|
|
الحركة الثقافية الأمازيغة والأصولية: حقيقة أم افتراء؟ بقلم: حساين عبود عنونت أسبوعية "الحدث" في عددها الخامس ملفا حول الأمازيغية بـ»هل تهدد "الأصولية الأمازيغية" وحدة المغرب؟«. ومفهوم "الأصولية" هذا استعارته من حقل الديانات والحركات المرتبطة بها لتقوم بإسقاطه على حركة مطلبية احتجاجية منبثقة من صلب المجتمع في سياق الدينامية المجتمعية التي يعرفها المغرب في العقدين الأخيرين. وعلى الرغم من كون الأستاذ بودهان، في افتتاحية العدد السابق، خلص إلى تخريج يجعل الانتماء إلى خانة "الأصولية الأمازيغية" مدعاة إلى الفخر والاعتزاز، فإن كل المقالات التي خصصت للموضوع بهذا الملف تركز على الطابع القدحي لنعت الأمازيغية بالأصولية. وما استرعى انتباهي هي مساهمة محمد ضريف بعنوان: "الأصولية الأمازيغية: أي حاضر لأي مستقبل؟" وقبل الدخول في صلب الموضوع، من الضروري إبداء الملاحظات التالية: ـ توحي مساهمة الأستاذ ضريف بالتزام صاحبها الحياد والموضوعية في رصد مظاهر "الأصولية الأمازيغية". غير أنها تضمنت أحكاما قيمية، وهو ما يقتضي التأسيس لهذه المزاعم من خلال الاستشهاد بأدبيات الحركة الثقافية الأمازيغية وإنتاجاتها وشعاراتها. ـ هناك خلط والتباس غير مفهوم، فهو تارة يقول بأن هذه "الأصولية" نشأت في صلب التعبيرات الأمازيغية الرسمية، وتارة أخرى يقول بأنها انبثقت من رحم الحركة الثقافية الأمازيغية، كما يذهب إلى أن هذه الأصولية تأرجحت بين العمل من داخل الدولة والعمل من خارجها. وهنا يجب التأكيد على أن الاستقلالية تمثل ثابتا من ثوابت الحركة الثقافية الأمازيغية وموجها لمسارها النضالي. فنشأتها كانت بمنأى عن رعاية الدولة والأحزاب السياسية، يمينها ويسارها، وتعمل بعيدا وباستقلال عن توجيهاتها وتأطيرها. ـ إن أي رصد لسيرورة الحركة الثقافية الأمازيغية لا ينبغي أن يقتصر على الجمعيات الثقافية وحدها. فهناك مكونات أخرى: حركة نشيطة على امتداد الخريطة الجامعية الوطنية، وفعاليات فردية أكاديمية وفنية تساهم بدورها في تحقيق التراكمات. ـ إن مساهمة لمحمد ضريف تتمترس وراءها خلفية الدفاع عن العربية والإسلام. ويتضح ذلك من قوله: »… الأصولية بمختلف تجلياتها نزعة تتأسس على رفض الآخر، فهذا ينطبق على التيار المتطرف داخل الحركة الثقافية الأمازيغية الذي يعبر بشكل مكشوف عن عدائه للعنصر العربي والعربية، وبالتالي العداء للإسلام«. إنه إظهار للعربية والإسلام بمظهر الضحية، واختزال "الآخر" فيهما دون أدنى انتباه إلى مكونات وأبعاد أخرى كالبعد اليهودي والإفريقي الحاضرة فينا.. بعد هذه الملاحظات أنتقل إلى تحديده للأصولية وسماتها العامة ومدى انطباق ذلك على الحركة الثقافية الأمازيغية، أو على توجه منها إن كانت هناك توجهات افتراضا. يقول محمد ضريف: »فالأصولية نزعة ترفض التكيف مع الأوضاع المستجدة استنادا إلى قراءة ماضوية للموروث سواء كان ثقافيا أو دينيا أو سياسيا أو قانونيا«. نستخرج من هذا التعريف الملاحظات التالية: ـ الاستناد إلى موروث يتم تقديسه ـ رفض المستجدات رفض الآخر. 1 ـ الحركة الثقافية الأمازيغية والموروث: أية علاقة؟ يجب الإقرار منذ البداية بأن الارتباط بالماضي والإحالة عليه والتأسي بالموروث ليس مجرد آلية من آليات إنتاج المشروعية، بل يشكل إحدى ظواهر التاريخ البشري، وحتى دعوات الأنبياء ـ بما تتضمنه من طابع الهداية ـ يواجهها المخاطبون بها بالتمسك بمعتقدات السلف وتراثه، بل إن الرسائل السماوية نفسها تحيل كل واحدة منها على ما سبقها. ألم يقدم الإسلام نفسه على أنه استمرار للمسيحية واليهودية قبل تحريفهما وأنه امتداد للحنفية التي جاء بها النبي إبراهيم؟ إلا أن مكمن الاختلاف هو التباين في رؤية ذلك الموروث ودرجة الارتباط به. فهناك من يرتبط بهذا الماضي ويعتد به باعتباره المنبع النقي ولحظة المجد والتفوق المفقودة، ومنه ينبغي التماس أسباب الرقي والازدهار، ومن ثمة ضرورة التفاني في محاكاته واجتراره. وهناك من يرى أن هذا الموروث يشكل الذاكرة الجماعية، ومن غير الممكن قطع الصلات والوشائج به. وعليه يجب ضبط العلاقة به. والحركة الثقافية الأمازيغية تنتمي إلى هذا الصنف لأن مبتغاها ومسعاها التأسيس لارتباط واعٍ بهذا الموروث الذي ليس ولن يكون المؤطر الوحيد لخطابها والعلاقة معه لا تكون علاقة بعث وإحياء ونفخ الروح فيه من جديد لاستئناف مسيرته في الحاضر. كما أن سبب موقفها المدافع عن الماضي هو عدم الرضى عن تاريخنا، الذي هو أصغر من استيعاب إسهامات السلف. فاقتناعنا بأن هذا التاريخ مليء بالثفوب ويعتريه البتر المتعمد، لذلك نطالب بإعادة كتابته واستكمال البحث والتنقيب عنه برؤية علمية. جاء في :بيان فاتح مارس": »ومن الملحوظ أن النزعة إلى إلغاء البحث في ماضي الأمازيغ قبل دخولهم الإسلام تقوى سنة بعد سمة«، لأن التاريخ في رأي منظري القومية العربية، هو ما له صلة بما يعتقدونه "جنسا عربيا". لذا يوصون بالتأريخ للعرق لا للأرض. وبرهاننا على ما نقول هو أن أول درس يلقنه أبناؤنا عند أول تمدرسهم بمسائل التاريخ يحمل عنوان "المدينة والقبيلة العربية قبل الإسلام". نخلص إلى أن الحركة الثقافية الأمازيغية لا تحيط الموروث بهالة القدسية ولا تعتبره المرجعية الوحيدة للخلاص، وإنما تحاول توطيد علاقة رصينة ومعقلنة به حفاظا على الذاكرة وإنصافا لتلك الرموز التي صنعت هذا الموروث لأن إزاحة هذا الأخير وتوطين موروث آخر مكانه هو بث للتبعية وضمور للحس الوطني. 2 ـ هل الحركة الثقافية ترفض الجديد؟ قاعدة وعماد الحركة الثقافية الأمازيغية نخبة تأتى لها التحصيل العلمي واستخدام أدوات المعرفية وأهلية توظيف آليات النقد، وهو ما يجعلها »مسلحة بعتاد معرفي مفاهيمي ضارب بجذوره في حقل العلوم الإنسانية«(2). فكيف لها أن لا تصغي للحقائق والمستجدات؟ إنها حركة تنهل من المنظومات الفكرية الحديثة، ومنخرطة في الحداثة، ومتشبعة بمبادئ وقيم العقلانية والنسبية والإيمان بالمصادر المدنية للسلطة وبهشاشة مسوغات إقامتها على أسس أخرى. من زاوية أخرى، فإن الانفتاح خاصية ملازمة للحركة الثقافية الأمازيغية لأنها وليدة الطينة المغربية التي هي جزء من الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط الذي مثل عبر التاريخ، لتموقعه الجغرافي، فضاءَ للفكر الإنساني ولتبلور قيمه النبيلة كالتسامح. وليس مصادفة أن يكون التربة التي أنبتت ابن رشد المدافع عن العقل، وأن يكون كذلك ملاذا لمن ضاق به العيش في وطنه. ولن تكون هذه الحركة إلا وريثة هذه القيم ومحافظة على كنهها وجوهرها وحامية لها من الموت والاندثار. وأن أي تطرف لن يكون إلا صدى عابرا وخافتا لتطرف تبلور بعيدا عن تربة الاعتدال هاته. 3 ـ الحركة الثقافية الأمازيغية والعلاقة بالآخر: ليس من المبالغة في شيء القول بأن التعدد واحد من الشعارات المركزية للحركة الثقافية الأمازيغية، ويشغل حيزا كبيرا من نضاليتها وأدبياتها. فالتفاعل مع الآخر حقيقة مقررة، لكنه يتطلب شروطا دنيا للندية والتكافؤ. فالمغرب متعدد الأبعاد والعلاقة بينهما تقتضي نوعا من التوازن لا الانبهار والانبطاح وإلحاق بعضها قسرا بالبعض الآخر. فنرجسية ومركزية إحدى هذه المكونات ـ وللأسف هذا حاصل عندنا ـ تتولد عنه رؤية تكون مرتعا للمكبوتات والأحقاد والكراهية إزاء المكونات الأخرى دون استشعار أي ذنب عن إزاحتها وتهميشها. وثمة أوهام بنيت "كبديهيات" بلغة القطع، ولا تقبل المساءلة والنقد وتؤسس بذلك عنفها وسلطتها، وتستوجب عنفا مضادا لفضحها وتسفيهها. فهل شروط الاعتراف بالأمازيغية والأمازيغ ككيان وكذات وهوية قائمة حتى نقول بأن الأصولية الأمازيغية لا تعترف بالغير؟ حتى وإن كانت عقود الاستقلال تعبئة مكثفة ضد الأمازيغية والأمازيغ تجعل مناخ نشأة الحركة الثقافية الأمازيغية مشجعا على الغلو والتطرف ومجابهة الكراهية بكراهية مضادة، فإنها تلتزم الحدود الدنيا للاعتدال والاتزان والبرهان في ذلك ما داء في "بيان فاتح مارس": » نحن الأمازيغ إخوان للعرب حيثما قطنوا بحكم انتمائنا إلى الأمة الإسلامية، وبحكم الأواصر القوية التي تربطنا بهم وبحكم التاريخ المشترك المطبوع بالتآزر في السراء والضراء… إننا نؤمن بأن التنوع غني وان الاختلاف مشحذ للهمم، ونرى أن الأحادية مضيعة لفرص التفتح والازدهار والتمدن«.أليست هذه شهادة عن حقيقة علاقة الأمازيغ بالآخر؟ وهل يقابل هذا الاعتراف باعتراف من هذا الآخر؟ وأخيرا، إذا كان الأستاذ ضريف يقول بأن السكة الصحيحة للحركة الثقافية الأمازيغية هي النضال من أجل الديموقراطية، فإنه ينبغي تعميق التفكير في الديموقراطية المغربية: هل تستوعب سؤال الأمازيغيين؟ هل أسئلة الهوية والثقافة واللغة … تتوفر على نفس حظوظ الحضور التي تتمتع بها الانشغالات الأخرى؟ أليس الذين يتولون اآن تدبير الشأن العام بالمغرب مناضلين من أجل الديموقراطية؟ فماذا حققوا للأمازيغية؟
|
|