أم
كسيلة تتحدث عن ابنها..
بقلم: عساسي عبد الحميد (الرباط)
إن كنتم تلحون على أن
أحدثكم عن ابني "أكسيل"، فدعوني هنيهة أرتب ألفاظي؛ وألملم شتات
أفكاري؛ واعذروا وهن ذاكرتي وتلعثم لساني؛ فأنا امرأة في خريف عمرها
تنتظر الرحيل بشوق كبير؛ وتتلهف لراحة القبر كما يتلهف الظمآن لرؤية
ماء الغدير بعد مشقة يوم طويل.
كانت ولادة ابني البكر
في يوم من أيام الصيف؛ وما زلت أتذكر تلك السنة كما البارحة؛ لأن
نتاجها من القمح وسائر الغلال كان وفيرا ودرت نعاجنا لبنا غزيرا ومحتنا
وبرا كثيرا، وفاضت خوابينا عسلا جيدا وزيتا رفيعا، وحتى الفقير منا قد
ملأ سلاله من اللوز والزيت؛ ومطاميره من الحنطة و الشعير، لقد كان ذلك
العام مباركا ميمونا؛ وكانت الفرحة تعلو محيا الجميع، وأقمنا أعراسا
وأفراحا ليالي طوالا.
كان ابني ينمو
كالغزال؛ وكان جميلا كزهرة البرواق؛ تعلو خدوده حمرة فاتنة كرمان
البرانس؛ وكانت ابتسامته وصخبه يملآن علينا البيت ويغمران قلب من
يجالسه ويلاعبه بفرحة غامرة.
لم يمض ولدي "أكسيل"
طفولته كسائر أترابه؛ فقلما شاركهم لهوهم وصخبهم في الساحات والأزقة؛
بل كنا نجده وهو يجلس قرب الشيوخ والعقلاء ينصت لحديثهم بشغف غريب؛
واهتمام كبير؛ وقد لاحظ الجميع وحتى الغرباء الذين كنا نستضيفهم في
بيتنا من رومان وعرب ويونان؛ نعم .. حتى هؤلاء لا حظوا أن "أكسيل" كان
خجولا قليل الكلام؛ وإن تكلم أوجز وأصاب؛ ولهذا كان محط اهتمام الجميع،
وطالما رافق رعاة الغنم إلى الغابات والجبال؛ وكم نصحته مرارا أن لا
يمكث طويلا خوفا عليه من الذئاب، فكان يرد علي بلطف وبابتسامة عذبة؛ أن
الذئاب عكس ما نتصور فهي
ودودة
لطيفة؛ تشاركنا الطعام وتتقاسمنا المياه وتساكننا الجبال والغابات،
هكذا كان في طفولته وشبابه عطوفا حتى على الحيوانات، وما زلت أتذكر كيف
كان يهب لخدمتي بشغف كبير؛ رغم أنه كان لدينا خدم كثير؛ فكم غسل رجلي
هاتين؛ وكم ناولني الماء الزلال بيديه الحنونتين؛ وكان يحرص بنفسه على
انتقاء لي العنب الطري وتقديمه إلى بعطف كبير؛ ويوصي الخدم لكي يجهزوا
لي أطعمة طيبة تلائمني وتناسبني؛ وحتى بعد زواجه كان يحرص على خدمتي
والاعتناء بي؛ ويقبل يدي ورأسي قبلات حارة ما زال هذا القلب الجريح
يتذكر دفئها وعذوبتها.
كان آخر عهدي بابني "أكسيل"
يوم جهز حصانه؛ وحمل ترسه وسيفه؛ وأعد العدة صحبة جنده؛ قال لي يومها
إنه ذاهب لملاقاة الأعداء ورد الدخلاء، وكان يردد دائما أن ارض تامازغا
ترحب بالوافدين المسالين؛ ولا مكان بيننا للمتسلطين الناهبين؛ وأننا مع
الإيمان الحق الذي يعلي من كرامتنا ويصون عرضنا؛ ولا نقبل من يسلب
رزقنا ويمرغ كبرياءنا؛ هكذا حكى معي وقبل يدي بحرارة لم أعهدها من قبل؛
ومضى صوب الشرق؛ إلى... ما وراء الأوراس.
يقولون... إنه قضى
نحبه هناك قرب قلعة "ممش" مع خيرة جنده وصفوة صحبه؛ ومنذ أن نعوه لي؛
وسيف الحزن يمزق أحشائي بضراوة؛ ولوعة الفراق تتأجج في صدري بشرارة؛
ولو أني أعلم أن الحديث عن ابني "أكسيل" سيخفف عني حرقتي وانكساري؛
لملأت أديم الأرض حديثا؛ وأثير السماء صياحا؛ إلى أن تغرب شمس حياتي
وتفيض آخر أنفاسي.
آه... إن نفسي كئيبة
حتى الموت وقلبي تظلله غيوم كثيفة من الحزن العميق على "أكسيل"، ويا
ليتهم حملوا إلى رفاته ليوارى الثرى قرب الأهل والأحبة؛ ويا ليتني أعلم
أية تربة تحتضن "أكسيل" لأذهب أليه وأبرد بعض حرقتي وأطفئ شيئا من
لوعتي.
قد أتكون أسهبت
وأطنبت؛ وأفرطت في حديثي هذا عن ابني الذي أحببته من أعماق نفسي،
فمعذرة مرة أخرى؛ فأنا امرأة في أواخر عهدها تنتظر الرحيل بشوق كبير؛
وتتلهف لراحة القبر كما يتلهف الظمآن لرؤية ماء الغدير...