|
الظاهرة الظلامية: المنشأ والحلول بقلم: عسّو بحاج (الخميسات) قد لا أستطيع الإلمام بهذا الموضوع من كل جوانبه. ولكن هذا لن يمنعني من التجرؤ على ركوب هذه المغامرة. إن مقاربة موضوع كهذا يحتاج تناولَه من كل الزوايا. فالظاهرة الظلامية، كفكر ماضوي مؤسس على قيم العنف والإقصاء ونبذ الآخر، لها صلات متعددة بالأبعاد الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والثقافية. فالحفر في أسبابها لا بد أن يتم من خلال استحضار علاقتها بالأبعاد المذكورة، كل على حدة، لا بهدف التجزيء وتكريس الأحادية في التحليل، ولكن للتوصل إلى معرفة مدى أهمية كل عنصر على حدة في إبراز هذه الظاهرة واستمرارها. كما أشير أنني لن أدرس هذه الأبعاد دراسة المتخصص بقدر ما سأحاول الإشارة إلى دور كل منها فقط. يان: البعد الاقتصادي: تصنف بلدنا ضمن الدول النامية التي تعاني بتبعيتها الاقتصادية وارتباطها بالمؤسسات النقدية الدولية، ومن بطء وتيرة النمو الاقتصادي، والتي تعزى إلى عدة عوامل: ـ اعتماد أغلبية الساكنة النشيطة على العمل في المجال الفلاحي. ـ ضعف البنيات الصناعية، مما يستلزم توجه أغلبية السكان النشيطين إلى العمل في قطاع الخدمات والوظيفة العمومية. ـ ضعف مجال الاتصال والمعلوميات التي تعتبر السمة الميزة للنظام العالمي الجديد. وهذا كله له انعكاسات على الأوضاع الاجتماعية. سين: البعد الاجتماعي: إن كل ما ذكرته في البعد الأول له انعكاس سلبي على التنمية الاجتماعية، وعلى تعميق الفوارق بين الفئات الاجتماعية. ومن بين تجليات الضعف التنموي: البطالة، الأمية، الفقر والسكن الصفيحي... وهذه التجليات تربة صالحة لاستنبات التطرف والعنف. لقد برزت في المجتمع المغربي ظواهر جديدة كالهجرة السرية حيث يلجأ الشباب العاطل إلى ركوب قوارب الموت بحثا عن الأفضل، طبعا هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر نادرا ما تكلل بالنجاح. فالشباب الذي فشل في الحصول على مبتغاه يتسرب إليه اليأس وفقدان الثقة بالمستقبل. هذه الضبابية وضيق الأفق تنضاف إلى تزايد معدل البطالة والأمية التي تنخر جسم المجتمع. هذه كلها عوامل يتم استغلالها من طرف خفافيش الظلام وقوى الشر لبث سمومهم الفكرية في عقول هؤلاء والزج بهم في معارك تخريبية موجهة بالأساس إلى ضرب قيم الحداثة وقيم مجتمعنا، إن على مستوى الإرهاب المادي أو الإرهاب الفكري. مما لا شك فيه أن الفقر والبطالة والأمية والسكن غير اللائق عوامل مساعدة على نمو الظاهرة. كراض: البعد السياسي: تميز المشهد منذ فجر الاستقلال بتجاور قوى التقليد والمحافظة مع قوى التحديث التي ظلت رغم مقاومتها تحيا بشكل قسري، مما نتج عنه بطء وتيرة التحديث لهياكل الدولة. كما تميزت الطبقة السياسية بنزوع نحو الشرق، متأثرة في ذلك بالفكر البعثي المبني على الأحادية في المنهج والتحليل، حيث كرست هذه الطبقة كل جهودها لبناء المشروع الوحدوي (على أساس وحدة اللغة والعقيدة) جاعلة من أولوياتها تحرير فلسطين. طبعا، الانتكاسات التي عرفتها هذه القضية وغيرها من القضايا العربية (هزائم 1967، 1973، كامب ديفيد، حرب الخليج 1991..)، والتي كان آخرها انهيار النظام البعثي في بغداد، هي عوامل لها بالغ الأثر على المواطن وتسرب اليأس والقلق إليه. ومن جهة أخرى، فرغم الانفراج السياسي الذي عرفه المغرب في السنوات الأخيرة ضمن ما يعرف بالانتقال الديموقراطي، وكذا توسيع مجال الحريات، كل هذا لا يزال بعيدا عن التحديث والدمقرطة اللذين يتطلع إليهما المواطن، واللذين يكفلان إشراك جميع الفعاليات السياسية والوطنية في تسيير الشأن العام على أساس القاعدة الديموقراطية في إطار دولة الحق والقانون. فغياب الحوار الجاد في المشهد السياسي، إذا أضيف إلى ما تم التعرض له في العنصر الأول لن تؤدي إلا إلى نمو قيم التطرف التي تتغذى على الحقد والكراهية، والتي لا تنتعش ولا تنمو إلى في العتمة والظلام. كوز: البعد الثقافي: إن الثقافة هي عمق أي فعل اقتصادي اجتماعي أو سياسي. فأهم ما يميز مغرب الاستقلال هو تسييد ثقافة واحدة تؤمن بالإطلاقية وتنبذ قيم النسبية والاختلاف، هذه الثقافة تتبنى لغة واحدة تعتبرها مقدسة: إنها لغة الضاد. وهذا يجد أصوله في ارتباط المغرب بالشرق ثقافيا وإيديولوجيا منذ نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20، نتيجة قدوم دعاة وإيديولوجيين إلى المغرب كعبد الكريم مراد الذي هيأ مشروع دستور 1906وقدمه إلى السلطان عبد العزيز، أو الشيخ شكيب أرسلان في الثلاثينات... وكذا ثلة من البعثيين المطرودين الذين مارسوا التدريس بالمغرب. أو نتيجة كذلك لتوجه بعثات مغربية إلى الشرق ـ نحو الأزهر مثلا ـ كأبي شعيب الدكالي وعلال الفاسي وعائلة بنونة التي استقرت بالقدس... ساعدت هذه العوامل على تقبل الأفكار المستورة من الشرق كالوهابية والبعثية والناصرية. هذا الفكر التقليدي، أو التقليدي بلباس حديث، الذي يجد امتداداته في لمدرسة العصرية التي ظلت وفية للتقليد وحاملة لفكر عتيق يتبنى إيديولوجية الإقصاء والعنف في كل مناحي الحياة العامة ـ تهميش اللغة الأمازيغية التي ينطق بها أزيد من 80% من المغاربة في كل مناحي الحياة العامة ـ ويرفض عمق التحديث، أي أسسه العلمية والفكرية. وقد تلاقت إرادة المخزن العصري والحركة الوطنية لتكرس استمرارية جذور التقليد في الثقافة الرسمية. إن تبني هذه الثقافة عل المستوى الرسمي ـ وأعني بذلك البرامج المدرسية والإعلامية التي تقدم للمتعلم والمشاهد معارف جاهزة مبنية على منشآت ذهنية لا صلة لها بالواقع ـ ساهم في بلورة فكر يستمد أصوله من المطلقات ويعتمد الدوغمائية والتعصب في الحكم على الآخر. إن هذه الأبعاد مجتمعة تساهم بشكل أو بآخر في نمو هذا التيار التخريبي. ولتجاوزه لا بد من اتخاذ تدابير تصحيحية تشمل المستويات السابقة بدءا بالعمل على تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للقضاء على البطالة والأمية والفقر... وكذا اعتبار المواطن كائنا أساسيا ذا حقوق ثابتة يكفل له القانون ممارستها. لقد رفعت الدولة المغربية في العهد الجديد شعار التحديث السياسي الذي يجب أن يلقي بظلاله على الأبعاد الأخرى. والتحديث في نظري ينطلق أساسا من مراجعة المنظومة التربوية، وجعلها تستهدف بناء شخصية المواطن على قيم التسامح، الاختلاف، الإخاء، المساواة والحرية... الحرية لتي تعتبر خزان الأكسجين الذي يتنفس به الفرد، لكي ينطلق ويتحرر ويمضي في طريق العطاء والبناء وتحمل المسؤولية باقتناع وفاعلية، الفاعلية في الإنتاج والأداء سمة من سمات الحداثة الكونية. وأن تعطى لعقل المتعلم الأولوية في استكشاف المعرفة واكتساب الخبرات بدلا من التلقين والشحن بمعارف جامدة ـ دون تمثل لمعانيها ـ والذي أنهك تعليمنا لعهود طويلة. إن الحقيقة بناء وصيرورة يتوصل إليها المتعلم عن طريق البحث والتنقيب وربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج بعد الدراسة والتمحيص. كما أن تقليص حجم المطلقات سيساهم في تنوير عقول ناشئتنا الصغيرة. إن تكوين المواطن ككائن سياسي فاعل متحمل لمسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه وواع بواقعه ومطالبا بحقوقه، لن يتم إلا عن طريق زرع بذور الحداثة في تربيتنا. هذه البذور التي يمكن إجمالها في العقلنة والدمقرطة والتربية على حقوق الإنسان ثم نسبية الحقيقة. فالحداثة كرؤية معقلنة للمحيط والكون هي ثورة فكرية هادئة على الذات لتخلصها من أوهامها ومتاهاتها ولتمكنها من بناء ذات فاعلة وواعية ومتحررة. وهذه الثورة لن تكون ناجعة إلا إذا طبقت مناهجها على عمق ثقافتنا الوطنية. فالحداثة ليست شوكولاطة تستورد من الشرق أو الغرب. إن الحداثة التي يحتاجها مجتمعنا اليوم لا تخرج عن قراءة علمية موضوعية لحياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. إن هذا التعدد في التحليل يوازيه تعدد لسني وثقافي عميق، مما يستدعي نوعا من التعايش والتسامح لبناء المواطنة الحقة. فالحداثة بالنسبة للحركة الأمازيغية خيار إستراتيجي لمواجهة تحديات العصر. والتحديث يجب أن يمس أيضا ميدان الشغل الذي يعتبر وسيلة للترقي الاجتماعي. هذا المجال يكون فاعلا إذا اعتمدنا معيار الكفاءة الفنية والمهنية وتساوي الفرص في سير صعود السلم الاجتماعي كمقياس نشأ في ظل الديموقراطيات الحديثة، القائمة على المحاسبة والرقابة القانونية، كبديل لمعايير الزبونية والمحسوبية والولاءات العائلية والحزبية التي تعتبر من الأمراض المتفشية في مجتمعنا. كما يجب تفعيل آلية عدم الإفلات من العقاب على كل من أذنب في حق المجتمع والأفراد ـ الجرائم المالية مثلا ـ ، هذه الآلية التي تعتبر القاطرة الموصلة لدولة القانون. لقد غدا السلوك الحضاري الإنساني ـ الذي ينشد العنف والتطرف ـ يرتكز على مفهوم الحق كمشروعية قانونية أخلاقية يستند إليها المواطن للحفاظ على مصالحه ومصالح المجتمع.
|
|