنفلاس- آيت الربعين –تجماعت لتدبير الشأن العام وكذا مؤسسة اكدال في تسيير الشأن الغابوي، ونظام تويزا في التعاضد المجتمعي، وتيطى وأمان والخطارات في عقلنة تدبير الري والسقي... كلها مؤسسات أصيلة تنبض بالحياة، وتتفاعل مع المحيط البيئي والمجتمعي لقرون، ومفعمة بكثير من الحس السليم والجنوح إلى العدالة الاجتماعية المعروفة لدى الأمازيغ. ماذا عن الأساس الثقافي؟ فثقافتنا ما زالت مؤطرة بفكر تقليدي يهيمن على جميع نظم المعرفة، بل إن تصاعد المد الإسلاموى يجعل الدينية (Religiosité) محينة في كل الخطابات المتداولة في سوق الثقافة، وكما أن المزايدة المحاكاتية بين مختلف الخطابات السياسية (الرسمية وغير الرسمية) فيما يتعلق باحترام المرجعية الدينية وعدم المساس بقدسيتها يجعل الدين حاضرا في الحياة اليومية للإنسان المغربي. وخصوصا أن مصدر الشرعية الأساسي بالنسبة للنظام السياسي منذ القرن السادس عشر هو هو "النسب الشريف"، بل الاعتقاد في "النسب الشريف" من طرف المغاربة عامتهم وخاصتهم، وفي ذات الوقت فإن هذا الاعتقاد بالامتياز الديني هو الركيزة الإيديولوجية الأولى للتراتبية الاجتماعية على المستوى الاعتباري والمعنوي، ولهذا فإن اللامساواة مرتبطة ارتباطا عضويا بالنسق السوسيو اجتماعي التقليدي في بلادنا. قد يطول بنا الحديث عن النسب في معناه الواسع كامتياز ديني لأن الناس مصدقون في أنسابهم كما يقول ابن خلدون. فالنسب- تاريخيا- سواء كان مصطنعا أو حقيقيا له وظيفة اجتماعية وسياسية، وحقيقته الوحيدة هي فعاليته في التاريخ أي يعتمد الحركية الجماعية الملتحمة بنوع من الوعي الجماعي التي تصنع التاريخ (المرابطون والموحدون لم يضعوا أسماء سلالاتهم على دولهم) ما عداها ذلك فالنسب أمر وهمي لا حقيقة له مستدركا بذلك ابن خلدون. لهذا يمكن اعتبار قيام السعديين انفصالا للنسب عن العصبية بالمفهوم الخلدوني وانتصارا للإسلام الطرقي المتمركز خاصة في البوادي المغربية وكذا انتصارا للمفهوم الحضري الجامد للنسب بتأييد من التكتلات الدينية والأسر الحاكمة. وهذا التحول الكبير في التاريخ الحديث في حد دلالاته لغز من ألغاز تاريخ المغرب. فعلى مجتمع تقليدي في كثير من ملامحه كالمغرب أن يواجه التحدي الحضاري، وعلى نخبته السياسية أن تطرق باب الحداثة بل وتقتحمها - بالمعنى الإجرائي وليس الجنحي للكلمة- اقتحاما يتطلب شجاعة صريحة وكذا معاناة فكرية كبيرة لأحداث ما اصطلح على تسميته بالقطيعة الايبسميولوجية على جميع الأصعدة، وإحلال النظرة التاريخية المتسمة بالنسبية والعقلانية محل النظرة التقليدية، وذلك لتحرير الإنسان المغربي من أثقال الفكر القرسطوي الذي يثقل ذهنه بالأساطير واللامعقول والتي تذكيه نسبة الجهل والأمية، وتحريك طاقته نحو البذل والاجتهاد في المجال الدنيوي الجاد وخدمة الإنسان والمجتمع، وتحقيق التراكم المعرفي العلمي، تراكم تنعكس نتائجه في مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ومما لا شك فيه أنه بالعمل والتفكير المنطقي استطاع العقل النسبي أن ينقل الإنسان من الكهوف إلى ناطحات السحاب، ومن الاهتداء بالكاهن والعرافة إلى الاهتداء بالمعرفة، فطريق التقدم ومحارب الجهل طريق شاق وغير آمن وغير مضمون الأهداف لكثرة المتربصين به. أما على الصعيد الروحي׃ فانتماء الأمة المغربية إلى دار الإسلام في إطار وحدة روحية مع أمم أخرى لم يمنع المغاربة من مقاومة الهيمنة التركية التي طالت إفريقيا الشمالية، إلى عهد قريب وقبل تصاعد المد الوهابي والمنبثق من بيئة نجد الصحراوية –كان وما زال معظم المغاربة يسبحون في ثقافة روحية صوفية أصيلة في إطار إسلام مغاربي مرابطي يتكلمون بحكمتها، ولا يشعرون أحيانا بمصادرها، ومصادرها بالطبع هو سلوك التصوف والفكر الكرامي (تـﯖرامت): ويعد فكر تـﯖرامت هذا من تجليات النبوغ الأمازيغي وإحدى علامات التثاقف بين المخزون الرمزي الأمازيغي والتعبد الروحي للأديان السماوية. فالدين تسليم بالإيمان والإيمان داخل نفوس المؤمنين هو منطقة ضمير حرة، والاعتقاد الديني يمنح لهم طمأنينة النفس وسمو الروح. ولا دخل للدين في حد ذاته في عبقرية اينشتاين وباستور وابن الهيثم ولا في نبوغ ابن رشد وايرازم وسبينوزا. فالمشكلة ليست في الدين ولكن في كيفية استعمال هدا الدين، لهدا يجب صيانته بعيدا عن ألاعيب السياسة ودسائس من يستغل الإيمان العفوي والبريء للمغاربة، ليمرره حسب أجندته السياسية وجني مكاسب دنيوية. أما المعرفة العلمية فهي خارج نطاق الدين ولا يفهمها رجاله، والإسلام منزه كدين، وليس طرفا في موضوع التخلف والمعرفة إنما هو خارج اللعبة بريء من التخلف، وليس عنصرا في غياب البحث العلمي. أما إبداء الرأي فهو تسليم بالخصومة والآراء المفعمة باليقينيات تؤدي بصاحبها إلى الانغلاق والتصلب الإديولوجي، وهو علامة عن الضعف والوهن الفكري. أما عن الهوية الوطنية فمن أهم شروط قيامها الشعور بالانتماء إما إلى قبيلة أو وطن أو إيدولوجيا. ففي العصور القديمة كان الشعور القبلي أقوى، ولم يعتبر المغاربة قط أنفسهم روميين باستثناء الحاصلين على الجنسية الرمانية بحكم قانون كاراكلا Caracalla212 م أما بعد مجيء الإسلام فأصبح الرابط الديني أقوى بانتمائهم إلى دار الإسلام، ولم يبلغ الانتماء إلى ما كان يسمى بجزيرة المغرب. وبعد ظهور العلوم الإنسانية ومساءلة التاريخ المنقوش والمكتوب والشفوي، لم يعد كافيا الشعور بالانتماء بقدر ما أصبح التنظير له واجبا وتحديا فكريا يسعى بتقدم مفهومي الهوية والأمة على سلم الارتقاء. وكثيرا ما يروج في الآونة الأخيرة عن مفهوم الهوية المتعددة لدى الطبقة السياسية عندنا، والهدف من تسويق هذا المفهوم هو تعويم جوهر الهوية والتنقيص من تميزها ولذلك فإن شعار الوحدة في التنوع أو التعدد المتداول هو شعار غير دقيق لأن المعطى الأصلي للهوية المغربية هو الوحدة التي تلقت روافد عدة عبر التاريخ من بينها الرافد الفينيقي والروماني والسوا حلى الافريقى واليهودي..... وأهمها بالطبع الرافد العربي الإسلامي وإن شعار الوحدة في التنوع يعني في العمق أن أرض شمال إفريقيا كانت أرضا خلاء terra nullius ، وعمرت تاريخيا بموجات بشرية أتت تبعا لأحقاب تاريخية مختلفة، وهي في نظرنا مغالطة يراد منها تمرير نموذج الفسيفساء والمكونات لهوية متعددة. فباعتبار الأمازيغية (كمفهوم ترابي وليس عرقي) صلب الهوية المغربية دعوة صريحة إلى إعادة صياغة وعي جديد بمعناها (أي الأمازيغية) تتجاوز الوعي المشكل بمعطيات محلية، وخلق وعي أكثر تنوعا وأكثر غنى، يشعرنا بالحق في امتلاك كل مكونات الأمازيغية أينما وجدت، وهذا في حد ذاته سيكون مكسبا سياسيا وثقافيا للأمة واعتبارها أيضا صلب الهوية دليل على أنها النهر الكبير الذي يتلقى الروافد بعضها قد يكون جف والبعض الآخر ما زال ينبض ويغني ونهر كبير (بتعبير حكمة هيراكليس Héraclès عن وحدة الوجود من خلال الصيرورة الداﺋمة) والذي يصب في محيط الإنسانية الواسع. وما نراه أحيانا من توجس وهوس من الانتماء الحميمي إلى الجهة أو الحاضرة، ما هي إلا ظاهرة عادية لا يمكن إنكارها وبل شيء طبيعي يسري على جميع شعوب العالم، وما يعتبر ثقافة المحلي أو الطروار terroir ما هي إلا علاقة متميزة وحنينية، مع من نقتسم معهم ذاكرة، أو لكنة، أو نكهة أطباق نشتم منها رائحة الأرض. لكنه في ظل تصورات ثقافية عرقية الهوى وانحسار وعي حداثي ديمقراطي معبأ للأمة، يصبح التشبث بالانتماء الجهوي هو الوسيلة التعويضية لإثبات الذات الوطنية قد يستفيد منها بعض الشيء و- إلى حين- المتلاعبون بوتر النعرة. فالسبيل الصحيح هو الإصلاح بما فيه إصلاح المفاهيم ورفع الفساد على أساس المواطنة والمساواة أمام الحقوق والواجبات. أما تمييز الهوية المغربية، فإنها بحق هوية مفتوحة مند آلاف السنين وليست مغلقة تؤثر وتتأثر بمحيطها المتوسطي والإفريقي ولا تعيش في عزلة كقلة قليلة من بعض المجتمعات الموغلة في البدائية، وهي ليست قارة (فحتى هوية اليابان الموصوفة بالقارة منذ آلاف السنين بحكم عزلتهم الجغرافية ولم يعرفوا غزوا ولا هجرات، استوردوا دياناتهم البوذية من الهند وكتابة حروفهم من الصين وتقنياتهم العصرية من أوروبا لتحقيق أمة سياسية حديثة)، هويتنا إذن متطورة عبر التاريخ وهي نتاج تفاعل مجتمعي، تاريخي وجغرافي وقائمة على قيم مشتركة. الخلاصة: خلاصة القول إن الهوية المغربية ليست مؤسسة على العرقية بأي حال من الأحوال وتاريخنا العريق يكذب ذلك وبشكل واضح، ولكنها تنبني قبل كل شيء على الشرعية التاريخية والواقعية الصارخة التي نستمد منهما الوعي الحاضر بثبوت هويتنا المتميزة. إن انتمائنا إلى حوض البحر المتوسط ومشاركتنا في تاريخه أثر في ثقافتنا تأثيرا كبيرا وجعلنا منفتحين على الآخر منذ آلاف السنين وطبع ثقافتنا بطابع الكونية. وهذا لا يجعل منا خليطا من الشعوب أو خردة إثنية، بل مزيجا رائعا منسجما ومندمجا في نسيج ثقافي واحد نعبر عنه اليوم.-إن اقتصرنا على اللسان فقط- بلغتين ووطنيتين هما الأمازيغية والعربية الدارجة المغربية. فلنكن سليلي الدوحة المغربية السامقة في الأعالي، الضاربة جذورها في عمق الأرض والتاريخ، دوحة يستظل بظلها جميع المغاربة مهما اختلفت مشاربهم ولغاتهم وأعراقهم ومعتقداتهم وتجمعهم أواصر القيم المشتركة وإرادة العيش الجماعي المبنية على أساس المواطنة والحرية والكرامة.
|
|