|
مجموعة بنعمان: دراسة تاريخية تحليلية وفنية (الجزء الأول) انجازا لطالب : الباز الحسن توطئة: لم تحظ الأغنية الشعبية الأمازيغية بالدراسة والتدوين والجمع من طرف المؤسسات الرسمية، بل بقيت الأغنية الريفية على وجه الخصوص ردحا من الزمن مهمشة ومقصاة، بل صارت وصمة عار، محل شبهات، هيمنت فيها التعابير التي تفيد التجريح، لارتباطها بالفئات الاجتماعية المحرومة، والمدرجة ضمن أسفل الهرم الاجتماعي، مع الفلاحين والرعاة والمزارعين... لذا بقيت هذه الأغنية تعبر عن آمال وآلام الفئات الشعبية التي تعاني الويلات من فقر، غرية، واغتراب وحرمان... فظلت لصيقة بالواقع المعاش، ملتزمة بقضاياها اليومية، انشغالاتها الآنية. كل هذه التعبيرات كانت تتسم بطريقة شفوية حيث ظلت الكتابة في يد الطبقة المهيمنة، فسلبتها حق التعبير باعتبارها من المشوشات على الوحدة الوطنية التي لا تقر بالتنوع والتعدد إلا في إطار الاستعراضات الفلكلورية والسياحية. إن الخاصية الجوهرية التي تميز الشعر الأمازيغي هو ارتباطه بمجال الغناء، إذ هو شعر مغنى بالدرجة الأولى، ومرتبط بالطبقات الدنيا من المجتمع، التي عانت من شتى أنواع الاضطهاد- وهكذا فإن الشعر المغنى طبعا هو «شعر الرعاة، شعر الحصادين، شعر أبناء وبنات الفلاحين التي تسيل أيديهم دما، وجباههم عرقا بحثا عن لقمة الخبز وكومة حطب، إنه شعر المهاجرين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى مستغانم ووهران وعين الترك في الجزائر... إنه شعر الأرامل اللائي فقدت أزواجهن في جبهات القتال والذين ساقهم الجنرال فرانكو في أحلك سنوات الريف لخوض الحرب الأهلية... إنه شعر الآلاف من العاطلين... إنه شعر الدموع والأحزان، دموع المهاجرين المغتربين بأسرهم في سبيل لقمة الخبز، يعانون من الاغتراب الذاتي والمكاني ومن الانفصال الحضاري... إنه بكل اختصار أشعار الناس الطيبين»1 I-إطلالة موجزة عن تاريخ الأغنية الأمازيغية: 1-1- مرحلة ما قبل الاستعمار. إن تاريخ الشعب الأمازيغي كان حافلا بالصراعات والنكسات والحروب وما خلفته من دمار واستغلال من جهة، وما خلفه الجفاف من جهة أخرى، فوجدت أن الشعر المغنى (إزران2) من أحسن الوسائل»في التعبير عن البكاء والحزن والجن3». وكانت تقدم هذه الأهازيج في صورة احتفالية، يصاحبها الرقص، وخصوصا رقصة الصف، ويتميز «بكونه جماعيا مثل أحيدوس والأحواش، وبكونه متحركا صفا أو استدرايا التوائيا من أسفل إلى أعلى مثل حركات الأفعى4وأكثر ما يحركها هو الإيقاع الذي يعتمد على ضرب الكف والقرع والنقرعلى آلة»ادجون» الذي يمثل الجانب الإيقاعي (الدف) وهو عبارة عن دف دائري الشكل، مصنوع من خشب يلصق عليه جلد سميك، يتوسطه خيطان مطاطيان قويان يساعدان على تحقيق ضخامة الصوت»5 وهكذا يبقى الغناء يتراوح بين الصف الأول والثاني الذي يقابله، وهو ما يمثله الجانب الصوتي (إزران)، بالإضافة إلى الجانب الجسدي (الحركي)، التي تعتمد أساسا على تحريك الكتفين والصدر والأرجل6، إذ أن من تقاليد الأمازيغين العريقة الجمع بين الرقص الجماعي والغناء والذي اعتبره أحد الباحثين أنه من إيحاء تموجات السنابل... أو الكثبان في الصحراء، أو تلألؤ سراب الجبال في الأفاق» 7وهكذا تتظافر هذه الأبعاد الثلاثة (الإيقاعي، والحركي، والصوتي)، لتعطي لنا لوحة حضارية تميز هذا الشعب عن سواه، فنراه يحتفل في مناسبات الأفراح (خصوصا الزواج) وفي بعض المواسم «كسيدي شعيب انفتاح» أو الانتهاء من بعض الأعمال الفلاحية (كالحصاد والحرث)، وهذا النمط تغلب عليه الصبغة الجماعية سواء في الإنتاج، أي الإيقاع أو الأداء، وهذا النمط من الأغنية تكون «مجهولة النشأة، ظهرت بين أناس أميين في الاستعمال لفترة ملحوظة من الزمن8»، وهذا ما يميز هذه الفترة - أي ما قبل الاستعمار، حيث كان الفرد ينصهر في الجماعة ويؤول إليها، ويشاركها همومها وأحزانها. 1-2: من مرحلة الاستعمار إلى حدود السبعينات: وتلي المرحلة الأولى مرحلة الاستعمار. مرحلة النضال والجهاد ضد المستعمر، فواكبت الأغنية هذه المرحلة تآزرا وتشجيعا وتغنيا وتعبيرا عن الوقائع والأحداث، ونخص بالذكر هنا الشيخ علال نتمسمان، والشيخ محند نتمسمان، اللذين كانا يوظفان في أغانيهما “الأغنيج”9 كأساليب وصور رائعة قائمة على استلهام الماضي المشرق، بغية شحذ العزائم والهمم، لإبطال مؤامرات الأعداء بالإضافة إلى أدوار أخرى، فالشعر الشفوي لا يقوم فقط بالدور السياسي في تحميس الجماهير كما يفعل”أمذياز” وخاصة المتجول منه في توعية القبائل وحثها على الجهاد ضد المستعمر بل يقوم هذا الشعر بدور مهم في بناء المجتمع لارتباطه بالعمل والإنتاج”10 وكانت هذه الفرق الغنائية تستعمل آلات النقر كالبندير، ثم آلات النفخ كآلة الزامر وهي عبارة عن”مزمار قصبي يتكون من قصبتين متوازيتين توضع في رأسها زمارتان قصبيتان صغيرتان وفي أسفلها قرنا بقرة يساعدان على تضخيم صوت الآلة، أما القصبتان المتوازيتان فتساعدان على تحديد الإيقاع انطلاقا من ست ثقب في كل واحد منهما، فضلا عن ثقب واحد في كل واحدة أيضا في الجهة السفلى11. بالإضافة إلى آلة الغايطة: وهي “عبارة عن مزمار خشبي له فتحة ضيقة في الأمام، وفتحة واسعة في الخلف، وتوضع في الفتحة الأمامية، زمارة صغيرة ينفخ فيها 12ويشترط أن يتوفر النافخ فيها على نفس قوي. وكذلك آلات الناي وتسمى بالأمازيغية (ثامجا)، وهي آلة قصبية يبلغ طولها ذراعا، وهي “كلمة فارسية تعني القصب (أي الناي)... وسيصنع شعراء صنهاجة المعروفون باسم “إمذيازن” مزمارا ذا قصبة يسمى “بوغانيم” ويعتبر الناي الآلة الشجية الأكثر شيوعا في سائر مناطق المغرب، حتى قيل: إن الناي أداة الحب”13إلا أن هذه الفرق سرعان ما ساهم عهد”الحماية المظلم والانحراف الخلقي لدى القواد والحكام الذين بثتهم عيونا وأعوانا لها في البوادي والقرى... فانقطع شعراء إمذيازن عن ترديد الأغاني الحماسية والبطولية واستعاضوا عنها بأغاني المدح والتزلف والمجون الساخر، وهجروا آلة المزمار واستعاضوا عن المنشدين بنسوة يرددن المقاطع الغنائية ويرقصن على وقعها في حركات منافية للآداب”، مما غلب على هؤلاء فيما بعد اسم “الشيوخ” و”الشيخات” وصار عملهم يقتصر على التكسب ليس إلا. وكل هذا ساهم مع دور الفقهاء في القول بتحريم السماع، أي (الغناء...) في تشويه هذه الفرق حتى صارت كرمز إلى الذل والاستهتار واتباع همزات الشياطين. ثم شهدت مرحلة الخمسينات تغييرا شكليا “يتمثل في إدخال بعض الآلات الوترية في الغناء التي لم تكن داخله في التشكيلة الموسيقية للغناء الريفي من قبل، مثل البانجو الذي ادخله الفنان شعطوف، أول من وظف اللارموني* في أغانيه بشكل جيد، والكمان والعود14 وكما يمكن أن ندرج الفنان مذروس15، الذي حافظ على خصوصيات الموسيقى الريفية وكذلك فاظمة العباس16التي كانت تغلب على أغانيها النفحة الدينية، وكذلك نجد الفنانة يمينة الخماري التي أضافت عتبة في مجال الغناء معتمدة على صوتها الجميل”الذي يمتاز بنبراته الأهلية، المتجذرة في التراث القديم مستعملة آلة الكمان في شكلها”17التقليدي. و بعد هذه المرحلة يأتي جيل التقليد، جيل السيتنات، إذ لم تظهر أي مساع جادة يمكنها أن تؤدي إلى إحداث القفزة النوعية، إذ ما ميز جيل هذه المرحلة، هو الانفتاح على”تجارب” المشارقة والأسبان وأمازيغي القبائل في الجزائر بحكم القرب الجغرافي” 18. ويمكن إدراج فريد الناظوري، و محمد الناظور وميمونت نسلوان، وصباح بني سيدال... في هذه المرحلة، أي مع موجة المحاكاة والتقليد مع الحفاظ على الآلة (كالدف، ثامجا، الزمار...). وهذا ما يعطي للأغنية طابعا أصيلا، رغم هشاشة الموضوعات التي كانوا يتناولونها.191-3-مرحلة السبعينات، مرحلة الوعي الفني: حاول الفنان في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الأغنية، أن يعيد الاعتبار لنفسه، عن طريق تسييس المضمون المغنى، وتطوير واستعمال الآلة العصرية إذ أن “ما يربط الإنسان الأمازيغي بالريف هي صفة الفنان artiste بمدلوله العصري، فالأمازيغي عندنا يغني بتلقائية فائقة في مختلف المناسبات" دون أن يضفي على نفسه صفة الفنان الذي تمنعه بيئتنا وثقافتنا التقليدية بالريف"20. وهكذا ظهرت أغنية جديدة، مواكبة للمستجدات، عن طريق الحديث عن القضايا اليومية والهموم القومية والوطنية والإنسانية بصفة عامة، وهذا ما خلفه الانتشار الكاسح لثقافة الالتزام ونزعة التحرر الإنساني اللتين حملتهما رياح الفكر الوجودي والماركسية التي استوطنت عقول وقلوب الشبان المغربي. في ذلك المناخ شهدت الساحة الفنية في الريف انبعاثة جديدة للأغنية الأمازيغية وضعت الإطار الجديد للغناء والموسيقى وللفن عموما"21ولكن هذه المحاولة لم تأت لتغض عن الماضي وعن التراث، بل جاءت تستلهمه وتبحث فيه على نماذج خالدة، تثبت للأغنية الأمازيغية أصالتها وبالتالي تفردها، كالنهل من الطبيعة والبيئة، وترديد بعض اللازمات والأهازيج القديمة، ولعل أبرزها ذكر القالب الوزني، "أيورا لايورا أيورا" سواء كافتتاحية للأغنية أو خاتمة لها، لتعطي لها الخاتم الذي يميز الأغنية الريفية عن سواها22. فظهر خلال هذه الفترة الذهبية فنانون أفراد أمثال، الوليد ميمون ومحمد الطوفالي الذي استعمل آلة القيثارة ولارمونيكا... ليخلفهم جيل جديد حمل لواء الأغنية الريفية الجادة والعصرية كالفنان خالد إزري، وبوعفة (أياون)، وشيلح علال، وسوليت... هذا على مستوى الأفراد. أما على مستوى المجموعات الغنائية، وهي على نمط فرقة "بنعمان" قيد الدراسة، إذ ظهرت مجموعة من الشباب المتعلم ذي ثقافة تقدمية في الغالب الأعم، معظمه من الرجال، حيث قاموا بالثورة على الشكل الغنائي الكلاسيكي الفردي، وقامت بمواجهة العقبات المفروضة من طرف الجهات الرسمية منها23. 1- فرق الطابو المتمثل في الحصار المضروب على الثقافة الشعبية 2- تخليص هذه الثقافة من الطابع الاستهلاكي السياحي وإنقاذها من الفكلورية المتحفية التي فرضت عليها. 3- كسر أسطورة نخبوية الثقافة بإفساح المجال أمام فئات الشعب لممارسة الثقافة تلقيا وإبداعا. وكما ينتمي عناصر هذه المجموعات إلى الطبقات المسحوقة التي حاولت أن تخلق منتميا إليها، يعبر عن آهاتها وآلامها، وتجعل من هذا الشعر المغني سلاحا حادا موجها للتحريض والتوعية، وهذا الشكل الفني كان بمثابة "بشارة لكل المقهورين"24، وركزت هذه الفئة على الكلمة أولا، لأن الذوق الأمازيغي المغربي بصفة عامة مازال ينفعل مع الكلمة أكثر من انفعاله بالموسيقى25، ثم ركزت على النغمة الموسيقية ثانيا. أما الآن فيجمل بنا ذكر أهم الظروف التاريخية والثقافية التي ساهمت في مجموعة "بنعمان". * إحساس أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية بالخيبة والقلق والبؤس والتمرد، خصوصا عند ما رأت طموحاتها وآمالها تتبدد وتضمحل، ولم تستفد البتة من التطور الصناعي والتكنولوجي، الذي تم على حساب إنسانية الإنسان نفسه، وهذا ما عكسته نظريات فلسفية وفكرية كالاستلاب والاغتراب والتنبؤ والفردانية، وكما اجتاحت أوربا وأمريكا موجة من "الهبيين" بمختلف مظاهرها26. * أما على المستوى العربي، فقد زلزت هزيمة 1967 العقول والعواطف، التي ألقت بظلالها على المستوى الوطني، الذي جعلته يعيش حالة الترقب والقلق، بالإضافة إلى الصراعات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن سوء التدبير بعد الاستقلال27. كل هذه الظروف أدت إلى تجارب موسيقية تعبر في عمقها عن واقع المجتمعات الغربية وتركبيتها النفسية، وهكذا ظهرت الفرق الغنائية الأولى بالمغرب من أمثال، إزنزارن، جيل جيلالة، ناس الغيوان، المشاهب، أوسمان... إلا أن المجموعة التي كان لها بالغ الأكثر على ظهور مجموعة من الفرق الغنائية بالشمال الشرقي، هي فرق ناس الغيوان، التي اقتحمت الحدود بأغانيها التي استفادت من تجارب (كناوة- حمادشة- عيساوة- الروايس...)28 وهو معين لا ينضب من الألحان والأنغام التراثية؛ إلا أن بدايتها هي كانت أكثر نجاحا شأن كل بدايات الإبداع الخالد. وهكذا فإن فرقة "بنعمان" قد نحت منحى الأغنية الغيوانية، سواء على مستوى الآلات المستعملة (الدف، الطامطام، البانجو..)، أو الكلمات، فكانت تحمل هموم الفئات الدنيا، يغلب عليها طابع التسيس، خصوصا مع ظهور جمعيات ثقافية ذات أبعاد تقدمية مثل الجمعية الثقافية بالناظور، وجمعية إشعاع الريف بالحسيمة. إلا أن القاسم المشترك الذي يجمع مواضيعها هو تيمة الحزن والمعاناة، والاغتراب... وكذلك على مستوى الأداء التي تميز بالأداء الجماعي. التعريف بمجموعة "بنعمان":1- مصطفى هلهول: من مواليد 1959، ويشغل وظيفة مدير مدرسة ابتدائية بأزغنغان، وتقتصر مهمته على الضرب في البندير مع الغناء. 2- أحمد بنجيلالي: من مواليد 1958، مدير مدرسة ابتدائية وتقتصر مهمته، على الضرب في الطامطام مع الغناء وكتابة الشعر المغني، لتغنيه المجموعة. 3- الفنان صالح بوعزير: من مواليد 1958، وهو أستاذ للتعليم الابتدائي، وتقتصر مهمته على الضرب في البندير مع الغناء. 4- عباده عبد الإله: من مواليد 1958، وهو أستاذ التعليم الابتدائي، وتقتصر مهمته على الضرب في البندير مع الغناء. 5- عبد الرحيم وردي: من مواليد 1958، مهنته نجار، تقتصر مهمته على الضرب على آلة البانجو. وكانت لهذه الفرقة عدة مشاركات سواء على الصعيد الأوربي والوطني منها: + مشاركة في مهرجان من تنظيم "جمعية أصدقاء وليس أعداء" ببلجيكا سنة 1995. + مشاركة في مهرجان الرباط 2004. + تسجيل مع TV.2M، سنة 2003 برنامج نجوم الريف. + مشاركة مع مركز طارق بن زياد (إملشيل: 2002/ ميدلت2003/ الحسيمة 2004). + مهرجان طنجة من تنظيم جمعية Tawisa، 2005. + إحياء ذكرى تأسيس IRCAM بمسرح محمد الخامس.
III- الدراسة الموضوعية والفنية: (يتبع في العدد القادم) |
|