|
|
تأمـــلات حول موضوعي «الهوية والأصل» بقلم: بحاج عسو « البحث عن الأصل معناه في الأخير الشروع في إماطة اللثام عن هوية أولى1» لعل البحث فـي موضوعة» الهوية» يحيلنا على البحث عن المكونـات الأساسية التي تدخـل في تركيبها، وبالتالي الرجوع إلى قراءة التاريخ وما تم إنتاجه في الماضي الحاضر بمفاهيمها الزمنية من: لغة وثقافـة ومعتقد، وكل عناصر الانتماء التي تربط الإنسان بالأرض والمجتمع اللذين ينتمي إليهما: نشأة وتربية. ولعل طرح أسئلة كلاسيكية من قبيل: من نحن؟ وماذا نريد؟ وإلى أين نسير؟ يدخل ضمن محاولة شاقة لبناء الذات أو لإثبات وجودها في واقع وطني ودولي يتسم بالاتجاه نحو رفض التنميط الممركز والعمل على التشظي وإعطاء الحق للهامش في البروز نحو الواجهة، واحتلال مكانة مميزة داخل الزاوية الضوئية. وذلك استنادا على الحفر في التاريخ، بغرض تبيان ما يميز هذه المجموعة عن تلك، وكل ما يدخل في تشكيل الهوية. وتعبيرا عن الالتصاق بالأرض ونفيا للتعالي، بمعنى ما: محاولة تعرية المفاهيم المشكلة للخطاب بحثا عن «أصل» مفترض لأن « الأصل» من منظور أركيولوجيا المعرفة لفوكو لا يسلم بوجود «أصل مفرد» ما دام مفهوم «الأصل» هو نتاج للصراع بغية الوصول «للحقيقة نتيجة لصراع قوى متعددة لا تعترف إلا بالأصل المتعدد». يقول فوكو: «ما هو موجود عند البدء التاريخي للأشياء، ليس هوية أصلها المنيعة، ما هو موجود، إنما صراع الأشياء الأخرى هو تباينها2» إن هذه المحاولة للتشكيك في ثبات «الأصل» تفند رؤية من يعتقدون في صفاء المنبع وطهارة النسب، محاولين إضفاء هويتهم العرقية والثقافية حتى على الموجودات الأخرى غير الإنسان ك: «الحصان العربي»، «المها العربي»، «الخليج العربي»... متجاهلين: «أن الهويات ذات بنيات متعددة 3». إن هذه النظرة الهوياتية المنغلقة المتقوقعة على ذاتها، والتي تدعي الصفاء والطهارة القائمـة على الأفضلية والخيرية، غاليا ما تتخذ الدين سندا لها، فتلجأ إلى العنف في مواجهة الآخر التي تعتبره عدوا من منطلق عقدي يجب استئصاله، وهذا ما نجده رائجا في خطاب الأصوليين الإسلامويين الذين يرمون المخالفين لهم بالزندقة والتآمر على وحدة الوطن (خطة إدماج المرأة في التنمية، معركة اختيار الحرف الرسمي لتدريس الأمازيغية). إن المنطق المنغلق الذي يجعل كل «الأشخاص يرتدون المقاس 84» ويجعلهم في نفس الوقت مرتبطين بهوية قائمة على أساس هذا المقاس، منطق مجحف يعمل به من يستوحي أفكاره من مقابر التاريخ، ويرفض التحول أو التطور. يقول فوكو «لم أرفض التاريخ، إن ما قمت به هـو وضع بين قوسيـن المقولة الشاملة والفارغة للتحول، لأظهر تحولات ذات مستويات مختلفة، إن ما أرفضه هو وجود شكل واحد للزمانية». إن عدم استبعاده للتاريخ أثناء اهتمامه بدراسة طبقات الخطاب هو تعبير عن الالتصاق بالأرض، وسحب للبساط من تحت أقدام سلطة عليا متسامية. وفي نفس السياق ينتقد كارل ماركس بحدة برنامج الجرب العمالي الألماني لعام 1875 قائلا: «والأفراد غير المتعادلين، لا يمكن أن تقاس كفاءتهم بمعيار عادل إلا بقدر ما يتم النظر إليهم من وجهة نظر عادلة، ومع ذلك ينظـر إليهم فقط مـن جانب واحـد محـدد، وفي قضيتنا الحاضرة مثلا ينظر إليهم فقط كعمال ولا يرى فيهم أي شيء أكثر من ذلك، فكل شيء آخر يتم إغفاله». وعليه فإن مسألة الهوية في أي مجتمع تتحكم في تحديدها مجموعة من العوامل المتعددة: كاللغة والثقافـة والمهنة والطبقة والتاريخ والانتماء الجغرافي... فالشخص ينتمي إلى مجموعة مختلفة من الجماعات الصغـرى تنتظم في جماعة أكبـر مبنية على أسـاس من ما سلف ذكره من العوامل. إن هذا الانتماء لجماعة لغوية وثقافية معنية، المبني على التأمل والتفكير يؤثر بسهولة على هذا الشخص للعمل لصالح نماء وتطور هذه المجموعة، لأنه غالبا ما يتم النزوع لرؤية هذه العضوية في الجماعة كامتـداد لذات الشخص نفسها. وعليه يمكن القول إن هذه الهويـة المشتركـة هي الهويـة المهيمنـة. ولكن هذا لا يجيز لنا بأي حال اعتماد التفكير النمطي والهوية المختلفة، وتعطيل القدرة على السؤال وزرع الشك في كل شيء. ولكن رغم أنه لا نجيز لأنفسنا القفز من مكان لآخر ما دمنا قد اخترنا العمل لصالح الأمازيغية كما يقول:Sandel «ولا تصف الجماعة فقط ما يملكون كمواطنيـن للجماعة، ولكن أيضا ماذا يكونـون، إنها ليست علاقة يختارونها ولكن ارتباط يكتشفونه ليس مجرد خاصية، ولكن عنصر أساسي من عناصر هويتهم5». في معرض بحثه عن «أصل» الخير والشر يرجح نيتشه أن القوة هي التي وطدت القيم حيث المتحكمون هم الذين حكموا على أفعالهم بالخيرية والطيبوبة. يقول على لسان زرادشت: «تلك إرادتكـم كلها أنتم يا أكبر الحكماء، تلك إرادة القوة لديكم، ومن أجل هذا تتحدثون عن الخير والشر وعن تقويم القيم، إنكم بقيمكم وبأقوالكم في الخير والشر تمارسون قوتكم، أنتم يا من تقومون القيم وهذا حبكم المتخفي وشعوركم الذي تفيض به نفوسكم6». ونيتشه شأنه شأن فوكو يعتبر مفردات اللغة تواطؤا صادرا عن إرادة المهيمنين التي تلصق بالشيء أو الفعل لفظة معينة. «في عقل كل جماعة وكل فرد هناك حضور دائم لتراتبية المنافع التي تصلح لتحديد تصرفاتها وللحكم على تصرفات الآخرين غير أن هذا السلم يتغير باستمرار7». وعليه، فهناك من لا يكون قادرا على التعبير عن هويته في مواجهة المهيمن، فهامش حريته على الاختيار تكون محدودة جدا، لأنه قد تجد صعوبة في إقناع الناس في تغيير تمثلاتهم التي تشكلت لديهم نتيجة نظام تعليمي واجتماعي وإعلامي مفروض عليهم قسرا. إن أسئلة الهوية الثقافية ليست من قبيـل الترف الذي يشغل بال النخب الفكرية في الصالونـات المرفهة، أو من باب إفرازات البنى الفوقية ولكنها تعتبر من المحددات التي من شأنها المساهمة بفعالية في رفع التهميش والتخلف عن الإنسان. لذلك: ما السبيل لتحقيق عدالة التعددية الثقافية واللغوية؟ هل بالاعتماد فقط على تنمية وتطوير اللغة والثقافة المهمشة؟ أم عن طريق تحريك ملفات موازية كالاجتماع والاقتصاد والسياسة؟ إن اعتبار التعددية الثقافية واللغوية مجرد السماح بوجود عدد من اللغات الوطنية بشكل محتشم، لا تلقى الاهتمام اللازم لتطويرها والمساهمة في نمائها لترقى إلى مصاف اللغات الحية وهذا ينطبق على وضعية الأمازيغية في أوطانها حيث يتم تحنيطها في إطار ثقافوي ضيق وإدراجها في المدرسة بشكل مرتجل يهدف جعلها للاستئناس ولتسهيل تعليم اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد ولغة المقدس. إن الاقتصار على مجرد الدفاع عن ثقافة، حضارة أمازيغية قديمة، لا يجدي نفعا ما لم تتوفر إرادة سياسية تفعّله عن طريق تصريفه وتحويله إلـى فعل مؤسساتي لأن الفعل الأمازيغـي عليه أن ينتقل من كونه تعابير ورموزا ثقافية وفنية ( فلكلور، زرابٍ، حلي، وشم...) إلى خطاب منظم يسعى لصنع واقع حيوي يتمثل هذه التعابير والرموز ويحولها إلى حياة دون مركب نقص. وهذا ينطبق حتى على بعض نشطاء الحركة الأمازيغية الذين يطالبون بترسيـم الأمازيغية فـي الدستور وإعادة الاعتبار لها وهم لا يعرفون من تمازيغت إلا الاسم. إن أول مقترب يواجهنا عندما نناضل من أجل إقرار تعددية حقيقية هو ثابت «العروبة/ الإسلام» لأن العربية التي تستعملها بعض النخب لمحاربة أو الوقوف ضد أي فعل أمازيغي، هي لغة يساعدها أو يحميها الدين. وغالبا ما تحمل هذه النخب شعار «الانشطار والتمزق» فتربط كل فعل تعددي اختلافي بمحاولة تفتيت الوحدة الوطنية، الذي يعرقل إنجاز التنمية الحقيقية، متناسين النماذج الصارخة والمتقدمة جدا كالنموذج الإسباني الذي لا تفصلنا عنه إلا بضع كيلومترات، أو النموذج الجنوب الإفريقي. بل إن ما قد يعرقل التطور والنماء في بلادنا وبلدان شمال إفريقيا عموما هو صوت الهيمنة الذي يحاول زرع التجانس والتوحد الثقافي واللغوي قسـرا. وهـو مجتمع مناف للديمقراطية كما يقـول Alaine touraine لأن ما يجدر بنا أن نتجاوزه هو الثقافة المنطوية على ذاتها. يجب أن نذهب إلى الأمام، نحو الكونية، دون أن ننسى إبـراز خصوصياتنـا اللسنية والإثنية: ريافـة، شلـوح، زيـان، زمـور... التي تعتبر ثراء وقيمة مضافة للتنمية ببلادنا، ومعبرا أساسيا لتحقيق دمقرطة حقة. إحالات: 1 - ميشال فوكو : جينيالوجيا المعرفة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي وأحمد السطاتي، دار توبقال. الطبعة الأولى 1988 ص: 50 2 - المرجع نفسه ص: 543 - الهوية والعنف : وهم المصير الحتمي، تأليف : امارتياض، ترجمة : سحر توفيق ص: 34 4 - المرجع نفسه ص: 415 - الهوية والعنف ص: 45 6 - عبد الرحمان بدوي: «نيتشه» وكالات المطبوعات الكويت طبعة 5-1975 ص.ص 2 7 - نيتشه: إنسان مفرط في إنسانيته ص: 107
|
|