|
|
وظائف الإمام وحدوده في القبيلة الأمازيغية بين تدهور القانون العرفي وعشوائية تدبير وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: دوار إفنتار- ماست نموذجا بقلم: عبد السلام بومصر
من المعلوم أن المسجد مكان للصلاة وممارسة الطقوس الدينية المختلفة في الإسلام. وهو مكان للاجتماع بُغية ممارسة هذه الطقوس بشكل جماعي على غرار جميع الديانات التي عرفها الإنسانية. ويمكن القول بأن ظاهرة ممارسة الشعائر الدينية بشكل جماعي تعكس إلى حد بعيد الطبيعة الإنسانية في طبيعتها العميقة التي تجنح دوما نحو العيش والفعل في كنف الجماعة وبواسطها. وهذا ما توضحه بشكل غير خفي جميع مظاهر الحياة البشرية في المجتمعات العشائرية والتقليدية العتيقة التي ينتفي داخلها الفرد ليذوب بشكل كلي في روحها. وممارسة الطقوس الدينية بشكل جماعي ليست سوى مظهر وحيد من بين مظاهر اجتماعية عديدة، فالرَّقص لا يكون إلا جماعيا (أهياض، اسمكان، أجماك، احيدوس...) والعمل جماعي في الغالب (تيويزي...) والزواج والموت والختان وما يصاحبها من طقوس لا تكون إلا في إطار الجماعة. إن الإنسانية كائن لا يمكن أن يوجد إلا داخل الجماعة لأنه فاعل جماعي بطبعه. أما المجتمع الحديث فهو مجتمع يتجه نحو التَّفرد والفعل داخل الجماعة بشكل فردي. وهذا نتاج التراكم الإنسانية الخلاق. وإذ يعتبر المجتمع الأوروبي من أكبر المجتمعات الإنسانية التي قطعت أشواطا بعيدة في التقدم ومراكمة التجارب، فإن ذلك يعود بشكل أو بآخر إلى الأفكار الفلسفية التي راكمها فلاسفة الأنوار على وجه الخصوص والتي تعتَدُّ بالإنسانية باعتباره مقياسا للعظمة والتفرد والفعل والوجود. وهذه قيم فلسفية عميقة ساهمت في الانتقال من الإنسان العشائري الذي لا يمكن أن يوجد إلا داخل الجماعة باعتبارها فاعلة فيه وموجهة لأفعاله وسلوكاته، إلى الإنسان المتفرد القادر على الفعل والتفكير والوجود داخل فضائه الذاتي لأنه مفكر أولا وداخل الجماعة لأنها قدره الطبيعي في آن واحد. ومن المؤكد أن المجتمع الأمازيغي هو مجتمع يحتضن أفراده ليؤسس لكتلة بشرية تنتظم في إطار مؤسسات اجتماعية شديدة الإحكام والتنوع والتوزيع. والعرف أو الأعراف هي الدساتير التي تنظم العلاقات بين جميع المكونات والشرائح والطبقات التي تكوّن المجتمع الأمازيغي كجميع المجتمعات الإنسانية العتيقة. وكانت هذه القوانين العرفية أساسا للمعاملات بين جميع مكونات المجتمع إلى وقت قريب جدا، حيث إنها كانت سارية المفعول في جميع القبائل الأمازيغية إلى حدود بداية القرن 20، الذي عرف تسارع مجموعة من الأحداث السياسية التي زعزعت هذه الأعراف بتبخيسها وتدميرها فيما بعد. ومن بين أكبر الأحداث السياسية التي كانت حجر الزاوية في النيل من العرف بالقبائل الأمازيغية بالمغرب هو العداء الأحمق الذي واجه به مؤسسو «الحركة الوطنية» صدور ما سُمِّي كذبا ب»الظهير البربري» الذي كان اسمه الرَّسمي الظهير المنظم لسير العدالة في المناطق ذات الأعراف الأمازيغية، والتي لا توجد بها محاكم شرعية وصدر بتاريخ 16 مايو 1930. فسعوا إلى تغليط المغاربة عن قصد وممارسة التعتيم والكذب وإيهام المغاربة و»الشعوب الإسلامية» بأن هذا الظهير الذي أصدره الاستعمار الفرنسي ووقعه العاهل المغربي محمد الخامس هو مكيدة استعمارية ل»تنصير البربر» وإخراجهم من الإسلام. وفي الوقت الذي سعوا فيه إلى حث الناس على ترديد اللطيف في المساجد كان الاستعمار يقوم بحملة إبادة جماعية للأمازيغ الذين استشهدوا في معارك ضارية ضده. والأكيد أن هذا الظهير لم يكن إلا وسيلة لتنظيم المحاكم العرفية في المناطق الأمازيغية التي كانت تحتكم إلى القوانين العرفية قبل استعمار المغرب بقرون طويلة... وضعية العرف الأمازيغي بعد الاستقلال:لقد ساهمت الضوضاء التي قام بها «المجَنَّسون» الذين أسسوا «الحركة الوطنية» بالمغرب على أكذوبة «الظهير البربري» في تجريم كل ما له علاقة بالأمازيغ بصفة عامة في دولة الاستقلال. وكانت هناك أحداث أليمة جدا ساهمت في القفز على حقوق الأمازيغ الذين قدموا أرقاما مهولة من الأرواح في سبيل التحرير، واعتُبرت الأمازيغية منذ ذلك الوقت سببا كافيا للتخوين ونزع صفة «الوطنية» عن المنافح عنها وعن أهلها. وكان هذا كافيا لتدمير القوانين العرفية في المناطق الأمازيغية. ورغم ذلك، ظلت الكثير من المناطق بسوس على وجه التحديد وفي منطقة ماست على وجه الخصوص محافظة على بعض هذه الأعراف التي لم تتسلل إليها القوانين المخزنية الموروثة عن الاستعمار لأنها كانت شديدة الارتباط بالحياة الجماعية بالمنطقة ولأن التنظيم العرفي كان يعفي الدولة من تسخير الاعتمادات المادية والبشرية اللازمة للنهوض بالتنمية المحلية. فكانت أراضي الجموع البورية القاحلة ومجال تنظيم الحقل الديني بالمساجد مجالات تركها المخزن لسلطة القوانين العرفية بالمنطقة. فقد ظن المخزن بأن آلاف الهكتارات البورية التي كانت تحيط بماست والتي كانت تنتمي إلى أراضي الجموع هي أراضٍ بورية قاحلة لا فائدة منها، أو أن استغلالها في المجال الفلاحي مثلا لن يكون ممكنا إلا بتوفير استثمارات ضخمة. ولم يدم الأمر طويلا حتى انتبهت السلطات المخزنية إلى أهمية هذه الأراضي الشاسعة فسعت إلى الاستيلاء عليها وتسييجها بذريعة المحافظة على التنوع البيئي والحيواني السائر في طريق الانقراض، وكانت نتيجة ذلك أن انتبه سكان ماست إلى أهمية هذه الأراضي وخاصة تلك المتواجدة على الشريط الساحلي لأنهم اكتشفوا أن أعين السلطات وسماسرة العقار مركَّزة عليها بصفة خاصة، ولذلك فإن نزع أراضي قبيلة ماست وإلحاقها بالأملاك المخزنية أو إدارة المياه والغابات ما هو إلا خطوة أولى نحو تفويتات واسعة لهذه الأراضي السياحية التي تقدر في الوقت الحالي بالملايير. وهنا تترك القوانين العرفية التي كانت دستورا لتوزيع أراضي الجموع المجال للقوانين المخزنية الموروثة من السلطات الاستعمارية في القرن الماضي مما عجَّل بنشوء صراعات طاحنة بين الساكنة وظهور الجشع والاستيلاء على الهكتارات من أراضي الجموع بلا رقيب ولا حسيب. مؤسسة المسجد الإمام والأوقاف والشأن الديني:كانت القوانين العرفية في ماست هي التي تنظم المجال الديني بصفة عامة. ولا زالت الكثير من الأمور والأنشطة المرتبطة بهذا المجال متروكة إلى التنظيم العُرفي. لكن سياسة المخزن والسلطات المخزنية في هذا المجال تميزت بالتخبط والعشوائية والتناقض الصارخ الذي فسح المجال أمام الصراعات الاجتماعية المزمنة. فوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هي السبب في جميع المشاكل الناتجة عن التدبير السيئ للشأن الديني في ماست، لأنها تعاملت بانتقائية قبيحة مع العناصر المكونة لهذا المشهد، فاستولت على جميع الأرصدة المالية التي تُستَخلص من الأراضي الخصبة التي كانت وقفا خاصا بالمساجد الماسية وكانت مداخيلها التي ينظمها العرف المبتور تعسفا، تُوَظف في تدبير مصاريف المساجد والطلبة والأئمة وجميع متطلبات تدبير الشأن الديني. وفي المقابل تَرَكت الوزارة وجميع السلطات المخزنية شؤون الأئمة والمساجد تُدَبَّر وفق القانون العُرفي الذي قُطعَت أجنحته بسبب نزع المداخيل اللازمة وترك سكان «لجماعت» يتحملون مصاريف التدبير اليومي والدوري والسنوي لهذا القطاع. هذا من الناحية المادية. أما من الناحية الرَّمزية وتدبير المرفق الديني ونظامه الذي يرتكز على بنيات اجتماعية معقدة ومتعارف عليها، فقد تأسست بصفة خاصة على قوانين عرفية متميزة منذ القدم. إمام المسجد يكون دوماً أجنبيا عن القبيلة وذلك من أجل ضمان التزامه بالحياد التام تجاه قضايا الحياة الاجتماعية الخاصة بالقبيلة والتي يتوجب البت فيها وفق القانون العرفي البعيد كل البعد عن النظام المخزني والتشريعي الديني. وأمام الاحترام الذي تكنه مؤسسة «لجماعت» للدين والمؤسسة الدينية فأنها فضَّلت أن يبقى التشريع الديني الذي يمثله الإمام حبيس مؤسسة المسجد، وعلى «الإمام» أن يقوم بالإشراف على الصلوات الجماعية وتقديم النصح والإرشاد الديني الذي يجب عليه أن لا يهم إلا الجانب الأخلاقي والعقدي. أما الجانب المتعلق بتفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية للقبيلة فهي من المحرمات التي لا يجب على مؤسسة الإمام التقرب منها من قريب أو من بعيد لأنه ليس من أهل القبيلة، ولا تشفع له وظيفته الدينية في تجاوز اِختصاصاته المحدودة. وإذا ما تجاوز الإمام هذه الحدود التي رسمها القانون العرفي فإنه يكون مدعاة للنقد والتذكير بأنه لا يملك أي حق في ذلك وفق عقد اجتماعي عرفي سابق ، وإذا تمادى في تدخله في شؤون»لجماعت»،فإنه يتعرَّض للطرد من الإمامة ويستقدم إمام أجنبي آخر لا يعلم من أمور القبيلة شيئا، مع تذكيره بالقاعدة نفسها.ومن المتعارف عليه كذلك في مؤسسة «لجماعت» أن البت الجماعي في أمور مؤسسة المسجد والإمام ليس متاحا للجميع. فالقرارات التي تتمخض عن الاجتماعات التي تعقدها «لجماعت» لا يتخذها إلا من كان من أهل القبيلة الذين ينحدرون من إحدى العائلات الأصيلة، أما الأجانب الوافدون من القبائل الأخرى فلا يحق لهم ذلك، علاوة على عدم إمكانية استفادتهم من حصتهم من أراضي الجموع. وهذا قانون متعارف عليه في جميع القبائل الأمازيغية وفي قبيلة ماست على وجه التحديد. كما تنبغي الإشارة أن مزاولة الحسم في الأمور الدينية من داخل القبيلة هو من اختصاص أهل القبيلة الفقهاء والمتعلمين من ذوي الاختصاص الذين تُحتَرَم قراراتهم في هذا الباب. وكانت وضعية «رجل الدين الفقيه» من أهل القبيلة أسمى مرتبة اجتماعية في الهرم السلطوي داخل المداشر بماست.، لأنهم يمتلكون سلطة «المعرفة الدينية» التي تخول لهم التحكم في المؤسسة والطقوس الدينية ومؤسسة الإمام وغيرها بالتعاو ن مع الطبقات الأخرى الأكثر حظوة في البنية القبلية كالأعيان وأبنائهم ثم الحرفيين وأخيرا الوافدين. إلا أن التغيرات الاجتماعية المتسارعة التي أنتجتها «الدولة العصرية» بعد الاستقلال، قد ساهمت في تدمير هذه البنيات العرفية. خاصة وأن السلطات المخزنية لم تكن موفقة في نقل المجتمع من مجتمع قبلي عشائري نحو مجتمع «عصري» حقيقي، بل ظل تعاملها السلبي الانتقائي مع القوانين العرفية حسب مردوديتها المادية منطلقا لبناء مجتمع متناقض حتى النخاع. لقد سعى المجتمع القبلي إلى محاولة القفز على مؤسسة «لجماعت» وتجاوزها بسبب التغير الحاصل على مستوى البنيات الاجتماعية والبشرية في القبائل وكذا المسؤوليات المتراكمة التي أصبحت لا تطاق لأن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية استولت على الموارد المادية لتسيير الشأن الديني كما ذُكر فيما سبق. وقام ثلة من الأفراد الذين يعون جيدا الوظيفة العرفية لمؤسسة «لجماعت» القبائلية وكيفية تسييرها بتأسيس جمعيات مدنية سُميت «جمعيات تنموية» تشتغل بطرق بعيدة كل البعد عن القوانين الجاري بها العمل في مجال تنظيم العمل الجمعوي. ويبدو أن هذه الجمعيات تكتسي طابع عنصر انتقالي بين مؤسسة «لجماعت» والجمعية القائمة بذاتها. والسلطات المخزنية تغض الطرف بشكل مريب عن ضرورة تطبيق القانون داخل هذه الجمعيات «التنموية». والأكيد أنها تتعامل معها باعتبارها وسيطا مؤسساتيا يقع بين مؤسسة «لجماعت» والجمعية القانونية، والأهم من كل هذا أن هذه الجمعيات المسماة تنموية لا تقوم إلا بأعمال كان يتوجب على السلطات المخزنية القيام بها. فما الفرق بين المواطنين المغاربة الذين يسكنون الرباط والدار البيضاء والذين يسكنون ماست؟ أليسوا كلهم من دافعي الضرائب؟ لماذا إذن تقوم الدولة بتوفير جميع مرافق الحياة الضرورية ومرافق التَّرف في هذه المراكز الحضرية في حين أنها تترك الساكنة بالهوامش لمواجهة مصيرها وتوفير كل ما يلزم؟ أليس هذا إجحافا في حق المواطنين ومعاملتهم بنوع من الميز والتحقير؟ الجمعيات التنموية بماست إذن هي بمثابة مؤسسات وسيطة بين مؤسسة «لجماعت» التي تنبني على التسيير الذاتي للقبائل بالالتزام بالقوانين العرفية من جهة، والجمعية كمؤسسة ثقافية وتنظيمية تنتمي إلى جسد المجتمع المدني باعتباره مفهوما ناضجا في وسط الدولة العصرية التي تنظمها قوانين الدولة المدنية. وهذا الطابع الملتبس هو الذي فسح المجال أمام التناقضات والصراعات العميقة. لقد أدى عدم الانتقال الإيجابي إلى مستوى التنظيم المؤسساتي المدني الذي يميز الدولة العصرية إلى تشويه العمل الجمعوي والعمل المؤسس على التنظيم العرفي على حد سواء. خصوصا عندما فشلت السلطات المخزنية في تدبير التعاقب على الأدوار التقريرية بين مختلف طبقات المجتمع القبلي، حيث أصبح الكثير من الذين كانوا أسفل الهرم السلطوي بالقبيلة يطمحون إلى تقلد مناصب المسؤوليات داخل المجتمعات الجديدة، الشيء الذي لن يكون مستساغا لدى الأغلبية العظمى من الطبقات الأخرى التي كانت تتربع على عرش القرار داخل التنظيم القبلي. لكن الجدير بالذكر أن الطموح الجامح في الرغبة في المشاركة في القرار والتنظيم داخل المجتمع نصف الجديد، لم تتخذ المنحى الصحيح والايجابي الذي يكون فعالا، بل يسعى الكثير من هؤلاء إلى التشبث بأهداب مؤسسة «إمام المسجد» من أجل انتزاع «الشرعية» المأمولة بالقوة إن اقتضى الحال كما وقع في الآونة الأخيرة بمسجد «أفنتار» عندما تعارك مجموعة من الأشخاص بالأيادي في قلب المسجد. وهذا ما يؤكد بأن الصراعات الاجتماعية المتواصلة حول مؤسسة الإمام بعيدة كل البعد عن التعاليم الدينية أيا كانت. ويتم تغييب الطابع الديني لعلاقات الأشخاص فيما بينهم وتجاوزه لتحل الصراعات الطبقية والمصالح الرمزية مكانه. وهذا يذكرنا بما وقع في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول مباشرة. إن الصراعات الاجتماعية حول مؤسسة الإمام بافنتار ليست مبنية على الأسس الدينية أو الأخلاقية كما يمكن أن يتصور الكثير من الناس. ولكن أساس هذا الصراع مؤسس على صراعات اجتماعية رمزية على وجه الخصوص. وهي من بين مظاهر الخلل الذي سببه الفراغ التنظيمي الذي خلقته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إضافة إلى فشل سياسات المقاربات المخزنية وتناقضها في التعامل مع مكونات المجتمع القبلي في صيغته الماسية.وتجدر الإشارة هنا بأن تحليل طبيعة أطراف الصراع في هذه القضية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك صحة المقاربة التي ذهبنا إليها فيما سبق بأن «الحظوة الاجتماعية» و»الطموح» في اقتحام المجال القبلي العام الذي كان محصورا في أيدي طبقات اجتماعية محدودة في إطار العرف، هي من الأسباب الحقيقية التي تؤجج الصراع الاجتماعي المتفاقم بالمدشر. وهذه الطبقات هي: 1ـ الفقهاء: هم الذين كانوا في أعلى الهرم السلطوي في المجتمع القبلي التقليدي، وكانوا أصحاب الأمر والنهي في كل ما له علاقة بالمؤسسات الدينية والشأن الديني على وجه العموم. وما زالوا إلى الآن يحظون باحترام تام من طرف أغلب الطبقات الاجتماعية الأخرى باعتبارهم متفقهين في المسائل الدينية وهم أصحاب الاختصاص في الميدان. ولكن دورهم في تحريك عجلة الحدث الاجتماعي أصبح يتناقص مع مرور الأيام. وهذه وضعية طبيعية بالمقارنة مع جميع المجتمعات الإنسانية التي يتقلص فيها دور رجال الدين مع تطور البنيات الاجتماعية، إضافة إلى تدهور المؤسسات العرفية التي تعتبر البيئة الطبيعة لممارسة مهامهم الرمزية. 2ـ الوافدون من قبائل أخرى: هم الذين كانوا في أسفل الهرم السلطوي في المجتمع القبلي المبني على القوانين العرفية. ولم يكن من الممكن أن يشاركوا في اتخاذ القرارت التي تهم الجماعة واقتسام أراضي الجموع. ويبدو أن طموح بعض أطراف هؤلاء الوافدين إلى تبوئ مكانة اجتماعية تمكنهم من المشاركة في اتخاذ القرار قد جعلهم يقفون إلى جانب «الإمام الوافد»- مثلهم- وحمايته من الطرد ضدا على طبقة الفقهاء للتشبث بمحاولة تحقيق طموحاتهم. وكان ذلك إعلان حرب رمزية قوية من أجل المواقع. وهذا التمسك ب»الإمام الوافد» وحمايته بواسطة العنف المادي (الضرب والجرح والسب والشتم في قلب المسجد) هي محاولة لفرض رأي لا يمتلك أية شرعية على مستوى القوانين العرفية المنظمة للشأن الديني داخل القبيلة خصوصا وأن هؤلاء لا ينتمون لا إلى طبقة الفقهاء ورجال الدين ولا يملكون أصولا قبلية تمكنهم من المشاركة في اتخاذ القرار. وهذا ما يفسر لجوءهم إلى القوة الجسدية لحسم الصراع لصالحهم، ونقل التدافع من مستواه الرمزي إلى مستوى العنف المادي. 2ـ الأغلبية السلبية: وهي مجموع الطبقات الاجتماعية الأخرى التي تتخذ وضعية الحياد السلبي العلني. ويعني ذلك أن تعبيرهم عن مواقفهم تجاه كل ما يدور في وسطهم الاجتماعي، لا يكون بالإفصاح والمكاشفة الواضحة. إنهم يأكلون من جميع الأطباق، ويعتنقون الأطروحات والأطروحات المضادة والمتناقضة حسب السياقات، ويمكنهم ذلك من الاستفادة من جميع الجبهات المتصارعة، الكائنة والممكنة. وهذه الوضعية السلبية هي التي جعلت من سكان المدشر مجموعة بشرية تعيش حالة من الكمون الدائم ، وهذا أمر سلبي للغاية، لأنه يخلق بشراً غير قادر على تحقيق أقل المكاسب علاوة على الأنانية المفرطة التي أصبحت تنخر هذا المجتمع. الحل: يجب على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: ـ أن تقوم بالإشراف على تنظيم الشأن الديني على الوجه الأكمل في المجالات التي كانت تُنَظَّم وفق القوانين العرفية الأمازيغية، وألا تتعامل بالمنطق الانتهازي مع القضايا المرتبطة بالاعتمادات المادية المرصودة لذلك. فإذا كانت المساجد بالمنطقة تمتلك أوقافاً لتسييرها الذاتي فإن الوزارة المعنية مطالبة بتوفير هذه الاعتمادات ولا داعي لأن تترك مصائر أمتها بين يدي المواطنين المنهكين الذين يقتلهم العوز. ـ أن تعتبر الأئمة موظفين لديها، حيث تتكفل بصرف رواتبهم من أموال دافعي الضرائب والأحباس وأن تعفي المواطنين من دفع مصاريف صلواتهم وبناء مساجدهم ودفع الضرائب فوق كل هذا. ـ أن تضغط على الموظفين التابعين لها من أجل أداء المهام الموكولة إليهم ونهج سياسة القرب من المواطنين والاستماع إليهم في كل ما يتعلق بتنظيم الشأن الديني على أكمل وجه وفق متطلبات العصر وروح الدولة المدنية، بعيدا عن حصر وظيفتهم في جمع أموال الأوقاف وحضور الولائم الدينية. ـ أن تجعل من المساجد أماكن للعبادة فحسب، وذلك بمنع استغلالها لتصريف الصراعات الشخصية والمصلحية والحزبية السياسية. يجب على الجمعيا ت»التنموية» التي تأخذ على عاتقها مهمة إعفاء الدولة من مسؤولياتها تجاه المواطنين: ـ أن تكون واعية تمام الوعي بطبيعة الوظيفة التي تقوم بها، لأن شقَّ الطرق وبناء المساجد الضخمة وتوفير الماء للمواطنين في بيوتهم... هو من صميم الحقوق التي يتوجب على الدولة توفيرها لمواطنيها الذين تنهكهم بدفع الضرائب بدون تقديم أي مقابل. ـ أن تعي جيدا بأن مهمة الإشراف على الشأن الديني بالمدشر(افنتار نموذجا) هو من صميم عمل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي يجب أن تتحمل مسؤولياتها المفروضة كاملة لتدبير هذا القطاع. وعلى الجمعية أن تراسل المعنيين بالأمر لتطالبهم بإلزامية تحمل هذه المسؤوليات لأنها تشكل ثقلا كبيرا على السير العادي لبرامجها التنموية وتخلق صراعات بين مكونات المجتمع وطبقاته. ـ أن تعلم علم اليقين بأن الجمعيات التي وصفها المخزن ب»التنموية» يجب أن تنفض عنها غبار العمل العشوائي المتهافت الذي تزكيه السلطات عن طريق ممارسة غض الطرف عن تطبيق القوانين المنظمة للعمل الجمعوي الجاري بها العمل، وتتخلص من قفص اعتبارها مؤسسة بديلة ل «لجماعت» العرفية لتتجاوز جميع الإشكاليات المرتبطة بعدم الحسم أو الضبابية في طبيعة علاقات التعامل بينها وبين المواطنين: هل هم سكان «لجماعت» أم هم «منخرطو الجمعية»؟ والفرق شاسع بين الوضعيتين من الناحية القانونية. والخلط بين الوضعيتين هو الذي يسبب الكثير من التصادمات على المستوى الاجتماعي. حان الوقت لتدرك كافة مكونات المجتمع: ـ أن التعامل مع الإنسانية كقيمة إنسانية وحضارية في المجتمع المدني الذي ينتظم داخل الدولة العصرية لا يقوم أبداً على الانتماء العائلي أو الجغرافي القبلي أو غيره، وإنما ينبني على مفاهيم الحداثة والديموقراطية ومستلزمات المسؤولية والمحاسبة والقبول بالقواعد الديموقراطية الحقيقية التي ينتفي فيها التفريق بين المواطنين حسب أجناسهم أو أعراقهم أو لغاتهم أو أديانهم. ـ أن عدم المشاركة الجماعية في تناول الإشكاليات التي تواجه المواطنين هي السبب في تدهور أحوالهم، وأن عدم الاكتراث بالإشكاليات التي تواجههم وتمس صلب حياتهم الاقتصادية الاجتماعية هو السبب الأول والأخير في ما صارت إليه أوضاع المنطقة بكاملها: 1- اضطهادهم من طرف المسؤولين على ملف رخص البناء رغم أن المناطق المجاورة لهم، كمطقة خميس ايت عميرة، استطاعوا بنضالاتهم المستمرة انتزاع حقهم في امتلاك مأوى يليق بكرامتهم.2- معاناتهم اليومية مع تعاونية الحليب.3- مشاكل انعدام الماء الصالح للشرب.4- هشاشة البنيات التحتية.5- تكدُّس أفواج المعطلين الذين لا يجدون ما يسدون به رمقهم.6- انقطاع الإنارة عن الأزقة في وقت مبكر وعدم توفير المصابيح الكافية.7- المشاكل العويصة المرتبطة بأراضي الجموع.8- انعدام قنوات الصرف الصحي.- 9- هشاشة الخدمات الصحية وغياب الأطر الطبية. 10- المعاناة المستمرة في مراكز الحصول على البطاقة الوطنية.11- عدم اكنراث المنتخبين ورؤساء المجالس الجماعية بمعاناة الساكنة واستغلالهم الدائم في المحافظة على مواقعهم ......الخ.
|
|