|
|
الدواعي الفكرية والسياسية لمعيرة اللغة الأمازيغية بقلم: الصافي مومن علي
أعتقد أن إدراك حقيقة الدواعي الفكرية والسياسية لمعيرة اللغة الأمازيغية، رهين بالدرجة الأولى بفهم حقيقة اللغة الأمازيغية المعيارية فهما واضحا ومتميزا. فما هو إذن مفهوم هذه اللغة المعيارية؟ مما لا شك فيه أننا بوضع هذه اللغة في بؤرة الفكر سنجد أنها لا تعني أي شيء آخر غير اللغة الأمازيغية الموحدة (بفتح الحاء) والموحدة (بكسر الحاء) النقية السليمة المتوافق عليها، المستخرجة من اللهجات الأمازيغية الحالية، التي تكونت من تفكك وتفتت اللغة الأمازيغية الأم من جراء إصابتها بالكثير من الفساد، والتشويه، والإبادة، نتيجة للسياسات الغير الرشيدة التي مارسها عليها – على مر العصور- أبناؤها أنفسهم من ملوك، وعلماء، وسياسيين ومفكرين، وغيرهم بسبب الاستلاب الفكري الذي خدر عقلهم وغيب وعيهم، وبرمجهم لتدمير ذاتهم، وبناء ذوات أخرى غيرها. إذن يبدو أن إعادة بناء هذه اللغة المعيارية يندرج في إطار عمل تصحيحي، يرمي إلى إصلاح ما أفسدته السياسة اللغوية القديمة لأجدادنا. وإنه من هنا يتضح أن الغرض من بناء هذه اللغة ليس هو خلق لغة مخبرية جديدة أو غريبة كما يعتقد البعض خطأ،وإنما هو علاج الأمازيغية وتطهيرها من الفساد والأدران والأمراض اللاحقة بها من جهة، والخراج مناطق المغرب من العزلة والتقوقع والانكماش وسائر أنواع الانغلاق التي أحدثتها فيها اللهجات من جهة أخرى. وهكذا، ولما كان بناء هذه اللغة نابعا من استعادة الشعب المغربي لوعيه بذاته الأمازيغية، ومستمدا أصوله وقواعده مما احتفظت به اللهجات من المكونات السليمة للغة الأمازيغية الأم، ومعتمدا على الخبراء المنتمين لمناطق هذه اللهجات، فإن كل هذه المعطيات تجعل اللغة الأمازيغية المعيارية تنفرد بخاصية فريدة من بين لغات كثيرة في العالم، وهي أن كل مكونات الشعب المغربي من سياسية واقتصادية ونقابية ودينية، وجمعوية، اختارت الرجوع إلى هذه اللغة بدافع وعي عقلاني عميق وشمولي بتاريخ وواقع بلادنا، ومن منطلق اختيار سياسي حكيم، وإرادة حرة، وكذا عمل جماعي توافقي مشترك، وليس بإكراه القوة المادية، أو بالقوة الروحية اللتين عمدتا كما هو معلوم إلى توحيد بعض الشعوب في لهجة خاصة مثلما حدث للشعب الفرنسي الذي توحد بهذه القوة المادية في لهجة أهل الشمال، أو مثل لهجة قبيلة اللاتين الإيطالية التي حولها الدين المسيحي في القرون الوسطى إلى لغة كل الشعوب الأوروبية.وهكذا، فإذا ما صح هذا المعطى، يمكننا استنتاج منه استنادا للمرتكزات المنطقية والتاريخية للعودة إلى هذه اللغة الأمازيغية المعيارية، إلى أساسين اثنين أحدهما مركزي محوري وهو الوعي بالذات، والثاني منبثق من هذا الوعي فالنسبة للأساس الأول لا يمكن في تقديري لأي أحد أن ينكر أن استعادة شعبنا لوعيه بذاته الأمازيغية في زمننا الحالي، هو الذي جعله يهتم إيجابيا بالأمازيغية، بعد أن كاد غياب هذا الوعي في عصور عديدة، أن يؤدي بها إلى الانقراض كليا، كما تنبأ بذلك مؤرخ المملكة السابق المرحوم عبد الوهاب بن منصور في كتابه «قبائل المغرب»، محددا توقيت هذا الانقراض بعد 50 سنة من صدور كتابه، لأن واقع هذه اللغة ووضعها المزري كان بالفعل يؤكد صحة تحقق هذه النبوءة، باعتبار أن هذه اللغة ماتت في معظم جسدها المغربي، ولم تعد حية فيه إلا في بعض جباله وواحاته النائية، تنتظر فيها نفس مصير الموت الذي لاقته في المدن والسهول. إذن فاستعادة شعبنا لوعيه بذاته، هو الذي جعله يتذكر حقيقة نفسه وحقيقة مكوناته الثابتة التي تميزه عن باقي شعوب الأرض، وجعله أيضا يدرك أن ما ينطبق على كل هويات شعوب العالم من خصائص عامة ومشتركة ينطبق أيضا على هويته الخاصة، فأدى به هذا الوعي إلى إدراك ما يلي: ـ أن هويته الأمازيغية لا نهائية، أي ممتدة في أغوار الماضي السحيق، وفي ذات الوقت مسترسلة في آفاق المستقبل، تتغذى من كل الأزمنة والأحقاب التي عاشت وستعيش فيها، ولا تنحصر بدايتها في عصر معين كالقرن السابع الميلادي الذي اعتنق فيه شعبنا الدين الإسلامي، كما يعتقد البعض إما عن جهل وخطأ، أو عن عمد وقصد أيديولوجيين. - وإدرك أيضا أن هذه الهوية حرة، ومستقلة، أي غير مختلطة بأي ذات أخرى كذات الشعب السلتي أو الجرماني، أو ذات الأتراك وقدماء فلسطين، أو ذات اليمنيين وغير ذلك من الذوات الأخرى التي كانت تتهافت على شعبنا لاستقطابه، وتشكيل تاريخه وهويته كما يحلو لها، عندما كان وعيه بذاته غائبا. ثم أدرك كذلك أن هذه الهوية الأمازيغية غاية في حد ذاتها، أي أنها ليست وسيلة لغيرها، وأنها بالتالي هي وحدها التي تملك حق تحديد نفسها بنفسها، وحق صنع مصيرها. ولما كان وعي الشعوب بذاتها، يعتبر بمثابة عودة البصر للأعمى، فقد تمكن شعبنا بهذا الوعي من إدراك أن اللغة الأمازيغية هي المرتبطة بهويته وشخصيته ارتباطا عضويا مثل ارتباط الروح بالجسد، وارتباط ملامح الإنسان المميزة بشخصه، بحيث يؤدي فقدانها إما إلى محوه من الوجود، كما حدث للشعب السومري، والكلداني والفينيقي وغيرهم، وإما إلى استعارة ملامح شعوب أخرى وتقمصها رغم وعيه بذاته المميزة، مثل الشعب المصري الذي نسمع عنه أحيانا اعتزازه بذاته الفرعونية، ولكنه لا يقوم بتعميم تعليم اللغة الفرعونية لإعادة ملامح هذه الهوية إلى شخصيته المصرية. وبطبيعة الحال هذه المعرفة الجديدة لحقيقة اللغة الأمازيغية التي كشف عنها الوعي بالذات، كان من البديهي أن تنبثق عنها عدة دواعٍ فكرية وسياسية تدفع دفعا إلى تحقيق الأهداف الواردة في كل من خطاب أجدير التاريخي، والظهير المحدث للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الرامية إلى المحافظة على هذه اللغة، والنهوض بها والاعتزاز بها، وإدماجها في الفضاءات العمومية الوطنية والجهوية. وهذه الدواعي تتلخص في نظري في ما يلـي: أولا: كون اللغة الأمازيغية مرتبطة بحياة شعبنا، استنادا للقانون الأزلي الذي يقضي بكمون حياة الشعوب في لغاتها الخاصة، الجاري به العمل في جميع لغات العالم كيفما كانت، وأينما كانت، وفي أي زمن كانت، بدليل أن موت اللغة الألمانية سيؤدي حتما إلى موت الشعب الألماني، وموت اللغة الفارسية يؤدي كذلك إلى موت الشعب الفارسي، ونفس هذا المصير يلقاه الشعب الأمازيغي المغربي، وغيره من شعوب العالم تطبيقا لهذا القانون الطبيعي الصارم. فصرامة هذا القانون وحتميته ثابتة لأنها هي التي أدت إلى انقراض الشعب السومري والكلداني وغيرهما من شعوب العالم القديم، وليس التقتيل أو الإبادة الجماعية مثلما حصل لهنود أمريكا، أو لشعب أستراليا الأصلي. إذن فإرادة شعبنا في البقاء على قيد الحياة التي تنسجم مع أهم حق من الحقوق الطبيعية للشعوب، هي التي دفعته إلى التشبث بهذه اللغة. ثانيا: كون اللغة الأمازيغية مرتبطة بسيادة شعبنا وكرامته، استنادا كذلك لمبدأ عام يتعلق بارتكاز حق السيادة على ثلاثة عناصر أساسية هي: - سيادة الوطن. - وسيادة اللسان - وسيادة الكيان. هذه العناصر التي يعتبر كل مساس بها انتهاكا واعتداءا على سيادة الشعوب وكرامتها، اللهم إن كان عقل شعب ما ، به تخدير أو مرض يمنعه من الإحساس بهذا الانتهاك مثلما حدث لشعبنا في العصور الماضية. ثالثا: كونها مرتبطة بقوة شعبنا وتماسك وحدته، استنادا للمبدأ القاضي بما يلي: (في الوحدة قوة، وفي التفرقة ضعف) إذ من البديهي أن عودة شعبنا إلى هذه اللغة المعيارية الموحدة والموحدة، سيجعله يجمع كل قواه العددية، والمادية، والفكرية، والروحية، والإبداعية، وغيرها في بوتقة واحدة، مما سيؤدي حتما إلى تقوية هذه اللغة من جهة، وإلى تعزيز وحدة شعبنا وقوته من جهة أخرى. وفكرة وحدة الأمازيغية تنسجم طبعا مع الوحدة الوطنية التي تعتبر من المصالح العليا للوطن، إذ لما كان شعبنا موحدا في دين إسلامي واحد، بل وفي مذهب ديني واحد، ثم في لغة عربية واحدة، فإن منطق الوحدة هذا، يفرض أن يكون موحدا كذلك في أمازيغية واحدة. وبالفعل إن الحركة الأمازيغية التي كانت سباقة في بلادنا إلى الوعي بالذات الأمازيغية، كانت دائما ولا تزال ملتحمة حول هذا الاتجاه الوحدوي، مقتنعة بضرورة أن تكون اللغة الأمازيغية عنصرا فاعلا آخر في تقوية الوحدة الوطنية، وفي تعزيز التلاحم الوطني.كما أن جلالة الملك محمدا السادس، المجسد والمعبر عن إرادة الأمة، طبقا للدستور ولأعراف وثوابت دولتنا، جعل من بين الأهداف المتوخاة من إقرار الأمازيغية، أن تساعد على تقوية الوحدة الوطنية. وإرادة جلالة الملك في إعادة بناء وتطوير لغة أمازيغية معيارية موحدة (بكسر الحاء) وموحدة (بفتح الحاء)، تتجلى في إنشائه معهدا واحدا لتدبير الشأن الأمازيغي،( وليس معاهد محلية كثيرة)، جمع فيه شخصيات معروفة بكفاءاتها الفكرية والعلمية، ومنتمية إلى مناطق كل اللهجات الأمازيغية، لغاية توافق هذه الشخصيات على استخراج لغة معيارية واحدة، من اللهجات المتعددة، للاعتماد عليها في التدريس، وإدماجها في الفضاءات الوطنية والجهوية، وذلك من منطلق كون الأمازيغية ملكا لجميع المغاربة بدون استثناء، كما عبر عن ذلك جلالة الملك في خطابه السامي بأجدير. هذا وإن كان واضحا أن الأمازيغية المعيارية تقوي فعلا الوحدة الوطنية، وتعزز تماسكها وصلابتها في وجه أي اختراق أجنبي أيا كان، فإن هذه اللغة تحقق أيضا مصالح عليا أخرى للبلاد نذكر من بينها: أ – التواصل وتبادل المعرفة والخبرات بين جميع المغاربة بأمازيغية واحدة،على غرار تواصلهم بعربية واحدة، وبفرنسية واحدة، وبإسبانية واحدة. ب- تحقيق مصلحة اقتصادية كبرى تتمثل في تجنيب إرهاق اقتصاد بلادنا بهدر الأموال في أعمال متكررة، كحاجة وزارة التربية الوطنية مثلا في حالة إقرار اللهجات إلى ترجمة وطبع كل المقررات الدراسية بعدد اللهجات المتواجدة في بلادنا، ومن الأكيد أن القيام بأعمال هذه الترجمة والطبع المتكرر والمعاد وما يتطلبه ذلك من نفقات ومصاريف لن يتوقف في وزارة التعليم فقط، بل سيمتد إلى وزارة العدل، والداخلية، والأوقاف، والأشغال العمومية، والطب، وسائر المرافق العمومية الأخرى. ج- ومن هذه المصالح أيضا تجنب حدوث اضطراب وعدم الاستقرار في وضعنا التعليمي باعتماد اللهجات، لأن انتقال الطفل المغربي من المنطقة التي تعلم فيها بلهجة معينة، إلى منطقة لهجة أخرى سيحدث له خللا وشللا في مواكبة مساره الدراسي، لجهله لهجة المنطقة التي انتقل إليها. وبطبيعة الحال هذا الاضطراب الذي سيصاب به أطفال المدارس، سيصاب به كذلك بلا شك الموظفون والعمال، والتجار، وغيرهم الذين ينتقلون من مناطق لهجاتية معينة إلى مناطق أخرى. ك – كما أن هذه اللغة المعيارية ستجنب المغاربة كافة، الإرهاق الناتج عن اضطرارهم إلى تعلم وإتقان كل لهجات المغرب، لكي يتسنى لهم التواصل مع ساكنته، لأن إقرار اللهجات سيدفع سكان كل منطقة إلى التشبث بلهجتهم، وفرضها على كل زائر، رافضين التحدث معه بغيرها ولو كانوا يتقنونها مثلما يتشبث غالبية الإسبان حاليا برفض التواصل مع الغير بلغة أخرى ولو كانوا يتقنونها. ه – وستجنب المغرب أيضا الوقوع في فتنة لهجائية، تتجلى في تصارع اللهجات الأمازيغية على المدن والمناطق المغربية الغير الناطقة بالأمازيغية، كل واحدة منها تسعى لضم أكبر عدد من هذه المدن والمناطق إلى نفوذها. ف – كما ستجنبه كذلك مخاطر تشتيت وتفرقة شعبنا، لأن تدريس اللهجات سيكرس التعصب والتفرقة، ويجعل مناطق المغرب بمثابة قنابل موقوته، قابلة للانفجار في أي وقت، لاحتمال انفصالها عن الوطن الأب مثلما انفصلت لهجتها عن اللغة الأمازيغية الأم. وأعتقد أنه مهما حاولنا تعداد المخاطر المختلفة التي تنتج عن تدريس اللهجات الأمازيغية فأننا لن نستطيع حصرها، وأنه من هنا فإن حرز البلاد والعباد من الوقوع في هذه المخاطر، يشكل دافعا قويا للتشبث باللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة والموحدة، يضاف إلى الدوافع الفكرية والسياسية الأخرى المتقدم ذكرها. (ذ: الصافي مومن علي، محام بالدارالبيضاء)
|
|