|
هل هو السهو؟ قصة تنشر لأول مرة لسعيد سيفاو المحروق (الشهيد الأمازيغي الليبي المعروف) كيف يمكنني أن أصف هذه الحالة؟ ضعف في الذاكرة؟ كلا... هل هو السهو؟ قد يغمرني بين الفترة والأخرى بعض السهو، لكن استطيع أن أقول إنني قوى الذاكرة إلى حد ما، ماذا؟ بل إلى حد كبير، وفي البداية فقد بدأ التحدي في هذه القوة التي اعتزّ بها مع زوجتي! كانت زوجتي تنسى مثلاً حتى عشاء الليلة البارحة، أو يستغرقها وقت طويل في استذكار تلك إلا كلة، إما أنا فكنت أجيب على الفور حتى أنني استغرق في تفاصيل ذلك الطبق، ثم استرسل في سرد ما رافق ذلك من أحداث: رنين الهاتف أثناء الأكل مثل، أو انكسار احد الأطباق أو غير ذلك من هذه الأشياء التافهة، فتسارع زوجتي تصدقني متعجبة!: حقا كان عشاؤنا فاصوليا، أو صدقت، لقد تعشينا باميا... الخ. حينئذ يحفزني هذا الانتصار على ذاكرة زوجتي إلى سرد روايات ذاكرتي في الماضي البعيد.... أيام كنت وليداً أحبو في بنغازى، "بعيدا هناك في بنغازى". تسألني زوجتي غير مصدقة حكاية بنغازى هذه. أقول: عندما اجتاحت المجاعة رحلا كثيرا من أسر الجبل إلى بنغازى، وكان عمري سنتين. "سنتان و تتذكر كل ذلك؟". فأجيب زوجتي: "هذا ما سمعته من الكبار فيما بعد"… ثم انطلق في إعادة حكايتي: " كان عمري سنتين ولا زلت أتذكر الجنود وهم يفتشون منزلنا أو يجوبون شوارع بنغازى، وكانت المرحومة أمي مفزعة "الروم... الروم"، وأنا لا أدرى هؤلاء الجنود من الألمان أو الانجليز أو الطليان... فكل ذوى العيون الزرقاء والبشرة الرئوية... كلهم في عرف أمي من الروم. تصيح في النهاية زوجتي: سبحان الله، أتتذكر ذلك وأنت بعد سنتين من العمر؟! لا أجدنى في حاجة إلى تعليل هذه الذاكرة، كنت أراها شيئا طبيعياً، كيف يعلل القوى سر قوته؟ وكيف يفسر الغبي سرغبائه؟ كنت أراها طبيعية يجب أن تكون بمنأى عن التفسير لأن التفسير يعقّدها... حتى كان ذلك اليوم الذي هممت فيه أن أدق على باب جارى... جاري الذي اعتدنا نجلس معا في بيتي أو بيته نتبادل الأحاديث والنكات في الشؤؤن الصغيرة التافهة. طرقت الباب حيث قابلتني زوجته... لكنني حين أردت أن أسألها عن جارى وجدتني أتلعثم ثم أحسست لساني قد تحوّل إلى قطعة خشب. لقد نسيت أسم جارى! عدت إلى بيتى، فهنا فقط سوف أسأل زوجتي التي كثيراً ما اتهمتها بالنسيان عن اسم جارنا. أسرعت لكي أنادى زوجتى، لكن لساني تلعثم مرة اخرى، لم اقو على نطق اسم زوجتى، سارعت فعللت الأمر بأنه السهو قد غمرني هذا اليوم، شعرت بحرج شديد أمامها "أمام زوجتي التي نسيت اسمها". حين سألتها عن اسم جارنا، أنا الذي أفاخر بقوة ذاكرتي واروي لها عن الروم الذين رأيتهم في بنغازي ولم أتجاوز بعد السنتين. "لا أعرف جيرانك"، قالت زوجتي: أنا أعرف زوجاتهم لكن ابنك يعرف كل الجيران، وأين هو ابنى؟ في المدرسة وسيرجع يعد ساعة. لا أدرى إن كانت زوجتي تسخر من نسياني المفاجئ هذا. في جميع الأحوال علىّ بانتظار إبنى، ابني الذي ضربته حتى كسرت له سنّه، لأنني اشرح له الدرس عشرات المرات و يقول فهمت ولكنه لا يفهم، تذكرت سرعة نسيانه، كنت أوبخه دائماّ وأقول له: أنت كثير النسيان... لكن ما اسم إبنى؟ أهذه عاقبة الامور؟ أنا الذي اخترت له اسمه من طيات تاريخ هذا الوطن، أنا الذي رضيت أن يتهموني بالشعوبية من أجل هذا الاسم. أنا الذي قصموا ظهري لأنني خرجت لأشترى لابني الدواء، أنا الذي تحملت في سبيل هذا الاسم كل التهم اللصيقة باليهود... أبعد كل هذا العناء والعذاب... أتنسى هذا الإسم؟ وأي إسم؟ اسم أبنى الوحيد. أعصابي عاودها تشنجها القديم، صداعي المزمن عصف بي، انهارت قواي فتهالكت هاربا إلى النوم. لم يسعفني النوم كثيراً، تذكرت ما جرى لي مع أسماء جارى و زوجتي وأبنى. حاولت أن أكافح النسيان بأن أتفادى النطق بأي إسم، "ما قيمة إلا سماء" حاورت نفسي: الأسماء رموز لتتميز هذا عن هذه، دعني من كل هؤلاء، ثم إنني لم افقد ذاكرتى، ولكي أتأكد من ذلك رحت أفكر في الروم الذين رأيتهم في مدينة بنغازى، ثم تذكرت أن زوجتي تخاف العقارب وتخشى الثعابين، قادتني هذه الذكرى إلى أن أقص على زوجتي ما حدث لي في مدينة اجدابيا: "في اجدابيا رأيت الورل تنشق عنه الأرض ويظهر بين قدمي الحافيتين" . "تحصنا بالله ورسوله"، صرخت زوجتي مرتاعة، إمرأتى تؤمن بالأديان الشعبية، بالجن، بالشياطين أكثر مما تؤمن ببرامج الاذاعة. قالت زوجتي وهى تقرر حقيقة لا تقبل النقاش: "إذا ضرب الورل طفلاً على قدمه الكبرى فأنه حين يكبر يصير رجلا عقيماً". ضحكت لعقيدة زوجتي لكن زوجتي لم تضحك، المهم أنني أقنعتها أنني لا أزال أتمتع بذاكرة قوية. لكن حوادث أخرى طرأت لي جعلتني أعيد النظر في الأمور: زوجتي مثلاً قد نسيت أسماء كثير من أصدقائي ومن أعدائي أيضا. هاجس الوقوع في براثن هذا النسيان دفعت بي إلى الهروب إلى النوم، أصبحت أنام أكثر مما يجب، ثم لم يلبث النوم أن أصبح مرضى المزمن، لم اقو حتى على سحب مصروفي الشهري من المصرف، فكتبت صكاً وأعطيته لابنى لكي يأتي لي بالنقود، ثم عدت إلى النوم حتى يأتي ابني من المصرف. تعبت من النوم فتذكرت ابنى، حاولت أن أناديه فلم أتذكر اسمه كعادتى، لكنني لم انس تهمة اسمه الشعوبي، التهمة التي لن يزيلها القبر، مادام لم يزلها الشلل وقصم الظهر. ناديت ابني بلغة خطيب مفوه: "يا شعوبي". لكن يبدو أن ابني لا زال لا يفرق بين الشيوعية والشعوبية، هنا تذكرت اللغة الرسمية المستخدمة في إذاعاتنا، فصرخت بلغة مذيعينا الفصحاء: "أيها البربر الصهاينة!". سرعان ما صاحت عائلتي الصغيرة بصوت واحد "نعم !" بادرني ابني قائلا بلهجة شعوبية مكسرة: "سلمت الصك إلى الصراف". "وأين المبلغ"، أجابني ابني ببرود قائلا: "لم يعطني أية نقود". ساورني شكي القديم بمقدرة ابني على النسيان، لقد أعطى الصك للصراف دون أن ينتظر أن يصرف له المبلغ. عنفت ابني ثم وبخته باللغة الشعوبية الفصحى: "إلى متى ستظل تنسى هكذا؟ اليوم نسيت نقودك وغدا ستنسى حتى نفسك". حاول ابني أن يختلق المبررات، لكنني وجدت أن الحل الوحيد هو أن اذهب غدا بنفسي لأراجع المصرف. ما أن لمحنى الصراف حتى استقبلني بعناق حار... استغربت حرارة هذا الاستقبال من رجل لا اعرفه ولا سبق لي أن رأيته. اعتبرت ذلك نفاقا محضا، ثم قلت للصراف الغريب: " مس بعثت إليكم ابني لكي تصرفوا له صكا، لكن يبدو انه نسى استلام المبلغ". هنا بداً الصراف ينطق بأسماء لم اسمع بها: صحيح يا سيد "سعيد"، لقد سلمني ابنك الصك الذي كتبته لحساب عبد المرابط، ولقد انحزنا العملية فورا... كيف حال مراجعك يا "سعيد؟". لقد بدأ جليا أن الصراف قد اخطأ في شخصى… من "سعيد هذا" لا شك انه اخطأ في اسمي... ثم من هو المرابط؟. تركت الصراف فاغرا فاه، ثم حاولت أن أعيد ترتيب الأمور: هب أنني نسيت اسمى، فكيف اكتب صكّا ًباسم شخص آخر؟ ثم كيف أنسى نفسي واسمي... إلى درجة أنني أخرجت البطاقة الشخصية من جيبي لأجد ما لم أكن أتوقعه... تصورا في بطاقة هويتي وجدتهم كتبوا في خانة الاسم حروفا كأنها .. س …سع ..سعيد .. بل سعيد فعلا!. لم أجد بدا من إحالة الأمر إلى السهو.. سهو كل الناس، لعلهم كانوا في عجلة من امرهم، لعله سهوا لآلة الكاتبة.. في جميع الأحوال لا أعرف لي اسما بهذه الحروف، "بطاقة مزورة" صرخت في الهواء ثم مزقتها متوجها إلى سيارتي. في الطريق إلى السيارة داهمتني كتل بشرية أضافت إلى سهوي سهوا آخر: كتلة بشرية تحمل لافتات كتب عليها "آية الله الخميني أمير المؤمنين، الموت لسلمان رشدى، الحرق للآيات الشيطانية". فقلت في نفسي هذا غير مقبول ولكنه مفهوم... لكن كتلة بشرية أخرى في الشارع الرئيسي للمدينة تحمل لافتات هي الأخرى كتب عليها "صدام حسين أمير المسلمين". سألت نفسي: ألم يسمع هذا القطيع البشرى أن صدام منذ أيام قليلة يقول إنه رجل دنيا وليس رجل دين، وان محمدا أحد أنبياء القومية العربية وآخر هؤلاء الأنبياء والرسل ميشيل عفلق وليس محمدا؟! لكن كتلة بشرية ثالثة ظهرت أمامي تحمل صور وزير العمليات العسكرية والملك فهد، تحمل هي الأخرى لافتات كبيرة كتب عليها بالعربية والانجليزية عبارات "أمريكا حامية الحرمين الشريفين" ولافتات أخرى تحمل صورة العلم الأمريكى "أمريكا موحدة الأمة العربية ضد الشيوعية والشعوبية". صحت بدوري: إنها الديموقراطية باسم القوة. أعياني التفتيش عن سيارتي في جميع المحطات.. الكتل البشرية العربية أنستني حتى شكل ولون سيارتى، لكن اللافتات التي قرأتها أنستني حتى اسم مدينتي. سألت بعض المارة فضحك البعض وبكى البعض الآخر. لم اعبأ للضحك والبكاء. مررت في شوارع المدينة بما تعج به من فقاعات جديدة: نقابات روابط، لم انس بعد أن رابطة الكتّاب والأدباء والمثقفين بعد أن قصم ظهري عام 79 أرادت أن تدخلني إحدى دور خالتي في 86 ولكن بعد "أصبح الصبح" في 88 كرهت حتى فعل ربط يربط ربطا، إذ اكتشفت أنني في عام 80 قد وضعوا اسمي في رابطة إن لم تكن وهميّة فهي رابطة مجموعة من الجهلة والتافهين التي لم أسمع بها إلا بعد أن خرج هؤلاء التافهون أبطالا: رابطة المغرب الإسلامي! متى نشأت؟ وكيف ولماذا؟ الشيطان وحده الأعلم... آية الله الخمينى ذكرنى بما سمعته من إحدى التهم الموجة لي: حسين آيت احمد هذا الناصرى ابن عائلة زاوية الرحمانين كما يفخر دائما ما علاقته بي؟ أنا البربري الشعوبى، الأكاديمية البربرية؟ ما حاجة لي بها؟ انا الاكاديمية البربرية المتحركة قديما والمقعدة حاليا... الأنكى من كل ذلك أن تكون طعنات خلفية أو هي طعنات في جوف قبري... أي عمل جبان هذا؟ نسيان مدينتي وسيارتي وأسماء ابني وزوجتي رفع الزيت في رأسي فتساءلت: ما علاقتى بالإسلام أصلاً؟ منذ عام 1965انا دارويني، والأديان ليست سوى ميثولوجيا الشعوب، أنا لائكى، وقصم الظهر والقتل شنقا أو غدرا أو رميا بالرصاص لا يزعزع إيماني باللغة الشعوبية الفصحى... أنا هكذا منذ أكثر من ثلاثين سنة والآن أين بيتى؟ حتى خطف زوجتي وابنتي وابني بالتنسيق مع السلطة والشروع في القتل زعزع إيماني بكل خالق ومخلوق، لكنه لم يزعزع إيماني بلائكيتى. أعياني البحث في شوارع المدينة عن سيارتي واسم مدينتي. فجأة تلعثم لساني بأسماء لبنان... ليبيريا... لوبيا... ليبيا. هل هذه أسماء مدن أم اشخاص؟ لساني بعصبية فقال : "طز!"... تذكرت من كلمة "طز" اسما مضحكا "طرابلس" واسما اكثر أضحاكا "تريبوليس" …. تري بوليس، ما جدوى "ترى" هنا؟ هنا مدينة واحدة وليس ثلاث مدن...، اسم مدينتي إذن هو "بوليس" فقط لكن الجميع لا يقتنعون بذلك. عثرت على اسم مدينتي "بوليس"... لكن إلى متى سأظل تائها في مدينة بوليس هذه؟ جراح الثمانينات لن تلتئم، لكن جراح التسعينات فالله والشيطان هما الأعلم بهما... كما جرت العادة دائما فالقبر أو الرمي في مياه المتوسط هما الحلان النهائيان لجميع المشاكل... هذه أكثر رحمة وإنسانية من النسيان وقصم الظهر وخطف النساء والأطفال القصر.
|
|