|
|
ماذا لو أن الأمازيغية...؟ بقلم: ميمون أمسبريذ في فلتة من فلتات الدهر، استضافت القناة الأولى، في شخص السيد ياسين عدنان، صاحب البرنامج الأدبي «مشارف»، الشاعر الأمازيغي الأستاذ محمد مستاوي. استضافة الشاعر الأمازيغي جاءت بعد أن استنفذ السيد عدنان أو كاد جل الكتاب والكتبة المغاربة الذين يكتبون بالعربية؛ وبعد أن عمد – سدا للنقص – إلى استيراد كتاب عرب من الشرق الأوسط. لكن لا بأس، فالإقلاع عن الخطأ خير من التمادي فيه على كل حال (أخيرا فطنت المؤسسة الوطنية للإذاعة والتلفزيون إلى أن لـ"البربر" أدباء أيضا وليس فقط فرس؟ !). استوقفتني من الحلقة المذكورة عبارات التعجب التي فاه بها عدنان في حق الشاعر الضيف، حين قال – وملء وجهه ابتسامة تعجب واستغراب منشؤها ولا شك الإحساس بالمفارقة - : إن دواوين شعرك حققت من المبيعات ما لم تحققه الأعمال المكتوبة بالعربية والفرنسية! المفارقة التي أعنيها تتمثل في أن الأدب المكتوب بلغتين إحداهما رسمية وأخرى شبه رسمية، تتمتعان بمكانة رمزية ومؤسسية لا تضاهى، وتصرف على نشرهما – من خلال التعليم والإعلام وسائر المرافق العمومية والخاصة – ميزانيات ضخمة، (هذا الأدب) لا يستطيع أن يحقق من المبيعات، وإذن من المقروئية، ما يحققه أدب مكتوب بلغة ليست فقط لا تتمتع بشيء من ذلك (لا مكانة رمزية ولا مؤسسية ولا ميزانيات تنفق عليها)، بل وتعتبرها الإيديولوجية المهيمنة بمثابة العدو الذي ينبغي القضاء عليه! لغة لم تنل من الدولة والأحزاب غير العداوة والإقصاء والتحقير؛ وفي أحسن الأحوال: اللامبالاة والتجاهل – هذه اللغة تنتج أدبا يحقق من الذيوع والانتشار ما لا يبلغه أدب ينتج في لغتين تسخر لهما منذ نصف قرن موارد مالية وبشرية ضخمة: في التعليم، من الروض إلى الجامعة؛ وفي الإعلام، على مدار الساعة؛ وفي التداول المؤسساتي مثل ذلك. ومن وراء الموارد المالية والبشرية الضخمة آلة إيديولوجية جهنمية تشتعل ملء طاقتها: رفعا من شأن اللغتين المهيمنتين وما ينتج فيهما، وحطا بكل ما هو أمازيغي: لغة وثقافة وتاريخا وحضارة. السؤال الآن هو: ماذا لو كانت الأمازيغية تتمتع بنفس ما تتمتع به اللغتان المهيمنتان من موارد مالية وبشرية وإيديولوجية؟! ألم تكن الأعمال المكتوبة فيها ستحقق رواجا ومقروئية أوسع بما لا يقارن بما استطاعت أعمال الشاعر محمد مستاوي أن تحققه في غياب كل ذلك؟! بلى.وما يقال عن الأدب يقال في سائر حقول الثقافة والفن: من مسرح وسينما وموسيقى. إذ رغم أن الإنتاج الأمازيغي في سائر هذه الفنون ينمو، كالزراعات البورية، في أرض بور لا تتوفر فيها أدنى شروط الإنتاج الفني، فإن ما يتمكن من تلك الإنتاجات من الوصول إلى المتلقين كثيرا ما يحقق نجاحا لا تحلم به تلك الإنتاجات التي من ورائها لغتان متكفل بهما رسميا، وبنيات تحتية توفر لها شروط الإنجاز، وأخرى ظروف الانتشار، من مدارس وثانويات وكليات ومعاهد وإذاعات وقنوات تلفزيونية وصحف ومجلات ودوريات... هكذا نجد الإحصائيات (على قلتها وعلاتها - آفة القرصنة) فصيحة في هذا الباب: الموسيقى والأفلام الأمازيغية تتبوأ الصدارة في السوق! والواقع أنه ليس في هذا ما يثير التعجب: شعب أما زيغي يتلقى أدبا وفنونا أمازيغية! وإنما وضعت علامة التعجب للحيثيات التي بسطتها أعلاه : كيف لأعمال تنتج خارج كل تغطية مؤسساتية أن تبز "مثيلاتها" التي تحظى حاملاتها اللغوية والثقافية بكل الرعاية المؤسساتية؟ تعلمنا في درس الفلسفة بالثانوي ذلك التعريف الماركسي للثقافة بأنها "بنية فوقية"... ويبدو أن القيمين على شؤوننا فهموا هذا التعريف فهما حرفيا. إذ أنهم يحسبون الثقافة "شيئا" إضافيا، سطحيا، فوقيا، عارضا، يمكن اقتناؤه أو استعارته ليوضع فوق "البنية التحتية" على سبيل الزخرفة والتجميل! وهم إذ يفعلون ينسون أن الآداب والفنون الحق هي تلك التي تنبت من التربة اللغوية-الثقافية لمنتجيها ومتلقيها. إنها، هي وحدها دون غيرها، التي تستطيع أن تخاطب وجدان الجماعة وتحاور ذاكرتها وتعبئ مخيالها، محققة بذلك مستوى حميما من التواصل مع المتلقي، مرده إلى أن كلا من الأديب/الفنان ومتلقيه يعبئان ذات الرصيد المشترك من العلامات (المفردات اللغوية وحقولها الإيحائية، الصور البلاغية من تشبيهات واستعارات وكنايات، ووجوه الأسلوب من تلميحات وتعريضات وإحالات ...)؛ وذلك مهما بلغت الانزياحات والزحزحات التي قد يجترحها الأديب/الفنان في حق ذلك الرصيد المشترك. ذلك، تحديدا، هو ما يتحقق – حين يتحقق – للأعمال الأدبية والفنية الأمازيغية التي تتمكن، بفضل عناد مبدعيها، من تحطيم جدار الصمت والوصول إلى متلقيها. وذلك ما لم يتوقف عنده السيد ياسين عدنان لكي يجد حلا للمفارقة التي أثارت استغرابه؛ فاكتفى بتسجيلها. (هذا التسجيل في ذاته فضيلة تحسب لصاحبها: إذ يفترض في من قام به شجاعة فكرية تغيب مع الأسف لدى أغلب الفاعلين في الحقل الثقافي). شهادة أتذكر أن القناة الأولى بثت مرة – في واحدة من هفواتها النادرة – الفيلم الأمازيغي "إمزورن". فكان أفراد الجالية الريفية يتداعون إلى التحول إلى القناة المذكورة – هم الذين لا يعيرونها اهتماما يذكر في الأوقات العادية بسبب بعد برامجها عنهم بعد السماء عن الأرض. فكان المقيم في هولندا إذا صادف الفيلم هاتف المقيم في بلجيكا وفرنسا يدعوه إلى التحول إلى القناة الأولى لمشاهدة الفيلم الأمازيغي. وكذلك يفعل المقيم في بلجيكا أو فرنسا أو ألمانيا وأسبانيا. ولم أسمع من قبل أفراد الطائفة الأمازيغية بالمهجر تناقش فيلما إلى أن كان ذلك الفيلم الأمازيغي. فكنت تسمع النساء والرجال في الجلسات العائلية وفي الأحياء وعبر الهاتف يحكي بعضهم لبعض وقائع الفيلم ويعلقون عليه... انتهت الشهادة. يقع هذا في أوساط يقال عنها عادة إنها منغلقة أو مستلبة أو عرضة لتيارات التطرف الديني ... فأين الذين يزعمون أنهم يعملون على تحصين المغاربة في الداخل والخارج من الاستلاب الثقافي؟! هل تحصينهم يكون بمزيد من التعريب والفرنسة؟! يتحدثون عن "الخصوصية المغربية" بمناسبة وغير مناسبة؛ ثم لا يلبثون أن يعودوا ليغرقوها في هوية عربية مزعومة للمغاربة! وليس ما يستشعرونه في غموض حين يذكرون "الخصوصية المغربية" في واقع الأمر سوى هذه الأمازيغية التي يكبتونها في أنفسهم خوفا من "الأنا العليا" الأيديولوجية التي استوطنت ضمائرهم؟ وبما أن المكبوت ينتهي دائما بأن يعود، ولو بطرق ملتوية، فإنك تجد أمازيغيتهم المكبوتة تعبر عن نفسها بمختلف الصور والأشكال: بدء من الرفض المعلن للاختراق الديني كما يتجلى في سياسة تدبير الشأن الديني من قبل وزارة أحمد التوفيق، وانتهاء بالشكاوى المتكررة للفنانين المغاربة من عقدة النقص المزمنة التي تجعل منظمي المهرجانات الموسيقية يبذلون الغالي والنفيس في سبيل استقدام صبايا وفتيان مشارقة تقوم الأجساد عندهم مقام الفن، فيما يعامل الفنان المغربي بازدراء، ولا يؤتى معشار ما يؤتى أولئك المشارقة... مرورا بتأذي أهل "الثقافة العالمة" من أبوية المشارقة... لكن أكثر صور عودة المكبوت التواء (ومرضية) هي تلك التي تشتغل ب"المقلوب"، فتجعل بعض المغاربة يعدون أنفسهم – هربا من أنفسهم – أكثر عروبة من العرب (وهذا شأن السيد خالد السفياني وجماعته شفاهم الله ووقانا وإياكم سوء المنقلب، آمين!). إن الأمازيغية هوية ثقافية وليست عرقية. والثقافة بنت الأرض التي نشأت فيها. لذلك فكل المغاربة أمازيغ لأنهم مغاربة. سواء في ذلك الذين يقرون بأمازيغيتهم ويدافعون عنها والذين ينكرونها جهلا ويعادونها مرضا. فتعالوا – معشر المغاربة – إلى حصة استشفاء جماعية نصارح فيها أنفسنا ونصالحها، بدل الاستمرار في الجري وراء الوهم. فليست النسخة كالأصل، ولا السابق كاللاحق، ولا الشيخ كالمريد... وعندئذ يفرح المغاربة بما أوتوا...
|
|