من يريد العودة بالقضية
الأمازيغية إلى الوراء في المغرب؟
بقلم:
محمد بودهان
بالعدد 8402 (يوم 29/11/2001) من يومية "الشرق الأوسط"، نشر الأستاذ
عبد الحي المريني مقالا بعنوان "دوران منسجمان للعربية والأمازيغية في
المغرب، الأولى لغة العقيدة والثقافة الإسلامية والثانية تعبير عن
الأصالة المغربية"، ضمنه أفكارا وتحليلا تم تجاوزهما بالمغرب حتى من
طرف الذين لا يكنون عطفا للأمازيغية. فلم أكن لأناقش الأستاذ عبد الحق
المريني في ما كتبه لولا أنه يعود في مقاله بالقضية الأمازيغية عقودا
إلى الوراء بعد أن أصبح الاعتراف بالأمازيغية ورد الاعتبار لها مسألة
تم الحسم فيها بإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وهذه العودة
بالنقاش حول الأمازيغية إلى الوراء يعترف بها الأستاذ عبد الحق المريني
نفسه في مستهل مقاله حيث كتب بأنه سبق له أن نشر في أواخر الستينات
(69) بحثا عن "مظاهر الحضارة البربرية"، إلى أن يقول: «وها أنا ذا أعود
إلى الموضوع في فجر الألفية الثالثة وأطرقه من زاوية أخرى».
سأركز في مناقشتي لمقال الأستاذ عبد الحي المريني على العناصر التالية:
1
ـ حقيقة هوية المغاربة:
يقول الأستاذ عبد الحي المريني: «لا يخفى ـ بادئ ذي بدء ـ أن الاختلاف
بين سكان المغرب الناطقين بالعربية والناطقين بمختلف اللهجات
الأمازيغية لا يعني اختلافا في العرق، بل هو اختلاف "لغوي" لا أقل ولا
أكثر». لما قرأت هذا النص قلت بأن هذا تحليل سليم بدأه الكاتب بهذه
المقدمة ليخلص بها إلى أن هوية المغاربة هوية واحدة، وهي الهوية
الأمازيغية، رغم أن جزءً منهم لا يتحدث الأمازيغية إطلاقا. لكن ما أن
تابعت قراءتي للمقال حتى تبين لي أن الأستاذ عبد الحق المريني انطلق من
هذه الحقيقة/المقدمة ـ اختلاف المغاربة في اللغة وليس في العرق ـ
ليوظفها ويصل بها إلى نتيجة مخالفة لتلك المقدمة، مؤدى هذه النتيجة أن
السكان المغاربة مزيج من الأعراق والأجناس والشعوب المختلفة التي نزحت
إلى المغرب من مختلف الأصقاع والبلدان، لينتهي إلى السؤال التالي: «فهل
بعد هذا المزيج وهذا الازدواج يستطيع أي مغربي أن يثبت إثباتا راسخا
بأن أصله بربري قح أو عربي قح أو أندلسي قح؟».
هذا السؤال يحول النقاش إلى مسألة "العرق" و"النسب" لتجنب إثارة موضوع
الهوية بهدف تغييب الأمازيغية، التي هي العنصر الرئيسي في تشكيل هوية
المغاربة، وتعويمها داخل خليط من الأعراق والجناس والسلالات. وبما أن
لا أحد ـ في العالم كله ـ يستطيع أن يثبت نقاء انتمائه العرقي بالمفهوم
البيولوجي، فهذا يعني، حسب منطق الأستاذ عبد الحي المريني، أن الكلام
عن هوية أمازيغية واحدة وأصلية كلام غير علمي وغير موضوعي. وهذا طرح
مغلوط وغير سليم لأنه يخلط بين العرق والهوية مع أنهما ظاهرتان
ومفهومان مختلفان. فالهوية ليست هي النقاء العرقي الذي لا وجود له
بصورة كاملة حتى عند الجماعات المغلقة التي تمارس الزواج العشائري
Endogamie،
فبالأحرى أن يكون هناك نقاء عرقي في مجتمعات مفتوحة ـ كالمجتمع
الأمازيغي ـ عرفت طيلة تاريخها الهجرات والغزو والاستعمار. وهذه
الأخيرة ـ الهجرة والغزو والاستعمار ـ لا تؤدي إلى تعدد في الهوية بناء
على ما قد تؤدي إليه من تعدد عرقي. فهناك حالات ثلاث قد تنتج عن
الاختلاط بين الشعوب بفعل الهجرات أو الغزو أو الاستعمار:
أ
ـ إما أن يُقضى على الشعب الأصلي بالإبادة والقتل، وبالتالي تموت
هويته وتزول نهائيا، وتحل محلها هوية الشعب الغازي المستعمر، كما حصل
في أميريكا الشمالية على الخصوص، حيث اختفت الهوية الأصلية للهنود
الحمر وبرزت مكانها الهوية الأميريكية ذات الأصل الأوروبي. وهذا ما لا
ينطبق على الشعب الأمازيغي الذي لم يسبق لأي شعب آخر أن أباده أو قضى
عليه.
ب
ـ وإما أن لا يكون للاختلاط الناتج عن الهجرات والغزو والاستعمار تأثير
يذكر على الهوية الأصلية للشعوب التي تعرضت للهجرات والغزو والاستعمار،
مثل الشعب العربي الذي حكمه الأتراك لأزيد من ثمانية قرون دون أن يؤدي
ذلك إلى أدنى تأثير على الهوية العربية لتصبح هوية متعددة: عربية
تركية، بل لقد بقيت هوية عربية واحدة رغم ما قد يحمله الدم العربي من
عنصر عرقي تركي بفعل المصاهرة الناتجة عن الاختلاط بين الشعبين لمدة
طويلة. وهذه الحالة الثانية تنطبق، بصورة أصدق وأوضح، على الهوية
الأمازيغية لسكان شمال إفريقيا. فقد وفدت على هذه البلاد شعوب مختلفة
(غازية ومستعمرة ومهاجرة ومتاجرة..) من فينيقيين ورومان ووندال وعرب
وأتراك وفرنسيين وإسبانيين.. ومع ذلك فإن هوية الشعب الأمازيغي بقيت
واحدة ولم تصبح متعددة بتعدد هذه الشعوب التي تعاقبت على شمال إفريقيا،
رغم أن الدم الأمازيغي يحمل بالتأكيد بعض جينات هذه الشعوب التي اختلط
بها الأمازيغيون عبر التاريخ. أما العدد القليل من العرب الذين استقروا
بشمال إفريقيا، فقد اندمجوا بسكانها الأصليين وتبنوا هويتهم وأصبحوا
جزءا منهم، كما يحصل لكل من يهاجر إلى بلد ويستقر به بصفة نهائية: فبعد
ثلاثة أو أربعة أجيال يصبح الأبناء المنحدرون منه جزءا من السكان
الأصليين في الهوية والانتماء. ويجب أن نذكر هنا بأن عدد العرب الذين
استقروا بالمغرب أقل بكثير ممن استقروا بفارس، نظرا للقرب الجغرافي
لهذا البلد من موطن العرب الذي انطلقت منه الفتوحات. ومع ذلك فليس هناك
من يقول بأن الهوية الإيرانية هوية متعددة: عربية وفارسية. فالهوية
الأمازيغية، إذن، هوية واحدة، لا تعدد في أصلها ومضمونها الهوياتيي
الأمازيغي الصرف، مثلها في ذلك مثل الشعب العربي نفسه، أو الفارسي أو
الإسباني… فهذه الشعوب عرفت غزوا واستعمارا وهجرات دون أن يؤدي ذلك
إلى تعدد في هويتها الواحدة والأصلية.
ج
ـ وإما أن يؤدي الاختلاط الناتج عن الهجرات والغزو والاستعمار إلى تعدد
حقيقي في الهويات ببلد ما، ولكن لا يؤدي إلى تعدد في الهوية الواحدة.
وهذا ما نلاحظه مثلا في بلجيكا وسيويسرا وبلدان أخرى. ففي سويسرا هناك
أربع هويات متمايزة داخل بلد واحد: الهوية الألمانية، الهوية الفرنسية،
الهوية الإيطالية والهوية الرومانشية التي هي هوية السكان الأصليين.
هناك إذن، بسويسرا، هويات قائمة بذاتها مستقلة بعضها عن بعض داخل بلد
واحد، وليست هناك هوية متعددة بأربعة مضامين.
وإذا كان من غير الممكن لأي أمازيغي أن يثبت نسبه الأمازيغي العرقي
القح، فهذا لا يعني أن هويته غير أمازيغية، لأن الهوية ليست هي النقاء
العرقي كما قلت. وهذا يصدق على كل شعوب الدنيا، وليس فقط على الشعب
المغري: فلا يستطيع مثلا أي إسباني أن يثبت أنه إيبيري قحّ، خصوصا أن
إسبانيا تعرضت تقريبا لنفس الموجات من الهجرات والغزو والاستعمار التي
عرفها المغرب. ومع ذلك فلا أحد يناقش أو يشكك في أن هوية الشعب
الإسباني هي هوية إيبيرية. فهوية المغاربة إذن هوية أمازيغية رغم ما قد
يجري في دمائهم من عناصر عرقية ذات أصول غير أمازيغية ـ كما هو الشأن
بالنسبة لكل شعوب العالم ـ لأن الأصل في سكان شمال إفريقيا أنهم
أمازيغيون، وعلى من يدعي العكس ان يثبت ذلك، وليس أن يطالِب
الأمازيغيين بأن يثبتوا له انتماءهم الهوياتي الأمازيغي، لأن عبء
الإثبات يقع على عاتق المدعي. فلا يصح أن نطالب إسبانيا مثلا بأن يثبت
أنه إيبيري الهوية لأن الأصل في سكان إسبانيا أنهم إيبيريون ولا يحتاج
ذلك إلى إثبات، مثلما أن سكان شمال إفريقيا هم أمازيغيون أصلا ولا
يحتاج ذلك إلى إثبات من طرفهم حتى يعترف لهم بهويتهم الأمازيغية.
حسب منطق الأستاذ عبد الحق المريني، بما أنه لا يمكن لأي مغربي أن يثبت
أنه أمازيغي قح، فلا يمكن بالتالي الكلام عن هوية أمازيغية. فيتساءل
ويجيب: «فمن نحن إذن؟ نحن مغاربة أبا عن جد، مغاربة ذوو أصول مختلفة
عريقة في التاريخ والمجد: بربرية وعربية وأندلسية». هنا أيضا، كما في
مسألة الأصول العرقية المتعددة للمغاربة، يورد الأستاذ عبد الحق
المريني حقيقة بديهية بسيطة لا يجادل فيها أحد، لاستبعاد وإخفاء ما هو
أهم: الهوية الأمازيغية للمغاربة. ذلك أن هناك فرقا بين الانتماء إلى
المغرب والانتماء إلى الأمازيغية. فكل مغربي هو بالضرورة أمازيغي، لكن
ليس كل أمازيغي هو بالضرورة مغربي. فقد يكون من الجزائر أو تونس أو
ليبيا أو حتى من مصر، تماما مثل المواطن السعودي الذي هو بالضرورة عربي
في هويته، لكن ليس كل من هو عري الهوية سعوديا، فقد يكون كويتيا أو
قطريا أو إماراتيا أو يمنيا… فالانتماء إلى المغرب يتعلق بالجنسية
وبالانتماء القطْري والجغرافي، وليس بالانتماء الهوياتي المرتبط
بالأمازيغية، مثل المواطن النمساوي الذي هو نمساوي في جنسيته وقطْره،
لكنه جرماني في هويته. فالجنسية إذن شيء، والهوية شيء آخر، وليس هناك
دائما تطابق بينهما. ومفهوم "المغرب" كجنسية وتحديد جغرافي وقطْري،
مفهوم حديث مقارنة مع الهوية الأمازيغية الضاربة في أعماق التاريخ.
وعليه، فسكان المغرب الحاليون مغاربة بجنسيتهم وبالقْطر الذي ينتمون
إليه، لكنهم أمازيغيون في هويتهم.
لنساير، مع ذلك، تحليل الأستاذ عبد الحق المريني ونسلم معه بأن هناك
تعددا في مكونات هوية المغاربة التي هي ذات أصول «بربرية وعربية
وأندلسية» دون أن نسأله أين وضع العناصر الأخرى الفينيقية والرومانية
والوندالية واليهودية. لكن نسأله: أين هو هذا التعدد وهذا التمازج وهذا
التعايش بين هذه المكونات الثلاثة (بربرية وعربية وأندلسية) للشعب
المغربي؟ فنحن في المغرب لا نجد أثرا لأية تعددية لا في الدستور ولا في
المدرسة ولا في المحكمة ولا في الإدارة. فليست هناك إلا اللغة العربية
ولا مكان للغة الأمازيغية بجانب العربية كدليل على هذه التعددية التي
تميز الشعب المغربي. على العكس من ذلك، كل شيء، على مستوى الممارسة
والواقع، يؤكد هيمنة لغة واحدة وفكر واحد وعرق واحد وإعلام واحد… هناك
إذن تناقض في مثل هذه الخطابات التي تعترف بالأمازيغية كمكون رئيسي
للشعب المغربي عرقيا وثقافيا ولغويا، لكن لا تعطى، على مستوى الممارسة
والمؤسسات، للأمازيغية المكانة التي تناسب حضورها ضمن مكونات الشعب
المغربي. فكأن الأستاذ عبد الحي المريني، وغيره ممن يتبنى هذا الموقف،
لا يستحضر التعدد والتعايش والتمازج إلا لتبرير هيمنة ما ليس أمازيغيا
وإقصاء ما هو أمازيغي.
2
ـ الأمازيغية بين اللهجة واللغة:
وإذا كانت الأمازيغية لا وجود لها في الدستور والمدرسة والمحكمة
والإدارة، فذلك لأنها، دائما حسب منطق الأستاذ عبد الحي المريني، مجرد
"لهجات" متعددة قاصرة وعاجزة «على التعبير في المجالات العلمية
والتقنية والإدارية المتقدمة، إلا ما كان لها من غنى في مجال التعبير
الأدبي والفني، مما يدخل في نطاق التراث الشعبي الذي أبدعه المغاربة
مثلا بمختلف اللهجات». قلت في بداية هذه المناقشة إن الأستاذ عبد الحق
المريني يعود بالقضية الأمازيغية عقودا إلى الوراء. وها هو يؤكد ذلك
مرة أخرى فيعود بنا إلى الستينات عندما كانت تثار، مع البدايات الأولى
لظهور الحركة الأمازيغية، مسألة ما إذا كانت الأمازيغية لغة أم لهجة.
فهذا النقاش أصبح اليوم متجاوزا جدا ولم يعد أحد ممن له إلمام بسيط
بخصائص ومواصفات اللغة الأمازيغية يجادل في كونها لغة بامتياز.
لكن ما دام أن الأستاذ عبد الحق المريني قد أثار هذا الموضوع من جديد
بعد أن فُرغ منه وتم الحسم فيه، أود أن أسأله هذا السؤال: ما الفرق بين
اللغة واللهجة وكيف نميز بينهما؟ باختصار وتبسيط بيداغوجي نقول بان
اللغة هي لهجة تدرّس، وأن اللهجة هي لغة لا تدرس. فمعيار التمييز إذن
بين الإثنين هو المدرسة والتدريس. وعليه، فإذا كانت الأمازيغية لهجة،
كما يريد الأستاذ عبد الحق المريني، فذلك لأنها محرومة من المدرسة.
وهكذا تكون اللغة الأمازيغية لهجة لأنها ممنوعة من المدرسة، وليست
ممنوعة من المدرسة لأنها لهجة كما يذهب إلى ذلك الأستاذ عبد الحق
المريني. وهذه هي الحلقة المفرغة، التي يريد الأستاذ عبد الحق المريني
والذين يقفون نفس الموقف من الأمازيغية، أن يحاصروا داخلها الأمازيغية:
فهي لا تدرّس لأنها لهجة، وهي لهجة لأنها لا تدرس. ويكفي لتكسير هذه
الحلقة المفرغة تمتيع الأمازيغية بحق التمدرس لتكون لها مكانتها كلغة
قادرة على إنتاج المعرفة ونقلها وتداولها.
ومن جهة ثانية، فالمعروف الثابت أن الأمازيغية، رغم ما يبدو من اختلاف
ظاهري بين لهجة الشمال والجنوب بسبب التباعد الجغرافي وانقطاع التواصل
بين المجموعتين من السكان، فإنها ذات نظام نحوي وصرفي وتركيبي واشتقاقي
واحد لا يختلف من لهجة إلى أخرى عبر كل بلدان شمال إفريقيا حيث لا تزال
اللغة الأمازيغية حية متداولة. والمسلم به أن اللغة ليست هي الكلمات
التي تشكل المعجم، بل هي مجموع القواعد النحوية والصرفية والتركيبية
التي تحكم العلاقة بين الألفاظ التي تكون معجمها، ووحدة هذه القواعد هي
أساس وحدة اللغة، وهو شيء يتوفر في اللغة الأمازيغية بامتياز وزيادة.
ويرى الأستاذ عبد الحق المريني بأن الأمازيغية لا يمكن لها أن تكون لغة
علم وتقنية وإدارة… كان بإمكان هذا الحكم أن يكون صحيحا لو أن الأستاذ
عبد الحق المريني أعطى الفرصة الكافية للأمازيغية لاختبار كفاءتها في
مجال العلم والتقنية والإدارة فتبين له أنها عاجزة عن ذلك. والحال أن
الأمازيغية منعت من ممارسة قدرتها وكفاءتها في ميادين العلم والتقنية
والإدارة ليقال بعد ذلك أنها عاجزة وقاصرة، مثل الطائر الذي يحبس في
القفص ثم يحكم عليه بأنه لا يجيد التحليق والطيران. فشتان بين لغة هي
عاجزة أصلا عن مسايرة العلم والتكنولوجيا، وبين لغة منعت من ذلك منعا.
ويقع الأستاذ عبد الحي المريني في تناقضات أخرى عندما يؤكد بأن
«اللهجات الأمازيغية هي لغة الأصالة المغربية»، لكنه في نفس الوقت يرفض
أن تكون الأمازيغية لغة المدرسة والإدارة مثلها مثل العربية. فكيف للغة
هي «تعبير عن الأصالة المغربية» (في العنوان الفرعي للمقال) أن تبقى
"لهجات" شفوية يتكفل الزمان بفنائها وانقراضها؟ أبهذه الطريقة تتعامل
الشعوب مع مقومات أصالتها؟ وكيف يمكن الحفاظ على الأمازيغية كتعبير عن
الأصالة المغربية إذا لم تصبح لغة مدرسة وإدارة وقضاء؟ بل إن الموقف
السليم والمنطقي يقتضي أن تكون العناية بلغة الأصالة أكثر من العناية
باللغات الوطنية الأخرى. ولم يجد الأستاذ عبد الحق المريني حرجا في
الدعوة إلى معاملة الأمازيغية كلغة أجنبية على غرار الفارسية والعبرية
وذلك عندما اقترح علينا «أن ينشأ كرسي لها بكليات الآداب والعلوم
الإنسانية، كما هو الشأن بالنسبة للغات السامية الأخرى كالفارسية
والعبرية». وهذا يتنافى ويتناقض بشكل صارخ مع مكانة لغة هي عنوان
الأصالة المغربية.
3
ـ الأمازيغية والوحدة الوطنية:
وليبرر الأستاذ عبد الحي المريني رفضه أن تكون الأمازيغية لغة المدرسة
والإدارة، يقول: «فإذا أطلقنا العنان للمجازفات، فكل جهة من جهات
المغرب وكل منطقة جغرافية من مناطقه ستلغو بلغوها وستعتبر أن لهجتها هي
الأساس والعماد في المدرسة والمحكمة والإدارة والمعمل… وسنرمي بالشعب
المغربي آنذاك في أتون التجزئة والتعادي والانشقاق». هذا الكلام أصبح
مملا ومستهلكا لكثرة ترديده من طرف المناهضين للأمازيغية التي يقدمونها
كفزاعة يلوحون بها كلما شعروا بأن الأمازيغية آتية لا ريب، للترهيب
منها والترغيب في معاداتها ومعارضتها بإبرازها كـ"خطر" يهدد الوحدة
الوطنية. وتجد هذه الأفكار مصدرها في أسطورة "الظهير البربري" التي هي
مرجع كل الخطابات المعادية للأمازيغية. ويمضي الأستاذ عبد الحق المريني
في استدلاله قائلا: «لأن اللغة الواحدة الموحدة هي أساس الوحدة القومية
والسياسية والاجتماعية والدينية للأمة». وهو استدلال واهٍ وعلى درجة
كبيرة من التبسيط والتسطيح. يكفي الاستشهاد ببعض الأمثلة لنسفه من
أساسه: ليس هناك شعب أكثر انقساما من الشعب العربي المجزأ إلى دويلات
بينها في الغالب عداء ونزاعات مع أن لغة العرب واحدة وموحدة وهي اللغة
العربية، كما أن هناك دولا موحدة وبقومية واحدة مع أن لها أكثر من لغة
وطنية واحدة، مثل سويسرا وبلجيكا وغيرهما.
وعلى الأستاذ عبد الحق المريني أن يتذكر، وهو يحذرنا من شبح التجزئة
الذي قد تتسبب فيه الأمازيغية حسب زعمه، أن الحركة الانفصالية التي
تقودها جبهة البوليساريو أسسها مغاربة يعتبرون أنفسهم عربا وليسوا
أمازيغيين، ويتكلمون العربية وليس الأمازيغية، ويطالبون بإنشاء جمهورية
عربية صحراوية وليس جمهورية أمازيغية صحرواوية، وكل ذلك باسم القومية
العربية وليس باسم الهوية الأمازيغية. فهل بعد هذا يجوز أن ننعت اللغة
العربية بأنها لغة الوحدة الوطنية والأمازيغية لغة التجزئة؟
وحتى يقنعنا الأستاذ عبد الحق المريني بجدية "الخطر الأمازيغي" على
الوحدة الوطنية، يذكرنا بما تعرفه بعض الدول من حروب وتطاحن لأسباب
عرقية ولغوية: «ولنتعظ بما يدور حولنا وبتخومنا وبقارتنا الإفريقية
التي تعاني الأمرين من ويلات التطاحن العرقي والقبلي واللغوي». لكن هل
يعلم الأستاذ عبد الحي العراقي أسباب هذه الصراعات العرقية والإثنية
واللغوية؟ سببها هو فرض لغة واحدة وثقافة واحدة وعرق واحد وقبيلة حاكمة
واحدة على مجتمع هو أصلا متعدد اللغات والثقافات والقبائل والأعراق،
مما أدى إلى ظهور المواجهة التصادم والفتنة. وهذا بالضبط ما يدعو إليه
الأستاذ عبد الحق المريني برفضه المساواة بين العربية والأمازيغية، إنه
يدعونا عمليا إلى ما يحذرنا منه افتراضا، يدعونا إلى خلق مناخ التعادي
والتصادم بإقصاء لغة وطنية ثانية من الاستفادة من نفس الحقوق التي
تتمتع بها اللغة العربية.
4
ـ الأمازيغية والعرش:
يقول الأستاذ عبد الحق المريني في الفقرة الأخيرة من مقاله: «ولنحمد
الله على أن وهبنا عرشا يوحد صفوفنا ويجمع كلمتنا ويلم شملنا ويحافظ
على هويتنا وأصالتنا ويقود مسيرتنا بكل حكمة وتبصر وأناة». هذا شيء
صحيح وثابت ومؤكد. لكن السؤال: هل يواكب الأستاذ عبد الحق المريني في
أفكاره وتفكيره حول الأمازيغية موقف العرش من هذه القضية؟ لا يبدو أن
الأمر كذلك، بل يظهر أن الأستاذ عبد الحق المريني يسير في اتجاه معاكس
لاتجاه العرش في ما يخص الأمازيغية. لنشرح ذلك في النقط التالية:
ـ
جاء في خطاب جلالة الملك بأجدير بأن من بين مهام المعهد «الحفاظ على
الأمازيغية والنهوض بها وتعزيز مكانتها في المجال التربوي والاجتماعي
والثقافي والإعلامي الوطني». المعهد إذن أداة فعالة لتنمية حقيقية
وفعالة وشاملة للأمازيغية على جميع المستويات. لكن الأستاذ عبد الحق
المريني يقترح، بدل المعهد ودونه بكثير، إنشاء كرسي فحسب للأمازيغية
في كليات الآداب على غرار الفارسية والعبرية الأجنبيتين، كما سبق أن
شرحنا ذلك.
ـ
ينص ظهير إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في البند الثالث من
"بيان الأسباب الموجبة": «واقتناعا من جلالتنا الشريفة بأن الاعتراف
بمجمل الإرث الثقافي واللغوي لشعبنا يقوي الوحدة الوطنية ويعزز
هويتنا». فالاعتراف بالأمازيغية وبالتعدد الثقافي واللغوي هو إذن، حسب
الظهير الملكي، عامل تعزيز وتقوية الوحدة الوطنية. أما الأستاذ عبد
الحق المريني فيرى العكس، أي أن الاعتراف بالتعدد اللغوي وإدخال
الأمازيغية إلى المدرسة يؤدي إلى «أتون التجزئة» على حد تعبيره.
ـ
إحدى مهام المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية هي الإعداد لإدراج
الأمازيغية في التعليم العمومي. فينص البند الرابع من الفصل الثالث
الذي يعدد مهام المعهد: «دراسة التعابير الخطية الكفيلة بتسهيل تعليم
الأمازيغية عن طريق: إنتاج الأدوات الديداكتيكية اللازمة لتحقيق هذه
الغاية وإعداد معاجم عامة وقواميس متخصصة؛ إعداد خطط عمل بيداغوجية في
التعليم العام وفي جزء البرنامج المتعلق بالشأن المحلي والحياة الجهوية».
ويضيف البند الخامس من نفس الفصل: «الإسهام في إعدادا برامج للتكوين
الأساسي والمستمر لفائدة الأطر التربوية المكلفة بتدريس الأمازيغية…».
واضح أن الأمر يتعلق بإدخال الأمازيغية إلى المدرسة العمومية، وبشكل
جدي وحقيقي وشامل، حتى يتعلمها كل المغاربة كما هو الأمر بالنسبة
للعربية. أما الأستاذ عبد الحق المريني فيرى أن الأمازيغية لا يمكن ان
تكون لغة مدرسة لأنها مجرد "لهجات" كما سبق أن أشرنا إلى ذلك
ـ
يقول الأستاذ عبد الحق المريني: «فلن يضر هذا الكرسي أو هذا المعهد
باللغة العربية وقوتها ومناعتها». يبدو أن الأستاذ، من خلال كلامه هذا،
تساوره تخوفات لم يجرؤ على الإفصاح عنها، وهي أن إنشاء المعهد قد يضر
باللغة العربية. فكأنه ينبه ضمنيا أن النهوض بالأمازيغية قد يهدد
اللغة العربية. وربما هذا هو السبب الذي جعله يفضل إنشاء كرسي
للأمازيغية بكليات الآداب بدل إنشاء معهد ملكي لها. ولماذا لم يتخوف
الأستاذ عبد الحي المريني من الأضرار الحقيقية، وليست المتوهمة، لمعهد
التعريب ولكل معاهد اللغة العربية، ولسياسة التعريب، على اللغة
الأمازيغية، هذه الأضرار التي كادت أن تقتلها وتقضي عليها نهائيا.
ـ
لا زال الأستاذ عبد الحق المريني يستعمل لفظ "بربر" المهين ـ ومشتقاته-
الذي ذكره ست مرات في مقاله، في حين أن الظهير المنظم للمعد الملكي
للثقافة الأمازيغية لم يستعمل كلمة "بربر" إطلاقا.
ـ
نفس الشيء في ما يتعلق بلفظ "لهجة" الذي يطلقه الأستاذ عبد الحي
المريني على اللغة الأمازيغية، والذي استعمله في مقاله ثماني عشرة مرة.
أما ظهير المعهد الملكي للأمازيغية فيتحدث عن الأمازيغية ولم يستخدم
لفظ "لهجة" أبدا.
مما يؤسف له أن الأستاذ عبد الحق المريني، نظرا لوظيفته ومنصبه، يعطي
الدليل على أن "الدوائر المخزنية" المتواجدة بالمحيط السلطاني، هي التي
تحول دائما دون المصالحة مع الأمازيغية والاعتراف الرسمي بها، وذلك
بإيحاءاتها وتلميحاتها وكتاباتها أن الأمازيغية "خطر" لا يمكن مواجهته
إلا بمحاربتها ونصب العداء لها.
ملاحظة هامة:
أرسل هذا لمقال/الرد أولا إلى جريدة "الشرق الأوسط" عبر البريد
الإلكتروني يوم 2/12/2001، اعتقادا واقتناعا منا أنها، كما نشرت رأيا
حول الأمازيغية ستقبل بنشر الرأي الآخر، كما تفعل كل جرائد العالم. لكن
الجريدة رفضت نشر مناقشتنا لما جاء في مقال الأستاذ عبد الحق المريني.
وهو في الحقيقة موقف منطقي للجريدة يتماشى مع توجهها وينسجم مع اسمها
"جريدة العرب الدولية"، إذ لا يعقل "لجريدة العرب" أن تنشر مقالا لكاتب
أمازيغي يدافع فيه عن الأمازيغية ويرد على كاتب يحذر من "خطر"
الأمازيغية على العربية!