|
بين الإفصال والانفصال بقلم: ذ. مبارك اباعزي
تعرفنا على شخصية أنور مالك، أول مرة، عندما استضافته قناة الجزيرة، ضمن برنامجها اللامع «الاتجاه المعاكس». لقد كان مساجلا تبدى من خطابه تعوده على ممارسة الحجاج العقلي. من بين العبارات التي تحضرني الآن قوله: «إن العربي لا يستحق الحضارة.»، وحضورها بهذا الشكل ليس بريئا.. لا أشك أبدا أنه رجل يستحق كل الاحترام والتقدير، ولهذا السبب نفسه، أجدني ملزما بالحديث عنه بمعنى من المعاني. إنني لا أريده أن يسقط أمام عيني كخرقة بالية قديمة مهترئة. عندما طلب محمد رضا الطويجني، مدير جريدة الصحراء الأسبوعية، القصيرة العمر، من أنور مالك، أن يطل على قرائه كل أسبوع، استجاب لدعوته، وبدأ يوزع آراءه في هذه القضية وفي تلك. لامس قضية الصحراء كثيرا، ونظر إلى القضية الأمازيغية من بعيد، كالضيف الذي يرفض دخول بيتك ويصر على تناول قراك أمام باب بيتك. عهدنا بالكتاب أن آراءهم يعلكونها مدة طويلة، إلى أن يخرج منها مذاق سوء الفهم والتسرع. عهدنا بالصحافيين نبشهم العميق في التفاصيل، وتنقيبهم المضني عن جوهر الأشياء، فهل كان هذا هو ديدن الكاتب والصحفي الجزائري أنور مالك؟ وهو يتحدث، توهمنا نصوصه، بشكل ما، أنه مغربي قادم من الجنوب، وفي عاتقه قضية، وما كان إلا جزائريا مقيما بفرنسا نتيجة غضب السلطة عليه. لقد اقتنعت منذ زمن بعبد جدا، أن كل من نفته ورفضته واقتفت أثره السلطة، فهو كبير وعظيم ونزيه، والرجل نفته ورفضته.. السلطة. البديهية الأرسطية تلزمنا القول إن مالك كبير وعظيم ونزيه... ما أجملهم، ما أحبهم، هؤلاء المنفيون، هؤلاء المغضوب عليهم، حين يتحدثون، فكل ما يقولونه يبدو مقبولا ومنطقيا وعقلانيا ونورانيا. لكن، أحيانا ، يجب أن نتوقف عندهم بعض الوقفات، فمن يعيش في فرنسا ويتحدث عن قضايا المغرب، قد يفوته الكثير مما يجري داخل الوطن. كما أن الذي يخوض في قضية هي العصب الحساس لدول المغرب الكبير( ما أروع استعمالك لهذه العبارة) كالقضية الأمازيغية ملزم بالاطلاع على الخطاب السياسي الذي يعكس مختلف تجاذباتها، ولا نظن أن أنور مالك، فعل ذلك، تساهلا أو تجاهلا، لا يهم. يقول الكاتب: «إن المغرب الكبير ينام على براكين كثيرة، فهؤلاء الأمازيغ الذين تنمو بينهم نزعات انفصالية متعددة سواء كانت لدى بني ميزاب أو الطوارق أو الشاوية أو القبائل أو الريف... إلخ». وبما أن المعنى لم يكتمل بعد، ولن يكتمل إلا في رحاب التأويل، يضيف: «ونجد مخططات تبشيرية أيضا يراد منها في آن واحد خلق أقليات دينية لتظهر لاحقا أنها مضطهدة ومستضعفة تستحق التدخل الدولي على غرار ما يحدث في دارفور.»(جريدة الصحراء الأسبوعية، ع. 79، 17ـ23، 2010). ولكي نكشف عن النص استعاراته، وهي ليست بعيدة كثيرا، فالمقصود بالبراكين هي الأسرة التي تغفو عليها الدولة، فتستيقظ ذات مرة، لتجد أنها تنام على بركان. أما القول: «هؤلاء الأمازيغ» فهو أمر لا يخلو من احتقار وإبعاد وشراسة، وكأنه يشير إلى جنس غير مرغوب فيه. هذا الشعور الذي لن تفسر تعلاته وأسبابه ونتائجه كذلك. فاسم الموصول الذي جاء بعد «الأمازيغ»، قدم وعدا بالوصل فأخلفه، فتخلف المعنى واختلف. وربما هذا يستدعي من الكاتب أن لا يقف عند الأمور الحساسة وقفات مستعجلة، فالكتاب والصحافيون الحقيقيون لا يفعلون ذلك. نسأل كاتبنا العزيز: من أين أتاك حديث الانفصال؟ من أين سمعته؟ من أسرّ لك به؟ «إن أتاكم فاسق بنبأ فتبينوا» أليس كذلك؟ ما هي النصوص المنشورة التي كتبها السياسيون الأمازيغ، والتي يدعون فيها إلى الانفصال؟ هل قرأت الحركة الريفية بعيون الفاشيين وأتاك الخبر عاريا من الحقيقة؟ هل سمعت بخبر العلاقة بين الانفصاليين الصحراويين والريفيين، وصدقت تفاهات الاستقلاليين والعروبيين والفاشيين والغارقين في يوتوبيا السيادة الثقافية واللغوية والتاريخية للعروبة؟ أسئلة كثيرة، هي غيض من فيض، لا أعرف أيهما أقرب إلى نفس الكاتب، وأيهما التقطت آذانه السبعة (كآذان الصحافيين) جوابه. ولكي لا نقع في الانتقائية، لنا أن نقدم توضيحا لماهية الحركة الأمازيغية، لعل كاتبنا يتعظ، ويقول في مقال آخر: «أنصفوهم، إنهم مظلومون». هل أتاك حديث الانفصال: يحلو للبعض أن يطلق على بعض الفاعلين السياسيين الأمازيغ مصطلح «الانفصالي»، بمعنى أنه يدعو إلى الانفصال عن الوطن وعن الدولة، وعن فئة معينة هي العرب. إن لدلالة الانفصالي إحالات كثيرة، فهو إنسان حاقد وغاضب، عانى من سوط الوطن ويريد أن يرتاح بالانفصال. هل الأمازيغ انفصاليون أم إفصاليون: هل من حق أية فئة أن تنفصل عن أخرى، ما دامت ترى أن في عشرة الجماعة ضررا؟ يسمى هذا في أدبيات حقوق الإنسان بحق تقرير المصير، وهو ينطبق على كل الجماعات والفئات، إلا إذا كان ذلك ينافي المعقول والمقبول. إن الفئة التي تطالب مثلا بالانفصال، وتأخذ قسطا من الأرض لم يكن لها، وشهد شاهد من بنيها أنهم أخذوها بالعنف والدم والغزو والسرقة والاغتصاب.. هو ما ينافي، فعلا، المقبول والمعقول. لهذا نشدد على أمر أساسي، إن الراغبين في الانفصال عن هذه الأرض، لهم أن ينفصلوا عنها، لكن بتوجيه الخطى صوب الجزيرة العربية، صوب الدولار والنفط والبترول، وليس بنصب الخيام في أرض تامازغا. ويأتي الحديث عن الأمازيغ. إن النصوص التاريخية تقول ـ وهذا أصبح من المسلمات ـ إن أرض تامازغا، عاش فيها الأمازيغ منذ مدة طويلة جدا. فالذي يسأل عن المدة التي عاش فيها العرب في شبه الجزيرة العربية، عليه أن يقول الشيء نفسه عن الأمازيغ في أرض تامازغا. وفضلا عن هذا التعريب المتزايد، في المغرب والجزائر وتونس وليبيا، ما زال الشرقيون العرب يعرفون أن داخل هذا المستعرب روحا أمازيغية حرة. وكرة القدم هذه المرة، هي التي حسمت في قضايا سياسية شائكة كهذه. إذا كان إطلاق الحركة الانفصالية على الحركة الأمازيغية قدرا إلهيا، وحتمية عروبية، فالأحرى أن يسمى بالحركة الإفصالية، لأنه، مبدئيا، الأمازيغ لن ينفصلوا عن أرضهم، وإنما يريدون من الدخيل والمستعمر أن يغادر أرضهم. إن كان لا بد من تسميتها بالحركة الانفصالية، فالحركة الأمازيغية حركة إفصالية للعرب وغيرهم عن أرضهم. لقد بلّغ العرب الرسالة السماوية، وأصبحنا نحن الأمازيغ مسلمين، وقد أتى الحين الذي يعودون فيه إلى ديارهم. إنها حركة إفصالية الآن وليست حركة انفصالية. إن إصرار المستعرب على استعمال الانفصالية كسلاح سيوازيه، على قدم المساواة والتجاور، إصرار من قبل الأمازيغ على التمسك بالإفصالية. أما إذا حدث العجب العجاب، فإن الأمازيغ، سيتمسكون كما عهدناهم، بالرغبة في التعايش السلمي الحق، التعايش اللغوي والثقافي الحقيقي المبني على المساواة. في رحاب التأويل: بدأ مالك القول بأن الأمازيغ تنمو بينهم نزعات انفصالية، ونظن أن في هذا استعمالا رخيصا للغة، أو استعمالا ذكيا. فالأمازيغ لا تنمو بينهم النزعات الانفصالية، وإنما تنمو من بينهم، فهم لحمة واحدة لا تتجزأ. وفي استدراك القول المسؤول، أقول إن الذي ينمو هو النزعة الإفصالية، وليس الانفصالية كما يقول مالك. أما الاستعمال الذكي فهو عندما يفهم من كلامه أن النزعة الانفصالية، هي بين الأمازيغ، وهؤلاء هم كل سكان شمال إفريقيا الذين تعربوا منهم والذين تمسكوا بأمازيغيتهم. وبعد أن استجمع الكاتب أنفاسه، واختلط عليه السابق باللاحق، فقد ترك وراءه جملة مبتورة، كتبها على عجل، تستحق الشفقة عليها وعلى كاتبها. لقد أبدى خوفه من الفئات التي تشكل أقليات دينية تستحق التدخل الدولي، وكأنه هنا يقرن اللاحق بالسابق، فالأمازيغ أقلية إثنية تقدم نفسها كالمذلول وتستحق التدخل. مما يضع الكاتب في مأزق معرفي خطير، قد يطول بنا الحديث في حين مناقشته. إن القضية الأمازيغية ليست مجهولة، وكتابها ليسوا مجهولين، وأدباؤها معروفون، وفنانوها تدرس إيقاعاتهم ومقاماتهم في الدول الكبرى. إن الأمازيغ شعب أسهب في الحديث عنه الفلاسفة اليونان واللاتينيون، وأطال العروبيون هرطقاتهم في النصف الثاني من القرن العشرين، وما على كاتبنا إلا أن يبادر إلى قراءة هذا الكم الوفير ليدرك حقيقة الأمازيغ قديما وحديثا. لعلك بعد ذلك تقول «أنصفوهم» كما يقول المفكرون الكبار ذلك في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. (طانطان في 2010-09-20)
|
|
|