|
حُـمى نبوءات 2006 في المغرب: جذورُ المزايا الباطنية للأرقام السداسية (666، 1906، 06/06/06، 2006) بقلم: محمد المدلاوي المنبهي عن التنبؤ بصفة عامة يعتبر التنبؤ أسلوبا من أساليب تمثـُّـل وجود الإنسان ووضعيته، وتمثل تموقع هذا الإنسان حيال محيطه الوجودي. أما مناسبـــية هذا الأسلوب وتفعيل اللجوء إليه دون غيره من أساليب التمثل الأخرى، كالتمثل العقلاني مثلا، فأمر رهين دائما بالظرفية السوسيو-تاريخية (نمو أو انحسار اقتصادي، استقرار أو أزمة وقلاقل سويسو-سياسية، حالة الحرب، حالة السلم، الخ.)، بينما تكون الصيغ والأشكال التعبيرية الملموسة (إشراقات، وكشوفات صوفية، رؤى منامية، الخ) التي يعبـِّر من خلالها هذا الأسلوب التمثلي عن مضامينه، وكذا نوعية الحدود والمقولات الدلالية (catégories de signifiants) التي تستخدمها تلك الأشكال التعبيرية في الترميز والتشفير، متوقفة على نوعية الرأسمال الفكري والرصيد الثقافي للفضاء البشري المعني. عندما تهب رياح النبوءات على بلاد المغرب الأقصى فيما يتعلق بهذا الأسلوب المذكور من أساليب التمثل، يبدو الوعي المغربي وكأنه يجتاز اليوم، ومند بضعة أشهر، منطقة اضطرابٍ للأفق، وتداخلٍ للرؤية، متولدة عن نوع من صراع رياح للنبوءات تعددت مصادرها وتفاوتت قوى دفعها ووتائر اهتزازاتها. فهناك مثلا استقراء الرأي الذي أنجزه المعهد الجمهوري الدولي المقرب من الحزب الجمهوري لسيد العالم حاليا، الولايات المتحدة الأمريكية، حول مدٍّ وطوفانٍ إسلامي مرتقب من خلال اكتساح مزعوم لحزب العدالة والتنمية للساحة السياسية خلال انتخابات 2007 بالمغرب، هذا الاستقراء الذي أجج العواطف السياسية حتى داخل الحزب المعني المبشر بالفوز، والذي سارع في نوع من المفارقة إلى تسجيل درجة عالية من «المبالغة» في واقعية ومصداقية الأرقام المقدمة، كما لو كان يسعى من خلال ذلك التشكيك إلى أن يُـذهب عينَ السوء عن نفسه. ثم هناك الرؤى القيامية لاتجاه إسلامي آخر، جماعة العدل والإحسان، بخصوص «القومة» التي تبشر بها هذه الجماعة في أجل حددته تلك الرؤى في سنة 2006 المباركة التي تشكل هذه المرة يومية مضبوطة للإنذار القديم الذي كان مفتوحا منذ أن وجهه زعيمها، الشيخ عبد السلام ياسين من باب «النصيحة لأولي الأمر» إلى المرحوم الحسن الثاني قبل ثلاثة عقود، ألا وهو إنذار «الإسلام أو الطوفان»، تلك «القومة» التي قامت مؤخرا نجلة الشيخ، السيدة نادية ياسين، برسم خطاطتها الزمانية-التاريخية الدنيوية بمصطلحات دستورية، وذلك حينما نادت من أعلى منبر إحدى جامعات سيد العالم المعاصر دائما، الولايات المتحدة، بدعوة ديموقراطية، في إطار حرية التعبير، إلى إقامة «جمهورية» (إسلامية طبعا) في بلاد المغرب الأقصى. ثم إنه يتعين ألا ينسينا تعاقب الليل والنهار، والقُـر والقيظ، نبوءة التسونامي التي كان قد أوعِدها المغاربةُ ليوم 25 ماي 2006، وهو مد أو طوفان بحري كان قد أوعِده المغاربة بالمعني الحقيقي لا المجازي هذه المرة، بالرغم من أنه أخلف وعيده فأرهب هؤلاء المغاربة الذين هشـهشـتهم رياح الاضطرابات المشار إليها سابقا وسبب لهم من الفزع أكثر مما ألحق بهم من الأضرار ما دام أن المحيط الأطلسي استمر في استقبال مستحميه كعادته مند أن اكتشف المغاربة هذا الوجه من أوجه التسلية والترويح ولم يستعد تسميته القديمة «بحر الظلمات» في يوم ذلك الخميس. وأخيرا، يتعين ألا ننسى سواد هذه الجموع المتروكة لأمرها، والتي تتمثل في تلك الشبيبة التي لم تؤطرها لا الجماعات الإسلامية، من عدل أو عدالة أو غيرهما، ولا المنظمات السياسية الزمانية بأطيافها، تلك الجموع التي ليس لها من أستاذ معلم هاد إلا بعض المرشدين التقديريين أمثال الشيخ «غوعل» (Google) وفضاءات الإميسين (MSN)، ممن يتعهدونها من وراء الشاشة كمربين وموجهين عبر منعطفات ومجاهل الفضاءات التقديرية الافتراضية على شبكة البينون (Internet) عسى أن تقف تلك الجموع بفضل تلك الرعاية والتأطير الافتراضيين على معنى ما للحياة، وذلك في انعدام أي فلسفة عامة للإنسان وللأخلاق وللمدينة وللدولة تحاور عقل الفرد والجماعة ما دام خيار مصادر الوعي منحصرا بالنسبة لتلك الجموع ما بين خطابة الخطباء، مهما كانت مرجعياتهم، ومجاهل الفضاءات التقديرية الافتراضية. فهذه الجموع الشبابية المتروكة لأمرها قد صاغت هي كذلك لنفسها نبوءاتها، وحددت مواعيدها المهدوية، التي لم تفلت بدورها من سحر تقاليد باطنيات الأرقام السداسية القائمة على أساس الرقم ‘6’. ولكي يتأكد المرء من ذلك، ما عليه إلا أن يعود إلى الموقع البينوني (Revelation.net) على الشبكة، أو أن يبحث عن متوالية «06/06/06» في نافذة الكشاف غوغل (Google)، فسيجد في الموقع المذكور الخلفية الثقافية الكامنة وراء باطنية الأرقام السداسية، وسيجد في البحث الثاني ما لا يقل عن 40.300.000 من المواقع التي تتحدث عن موعد يوم الثلاثاء 06/06/06 (أي الثلاثاء 06 يونيو 2006) الذي أمسك في الأسابيع الأخيرة بأنفاس جميع مجانين موسيقى الهارد-روك (Hard Rock) والهيفي-ميطال (Heavy Metal) في العالم، أي بما في ذلك مغرب الرؤى والتنبؤات، إلى درجة أن مفارقة تداخلٍ غريب في المواعد الرمزية القائمة على أساس الانبهار والارتياع في نفس الوقت إزاء المزايا العِـرافية للأعداد من ذوات الستات في كشف وتحديد التواريخ المصيرية، قد جمعت في الأيام الأخيرة بالمغرب في مفارقة ونشاز، ما بين هذه الشبيبة وكافة عالم العدل والإحسان، شبابا وشيوخا. فما هي، إذن، قصة هذه الأرقام، التي تقوم على أساس الرقم ‘6’، والتي تزرع الفزع وتسبب الانبهار في نفس الوقت بالنسبة لكثير من الناس، شبابا وشيوخا، نخبة وعامة، أميين ومحسوبين على العلم، أميي القلم وأميي الحاسوب؟ جذور روحٍ قبّـاليةٍ مترسخةٍ في الأذهان لكن غير معترف بها لقد سبق لظاهرة التنبؤ والمهدوية في المغرب – من حيث هي أحداث ووقائع تاريخية - أن شكلت موضوع دراسات عدة، منها على وجه الخصوص ندوة كانت قد عقدت خلال التسعينات من القرن الماضي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (Mahdisme: crise et changement dans l’histoire du Maroc. Publication de la Fac. des Lettres Rabat. 1994). لكن لجوانب هذه الظاهرة، التي لم يتم تناولها بعدُ أنثروبوغرافيا، حسب ما أعلم إلى اليوم، تناولا منهجيا مستقلا في المغرب هي: أ- الصيغ والأشكال الملموسة التي تتخذها ظاهرة التنبؤ (تجلي إعجازي خارق للعادة، رؤى وإشراقات كشوفية صوفية، رؤى منامية، الخ,)، ب- الأحوال النفسية الملموسة التي يحصل فيها ذلك القبيل من الشعور (تأمل صوفي، تواجد جماعي، جذبة وغياب رقصيي أو حشيشي)، ج- الحدود والمقولات الدلالية التي ترمَّـز وتشفَّـر عبرها تلك التنبؤات (خطاب فصيح مباشر، سجع الكهان والعرافين، هذيان الغائب المجذوب أو النائم المكبوس، تصويرات منمذجة، رموز منمطة، رقمولوجيا وجفريات)، وأخيرا د- الجذور الثقافية للمعطيات الملموسة على كل واحد من تلك الأبعاد. من المعلوم لدى الباحثين في تاريخ ومقارنة الأديان بأن النبوءة والتنبؤ، كما تتصورهما الأذهان اليوم بصفة عامة، قد شكلتا دائما، من حيث مظاهرهما التاريخية الأكثر بروزا، «رياضة أهلية» عند العبرانيين، حيث يقوم العهد القديم (التوراة، الأنبياء والكتب)، الذي هو القاعدة التاريخية لتوحيدية بقية الديانات الإبراهيمية، كديوان أساسي لجُماع تلك النبوءات. ويحتل أسلوب «الرؤيا» ضمن هذا الديوان من النبوءات مكانة متميزة إذا ما قورن بأسلوب النبوة عن طريق التجربة المباشرة الإعجازية الخارقة كما هو الشأن مع إبراهيم ويعقوب وموسى عليهم السلام. وذلك كما في رؤى يوسف، ودانيال، وياشاعيا، وأراميا، وحزقيال، التي تتراوح ما بين رؤى منامية تتم في المنام، ورؤى إشراقية تحصل في حالة التواجد و»الحضرة» الصوفية. موازاة مع تقاليد الرؤى النبوءاتية، التي يتم تنزيلها أو ترميزها وتشفيرها بطرق مختلفة في نصوص التنزيل المؤسِّسة، نشأ عبر الأزمنة والحقب فن دلالاتي (art sémiologique) خاص للتفسير والكشف يتولى «تأويل الأحاديث»، وتفسير النصوص، وفك الترميزات والتشفيرات، قصد تحديد المضامين والأطر الزمكانية التاريخية لرؤى النبوءات. ومن أهم المدارس الكبرى لهذه الفنون الدلالاتية فن عرف بالقبالة (Kabbale)، والذي يشكل كل من كتاب التصوير (‘سيفر يتصيرا’ بالعبرية) وكتاب البهاء (‘الزوهار’ بالعبرية) نصيها المؤسِّـسين. وقد شكل أولهما أساسا لنظريةٍ ألفبا-عددية (alphanumérique) تُـعرف في العبرية بــ’الكَـيـماطرية’ ثم عُرفت بعد ذلك في العربية بــ’حساب الجُمـّل’، وهي نظرية تعنى بالقيم العددية الأزلية لأحرف الأبجدية العبرانية (إثنان وعشرون حرفا: أبجد، هوز، حطي، كلمن، ...) التي يعتقد بأن أسرار الخلق، والتاريخ، والمصير، والمآل، قد تم ترميزها جميعا بواسطة تلك القيم العددية منذ الأزل في ثنايا نصوص التنزيل، وذلك من وراء المعاني اللغوية المباشرة العادية لتلك النصوص. وكمثال ملموس على ذلك الاعتقاد، نشير إلى أن بعض التصورات القبالية للوجود وللتاريخ قد ادعت مثلا، بعد حين، بأن تخريب برج مركز التعامل العالمي بنيويورك يوم 11 سبتمبر 2001 (أي يوم 11/9 من الألفية الثالثة) كان مشفرا تشفيرا في العهد القديم، وذلك من خلال الترقيم القانوني لمسلك الآية (11/9 من سفر التكوين) التي هي المسلك الذي تتحدث عن تخريبه تعالى لبرج بابل؛ وذلك إذ قال الملأ من قوم نوح بعد طغيانهم واستكبارهم: »هيّا بنا نبنِ لنا مدينة، ونشيد بها برجا تكون هامته في كبد السماء». فرأى رب السماوات والأرض ما في ذلك من تطاول واستكبار، فقوّض ما صنعت أيديهم، ودك البرج دكّا (انظر الموقع > http://www.bibleetnombres.online.fr/wtcatten.htm< من أجل نماذج من تلك «التحليلات»). نماذج تاريخية لتسخير القبالة في الرؤى والنبوءات وهكذا، وفي إطار الأدبيات القبالية اليهودية المشار إليها أعلاه، برزت في فضاء التداول بعض وصفات التأليفات الرقمية التي اكتسبت، مع الزمن، شهرة شعبية اخترقت الآفاق والملل والنحل؛ ومن أهمها تآليف الأرقام السداسية، أي تلك التي تقوم على أساس رقم ‘6’، وأشهرها على الإطلاق العدد 666 الذي اشتهر لدى المفسرين القباليين باسم «عدد الدابة» (The Number of the Beast = Le Nombre de la Bête)، في إحالة على الدابة التي ورد وصف لها في مسالك الآيات 13: 16- 18 من سفر الرؤيا (Apocalypse:13 = Revelation:13) والتي درج أولئك المفسرون على ربطها بشخصية الدجال (antéchrist ؛ ‘بوحمارة’، حسب التقاليد الشفهية المغربية) الذي سيظهر حسب ما يعتقدون في الأزمنة المهدوية (temps messianiques) والذي تحكي عنه أدبياتهم بأنه شخصية ذات سلطان ولا يصمد أمام جاذبيتها المغرية الزائفة إلا القسم الناجي، من حيث أن ذلك الدجال يأمر السماء فتمطر، ويضرب الأرض بعصاه فتـنبت حبا ونباتا، وتؤتي فاكهة وأبا، وأنه يحول دمنة النفايات إلى مائدة طعام مختلة ألوانه، وأنه يمتطي حمارا ذرعُ ما بين أذنيه سبعون ذراعا، الخ.، والذي سيخوض المسيحُ المنتظر، من خلال محاربته وهزمه، المعركةَ الأخيرة ضد الشر، فيملأ الدنيا عدلا وعدالة كما ملئت جورا واستكبارا وضلالة. فلا يبقى إذن، بعد هذا التوصيف، أمام من يهمهم أمر الإصلاح، وإعداد الترتيبات لأزمنة الصلاح، من الذين أوتوا العلم الرباني، والعرفان النوراني، إلا أن يعملوا على الكشف عن ذلك الدجال من بين أفراد زمرة ذوي السلطان وقوة التأثير، وذلك اعتمادا على إعمال أولئك الموهوبين لباطنيات التقليبات القبالية للأعداد القائمة على أساس رقم ‘6’. ولقد حفل تاريخ الفكر القبالي، منذ نشأته إلى اليوم، بمختلف التأويلات والتقليبات المتعددة للرقم 666، الذي هو «رقم الدابة»، بغاية إقناع هذا الجيل أو ذلك بأن الدجال مختف تحت جبة هذا الحاكم (نيرون، مثلا)، أو تحت تاج ذلك الملك، أو تحت عمامة أو قبعة ذلك المفكر أو ذلك العالم (جيوردانو برونو، أو غاليلي)؛ وذلك حسب الحقب ونوعية ومواضيع التدافع أو الخلاف، وحسب أسلوب تدبير ذلك التدافع أو ذلك الخلاف. ومن جهة أخرى، لم يحرم المتنبؤون والمهدويون أنفسهم يوما، بجميع أصنافهم، من إعمال وتفعيل المزايا الانبهارية للعبة الأرقام هذه من أجل تدعيم دعاواهم المهدوية، والتبشير بها، وتحديد مواعيدها على إحداثيات التاريخ والجغرافبا. فقد عرف التاريخ القديم والوسيط وحتى الحديث عددا كبيرا من النبوءات والمهدويات من مختلف الرتب والدرجات، وبمختلف المصائر. فمن صادفت نبوءاتهم ظروفا سوسيو-سياسية وفكرية تجعل النجاح السياسي أو الفكري يحالف مساعيهم المهدوية تصنفهم تلك الأدبيات التاريخية والمناقبية كــ»إمام»، كما حصل مع المهدي ابن تومرت المصمودي بالأمس، أو مع الإمام الخميني في عصرنا مثلا، دون أن ننسى المتصوف الطرقي السوداني محمد بن أحمد (1844-1885) الذي شق ذات يوم عصا الطاعة على شيخه، الشيخ محمد شريف، ثم استقل بنفسه مبشرا بمهدويته الواعدة بالعدل والصلاح والإحسان، إلى أن ادعى بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءه في المنام وقال له: "أنت المهدي المنتظر ومن شك في مهديتك فقد كفر"، فأسس على أساس تلك الرؤيا المباركة دولته المهدوية في السودان. بينما تخصص تلك الأدبيات التاريخية والمناقبية ألقابا قدحية من قبيل "متنبئ" (faux prophète)، أو «مهدي مزيف» (faux messie)، أو «دجال»، أو «بوحمارة»، لكل من لم يحالفهم الحظ لا سياسيا ولا فكريا، كما حصل مثلا لــ’حاميم الغماري (315-313 هـ) بشمال المغرب، أو لأبي العباس السجلماسي المعروف بــ 'بو-محلة' (قتل سنة 1022 هـ) في شرقه. إلا أن أشهر أفراد هذه الفئة العاثرة الحظ من ذوي الرؤى المهدوية يبقى في بابه على الإطلاق، هو المسمى ساباطاي تصيفي (Sabataï Tsevi 1226-1276)، أشهر المتنبئين المهدويين اليهود طيلة تاريخ اليهودية وما حفل به من أنبياء الصدق (‘نبيئـيم’) أو الكذب (‘نبيـئي شيقير’). فقد ادعى أنه المسيح المنقذ المنتظر، الذي تبشر به كثير من مسالك العهد القديم، خصوصا المزامير، باعتباره سيظهر من صلب ذرية داود، والذي ما يزال اليهود ينتظرونه إلى اليوم بمقتضى ركن من أركان الإيمان الثلاثة عشر كما حددها حجة اليهودية، موسى بن ميمون القرطبي، وذلك بما أن اليهود لم يعترفوا بمسيحية عيسى ابن مريم بالرغم من أنه كان ينادي فيهم «أنا المسيح»، «أنا ابن داود» (راجع الأناجيل). ولقد عمت حركة أنصار ساباطاي تصيفي العارمة ضمن بني ملته كافة أرجاء الإمبراطورية العثمانية وإلى غاية بولونيا. وبما أن معطيات التقويم والتأريخ اليهودي التي أطرت أيام حياته الراشدة لم تكن توفر تأليفات رقمولوجية (numérologique) ذات دلالة في الأدبيات القبالية الشعبية بالنسبة للاستحقاقات الزمانية المناسبة لمساعيه المهدوية (عاش من 5386 إلى 5436)، فإنه لم يتردد في استغلال معطيات تقويم التاريخ المسيحي لعصره من أجل تدعيم تلك المساعي في بداية بشارته: لقد أعلن أنه المسيح «نجل داود» ليستحق الخلافة، في إشارة إلى بشارات المزامير وإلى كون «بيت داود» هو «بيت الملكية» في بني إسرائيل، ثم أعلن يوم الثامن عشر يونيو من سنة 1666، أي سنة بلوغه الأربعين، سن البعثة، كأجل موعود لقيام زمن الشفاعة المهدوية (Rédemption messianique). وإذا كان أمر الدلالة القبالية للرقم 1666 واضحا من حيث أن الأمر يتعلق من خلاله بالعدد الشهير 666 من الألفية الثانية، فإن وراء الإمعان في تحديد يوم القومة في يوم 18 يونيو بالضبط رغبة في تقوية السند القبالي لنبوءة ساباطي في أوساط أنصاره بما أن فك التشفير يسفر عن يوم (6+6+6) من شهر (6) من سنة 666 من الألفية؛ وقد سبقت الإشارة إلى الأدبيات القبالية التي تربط هذه الأرقام بنهاية التاريخ وقيام الأزمنة المهدوية التي سينتصر فيها المسيح على الدجال فيملأ الأرض عدلا وعدالة كما ملئت جورا واستكبارا وضلالة. هكذا، ومن خلال هذا المثال الأخير للتخرصات القبالية، تكتمل مرة أخرى حلقة المفارقة ما بين حدود «الجد واللعب». أفلا يذكر هذا التخرص القائم على باطنيات سلاسل الأرقام السداسية بأحلام وكوابيس مجانين موسيقى ‘الهارد-روك’ و’الهيفي-ميطال’، الذين كنا قد رأينا كيف أنهم كانوا ينتظرون يوم الثلاثاء 06/06/06 كموعد جنوني مع الشيطان (Diable) لتفجير الطاقات المكبوتة عبر صخب موسيقى «الهارد»، كأنه النفخ في الصور؟ فها نحن من جديد، ومن باب المفارقة في باب الملل والنحل، نجد أنفسنا أمام توافق تام في أساليب التمثل والتمثيل والتصور والتصوير ما بين جنون الشباب المعولم من جهة، ومغامرات المهدوية اليهودية من جهة ثانية، وأسلوب تصور الوجود وآليات التاريخ لدى جماعة إسلامية محترمة كجماعة العدل والإحسان، التي تؤمن اليوم، من جهتها، إيمانا فولاذيا، بأن القومة الموعودة، التي كثيرا ما ترددت في أدبياتها، ستتحقق تاريخيا بإذن الله مع موعد سنة ‘06’ من الألفية الجارية، الألفية الثالثة، وذلك ربما مع زيادة ظلال دلالية مشفرة إضافية للرقم ‘6’، الذي قد ترى فيه تصوراتٌ باطنية حينما تتداخلُ مع ممارسةٍ عادية للسياسة الدنوية، تشفيرا لما يناظر «الشخصية ذات النفوذ» التي تتحدث عنها أدبيات تفاسير سفر الرؤيا (littérature apocalyptique) والتي قد يحيل توصيفها القبالي في الظرفية المعنية بتاريخ القومة على ضمير مستتر مبني للمجهول في أدبيات الجماعة، تقديره «من يهمه الأمر». هذا دون أن تنسى الجماعة، من حيث ممارستها للسياسة الدنوية ومواكبتها الحداثية لأدبيات هذه السياسة، ما توفره الظرفية من تحليلات «حداثية» بلا حدود، تصب في نفس مصب نخرصات القبالة؛ وذلك كتحليلات الصحفي المحلل البارز، جان بيير توكوا (Tuquoi) على سبيل المثال، من خلال كتابه في علم المستقبليات (futurisme) المعنون بــ»الملك الأخير» (Dernier roi)، الذي قد يكون ذلك المحلل «بلا حدود» قد تعرف خلاله على هوية وعينية «آخر الملوك» اعتمادا، ولو بشكل غير واع، على الرقم ‘6’، حينما يكون هذا الرقم رقما ترتيبيا لاسم ملك معين على شجرة أسلافه. كل هذا من أجل أن يقال - إذا ما تم التخلي عن كل إشارات وهمهمات الكهان – بأن الملك الحالي للمغرب مرتّـب على شجرة أسلافه باعتباره محمدا السادس، أي ‘محمد 6’ أو M6 كما يحلو للخطاب الشبابي المرح أن يلقبه، وبأن الرقم 6 حافل بالدلالات بالنسبة لحاملي التفكير القبالي عن وعي أو عن غفلة. عودة إلى ساباطاي من حيث إنه ليس الوحيد زيادة على كل ما سبق من أوجه التسخير القبالي الشعبي لباطنيات الأرقام السداسية بشكل يخترق الملل والنحل كما تخترقها الأفكار الشعبية بصفة عامة - ولكي نعود إلى المتـمهدي اليهودي، ساباطاي تصيفي، الذي انتهى على كل حال، بعد اندحار دعواه، بإلحاق نكبة معنوية فظيعة لبني ملته في صميم عقيدتهم لمّـا فضل، بعد ذلك الاندحار، أن يتحصن وراء اعتناق جدّ محسوب لديانة سيد العالم المتوسطي حينئذ، الامراطورية العثمانية، ألا وهي الإسلام - نشير أخيرا إلى أن هذا المتمهدي لم يهمل، منذ بداية مسعاه المهدوي، أن يستغل مصدرا آخر من مصادر الظلال الدلالية القبالية للرقم ‘6’ الذي هو أساس «رقم الدابة» (The Number of the Beast) الذي يعلن نهاية التاريخ، ألا وهو مصدر النجمة السداسية (hexagramme)، التي كانت قد أخذت ترمز لدى الأوساط القبالية اليهودية منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي إلى «ترس داود» (Magen David). فقد عمد إلى اتخاذه هذا الشكل السداسي رمزا للشفاعة (Symbole de la Rédemption) التي كان قد أعلن نفسه مسيحا مبعوثا من أجل إحلالها في الأرض، والتي من أجل إحلالها ذاك كان دعا أنصاره إلى الدعاء باسمه في البيع بعد الصلاة، بدلا من الدعاء للخليفة العثماني، وذلك قبل أن يتبخر مسعاه في تنصيب نفسه ملكا لليهود باسم بيت داود تمهيدا لنهاية الحياة الدنيا («هاعولام هازي») وقيام حياة الآخرة («هاعولام هابا»). نشير أخيرا إلى أنه لا فائدة - مع هذا الأسلوب من أساليب التصور - من أن تراود الإنسانَ بعضُ الميولات نحو محاولة للوقوف على وجه ما للعقلنة الداخلية لمنطق مثل هذه الأساليب والأنساق في تمثل الوجود وتمثيله، وفي تصور التاريخ وتصويره؛ وذلك بأن يتساءل مثلا كيف أمكن لنباهة المسيح المنتظر، «ابن داود» المبشر به في المزامير، كما قدم ساباطاي تصيفي نفسه، أن يؤسس رقمه السداسي التنبؤي على محور تاريخ الديانة المسيحية، التي هي أساسا أطروحةٌ نقيضٌ ورسالة متجاوزة وناسخة - بحكم مبررات قيامها الداخلية وبحكم مقوماتها العقدية - للإطار الملي العقدي الذي يدعي هذا المدعي بأنه بُعث لكي يتوج رسالته عن طريق إحلال الأزمنة المهدوية التي بشرت بها مزامير العهد القديم، وعن طريق لمّ شمل ما تشتت من أسباط إسرائيل السلفية، ألا وهو إطار يهودية الأزمنة التوراتية الأولى؟ الجواب على هذا، أو شبه الجواب هو أن ساباطاي لم يكن وليس هو الوحيد الذي يمارس هذا النوع الانتهازي من أنواع تهريب القيم والمفاهيم في برصة التنبؤات. فقد سبقه كثيرون، وعلى رأسهم قداسة البابا «إينوساط» الثالث (Innocent III 1160-1216) الذي كان يطمح إلى إخضاع الملوك الزمنيين في عصره لسلطة وإمامة البابوية، مناديا بأن منزلة الكنيسة مقدمة في الاعتبار على هيئات المجتمع الزمني. فلكي يقنع رعاياه إقناعا قباليا شعبيا بدنو أجل نهاية الحياة الدنيا في عصر ولايته البابوية، وبأنه يمثل بناء على ذلك، خليفة المسيح المنتظر، وأن إليه المفر بما أنه من سيمهد لعودة ذلك المسيح من السماء إلى الأرض ليحارب الدجال، لكي يقنع رعاياه بكل هذا المنطق التاريخي المفصل على حد المقاس، لم يجد قداسة البابا إينوسانط الثالث في معطيات التقويم المسيحي لقرن مجايليه شيئا مما له دلالة قبالية شعبية، فدبر وقدر، ثم احتال ودبر، فاهتدى إلى تخريج أصيل حدد بمقتضاه سنة 1284م كسنة لظهور الدجال، وهي أقرب أجل من جيله ومجايليه مما يمكن أن يُـهتدي له إلى تخريج قبالي ذي دلالة، بما أن تلك السنة - كما نبه الغافلين إلى ذلك، وهو قائد الحملة الصليبة الرابعة - توافق بالضبط سنة 666 لظهور الإسلام (www.abhota.info/end1.htm)!! فلا بأس، ولا حرج، أن يتخذ قائد الحملة الصليبة الرابعة من ظهور الإسلام مرجعية ذات أسس أزلية وليس مجرد حدث تاريخي، ما دامت الغاية (أي التأثير على العامة) تبرر الانتهاز. وبعد كل من البابا إينوسانط الثالث، المسيحي الملة، والمتمهدي، ساباطاي تصيفي، اليهودي الملة (الذي اعتنق الإسلام، دين أولي الأمر بعصره بعد فشل مسعاه المهدوي)، لكن هذه المرة بالقرب منا وبين ظهرانيها، أفلم يتخذ الشيخ ياسين بدوره التأليفة السداسية الأولى للألفية الثالثة، أي سنة 2006 المباركة حسب تعبيره، كموعد للقومة؟ الواقع أنني كثيرا ما تساءلت كيف يحصل في هذا البلد، الذي قد يطرح فيه، على سبيل المثال، سؤال على الحكومة تحت قبة البرلمان حول موقفها من احتفال البعض برأس السنة الميلادية، أو حول عدم إثبات التاريخ الهجري في وثيقة إدارية أو مطبوع عادي، والذي كثيرا ما ساجل فيه الفكر الحداثي أفكار وخطاب الحركات الإسلامية من حيث مدى تماسكها الداخلي على الأقل، كيف يحصل أن لا أحد من هؤلاء ولا من أولئك في هذا البلد لم يطرح قط سؤالا، ولو من باب الفضول المعرفي، حول قضية مرجعية التقويم مند أن أصبحت قومة 2006 التي بشر بها الشيخ ياسين شأنا سياسيا وطنيا يناقشه المثقفون والسياسيون، ويشكل قوتا يوميا لصحافة الجد وصحافة اللعب؟. فما عدا ما إذا كانت جفربات أمثال المجدوب ‘نوسطراداموس’ (Nostradamus)، أو شطحات ساباطاي تصيفي هي معين الفكر المؤطر للرؤى وللنبوءات الصوفية في إسلام اليوم، كيف يـُتصور أن يكون الموعد الذي تحيل بواسطته رؤيا صوفية إشراقية على أجل إقامة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة متمثلا في نقطة من التاريخ يتم تعيينها على محور التأريخ المسيحي وليس على محور تأريخ الهجرة التي هي مرجع الخلافة النبوية؟ إنه بكل بساطة مجرد اقتناص للأرقام وللرمزيات التي تبهر العامة، ولو تم ذلك في انعدام تام لأي معرفة ولأي وعي بتاريخ الأفكار وبرحلات الرمزيات عبر المنظومات الثقافية. وفي إطار روح هذا القبيل من الفكر، يحق أخيرا لأي تحليل يراجع التاريخ القريب للمغرب مراجعة قبالية أن يتساءل بشأن حركة وقومة الثائر، الجيلالي بن دريس الزرهوني المعروف بلقبي ‘بوحمارة’ أو ‘الروكَي’، والذي ادعى يوما في المنطقة الشرقية من المغرب - لكي يدعم دعواه باستحقاق العرش - بأنه الابن الأكبر، نجل الحسن الأول، ليرى من خلال ذلك التساؤل ما إذا لم تكن تلك القومة الإصلاحية الصوفية المسلحة غير الموفقة قد حركتها رؤى صوفيو- سياسية (mystico-politique) وأقامتها على قراءات قبالية للتاريخ، معتمدة على رقم السنة 06 من القرن الماضي (أي 1906، التي تقابلها اليوم 2006) التي تمثل سنة منتصف مشوار حركة الروكَي الفاشلة (1902-1909)، خصوصا وأن هذا الموظف الصغير الذي اشتغل في بداية حياته العملية كطوبوغرافي في الجيش، «قد استغل الاستياء العام ضد التوجه الأوربي للسلطان الشاب، كما استفاد من الأزمة النفسية التي كانت تعم البلاد في انتظار "رجل الساعة" و صلح الأحوال، فانضم إليه أنصار كثر»، حسب ما ورد في صفحة من صفحات «تيسير التاريخ» بموقع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. فإذا كانت هناك، إذن، تداخلات عدة - على مستويات الأصول الأدبية، والتشكيلية، وحتى الشاراتية المغربية - بين كثير من العناصر المكونة، ومن بينها العنصر العبراني اليهودي بالضبط، كما بينتُ ذلك في عمل حديث (انظر كتاب: «الحكاية الشعبية في التراث المغربي». مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية – الرباط 2006.)، فإن مجال الرؤيا والنبوءة، اللتين هما رياضة أهلية في التقاليد العبرانية اليهودية، لا يمكن أن تشذا عن تلك التداخلات، خصوصا في بلد أصبح مريضا أكثر فأكثر بنوع من «التأديُـن» (religiomanie) أضحت مظاهره وأعراضه تتحول شيئا فشيئا إلى وسائل إقناع سياسي. على كل حال، فيما يتعلق بمنطق التاريخ وبفلسفة الأخلاق والمدينة، يبقى فكر أناس من أمثال ساباطاي تصيفي أو نوسطراداموس أقرب اليوم إلى الوعي المغربي أكثر مما يقربُ منه فكر أناس من عيار ابن رشد مثلا أو ابن خلدون الذي تشاء المفارقة أن يُحتفل حاليا بالذكرى 600 لوفاته، وذلك رقم سداسي آخر لسعادة من ينبهر بذلك. (16 يوينو 2006)
|
|