|
افتتاحية: مبادئ «السياسة البربرية» الجديدة: أولا ـ من عميد ذي طابع سياسي إلى عميد تقنوقراطي بقلم: محمد بودهان لم يكن محمد شفيق مجرد عميد، كما يعرف الجميع، بل كان هو المؤسس الحقيقي للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، إذ بدونه ما كان لهذه المؤسسة أن تحظى بالثقة والمشروعية والمصداقية، وتستقطب نخبة من مناضلي الحركة الأمازيغية كانوا ينظرون دائما إلى المؤسسات المخزنية على أنها أمازيغوفوبية في جوهرها. وهذا شيء كانت تعرفه السلطة جيدا، لهذا ألحّت على محمد شفيق، بل ترجّته، أن يتحمل مسؤولية العمادة وبشروطه، التي من بينها شغل هذا المنصب لمدة سنة واحدة فقط وبدون مقابل. واضح أن السلطة لم يكن يهمها سوى البداية والانطلاق، ووضع المعهد على السكة. لهذا كان اختيار شفيق لقيادة المعهد أمرا إستراتيجيا وضروريا لنجاح المشروع الذي تخطط له. فلم تعينه كعميد “تقني” نظرا لخبرته في مجال الأمازيغية وتأليفه لأهم معجم أمازيغي، بل كعميد ذي بعد سياسي، لأن الموضوع سياسي قبل أن يكون تقنيا، ولأن محمدا شفيقا نفسه كان ينظر دائما إلى المسألة كقضية سياسية، كما أنه هو محرر “البيان الأمازيغي“ المتضمن لمطالب ذات طبيعة سياسية كذلك. وقد كانت السلطة تعرف أن محمدا شفيقا هو الوحيد الذي لا يمكن أن تطرح معه مشكلة الانتماءات الجهوية ولا أن تظهر تخوفات تغليب لهجة على أخرى أو جهة أمازيغية على أخرى في مشروع توحيد ومعيرة اللغة الأمازيغية. فقد كان هو الرجل المناسب “سياسيا“ لجعل المعهد مقبولا من طرف جزء كبير من الحركة الأمازيغية، وتبديد التخوفات والأسئلة والترددات حول هذا المولود الجديد. حاولت السلطة إيجاد عميد ذي طابع سياسي أيضا خلفا لشفيق يشغل هذا المنصب لسنة أو سنتين ريثما تستتب الأمور بالمعهد بشكل نهائي وقار. ولما لم توفق في ذلك، بالقياس إلى حساباتها ورهاناتها، انتقلت إلى المرحلة الثانية ـ باعتبار أن المرحلة الأولى هي مرحلة شفيق ذات الطابع السياسي ـ ذات الطابع التقنوقراطي دون تردد. ربما اعتبرت أن الظروف قد نضجت بعد سنتين من تأسيس المعهد، وأن هذا الأخير، كمؤسسة وبنية، أصبح واقعا راسخا يتجاوز معارضيه ويعلو حتى على مؤيديه. هكذا حسمت السلطة في هذه المسالة بتعيين السيد أحمد بوكوس كعميد “تقنوقراطي“ لأن مرحلة التأسيس “السياسي“ للمعهد، وبالتالي للأمازيغية، قد انتهت وأعطت أكلها بشكل ربما لم يكن يتوقعه حتى الساهرون على ملف الأمازيغية أنفسهم. والانتقال إلى مرحلة التدبير التقنوقراطي للأمازيغية هو ما يجب أن يكون، لما يعنيه من تقدم إيجابي يتمثل في الانتقال من مجال الاختيارات والتوجهات والغايات ـ وهي مسائل ذات طبيعة سياسية ـ إلى مجال الفعالية والإنجاز والإجرائية. قلت هذا ما يجب أن يكون، لكن لو تم الحسم في هذه الاختيارات والتوجهات والغايات، وكل الأسئلة الأخرى ذات الطبيعة السياسية المرتبطة بالأمازيغية. فالمعروف أن الجانب التقنوقراطي يأتي بعد الحسم في الجوانب السياسية والانتهاء من تحديد الاختيارات والتوجهات والغايات. والحال أن الأسئلة السياسية، وخصوصا الغائية، التي تطرحها الأمازيغية لا تزال معلقة: ما هو الوضع القانوني للأمازيغية؟ ما هي هوية المغرب والدولة المغربية؟ لأي هدف تقرر تدريس الأمازيغية؟ هل لتكون لغة الإدارة والقضاء؟ ما هي الحماية القانونية للأمازيغية؟... وغيرها من الأسئلة ذات الطابع السياسي والغائي، والتي يعطي الجوابُ عنها المعنى لكل إجراء “تقني“ و“تقنوقراطي“ حول التدريس أو الإعلام... إذا كان تأسيس المعهد يرمي، من بين ما يرمي إليه، إلى نزع الطابع السياسي Dépolitisation عن القضية الأمازيغية ـ لاحظوا أن الإعلان عن إنشاء المعهد جاء في وقت كثر فيه الكلام عن تأسيس حزب “أمازيغي“ ـ فإن تعيين عميد تقنوقراطي يستكمل هذه المهمة ويحقق هذا الهدف بشكل نهائي وممتاز وناجح. فمن هنا فصاعدا، كل مجهودات المعهد ستنصرف إلى الجوانب الإجرائية والتقنية والوظائفية والبيروقراطية، دون أي تساؤل عن الغايات ذات الطبيعة المطلبية والسياسية. وهذا التعزيز لما هو تقنوقراطي ووظائفي وبيروقراطي على حساب ما هو غائي ومطلبي يتم من خلال مظاهر ثلاثة: ـ إن جزء أساسيا وفاعلا من نخبة الحركة الأمازيغية من الذين كانوا تنظّرون للمطالب والهوية الأمازيغية ويدافعون عنهما التحقوا بالمعهد، إما كموظفين أو كأعضاء بمجلس إدارته. وبالتالي أصبحت مصالحهم مرتبطة بالمعهد. وهذا لا يعني أبدا أنهم تخلوا عن قناعاتهم أو تراجعوا عن نضالهم من أجل رد الاعتبار للأمازيغية بالشكل الذي كانوا يطالبون به قبل دخولهم إلى المعهد. وإنما أصبح دفاعهم عن الأمازيغية يمر عبر دفاعهم عن مؤسسة المعهد. وهذا ما كان يريده المخططون “للسياسة البربرية“ الجديدة. ـ أما خارج المعهد، فإن الحركة الأمازيغية المطلبية دخلت مرحلة فتور بيّن وخفّ ضغطها وقل نشاطها بشكل لافت، وذلك لسببين: أ ـ إنها تعوّل على المعهد كمؤسسة أنشئت “خصّيصا“ لرد الاعتبار للأمازيغية، خصوصا أن كثيرا ممن كانوا من أبرز مناضلي هذه الحركة يعملون اليوم بنفس المعهد. ب ـ كثير من مناضلي هذه الحركة لا يريدون أن “يوسّخوا“ ملفاتهم، طمعا في عضوية بالمجلس الإداري للمعهد الذي يتجدد أعضاؤه كل أربع سنوات. ـ لم يعد للحركة الأمازيغية ولا لمطالبها تلك المشروعية ولا تلك المساندة اللتين كانت تحظى بهما لدى جزء كبير من الرأي العام الوطني، وحتى الدولي، الذي أصبح يرى في المعهد استجابة لمطالب هذه الحركة التي لم يبق ـ بالتالي ـ هناك مبرر لوجودها. ويهدف نزع الطابع السياسي عن الأمازيغية، من خلال التوجه التقنوقراطي الجديد للمعهد، إلى تحييد الحركة الأمازيغية وإضعافها بالشكل الذي يجعل مطالبها السياسية ـ دسترة الأمازيغية، تعميمها في القضاء والإدارة، الاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب... ـ تختفي نهائيا ويصبح المعهد هو البديل والتلبية لهذه المطالب. فيكون المعهد قد استجاب حقا لقليل من المطالب الأمازيغية، ظاهريا ورمزيا، ليغلق الباب، وبشكل شرعي ومشروع، أمام المطالب الأمازيغية الحقيقية (دسترة الأمازيغية كلغة رسمية، استعمالها في القضاء والإدارة، الاعتراف بالهوية الأمازيغية لمغرب، تصحيح تاريخ المغرب وإعادة كتابته). وهذه الإستراتيجية ـ الاستجابة للقليل من المطالب لإغلاق الملف نهائيا ـ جرّبها المخزن في إغلاق كل الملفات الحساسة والمقلقة، مثل ملف انتهاكات حقوق الإنسان، الذي أنشئ له هو كذلك “معهد ملكي“ ـ وهو المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وفروعه الأخرى مثل لجنة المصالحة والإنصاف ـ، من خلاله اعترفت الدولة حقا بمسؤوليتها في انتهاك حقوق الإنسان في الماضي ومنحت تعويضات للضحايا، لكن دون محاكمة للمسؤولين عن تلك الانتهاكات ولا الكشف عن الحقيقية، وقد كانا هما المطلبان الرئيسيان للضحايا وللجمعيات الحقوقية. هذه الإستراتيجية التي تقوم على “سياسة الأعيان“ والاستقطاب والاحتواء والتعيين في مناصب مريحة، هو أسلوب لم يعتمده الحكم في معالجة ملفات حقوق الإنسان أو الأمازيغية فحسب، بل استعمله كذلك وأساسا لإغلاق ملف المعارضة السياسية السابقة وإضفاء الطابع الديموقراطي على الحكم، كما حصل مع حكومة “التناوب“ التي بدأت سياسية وانتهت تقنوقراطية، وهو ما تكرر بالحرف مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي انطلق بعميد ذي طابع سياسي لينتهي بعميد تقنوقراطي. لنرصد الموازاة والتماثل العجيبين بين الإثنين لنكتشف كيف تم التعامل مع الأمازيغية، عبر إنشاء المعهد، كحكومة تناوب مصغر: ـ ما كان لمخطط “التناوب“ أن ينجح، بالنسبة للسلطة طبعا، التي لمّع صورتها ومنحها، أمام المواطنين وكل العالم، واجهة من الديموقراطية المقبولة، لولا شخص عبد الرحمان اليوسفي الذي زكّى، بتاريخه ونضاله ومبادئه ونزاهته ومكانته، هذا المخططَ وأعطاه المشروعية والمصداقية والثقة وجعله مقبولا حتى لدى أشد المعارضين للنظام، وذلك عندما قبل أن يقود حكومة “التناوب“ كوزير أول لها. كذلك ما كان لمخطط المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أن ينجح، بالنسبة للسلطة دائما، لولا شخص محمد شفيق الذي زكّى هو كذلك، بكاريزميته وصدق نضاله ومكانته لدى الحركة الأمازيغية، هذا المخطط وأعطاه المشروعية والمصداقية ووفر له الثقة وجعله مقبولا حتى عند أشد الأمازيغيين رفضا للمؤسسات ذات الطبيعة المخزنية، وذلك عندما قبل أن يكون عميدا لهذا المعهد. ـ ما أن أعطى مخطط “التناوب“ ثماره المخزنية، المتمثلة في تدجين واحتواء وتطويع ومخزنة المعارضة “الديموقراطية“ السابقة وجعل ولائها للسلطة أمرا واقعا ونهائيا لا يمكن تغييره أو التراجع عنه بفضل المناصب الوزارية والبرلمانية والامتيازات المادية والرمزية التي “رشاها“ بها المخزن، تم الاستغناء عن اليوسفي، صانع هذا الولاء، والذي بدونه (اليوسفي) كان سيبقى هذا الولاء مستحيلا ولا يمكن حتى تصوره أو التفكير فيه. تم الاستغناء إذن عن اليوسفي وعُيِّن وزير أول تقنوقراطي لتنبيه الغافلين والحالمين على أن الحفلة قد انتهت، كما يقال بالفرنسية. كذلك ما أن أعطى المعهد ثماره المخزنية، المتمثلة في استقطاب ومخزنة نخبة من الحركة الأمازيغية التي أصبح احتواؤها (النخبة) أمرا واقعا ونهائيا لا يمكن تغييره ولا التراجع عنه بعد أن أصبحت مصالحها، بل أرزاقها، مرتبطة بالمعهد ومتوقفة عليه، سيعيّن عميد تقنوقراطي جديد للتنبيه على أن مرحلة الحماس النضالي التي خلقها تعيين شفيق قد انتهت وبدأت المرحلة التقنوقراطية التي من مهامها تنفيذ “السياسة البربرية“ الجديدة. ـ في تعيينها للوزير الأول التقنوقراطي، لم تحترم السلطة “المنهجية الديموقراطية“، كما علّق على ذلك بلاغ المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، التي تقتضي تعيين الوزير الأول من الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد بالبرلمان. لأنها لم تعد في حاجة إلى هذه “المنهجية الديموقراطية“ التي استعملتها واحترمتها فقط عندما كانت في حاجة إليها يوم تعيين اليوسفي كوزير أول ذي طابع سياسي اختير من الحزب الحاصل على أكثر المقاعد بمجلس النواب. أما الآن، وقد أصبح كل شيء مخزنيا، فلا حاجة إلى الالتزام بهذه “المنهجية الديموقراطية“. نفس الشيء سيتكرر مع تعيين العميد التقنوقراطي الجديد للمعهد، الذي لم تحترم السلطة أيضا في اختياره “المنهجية الديموقراطية“ التي كانت تقتضي مراعاة التوازن و“التناوب“ بين الجهات في اختيار العميد الجديد، كما روعي ذلك في اختيار العميد السابق الذي كان “ينتمي“ إلى كل الجهات، وروعي بالخصوص في اختيار أعضاء مجلس إدارة المعهد، الذي هو أعلى هيئة تقريرية بهذه المؤسسة. هنا كذلك استغنت السلطة عن هذه “المتهجية الديموقراطية“ لأنها لم تعد في حاجة إليها بعد أن أصبحت مخزنة الأمازيغية صيرورة لا رجعة فيها ـ كما تعتقد السلطة طبعا ـ، وهي مرحلة تتطلب الفعالية التقنوقراطية على حساب التوازنات السياسية. (سنخصص الحلقة الثالثة من هذه السلسلة من المقالات الخاصة بـ“السياسة البربرية“ الجديدة لغياب وتغييب الريف بالمعهد الملكي). ـ ماذا خسر المخزن وماذا ربح من مرحلة “التناوب“؟ كم أعطى وكم أخذ؟ أعطى القليل من ديموقراطية الواجهة بإشراك مسرحي للمعارضة “التاريخية“ السابقة في الحكم. لكن بالمقابل تخلّص، بصفة تكاد تكون نهائية، من المطالب الديموقراطية الحقيقية، والتي كانت تضايقه بها تلك المعارضة، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي، صانع “التناوب“ المغشوش، هذه المطالب التي كانت تدور حول ضرورة وضع دستور ديموقراطي يصدر عن هيئة تأسيسية كما في كل الديموقراطيات الحقة. كذلك أعطت السلطة، فيما يتعلق بالأمازيغية، القليل من الكثير الذي كانت تطالب به الحركة الأمازيغية. أعطت اعترافا ملكيا بالأمازيغية (وهو شيء في غاية الأهمية) ومعهدا للبحث خاصا بالأمازيغية، مع إدماج لها في التعليم بطريقة متسرعة وسيئة جدا لم تحدد أهدافها ولم تعرف غاياتها بعد. (سنخصص الحلقة الثانية من هذه السلسلة من المقالات الخاصة بـ“السياسة البربرية“ الجديدة لتدريس الأمازيغية). لكن بالمقابل تخلّصت ـ أو هكذا اعتقدت ـ من تلك المطالب المزعجة ذات الطبيعة السياسية، والمتمثلة في التنصيص في الدستور على أن هوية المغرب أمازيغية، وأن الأمازيغية لغة وطنية ورسمية مع استعمالها كلغة للتدريس وتعميمها في القضاء والإدارة. ـ أما اليوسفي فقد خسر كل شيء، خسر رصيده النضالي الكبير الذي غسله صابون “التناوب“ الذي خرج منه (التناوب) بخفي حنين. والخوف، كل الخوف، أن يخسر محمد شفيق هو أيضا رصيده النضالي الثمين الذي راكمه عبر أزيد من نصف قرن من الدفاع عن الأمازيغية، وذلك في حالة فشل، مستقبلا، وبالنسبة للأمازيغية طبعا، مشروع “السياسة البربرية“ الجديدة التي انطلقت مع إنشاء المعهد الملكي. نستنتج من هذه المقارنة بين حكومة “التناوب“، التي بدأت سياسية وانتهت تقنوقراطية، وبين المعهد الذي انطلق بعميد ذي بعد سياسي لينتهي بعميد تقنوقراطي، نستنتج أن السلطة لا تستخدم ولا تتعامل إلا بمقاربة نموذجية واحدة تطبق مبادئها على كل المؤسسات. وهذا هو النظام بامتياز، ليس بمعنى “الرجيم“ Régime فحسب، بل بمعنى “سيستيم“ Système. وكما أن كثيرا من الأسئلة لم تثر بصدد حكومة “التناوب“ إلا بعد تعيين وزير أول تقنوقراطي ضدا على “المنهجية الديموقراطية“، فكذلك كثير من الأسئلة لم تطرح بصدد المعهد الملكي إلا بعد تنصيب عميد تقنوقراطي. ومن بين هذه الأسئلة سؤال مقلق وخطير: ألا يمكن أن تكون هناك علاقة، محسوبة ومدروسة، بين “البيان الأمازيغي“ وإنشاء معهد للثقافة الأمازيغية يرأسه محمد شفيق، وتمرير حرف تيفيناغ، ثم تعيين عميد تقنوقراطي؟ ألم يكن كل ذلك خطة محسوبة ومدروسة ومحبوكة تم التفكير فيها والإعداد لها بعناية كبيرة؟ أطرح هذه الأسئلة دون أن يعني ذلك أن الفاعلين في هذه الخطة المفترضة كانوا واعين بها أو مشاركين Complices فيها، بل مجرد منفذين لمخطط يتجاوزهم ويستعملهم. وأخيرا نطرح السؤال الذي سيطرحه الكثير ممن يختلفون معنا في هذا التحليل: وما العمل وما البديل إذن لو رفضنا المعهد؟ وما العمل وما البديل لو رفض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التعويضات وقاطعوا المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان؟ وما العمل وما البديل لو رفض الاتحاديون “التناوب“ الذي عرض عليهم؟ سؤال وجيه ومشروع لأن رفض كل ما تقدمه السلطة دون إعطاء بديل جدي وواقعي يأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى، هو موقف عدمي، بل عبثي ومضر. وتتضمن هذه الأسئلة أسئلة أخرى فرعية محرجة: أليست حالة ضحايا انتهاك حقوق الإنسان هي أحسن اليوم مما لو رفضوا تلك التعويضات؟ أليست وضعية الأمازيغية اليوم أحسن بكثير بفضل المعهد مما كانت عليه قبل إنشاء هذه المؤسسة؟ مبتغى السلطة وخطتها، وفخها أيضا، هي أن يطرح المعنيون هذه الأسئلة التي تتضمن جوابا بديهيا: الحالة الآن أفضل بكثير جدا، جدا، جدا. لكن المشكلة هي أن هذه الأسئلة/الأجوبة تنصب على شق واحد من المسألة وتسكت عن الشق الثاني: صحيح جدا أن حالة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان هي اليوم أحسن بكثير بفضل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. لكننا ننسى أنها دون ما كانوا يصبون إليه ويطالبون به، وهو محاكمة المسؤولين والكشف عن الحقيقة. وصحيح جدا أن وضعية الأمازيغية بوجود المعهد هي أفضل بكثير مما لو لم يكن هناك معهد. لكنها دون ما كانت تنتظره الحركة الأمازيغية وتطالب به. فنحن نقارن بين الماضي والحاضر وننسى المقارنة بالمستقبل. نقارن بين وضع الأمازيغية قبل المعهد وبين وضعها بعد المعهد لنستنتج الدور الإيجابي لهذه المؤسسة. ولكن لا نقارن بين وضعها بعد المعهد والوضع التي كانت تصبو إليه. فالمقارنة بين ما كانت تملكه الأمازيغية وبين ما حصلت عليه بفضل المعهد، يبرز هذا الأخير كحدث يشبه ثورة كوبرنيكية، كما سبق أن كتبت في مناسبة أخرى، بالقياس إلى الهيمنة المطلقة للنزعة العروبية الشرقانية بالمغرب. لكن المقارنة ـ والتي تغيّبها وتنسيها المقارنة الأولى ـ بين ما حصلت عليه بفضل المعهد وما كانت تطالب به قبل إنشاء هذه المؤسسة يظهر هذه الأخيرة كمجرد رضّاعة تلهي وتسلّي. هنا نقول كذلك إن المعهد يقوم بعمله وعلى الحركة الأمازيغية مواصلة القيام بعملها إلى أن تتحقق كل مطالبها. والخدعة كلها في هذا المنطق الذي يبدو بديهيا، لكنه خادع ككل البديهيات. لأن المعهد، بما يتوفر عليه من قوة استقطاب واحتواء للنخب الأمازيغية الناشطة، يعرقل مواصلة الحركة الأمازيغية القيام بعملها النضالي والمطلبي كما شرحت ذلك أعلاه. لكن مهما حاولت “السياسة البربرية“ الجديدة الالتفاف على الأمازيغية وتحويل مطالب الحركة الأمازيغية إلى مطالب “تقنية“، يعمل التوجه التقنوقراطي الحالي للمعهد على الاستجابة لها، فإن هذه الحركة، كما أثبت ذلك تاريخها، لن تخسر، في أقصى الحالات، سوى بعض من وقتها الثمين، أي أن ما كانت ستصل إليه بعد خمس سنوات ربما ستصل إليه بعد عشر، وما كانت ستصل إليه بعد عشر ستصل إليه بعد خمسة عشر. قد تتأخر لكنها حتما ستصل.
|
|