توجد المغارب حاليا في منعطف فكري إشكالي،
بدون إدراك حقيقي لجوهر الإشكالية من قبل معظم الفرقاء الفكريين. فالفكر المغاربي
هو في جملته صدى للفكر المشرقي ذي السمات الغيبية الغالبة، ولم يرق هذا الفكر إلى
مرتبة الإبداع الفكري المستند إلى أطر مرجعية مستقلة عن ثوابت النصوص المرجعية
الثراتية الإسلامية. فالأطروحة الإصلاحية القاضية بإعمال الاجتهاد في الفروع وفي
توسيع القراءة التاريخية أثبتت محدوديتها الفكرية والتاريخية. إن عمق الأزمة
الفكرية في المغارب لا يمكن إلا أن تقود إلى قلب الحقل المفهومي التراثي بكل ما
ينطوي عليه من قبليات وكليات وتحكمات واعتبارات وتدليلات، ومجاوزة الميتافيزيقا
التراثية بكل ما تنطوي عليه من مثاليات ومثالات وأمثولات وامتثاليات، وابتداع أفق
فكري وفكراني دهراني وعلماني ومحايث موصول بكل ما راكمته الحداثة الغربية وما بعد
الحداثة من مفاهيم ومتصورات وتمثلات مع الانفتاح على الرحابة الأنطولوجية والمغايرة
الإبستمولوجية والمنطقية للثقافات الشرق الأقصى.
لا مناص إذن من القطيعة مع المرتكزات الابستيمية والابستمولوجية والانطولوجية للفكر
المشرقي، اعتبارا لقدامة هذا الفكر واستناده في تدليله واعتباره على أساطير مؤسسة
مفارقة لأسس وأصول الحداثة جملة وتفصيلا، ولارتهانه لاهتيامات جماعية شرعانية
مأخوذة بالاستئثار وبالحاكمية التسلطية الكهنوتية وبالاستيهامات التصوفية الحاملة
على القفز على نص العالم وتحويله إلى مجرد فسحة للنفي وتمجيد الانثروبولوجيا
المقلوبة والتعبد في رحاب السلب حد الجذب.
في غمار كل الارتكاسات الفكرية والمنهجية،
وأمام محدودية الليبرالية المغاربية وافتقادها إلى الصلابة الابستيمية، تبدو
المراهنة على الفكر الأمازيغي أحد الإمكانات الواردة للتجديد الفكري وإحداث التحويل
في الإشكاليات والمنظورات والمنهجيات والإبدالات. فالفكر الأمازيغي المتحرر من
الإشكالية الشرقية القائمة على المعطى الغيبي التراثي، قادر على بسط أرضية فكر آخر
وجديد، يرتقي بالإنسان إلى مراتع التمجيد والعقل إلى مرتبة المعيار الأرسخ للتدليل
وبناء الاستدلال والمعنى دون نسيان فتح الآفاق أمام الخيال الخلاق. فالفكر
الأمازيغي المنشود مطالب بالانزياح عن الاجتهاد على هامش النص الإسلامي وعلى تبيئة
بعض المعطيات الدينية في المحيط اللغوي والإثني الأمازيغي وعلى التدليل على شرعية
المطالب الأمازيغية استنادا إلى تدليلات نصية مكيفة أو إلى الانغماس في مقاربة
إصلاحية تأويلية مشدودة، في البدء والمآل، إلى حاكمية النص المفارق المعجز والملغز
في آن.
اعتبارا لهذا المطلب، فإن عنوان الحداثة الأمازيغية المطلوبة هنا والآن، هو التحرر
الكلي من رواسخ المنظومة الإسلامية – الإيمانية والارتكاز في التفكير والإبداع
الجمالي والفكري والفني إلى فكرية حداثية منفتحة على كل مكتسبات الفكر الغربي
المنهجية والابستمولوجية وعلى اجتياف كل موارد الحكمة البشرية والخيال الإنساني من
منظور التثاقف ووحدانية الحضارة والتطلع إلى إغناء الهوية الكونية المشتركة.
فالفكر الأمازيغي إذ يسعى إلى التحرر من
الينبوع المشرقي المسكون بالتسيد على الآخرين معرفيا وجماليا وسياسيا، إنما يدافع
على وحدانية الحضارة وتعدد الثقافات في عالم ما بعد الحداثة والعولمة الثقافية،
ويؤكد على حتمية خلق ذاتية أمازيغية معولمة وقادرة على التفاعل مع التراث والتاريخ
والتاريخانية من منظور الانتماء إلى العصر المعرفي والايتيقى والابستيمي من منظور
التفاعل الاجتيافي الابتداعي لا من منظور تصنيم المخيال التراثي الأمازيغي وتقديسه
من باب خلق مقدس بديل، وتكريس استيهامات إثنية باسم خصوصانية أو هويانية منذورة
للتصلب والدوغمائية والتمحور الرهابي حول الذات والنرجسية الحاصرة.
إن الحقل الفكري الأمازيغي ما زال في أطواره الأولى، واختياراته الأساسية لا تخلو
من التباس ومن قلة الأحكام في تعيين الإشكاليات وحصر الآليات الفكرية والمنهجية
وضمور في الإنشاء الفكرية وغياب للاجتراحية في التبيئة والمفهمة والابتداع المفهومي
والتركيب النظري.
فالواقع أن الفاعل الأمازيغي ما زال غارقا في المقاربة السياسية وبعيدا عن إشكاليات
التأصيل الفكري النظري للأمازيغية بوصفها إمكانا للفكر البدائلي وللحكمة المجترحة
بمحض التذاوت بين كائنات آتية من آفاق ثقافية مختلفة وللتداول البيجماعي في مصائر
الاجتماع البشري. فالأمازيغية في اعتقادي عالم لا متناهٍ برسم الاحتمال والإمكان
والجوازية وليس فضاء متناهيا مترعا بيقينات ميتافيزيقية وتحكمات إيطيقية بلا مستند
عقلاني معتبر. وبناء على ما تقدم فإن الفكر الأمازيغي ملزم بالتعامل مع التاريخ
المغاربي من منظور التفكيك والتركيب ومن زاوية مقاربة تناهجية تنسيبية. إن تغيير
المنهاج والرؤية تأسيسه والتعامل الآخر العلمي اللاأسطوري مع الزمان والفعل البشري
والذاتية في تفاعلها مع الغيرية من أساسيات الفكر الأمازيغي المراد ترسيخه في
المرتقب الفكري المغاربي.
فإشكاليات التاريخ مرتبطة بقضايا الفلسفة،
والتغيير المرغوب إحداثه في المفاهيم والحقول المفهومية والمتصورات الكلية
التاريخية، موصول عميقا بالتغيير في طرق إدراك الزمان وموقع الإنسان كفاعل زماني في
السيرورة والصيرورة وفي جوهر اكتناه التاريخ لا متوالية من الأحداث والوقائع فقط بل
كمنطق برسم السبر وكمعنى برسم الاعتبار وكدلالة برسم الاستنطاق.
إن رؤية الفاعل الفكري الأمازيغي يجب أن تخرج عن جوهريات الرؤية التوحيدية –
الإيمانية للتاريخ بكل ملابساتها الانطولوجية وتوقها المستديم إلى تحيين
الميثولوجيات وتعيين الزمان كتجلي للعبورية والحينية وتحديد الزمان الآخر كتجلٍ
قدساني للخلود. ومن هذا المنظور فنقد الاستوغرافيا الإسلامية يجب أن ينصب على
تعليلها للتاريخ وعلى تسييجها للواقع بأحزمة من مفاهيم تصادر الكينونة في عمقها
والكائن في إنشائيته وابتداعيته وارتكانه في تثبيت العالم إلى المعين الثر للمخيلة
المبدعة الخلاقة.
فقد حاول بعض الفاعلين الأمازيغيين التشغيب
على الاستوغرافيا الإسلامية والكشف عن انحيازها العروبي السافر ضدا على المبادئ
العالمية للرسالة الإسلامية. لكن هذا الانتقاد الجزئي لا يمس جوهر الإشكال في
اعتقادنا، إذ يتجاهل انتقاد ابستمولوجيا التاريخ الإسلامي، وفلسفتها الكمونية. إن
المغارب المخترقة عمقيا من الفكرانية الشرعانية الأصولية -الفقهية ومن المخيال
العربي- الإسلامي، مطالبة بنقد الابستمولوجيا الإسلامية وتحرير المخيال المغاربي
وتأسيس مخيال أمازيغي قادر على تأويل تراثه بتعقل وبروح تاريخية كونية الاهتيام
عالمية النزوع.
لكل هذه الاعتبارات، يصبح الاستشكال لمفاصل الجسد التاريخي الإسلامي المعرفي
والانطولوجيي إحدى المهام الجوهرية للفاعل المعرفي الأمازيغي هنا والآن. فمن
الضروري نزع الأسطرة والأسلمة عن التاريخ المغاربي، والتأكيد على انفتاحية هذا
التاريخ في ارتقاءاته المرتقبة. فالتاريخ والحال هذه ليس محض تكرار طقوسي لأحداث
تأسيسية وتقليدا احتفاليا لحوادث معيارية نموذجية وفوق-تاريخية بل هو سيرورة
تصاعدية ناسخة للنماذج مبطلة للمعايير القدسانية العابرة للزمان والثقافات
والحضارات.
إن التمحور حول الذات والاحتفال النرجسي بها
باسم فرادة الهوية واستثنائية الذاتية هي المعبر الملكي لولوج حقل التخثر فكريا
وإنسانيا، وهي عين الآفة في المعتقدية الإسلامية. ولهذا ففاعلية الأمازيغي
التاريخية تستلزم منه أن يعيد بناء كيانه على أسس غير الأسس الثتبيتية الحصرية
القائمة على مرتكزات ميتا- تاريخية وعلى استدلالات متعالية مطلقة، كما تحفزه على
التفاعل الخلاق مع الآخر باعتباره شريكا حضاريا بامتياز ورفيقا في درب التانيس
واستكشاف المجهول في النفس والاجتماع والتاريخ والكون.
لن يتحقق المنجز الحضاري الأمازيغي إلا إذا عرف الفاعل المعرفي الأمازيغي كيف يفك
الارتباط بالمرجعية التراثية المشرقية الإسلامية، ويعيد استشكال تأصلاتها المغربية
في المالكية فقها والأشعرية كلاما والجنيدية تصوفا. إن نقد المنظومة التراثية
الإسلامية، معاني ومباني، هو فاتحة كل نقد جدير بالاعتبار معرفيا وتاريخيا، بالنظر
إلى ارتهان المغارب عمقيا إلى رواسخ تلك المنظومة المنهجية والمعرفية، وانسياقها
بالتبعية إلى المرادفات السياسية والتاريخية لتلك النواظم النظرية. ولأن تلك
المنظومة أصبحت بعد العصر الحداثي موضع استشكال وتفنيدات ومجاوزات رغم الممانعة
الممارسة بالتمجيد النرجسي للانموذج الإسلامي أو بالتقتيل الممنهج في إطار جهادي،
فإن الانتماء الفاعل إلى العصر يحتم الانفكاك عن أسس تلك المنظومة وتجلياتها في
الأذهان ولأعيان على السواء.
لا جدال إذن في ضرورة تجاوز الفاصل الإسلامي في البنيان الحضاري للمغارب، عبر تدشين
عصر تنوير مغاربي تكون العلمانية بوصفها تأكيدا لاستقلالية العقل وقدرته النظرية –
المعيارية في صلب اهتماماته واهتياماته. لا مناص إذن من الارتقاء بالمغارب إلى أفق
تأسيسي للفكر والوجدان والمخيلة، وإلى محطة لا لعبور الدلالات والتنويع على المعاني
بل لصهر الدلالات وإعادة صوغها على قاعدة المشترك الإنساني والمتاح للبشرية جمعاء.
لا يمكن خلق إنسية مغاربية أمازيغية إلا على أنقاض الانثوبولوجيا الإسلامية وعلى
الهجاس الكوسموغوني العالق بالميثولوجيا الغيبية المشرقية، كما لا يمكن صياغة مشروع
مغاربي إلا على أرضية تخطي انهمام الإنسان الإسلامي بتحيين الاسطورة الأصلية
والتعلق بمقاربة ما بعد ثقافية وعابرة للتاريخ لفاعلية الكائن.
وعليه، فمن اللازم نزع الأسطرة والتقديس عن التاريخ المغاربي واقتراح منهجيات جديدة
في التعقيل والتعليل والتضمين، وفك اشتباك السيرورة الأمازيغية مع شرنقة الكلاميات
والصيرورة من تحكمات الرؤى الخلاصية القيامية الألفية. إن الفاعل مطالب بالكشف عن
الممكنات التاريخية للمغارب وعن انفتاح الآفاق الحضارية أمامها إن هي حررت الأذهان
من مقتضيات الميثولوجيا الإسلامية، وحرصت على التأكيد على إبداعية الإنسان وعلى قيم
الدنيوية.
إن استشكال الخطاب التاريخي الكلامي الإسلامي، ليست على الحقيقة إلا جزءا من العمل
النقدي الواجب القيام به. فالفاعل الأمازيغي المسلح بوعي تاريخي وإدراك تاريخاني
نقدي واستشكالي إزاء خطاب المنافحة الأمازيغية الصادر إما عن نرجسية قومية أو عن
افتقار إلى الوعي التاريخي أو إلى شرائط أحكام الخطاب... المؤكد أن الفكر الرائج
أمازيغيا يكثر من التشديد على الفرادة اللغوية والقومية والثقافية الأمازيغية ويوغل
في التشديد على مجموعة من السمات الانثروبولوجية بوصفها الميسم الأجلى للعقلية
الأمازيغية. وتبلغ المانوية أقصى دراجاتها حين يؤكد بعض الرواد على الفوارق المائزة
للعقلية الأمازيغية قياسا وضدا على العقلية الأندلسية في استيهام ماهوي لا يليق إلا
بخطاب غير منتظم إلا في سلك الايدولوجيات (محمد شفيق).
وتبلغ المزايدة المحاكاتية ذروتها حين يتم التشديد على البطولات الأمازيغية أثناء
مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني. مع العلم أن المقاومين ما كانوا يصدرون في
مقاومتهم إلا من منظورات ميثولوجية –صوفية –طرقية هي النقيض المحض للحداثة. لا يمكن
تأكيد الذاتية الأمازيغية باجتلاب بطولات غير بطولية إلا من منظور رؤية عرفانية
ولاهوتية للتاريخ، بل بالانخراط الواعي في المجاوزة والتنسيب وحتمية الإنشائية
بمنأى عن القبليات القبلية –الطائفية – الطرقية. إن نقد الاستئثار الإسلامي لفصل
الخطاب النظري في المغارب ولمقتضى السلوك العملي لا يمكن أن يوازيه إلا نقد البداوة
المستحمة منذ قرون في هذه البقاع وحكمت عمليا يوميات العيش والتفكير فيها.
فالأمازيغي لم يتمكن بعد من إنجاز وعده، وما تحقق تاريخيا، لا يعدو أن يكون انعكاسا
ثرا ومثاليا للبداوة كما تشهد على ذلك أشكال التنظيم الاجتماعي والتعبير الفني
والأدبي.
إن الإشكالية الكبرى للأمازيغية بوصفها وعدا بمنجز لا تغنيا بهوية طهرانية
وخصوصانية غير تاريخية، هي نقد البداوة الأمازيغية، وتوفير موجبات التأسيس الحضاري.
وهذا فلا جدوى من الإحالة على ارسوزيات ممزغة على غرار (عبقرية اللغة الأمازيغية
لمحمد شفيق)، فرغم الاختلاف المدعى مع القومية العربية والتشغيب على هذه القومية من
منظور إسلامي- أصولي –سلفي، فإن المشتركات الفكرية بين رحمانية الارسوزي ورحمانية
شفيق إنما تصدران عن نفس العقل ونفس النسق المعرفي. إن تمجيد اللغات والتهوس بإقامة
المفاضلات غير الفكرية بينها هي دليل ارتباك فكري يصرف تهالكه الكياني عبر رطانة
التفرد والتفريد. ففي اعتقادنا أن الأمازيغية، هي حقل للمحايثة ويجدر بها تاريخيا
أن تحقق منجزها الحضاري المخصوص بمنطق حداثي في التفكير والتنهيج والتضمين، والنأي
عن مرسخات المجال التداولي العربي الإسلامي. كما أن المطلوب هو إعادة صياغة التراث
الأمازيغي صياغة جديدة وحداثية من منظور تأويلية –تاريخانية منصرفة كليا إلى تطويع
المادة الثراتية الأمازيغية، انتسابا أو استلحاقا، وصقلها وتحديثها، فالتراث
الأمازيغي ، لا يجد الفاعل أمامه بدا من تصريفه بموجب المكتسبات المعرفية والمنهجية
للعصر، وتحويلها عمقيا ليطابق أشواق المغاربيين الإنسية والايثيقية والمعرفية
والجمالية. إن التراث في هذه الحال ليس إلا نصا للنسخ لا للمضاعفة *، وإمكانا
للتشكيل لا للاستنساخ، ومعاني للتدهير لا للتقديس. فالفاعل الأمازيغي المغاربي لا
يمكن إلا أن ينصرف مع شركائه الحداثيين إلى تأنيس العالم وتحويله بالحكمة المتروية
والتعقل الإنسي والتثاقف السمح مع جهد إضافي يتمثل في استدراك التأخر ونزع التقديس
والتكريس والأسطرة عن رؤية العالم الإسلامية وتفكيك تجليات البداوة في الواقع
والعقليات.
يترتب على هذه المقاربة، حتمية الانصراف إلى التأسيس النظري المحكم للأمازيغيات،
فالدراسات القطاعية أو التدليلات المستندة إلى مرجعيات كونية غير مبيئة بما فيه
الكفاية (حقوق الإنسان) هي في حاجة إلى التنظير وإلى رؤية. ألم يحن الوقت بعد
لتدشين القول الفلسفي – الفكري الأمازيغي بالارتباط بالمتاح للبشرية جمعاء
وبالاستناد إلى مجمل الدراسات القطاعية المتخصصة والمونوغرافيات المدققة عن مقتضيات
وتحولات الاجتماع البشري بشمال إفريقيا؟
تلك هي المسألة؟ فهل من مجيب؟