|
«الماء والملح والكبش» عند الأمازيغ بين الحفريات والميثولوجيا. بقلم :بحـاج عسـو «إن المجتمع الذي يفقد أساطيره – بدائيا كان أو متحضرا- يعاني كارثة أخلاقية تعادل فقدان الإنسان لروحه» النبش في الواقع لاستقراء معطياته وتحليلها واستنباط النتائج منها، يدخل في صلب الإشكالات التي تهتم بها نظرية المعرفة، حيث إن مفهوم الواقع ذاته مفهوم ملتبس يطرح عدة إشكالات في حقل العلوم الإنسانية والحقة. وبما أن تحديد مفهوم شيء ما ينطلق أساسا من جرد ودراسة عناصره، فإننا نروم من خلال هذه الدراسة، البحث عن الجذور والأصول لبعض المظاهر الثقافية التي لا زال يزخر بها واقعنا. ما دمنا نؤمن أن خبرة الواقع من مقومات الثقافة الواعية، وهذا كله لن يتحقق إلا بدراسة الواقع و محاولة تحديه لصنع الأفضل، فقد سئل إينشتاين عن الظروف التي ساعدته على اكتشاف نظرية النسبية فأجاب :»بتحدي الواقع الذي كان العلماء مجمعين عليه». ينطلق الفكر من الواقع ليشتغل عليه ويتوصل إلى نتائج تخص هذا الواقع نفسه لتغييره أو المحافظة عليه. فعلاقة الإنسان بالواقع علاقة غير واضحة نظرا لحجم الغبار المتراكم على هذا الأخير، والذي يجب نفضه وإزالته من قبل الباحثين، حتى يبدو هذا الواقع جوهرة شفافة تظهر من خلالها الحقيقة واضحة، طبعا بشكل نسبي. أمان «Aman» «أمان" كما هو متداول في اللغة الأمازيغية بكافة لهجاتها هو مقابل للكلمة العربية "الماء"ولفرنسية eau ، فهو يحمل بين طياته في المتخيل الأمازيغي النقيضين بين الحياة والموت معا، يهب الحياة لكل الكائنات الموجودة على البسيطة، بما فيها الأرض التي تعتبر بمثابة أم لهذه الكائنات، فعندما يعتدل تواجد الماء: تنبت الأرض وتزهر مانحة بذلك الحياة لكل من يعيش عليها من حيوانات وإنسان، وعندما يفيض يمكن أن يهلك الكل:»إن رمزية الماء تنطوي على الموت مثلما تنطوي على الولادة الجديدة1». فهو رمز للخصوبة عند أمازيغ الأطلس المتوسط بالمغرب، وعنوان للحياة لدى التوارك... يقول الكاتب الأمازيغي Tertullien - نقلا عن المرجع السابق-:»إن المياه الأولى هي التي توصلت بأمر إحداث المخلوقات الحية» ومن هنا نستخلص أن المعتقدات الأخرى وحتى السماوية منها – كالإسلام- تؤكد أن الماء هو أصل الحياة. حفريات تخص: أمان"عند الأمازيغ: ذهبت ثلة من الباحثين إلى أن الصحراء الكبرى لشمال إفريقيا، كانت في العصور القديمة لما قبل التاريخ، منطقة خضراء تنعم بغطاء نباتي كثيف ووحيش هام، شكلت ملاذا خصبا للإنسان الأمازيغي القديم الذي مارس القنص والجنيummud 2 كمصدر لضمان عيشه. لكن بفعل الجفاف وتوسع ظاهرة التصحر التي عرفتها المنطقة، غير هذا الإنسان من أشطته الاقتصادية فغدا يعتمد تربية الضأن، وبحثا عن الكلأ لقطعانه أخذ في النزوح نحو الشمال الغربي (المغرب الكبير) والشمال الشرقي (مصر) لإفريقيا بحثا عن المراعي الخصبة3. وكما هو معروف لدى الجميع فإن الإنسان القديم كان يقدس الطبيعة، فأمام ندرة هذه المادة الحيوية (الماء) التي تضمن له الحياة، المرجح أنه بدأ في تعظيمها إلى درجة التأليه، حيث ارتبط هذا اللفظ Aman بالإله Amon الذي انتشرت عبادته قديما بشمال إفريقيا و الصحراء الكبرى4، بل وأن عددا من أكابر اليونان اتخذوه إلها كالقائد العسكري الإسبارطي lusandros (ت 395 ق.م5). إن فرضية العلاقة الوطيدة بين aman أو amman مشددا وamon تجد لها سندا حفريا يتمثل في تواجد معبد الإله amon بواحات siwa الغنية بعيون الماء إلى يومنا هذا خصوصا واحة aghormi التي يتواجد بها بقايا آثار هذا المعبد6. وهناك سند لغوي ينقله الأستاذ شفيق عن G.camps: "سجل في أوائل هذا القرن أن"الكوانش"les guanches، سكان جزر الخالدات [ الكناري7]، كانوا لا يزالون يذكرون اسما هو»أمان» amman بمعنى السيد والمولى والرب، ويقرنونه باسم الشمس8. هذا اللفظ يتطابق مع لفظ aman (الماء) من الناحية اللسنية، ويشترك من حيث الدلالة السيمولوجية مع amon في أداء وظيفة الألوهية. في ميثولوجيا الواقع: يلعب الماء Aman دورا حيويا لدى الأمازيغ، يتجلى في وظيفة الإخصاب ويبرز ذلك من خلال معطين أحدهما مادي والآخر رمزي. المعطى المادي: يظهر من خلال كون الماء يلقح الأرض أو «يجامعها» لكي تخرج نباتها الذي يضمن الحياة لكل الكائنات، فيشبه الأمازيغي الماء الذي يجري أو يسقط على الأرض كرمز للذكورة يؤدي نفس الوظيفة التي يقوم بها عضو الذكورة عند الرجل في التزاوج :»أجمل ما في العلاقة بين الماء والأرض العلاقة الجنسية9» حيث أنه في غياب الاتصال بين الماء والأرض ينعدم التخصيب والإنبات وتجف الحياة. معطى رمزي: إن أصل الإخصاب عند الإنسان كما هو راسخ في المتخيل الأمازيعي هو aman. فالإنتاج (أي ولادة عنصر جديد على الأرض) في كلا الفعلين هو نتاج لزواج بين ذكر وأنثى أو بين الماء و الأرض. فالماء رمز للخصوبة والإنتاج تنبت وتنتج الحب لتضمن الحياة للكائنات الموجودة فوقها، والمرأة تنتج السواعد التي تستعمل على الأرض وتجعلها تزيد من فعاليتها. فالتدليل على أن الماء عنوان التخصيب، لا زال إلى يومنا هذا حيث تذهب العديد من النساء العاقرات إلى: سيدي سليمان مول الكيفان أو حامة مولاي يعقوب10 للاستحمام في الماء طردا للنحس وطلبا للخصوبة. لقد شاهدت بحامة مولاي يعقوب فتاة يهودية عاقرة من أصل مغربي أتت صحبة أمها من إسرائيل لكي تستحم بماء الحامة عساها أن تستعيد خصوبتها! تشير هذه الشواهد إلى تزاوج غير معلن بين الماء والمرأة لأجل الإخصاب، وسنسترسل في سرد عدد كبير من الشواهد لمزيد من التوضيح. إلى يومنا هذا في جل القرى المغربية لا زالت الفتيات العانسات اللواتي يرغبن في الزواج يملأن وعاء من الماء من سبعة آبار مختلفة، ويتركنه معرضا لضوء النجوم ليلا، وللنجوم أيضا شأن آخر في الميثولوجيا عند الأمازيغ11 – وفي الصباح يستحممن به طردا للنحس و طلبا للزواج. موكب العروس: كما هو راسخ في المتخيل الأمازيغي – ولازال له وجود بيننا- خصوصا في البوادي والقرى، أن كل بيت يمر بقربه موكب العروس، لا بد وأن يقوم أهله وخصوصا الأم برشه بالماء تيمنا وطلبا لسنة فلاحية جيدة. ولعملية الرش في فصل الصيف جمالية خاصة، حيث أنها تلطف على الموكب جو المسير، وتشجعه على المواصلة في الفرح والسرور اللذين يغمرانه. Taghunja تاغنجا في حالة انحباس المطر، ونظرا لكون الماء هو مصدر الرزق عند الفلاحين، تمارس عدة طقوس لطلبه ومن بينها « taghunja ». و taghunja هي مؤنث Aghunja في الأمازيغية وهو عبارة عن مغرف من الخشب يتم به تحريك الطعام الذي يطهى في القدر. تأخذ Tangharet هذه الآلة وتلبسها قطعا من الثوب حتى تصبح كالدمية وتبدو في أبهى صورة، ثم تحملها فتاة صغيرة مزينة كالعروس تحيط بها فتيات القرية ويتبعن الفتيان والنساء12- هذا عند أمازيغ الأطلس المتوسط بالمغرب- و الكل يردد: «Taghunja a m unzar idda ad iqqar u zaghar Ini y wid n udaghar Nettrawn efatagh anzar Ad awin waman aman13” يخرج الأطفال رمز البراءة، والعذارى رمز الخصوبة والإنجاب، تحمل الفتاة العروس Taghunja وهي رمز العيش والبقاء والحفاظ على الوجود. كل هذا متوقف على الماء الذي تجود به السماء، الماء إذا تجاور الحدود وفاض قد يؤدي إلى الهلاك، طلبا للماء الذي سيسقي الحقول Igran ويروي الأشجار Iskla و Tisghar والحيوانات حتى تعود الحياة والدفء إلى الجماعة، حتى تنبت الأرض جميع أنواع الحبوب وتمارس Taghunja دورها المعتاد. أما في جنوب المغرب، فيتم تزيين Aghunja بالقماش والحلي والورود، وتحمله على العكس مما قلناه آنفا، امرأة طاعنة في السن تتلوها النساء وهن يطفن في أرجاء القرية مرددات أشعارا يتوسلن بها طلبا للمطر من قبيل: « telghena ma cen ilan Aman unzâr a cem ilan14 » وكل بيت يمررن بالقرب منه يقوم أهله برشهن بالماء تيمنا به وطلبا لسنة فلاحية جيدة. وهذه الأداة المطبخية بامتياز ترمز كما سبقت الإشارة لاستمرارية الحياة، وتستعمل في طلب المطر على امتداد ربوع شمال إفريقيا في المغرب والقبايل بالجزائر وتونس وغيره. Anarzam Anarzam كلمة أمازيغية من فعل Irzam أي فك القيد وأطلق السر، فالسماء تبخل على الأرض، تقيد الماء ولا تريد أن تفك قيده لهذا تقوم النساء ب Anarzam تقربا وطلبا لإطلاق سراح المطر:»يبدأ Anarzam أولا بحمام للأبكار، حيث يقمن بسكب لماء المخصب على الجسد15. تأخذ tamagharet جرعات صغيرة من كل استحمام لتقدم بعد ذلك قربانا للشجرة المقدسة. ثم تقف كل الفتيات وتفك كل واحدة منهن حزام سروالها، وتدعه يسقط على قدميها16، فهذا دليل على الرغبة في الإخصاب- و إمعان في الاستمتاع بكل إحساس داخلي لموسيقى الجسد كما يقول نيتشه- كأن الأرض تفتح أحضانها استعدادا لحمل هذا الطقس ذي أكثر من دلالة رمزية ويدل على ذكاء حاد امتاز به الأمازيغ من خلال المقارنة بين مفعول الاتصال بين الرجل والمرأة من جهة وبين الأرض والماء من جهة ثانية. بعد ذلك كل فتاة من اللائي سبق لهن أن قمن بطقس Anarzam – تقدم خصلة من شعرها، تجمعها tamgharet كل هذا يقدم هبة tufk لقوى الشر طردا للنحس الذي يحبس المطر. ثم :»تنتهي طقوس taghunja بسكب الماء الذي جمع من الاستحمام عند»قدم» الشجرة المقدسة. خصلات الشعر تحزمها تمغارت عند ijj القوى الروحية لا تفتأ أن تقبل هذا القربان المقدم إليها وتعوضه بأمطار غزيرة17». Ahuli abu Tinzar هناك طقس آخر لطلب المطر، لازال يمارس إلى حد الآن خصوصا في منطقة زمور بالمغرب كمنطقة رعوية مشتهرة بتربية الضأن ونسج الزرابي من صوفه. في حالة انحباس المطر دائما يخرج الأطفال والعذارى في موكب وهم يرددون: « Ahuli abu tinzar A R’bbi uwcax anzar » تقديم Ahuli الكبش في مقدمة الدعاء، هل هو من رواسب وبقايا عبادة الكبش الذي يرمز للإله Amon وهو طقس يرجع إلى العصور القديمة، حيث كان الإنسان يقدس قوى الطبيعة. هذا التمسك بالكبش له عدة تجليات في المعاملات لدى الأمازيغ من بينها: - تقديم الكبش كهدية للعروس إلى حد الآن، بدلا عن أي حيوان آخر كالثور... لأنه يرمز للخصوبة أكثر من غيره: «أما اختيار الكبش كرمز للرب آمون فالمرجع أنه راجع إلى أن الكبش من الحيوانات الشبقية والشهوانية، وكرمز للخصوبة18» - يقدم كهدية للصلح بعد الخصام، وكهدية لزاوية دينية أو ولي صالح، نظرا لرمزيته العالية لدى الأمازيغ. بقي سؤال آخر: هل يتم تقديم الكبش لطلب الماء حفاظا على هدا النوع من المواشي من الانقراض؟ أم لهذا التقديم دلالات أخرى؟ الإجابة عن هذا السؤال لن تتم بصفة قطعية بل سنستند ثانية على مجموعة من الشواهد التي تدل على أن الأمازيغ كانوا قديما يقدسون الكبش: - إن الرب أمون الذي يرمز له بالكبش إله صحراوي أمازيغي يدخل اسمه في تركيب شعوب أمازيغية قديمة كالامونيين وهم ليبيون أمازيغ19. والكرامانت أو أكرامن وهم السكان الأقدمون لفزان20 وهي منطقة صحراوية في ليبيا الحالية تشتهر بإنتاج الملح. ثم النسامون التي تتركب حسب الدكتور مصطفى أوعشي من كلمتين إناس INNAS وآمون Amon بمعنى INNAS AMoun أي أوحى آمون أو قال آمون، لأنه كما هو معروف أن عباد آمون كانوا يقصدون ضريحه وينامون فيه طلبا للرؤية أو المشورة، وهو طقس لا يزال يمارس إلى يومنا هذا، حيث يذهب الناس إلى أولياء صالحين بالمغرب كمولاي بوعزة أو مولاي عبد السلام.... وينامون في الضريح. من المعروف تاريخيا أن الصحراء الكبرى جنوب شمال إفريقيا كانت منطقة خصبة، يمارس سكانها التقاط الثمار Ummud والرعي خصوصا تربية الضأن. ومع الجفاف والتصحر الذي عرفته المنطقة، أخد هذا الإنسان في النزوح نحو الشمالين الشرقي والغربي بحثا عن الكلأ لمواشيه21. كون الكبش مصدرا للعيش عند الأمازيغ القدماء، قدسوه إلى درجة التأليه22 وربطوه بالإله آمون وأقاموا له نقائش صخرية، وتسمت قبائل بكاملها بآيت بوولي إلى يومنا هذا: «فلا غرابة في أن يتخذ ذلك الإنسان صورة الكبش إلها له، ولا غرابة أن تصحب تلك الصورة الإله ذلك الإنسان في نزوحه البطيء المستمر نحو الشمال وتتبعه للمناطق الرعوية في تقلصها23». وهذا ما يفسر استمرار تقديس الأمازيغ للكبش الذي يرمز للرب آمون ووجوده في كل عاداتهم وتقاليدهم إلى اليوم بجانب طقوسهم الدينية الحالية. ومن بين هذه العادات: «بوجلود» التي لا زالت تمارس إلى يومنا هذا بمناطق مغربية متعددة، حيث حكى لي أحد الأصدقاء أنه بقرية تسمى»تالوين» بسوس، مساء يوم عيد الأضحى يقوم أحد الأشخاص (غالبا من الشباب) بارتداء جلد الخروف، ويحمل أرجله بيديه، ثم يخرج الشباب في موكب مرح وبهيج وهم يهرولون (كما نرى في عادة الثور الإنساني) يتبعهم بوجلود، فكل من لمسه برجل الخروف، عليه أن يؤدي مبلغا من النقود تيمنا بهذا وطلبا للبركة. وفي نهاية الحفل، تجمع الهدايا التي تلقاها بوجلود وأصدقاؤه ليقام بها حفلان ليلتين متتاليتين على مسرح طبيعي على الهواء الطلق، ليلة خاصة بالشكايات وهن يرقصن»Aggan24» وليلة للشباب يقومون فيها برقصة «أحواش25». الملح : tisnet الملح مادة معدنية، لها عدة استعمالات في المطبخ، المصنع... كان الأمازيغ القدماء يستخدمونه في حفظ و تخزين الأطعمة كالأسماك والزيتون26، كما استعمله المصريون في حفظ جثثهم لاعتقادهم أن عبور الجسد بصورته الكاملة إلى الحياة الأخرى هو أرقى ما يمكن أن يحققه الإنسان في الخلود: «ويشكل الاحتفاظ بجسده الصورة المثالية للعبور نحو الأبدية27». كما قاموا بتمليح الخضر واعتبروها أفضل الأطعمة28، وتمليح الأطعمة انتشر قديما في شمال إفريقيا على نطاق واسع، نظرا للجفاف والتصحر الذي يهدد الصحراء مند القديم: «في السنة التي لا يفيض فيها النيل تحل الكارثة29». إن ارتباط الملح بالماء وبآمون نجد له سندا عند Mark.k الذي يقول:»و في العام 1352ق.م، مات الفرعون توت غنج آمون في سن الثامنة عشرة، واكتشف قبره في العام 1922 ويعتبر أشد القبور تنظيما وأكثرها حفظا على الإطلاق. لقد زود القبر بسكين البرونز لأداء الطقس الرمزي لقطع حبل السرة، وأحيط بأربع مزارات يحتوي كل منها كؤوسا مملوءة بمادتين أساسيتين في حفظ المومياوات: زيت الراتينغ وملح النظرون30» ونستخلص من هذا النص ما يلي: ـ إن طقس حفظ الموتى الذي استخدم فيه الملح، خصوصا في جثة الفرعون غنج آمون، يحمل أكثر من دلالة عندما نربطه بمعبد الرب آمون الموجود بواحة Aghormi ب Siwa التي تفور عيونها بالملح: «ملح تفور به عيون المياه في سيوة31»، فإضافة إلى الوظيفة المادية للملح الذي يحفظ الجثة من التحلل، هناك وظيفة دينية تتمثل في التيمن به، خصوصا وأن النص يذكر لنا وجود كؤوس مملوءة بملح النطرون. وإذا ما ذهبنا مع فرضية الأصول المشتركة لكل مكان شكال إفريقيا- قديما- بما فيها مصر32، فإنه لا زالت تمارس عدة عادات من طرف الأمازيغ إلى يومنا هذا تلتمس لها تفسيرا: - وضع الملح على دم الذبيحة (خصوصا يوم عيد الأضحى)، وضع الملح في الماء لمن أراد أن يستحم قبيل الغروب، وضع سرة من الملح في يد أو عنق الرضيع طردا للنحس واتقاء لغضب قوى الشر... كما تعتبر رمزا لربط ميثاق أو علاقة طيبة أو تحالف بين الأفراد والجماعات، حيث أن ثقافتنا الشعبية لا زالت زاخرة بما يفيد بتبجيل هذه المادة التي يشترك فيها على مائدة الطعام مجموعة من الأشخاص فيقولون: « N.cur.tisinet » أو "شركنا الملحة" وهذا يشير إلى استمرار تعظيم هذه المادة في المتخيل الأمازيغي إلى يومنا هذا. على المستوى الاقتصادي: قديما شكل الملح مادة للتبادل التجاري لدى الأمازيغ، تحملها القوافل وتقطع بها مسافات طويلة عبر الصحراء، لتصل بها إلى أبعد المناطق. كما بينت مدينة كاملة بصخور الملح وهي «33 taghaza » يقطنها العمال الذين يقومون بحفر واقتلاع صخورها (وربما taghaza جاءت من فعل ighza في الأمازيغية الذي يعني حفر، حيث مصدره المتداول عندنا هو Taghuzi) التي تحمل على ظهور الجمال إلى "تمبكتو" ثم إلى باقي المناطق الأخرى. ـ كما اشتهرت منطقة الفزان le fezzan الليبية منذ القدم باستخراج الملح الذي يحمل على عربات تجرها الخيول إلى مصر والبحر المتوسط:»وكتب هيروتس عن استخدامهم للأحصنة وعربات الحرب تجرها الخيل، التي تعتبر من الأمور غير المألوفة حينها، والأكثر غرابة، هو استعمالهم الخيل لنقل الملح. في القرن الثالث قبل الميلاد، اشتهرت فزان كمنطقة لإنتاج الملح، ولم يكتف أهلها بكشط الملح وجمعه من السبخات الجافة، وعملوا على غلي القشرة المترسبة في القيعان لإنتاج بلورات صافية، راكموها على هيئة أسطوانات بيض بارتفاع متر تقريبا، وحمل التجار الفزانيون هذه الأشكال الذكورية، بعد لفها بعناية في حصر من قش ونقلتها القوافل عبر الصحراء، ولا يزال الملح ينتج وينقل بهذه الطريقة في أقسام واسعة من الصحراء الإفريقية راهنا34». نستنبط من النص ما يلي: -استعمل الفزانيون الخيل لجر عربات حربية خصوصا لنقل الملح، يدل على عراقة إنتاج الملح بفزان، وعلى أسبقيتها باقي أرجاء الصحراء الكبرى. -ترجع أقدم الرحلات الإفريقية بالصحراء الكبرى إلى ألف سنة قبل الميلاد، استعملت خلال – كما سبقت الإشارة- عربات تجرها الخيول- أما الحمل فلم يحل محل الحصان في أداء هذه المهمة إلا حوالي 300ق.م لكون الجمل أشد صبرا على تحمل مشاق السفر وعبور الصحراء. -تفنن الفزانيون في طرق استخراج الملح، حيث لم يكتفوا بحفر الصخور الموجودة في السبخات، بل قاموا بغلي القشرة المترسبة في القيعان للحصول على ملح أكثر صفاء و نصاعة، جمعوه على أشكال أسطوانية و قاموا بتصديره. هذا يبرز عراقة تعاملهم مع هذه المادة من جهة و على بحثهم عن ملح جيد يواكب التنافسية الموجودة في أسواق الملح آنذاك. -الأشكال»الذكورية» التي تحدث عنها النص تعطي للملح إحالات تدل على الخصوبة والشبقية، خصوصا إذا علمنا أن خبز الفقراء قديما- في مصر- لا يحتوي على الملح. إذن فالملح كانت له عدة وظائف في حياة الإنسان القديم مادية وروحية: -طهي الطعام، حيث اعتبر ملح»النطروف» الذي يحضر به كعك إفريقي يسمى»كونو» مفيدا للمرضعات ومقويا جنسيا للذكور. -حفظ الأطعمة الذي أملته ظروف الجفاف القاسية ومتطلبات الأسواق التجارية في ذاك العصر. -تخيط الجثث حتى تعبر إلى الحياة»الأبدية»بأكمل صورة. -استعمال أيضا مادة للبناء – مدينة تاغازا- و للتبادل التجاري حيث كان يقايض بالذهب. إحالات: 1 - أوعشي مصطفى : « أمان «، ضمن كتاب : المصطلحات الأمازيغية في تاريخ المغرب و حضارته ص: 402 - شفيق محمد : من أجل مغارب مغاربية 3 - أنظر شفيق محمد : مرجع سابق ص: 176-177
G.camps 4 - أوعشي مصطفى : أمان مرجع سابق ص: 47 5 - شفيق محمد : من أجل مغارب مغاربية ص: 1676 - نفسه ص: 168 7 - المعقوفات من عندي8 - من أجل مغارب مغاربية 9 أوعشي مصطفى : أمان مرجع سابق ص : 4010- حامة مولاي يعقوب تبعد عن ميدنة فاس المغربية بحوالي 15 كيلومترا. 11 - أنظر مقالنا: « نبش في الميتافيزيقيا الأمازيغية» جريدة تاوينزا المغربية عدد 104
أقول في جنوب المغرب طلبا للمطر يتم ترديد: « titrit rzemd i naman» بمعنى « أيتها النجمة أمطري الأرض « و في هذا استمرارية لتعظيم النجوم في المعتقدات الأمازيغية». 12 Moha Abehri : « être ou ne plus être » p : 102 13 Ibid p : 10214 Laouste (E): Mots et choses berbères p : 237 15 « être ou ne plus être » p : 10316 Ibid p : 10 1- Ibid p :10 17 - أوعشي مصطفي: آمان مرجع سابق ص: 4718 - نفسه ص: 48 19 - نفسه ص: 4820 - شفيق محمد : من أجل مغارب مغاربية ص: 177 مرجع سابق 21 - أوعشيمصطفى : آمان مرجع سابق ص: 5322 - من أجل مغارب مغاربية ص: 170 23 - رقصة أمازيغية خاصة بالنساء فقط تشبه رقصة أحيدوس24 - رقصة أحواش هي نفسها رقصة «أكان» إلا أنها خاصة بالرجال 25 توجد آثار لمصنع يرجع إلى عهد الملك بويا، كان يستخدم لتلميح الأسماك و الزيتون.26 - عالم المعرفة: تاريخ الملح في العالم: عدد 320 ص: 27 - نفسه ص: 3428 - نفسه ص: 35 29 - نفسه ص: 37-3830 - من أجل مغارب مغاربية ص: 168 31 - نفسه : ص: 17732 - تاريخ الملح في العالم ، مرجع سابق ص: 42 33 - نفسه ص: 4134 نفسه ص: 41
|
|