|
مولاي محند والحركة الريفية (الجزء الثاني) بقلم: القجيري محمد الحركة الريفية الأمازيغية في مواجهات القوات الأمبريالية: مباشرة بعد قيام ثورة الريف الأمازيغية التي شاركت فيه 66 قبيلة تحت العلم الريفي، أسس مولاي محند جيش الريف، وكان هذا الجيش يتكون من حركة القبائل، وسمي «حركة» نسبة إلى جيش كل قبيلة، وإلى جانب جيش الحركة كان هناك جيش نظامي مسلح يتألف من الحراس بعمامة خضراء ومن المشاة بعمامة حمراء والضباط بعمامة حمراء ومن 300 مدفعي ورشاش بعمامة سوداء. بفضل هذين الجيشين الريفيين استطاع مولاي محند أن يحرر عدة مناطق ريفية كانت تحت الاحتلال الإسباني وباستعمال حرب العصابات بعبقرية فذة ونادرة جدا في العالم. وللإشارة هنا فقد عرف جيل حرب العصاباب في الريف بـ «عام الريفيين». إذن بطريقة حرب العصابات استطاعت القوات الريفية بقيادة مولاي محند رائد حرب العصابات أن يسحق الجيش الإسباني في عدة معارك بطولية أهمها معركة أدهار أبران، أنوال، إغريبن، تيزي عزا، سيدي إدريس، أخشاب أومغار، سيدي إبراهيم، تغساست ن بومجان، ثم مناطق محاذية من تفارسيت إلى حدود أعروي... وبطبيعة الحال مع توالي الانتصارات المتكررة للحركة الريفية الأمازيغية على القوات الإمبريالية الإسبانية، جعلت الريفيين يسارعون إلى تحقيق استقلال الريف ويطالبون المنتظم الدولي بالاعتراف بأول دولة أمازيغية في العصر الحديث. وفي هذا الصدد تقول إحدى التقارير الرسمية: «إن انتصارات عبد الكريم، تدغدغ كبرياءهم العرقية حتى أنها تجعلهم يتأملون بتحقيق الاستقلال الكامل»( 17). وفي أوج قوة الريفيين سيرتكب مولاي محند أعظم أخطائه في حرب الريف التي ستنعكس على المنطقة بأكملها، ففي سنة 1924 عندما انهزم الجيش الإسباني أمام أبواب تطوان، وكانت الجيوش الإسبانية على وشك السقوط والاستسلام، كان الجيش الريفي على أهم الاستعداد لشن هجومه النهائي المزدوج في اتجاه مليلية وفي اتجاه تطوان غربا نحو سبتة لطرد الاستعمار الإسباني من آخر معاقله هناك. ارتكب مولاي محند أفظع أخطائه الحربية إذ أنه اضطر فجأة وفي الوقت ذاته في فتح جبهة ثالثة، هذه المرة مع فرنسا التي كانت تضم آنذاك أقوى جيش في العالم. في ظروف غير مناسبة أقل ما يقال عنها إنها غامضة. هذا إذا علمنا هنا أن عددا لا باس به من الريفيين آنذاك كانوا لا يريدون فتح جبهة قتالية مع فرنسا إلا بعد تحقيق الانتصار الكامل على اسبانيا. وفي علاقة بهذا الموضوع تقول إحدى التقارير الاستخبارتية الفرنسية: «إن القايد علي بن حدو كان يجسد داخل الريف التيار الذي يدعو إلى الحياد تجاه فرنسا لمقاومة الأسبان»(18). لقد أخطأ مولاي محند حينما فتح جبهة ثالثة وحاول أن يواجه دولتين عظميتين في آن واحد، في ظروف صعبة وحساسة جدا ليست في صالح الريف. وتسبب بذلك في استسلامه وسقوط دولة الريف الأمازيغية. وفي هذا الصدد يقول دافيد هارت: «لقد ارتكب القائد الريفي في عام 1925 إحدى أفظع أخطائه الإستراتيجية والتكتيكية حينما اقتحم في أواسط أبريل من نفس السنة المنطقة التابعة للاحتلال الفرنسي وتسبب في استسلامه بعد ذلك بثلاثة أشهر للقوات الفرنسية يوم 27 مايو 1926، بعد مقاومات طويلة» (19). لقد كان بإمكانه لو لم يتعرض للقوات الفرنسية الاستعمارية في جنوب الريف أن يطرد الاستعمار الاسباني من بلاد الريف بأكمله وحتى من مدينة مليلية، التي لم يستغل تلك المعركة ويقود جيشه إليها لتحريرها من الاستعمار الاسباني الذي احتلها منذ سنة 1479 حتى يومنا هذا. أخطأ مولاي محند حينما منع جيشه الذي كان في أوج قوته آنذاك من الزحف والهجوم على مدينة مليلية، وقد اعترف مولاي محند بنفسه في هذا الصدد بقوله: «بعد انتهاء معركة العروي أصبحت على مقربة من مليلية، فوقفت عندها، ولم أتقدم إليها وأحاصرها. ثم يضيف ويقول: لقد أمرت جيشي بعدم التعرض لمليلية، مخافة إحداث مشاكل دولية، وإني آسف لذلك، فإن هذا الأمر كان خطأ كبيرا مني، أجل لقد أخطأت خطأ عظيما بعدم اقتحام مليلية، فقد كان بإمكاني دخولها دون معارضة قوية، وكان رجالي في ذلك الحين قد غلبهم المرح والزهو بانتصاراتهم على الاسبانيين، حتى لقد راحوا يحسبون مهاجمة مليلية نزهة وملهاة، لقد كان ينقصني في هذا الوقت ما يسمونه «بعد النظر السياسي»، خصوصا وقد ظهر لي بعد ذلك أن الأخطاء التي وقعت كان سببها عدم استلائي على هذه المدينة. وقد كان بإمكاني أن أفعل ما أريد» (20). وفي الموضوع نفسه يقول فنسان مونتاي: «إن الخطأ الذي ارتكبه عبد الكريم بانسحابه من النقطة القوية المتمثلة في مليلية رغم أنه سيطر عليها منذ 1921. وخصوصا في أن عبد الكريم قد عرف مصير معظم الرواد، أي أولئك الذين كانوا على حق بشكل مبكر جدا»(21). أما بخصوص الخطأ الثاني الذي ارتكبه مولاي محند المتعلق بالحرب الريفية الفرنسية التي اندلعت في جنوب الريف بسبب النزاع عن الحدود بين الجمهورية الريفية ومنطقة الحماية الاستعمارية. فقد زحفت القوات الريفية في يوم 2 يوليوز 1924 على جنوب الريف لتحرير بعض أجزائه المحتلة، وكانت مدينة تازة على وشك السقوط في أيدي جيش التحرير الريفي لولا خيانة بعض القبائل الريفية المحاذية لتازة. ونفس الشيء بالنسبة لمدينة فاس التي كانت هي أيضا على وشك السقوط في قبضة الريفيين إبان الحرب الريفية الفرنسية المدعمة بالقوات المخزنية والمعروفة بحرب الأشهر الثلاثة بداية من شهر مارس 1925. ففي أواخر شهر أبريل من نفس السنة زحف مولاي محند نحو مدينة فاس على رأس 30 ألف مقاتل ريفي وحرر عدة قبائل على تلك الواجهة. كما حاصر مدينة فاس التي لم تكن تفصل عنه سوى أقل من 30 كلمترا، وكانت مهددة بالسقوط في أية لحظة في حكم الريفيين. لولا خيانة بعض زعماء القبائل المحاذية لفاس الذين تحالفوا مع الاستعمار الفرنسي ضد ثورة الريف الأمازيغية. لقد استطاع الاستعمار الفرنسي أن يرشي ويستميل إلى جانبه عددا من زعماء القبائل في جنوب الريف وفي مقدمتهم القائد المذبوح قائد إكزناين، هذا الأخير بإيعاز من فرنسا استطاع أن يقنع قائد إمرنسان عمار بن حاميدو، وأيضا قائد إمطالسن بالوقوف إلى جانب الاستعمار الفرنسي للقضاء على جيش التحرير الريفي. ومن جهة أخرى، كانت هناك عدة زوايا صوفية تحارب إلى جانب الاستعمار الفرنسي والاسباني، وفي مقدمة هذه الزوايا، الزاوية الدرقاوية التي كان يرأسها الخائن الشريف عبد الرحمن الدرقاوي وهو محمي فرنسي قائد قبيلة آيت زروال، والذي كان منذ السنوات الأولى من الحماية يقدم الدعم المتواصل للاستعمار الفرنسي. فبفضل نفوذه الديني الذي كان يمارسه في الريف استفادت منه فرنسا واسبانيا بشكل جيد في التوغل داخل الريف، وعلاوة على الزاوية الدرقاوية كانت هناك أيضا الزاوية الوزانية. وهاتان الزاويتان ساندتا كذلك الاستعمار الاسباني ضد ثورة الريف. وإلى جانب هذه الزوايا العميلة، نجد أيضا الزاوية الكتانية والزاوية الناصرية والزاوية التيجانية، وهذه الأخيرة سبق أن ساندت كذلك الاستعمار الفرنسي ضد ثورة الأمير عبد القادر الجزائري. وعن الدور الذي لعبته هذه الزوايا في إفشال ثورة الريف، يقول مولاي محند: «كان التعصب الديني أعظم أسباب فشلي إن لم أقل أنه سببه الوحيد، لأن مشايخ الطرق أعظم نفوذا في الريف»(22). وفي سياق التحرك الفرنسي لحشد الأنصار إلى معسكره ضد ثورة الريف، قام بعض أهل فاس، خاصة رجال الحركة البرجوازية الذين يحملون الجنسيات الأجنبية والمحميون من طرف بعض الدول الأمبريالية، والذين سيصبحون فيما بعد رموزا وطنية ومقدسة في التاريخ الرسمي للمغرب، يحرضون الناس ضد مولاي محند وينعتونه «بالروكي» و»الفتان» وغيرها من الأوصاف القدحية، كما كانوا يصفون جنود جيش التحرير الريفي بأنهم برابرة همج خرجوا للسلب والنهب. وبنفس الأجواء تقريبا، كانت هي الأجواء عن حرب الريف في الجهة الغربية للريف. وبالضبط في مدينة تطاوين الريفية التي كانت محاصرة من طرف القوات الريفية والتي كانت تعتبر آنذاك عاصمة الحماية الإسبانية منذ احتلالها في سنة 1913. لقد كان المورسكيون هناك يحرضون الناس ضد ثورة الريف الأمازيغية ويساندون الاستعمار الاسباني. هكذا كان أعيان المخزن والإقطاعيون ورجال الحركة البرجوازية الأندلسية أحفاد المورسكيين يحرضون الناس ضد الريفيين وينزعجون من انتصار الريفيين ويبدون في الوقت نفسه قلقهم من انهزام الاسبان أو الفرنسيين الذي كان يعني ما يعنيه فقدانهم للمناصب والمراكز التي حصلوا عليها إبان تعاونهم مع الاستعمار. وفي هذا الصدد لا نستغرب إذا قلنا إن بعض هؤلاء المرتزقة الذين سيسمون فيما بعد قسرا بالوطنيين كانوا في سنة 1922 يحملون الأعلام ويتذرعون إلى الله لعل وعسى أن يشفي قائد الجيوش الفرنسية المحتلة لأرض تمازغا المارشال ليوطي صانع المغرب المخزني الحديث وأول مقيم فرنسي عام بالمغرب من مرضه الذي أصابه خلال إقامته بقصر بوجلود بفاس. طبعا كل هذه الأعمال المشينة جعلت مولاي محند يتحرك ويفضح أعمال الخونة. وقد قام في هذا الصدد بعدة تحركات ينتقد فيها بشدة أعمال الخونة. كما انتقد كذلك سلطان المخزن مولاي يوسف في رسالة بعث بها إلى قاضي تطوان، تتضمن نقدا عنيفا جدا لسلوك الخونة وفي مقدمتهم مولاي يوسف وعددا من العلماء الأوسع شهرة لأنهم تعاملوا مع نظام الحماية وحرضوا الناس ضد ثورة الريف. بهذا الشكل إذن كانت هي أجواء حرب الريف التي تحالف فيها الاستعمار الخارجي مع الاستعمار الداخلي ضد ثورة الريف، لكن بالرغم من ذلك لم يصمد الاستعمار الخارجي أمام الزحف الريفي القوي الذي كان يواصل هجوماته الشرسة على معسكرات جيش الاستعمار، وحرر إذاك عدة قبائل محاذية لفاس، والتي كان يسيطر عليها الخونة، الذين هربوا بعد ذلك مباشرة إلى فاس واحتموا بالاستعمار الفرنسي الذي اكتفى بالدفاع. وبالتالي أصبح تواجده بالمنطقة في خطر، لقد كان الاستعمار الفرنسي آنذاك مهددا بالانسحاب والخروج من البلاد لولا قيامه في اللحظات الأخيرة بإبرام اتفاق تحالفي مع إسبانيا التي كانت هي أيضا على وشك السقوط أمام الريف. وبالفعل تشكل تحالف دولي إمبريالي شمل اسبانيا وفرنسا والمغرب (مراكش سابقا) ضد دولة الريف الأمازيغية الناشئة، ثم قامت فرنسا بحشد مئات الألوف من الجنود المسلحة بأحدث وسائل القتال من الطائرات والدبابات والرشاشات... إلى جنوب الريف بقيادة المارشال بيتان الذي اكتفى في البداية بإعداد خطة الدفاع في انتظار قرار التحالف. والذي سبق له أن أحرز نصرا كبيرا في معركة فردان خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد مدة قصيرة أرسلت الحليفتان فرنسا واسبانيا مبعوثهما إلى الريف كابرييلي لإبلاغ الحكومة الريفية أن التحالف يريد إجراء مفاوضات أخيرة مع الريف من أجل إيقاف الحرب في مؤتمر سينعقد في وجدة وأن فرنسا واسبانيا لن تتفاوض مع الريف إذا أصر الوفد الريفي على الاعتراف باستقلال الريف. وبالطبع انعقد مؤتمر وجدة بحضور الوفد الريفي، غير أنه مباشرة بعد أن افتتح مؤتمر وجدة أشغاله بدأت تظهر بوادر الفشل خصوصا بعد أن أصر التحالف أن لا يفاوض الريف بصفة دولة ذات سيادة وأيضا أن لا يقبل التفاوض مع الوفد الريفي إن لم تقبل الشروط التالية من طرف الريفيين: -يان: الخضوع للسلطان. -سين: إبعاد مولاي محند. -كراض: تبادل الأسرى. -كوز-تجريد القبائل من السلاح مقابل ضمانات ستحدد. لقد كانت هذه الشروط التعجيزية أو بالأصح شروط الاستسلام التي رفضها الوفد الريفي وأصر على الاعتراف باستقلال الريف مقابل السلام والتي كان يزعم بها التحالف الدولي أنه يراد منها إيقاف الحرب وإحياء السلام بالمنطقة. كان غرضها في حقيقة الأمر استئناف الحرب خصوصا بعدما تيقن الاستعمار الإسباني-الفرنسي من انتصاره في حرب الريف، فالحسابات الحربية الإستراتيجية آنذاك كانت تشير إلى انتصار التحالف الامبريالي الفرنسي-الاسباني سيما وأن هذا التحالف كان مدعما من قبل عدة دول امبريالية عظمى أخرى. فتجريد السلاح من القبائل ونفي مولاي محند كان أمرا مستحيلا تحقيقه الذي كان يعني تفكيك الدولة الريفية الأمازيغية ومن ثمة إدماج الريف في كيان الحماية الإسبانية وهو أمر مستحيل كذلك. يستحيل أن يقبله الوفد الريفي. وبهذا يمكن القول إن مؤتمر وجدة أو مؤتمر طبول الحرب لم يكن في حقيقة أمره سوى من أجل تلميع صورة التحالف الفرنسي-الاسباني أمام المنتظم الدولي وأيضا من أجل الحصول على الشرعية الدولية من هيئة الأمم المتحدة التي كانت تحت السيطرة الإمبريالية آنذاك للقيام بهجوم عدواني آخر على دولة الريف الأمازيغية التي كانت تهدد تواجد الاستعمار الفرنسي-الاسباني في غرب تمازغا. وعن هذا الموضوع يقول جورج أوفيد المستشار الاقتصادي والمالي للحكومة المغربية من سنة 1956 إلى 1961 قائلا: «لا الحكومية الفرنسية، ولا الحكومة الإسبانية كان بإمكانهما احتمال وجود ريف موحد تعتبرانه تهديدا كامنا لإقامتها في إفريقيا الشمالية. فرق تسد لقد كان <تفكيك الكتلة الريفية> هو الهدف الذي يقصده العسكريون كما <السياسيون> ثم يضيف ويقول لقد احترس القادة الفرنسيون من الكشف عن نواياهم إلى حين انعقاد مؤتمر وجدة»(23). هكذا فشل مؤتمر وجدة، وقاد التحالف الامبريالي الحرب ضد الريفيين التي شارك فيها جنود مغاربة وأفارقة بالتنسيق مع القوات الفرنسية والإسبانية التي قادت هجوما ضخما جدا على الريف استعملت فيه أسلحة جد متطورة والأكثر فتكا في العالم كالغازات السامة بقيادة أشهر عشرات المارشلات والجنرالات في العالم آنذاك، وعلى رأسهم المارشال بريمودي ريفيرا الذي قاد انقلابا على الملك ألفونسو الثامن في يوم 13 شتنبر 1923 والجنرال سان خورخو من القيادة الإسبانية والمارشال بيتان بطل الحرب العالمية الأولى والجنرال نولان من القيادة الفرنسية، وقد أورد في هذا الصدد أنطوان بيني وزير الخارجية الفرنسي أمام البرلمان خلال النقاشات عن حجم القوات الفرنسية التي يجب حشدها ضد ثورة الجزائر ما يلي «لقد كلفتنا، فيما سبق، حرب الريف سنة 1926 استنفار 325.000 جندي بينما لم يكن يتوفر لعبد الكريم (على الجبهة ضد فرنسا) إلا فرقة واحدة من قبيلة بني إزناسن يبلغ تعداد أفرادها حوالي 75000 رجل: المسلحون منهم 20000 رجل. وقد كان لدينا على خط النار 32 فرقة عسكرية و 44 سربا على رأسها، و60 جنيرالا بقيادة الجنيرال بيتان و(للعلم) فإن هذا الجيش الفرنسي هو الذي خرج منتصرا من الحرب العظمى 1914-1918 كما أن هذا الجيش يعد مدرسة في الجندية، هذا وقد دعمه أربعة أخماس من السكان المغاربة الذين قدموا 400000 جندي إضافي...» (24). هذا من جهة، أما من جهة القيادة الإسبانية فقد تشكلت من 250 ألف مقاتل و40 سربا من الطائرات و25 جنرالا على رأسهم بريمودي ريفيرا. وهذه الإحصائيات عن القوات الفرنسية والإسبانية الواردة أعلاه منقولة من مداولات الجمعية الوطنية الفرنسية التي نشرت في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 يونيو 1956. وخلال الغزو الاسباني-الفرنسي على جمهورية الريف حوصر جنوب الريف من طرف القوات الفرنسية-المغربية بقيادة المارشال ليوطي والمارشال بيتان بأكثر من 32 لواء أي أكثر من 6 جنرالات وحوصرت أيضا سواحل الريف من طرف اسبانيا بأسطولها الحربي المتكون من 111 سفينة غطت طول البحر الأبيض المتوسط بقيادة الجنرال فرانكو. وفي أواخر شهر شتنبر وبداية أكتوبر من سنة 1925 نزلت القوات الإسبانية بخليج الحسيمة شاركت فيه 36 سفينة حربية من بينها حاملات طائرات و 10 طائرات محملة بالقنابل الكيماوية والهيدروجينية و63 سفينة محملة بالجنود الإسبان الذين كانوا يضعون الأقنعة الواقية من الغازات السامة. والجدير بالذكر هنا أن اسبانيا كانت قد وضعت آنذاك مخططا جهنميا عندما أطلقت سراح عدد كبير من السجناء الريفيين والمغاربة الذين كانوا يتواجدون في سجون العرائش وتطوان ومليلية وسبتة... وأبحرتهم في في اتجاه الحسيمة ثم وضعتهم كدروع بشرية خلال الإنزال بخليج الحسيمة والزحف نحو العاصمة الريفية-أجدير-التي سقطت في يوم 2 أكتوبر 1925 كما سقطت عدة مدن ريفية أخرى دفعة واحدة كأشاون ووزان الأولى في يد القوات الإسبانية والثانية في يد القوات الفرنسية. إذن بأزيد من نصف مليون من الجنود الاسبان والفرنسيين سقطت دولة الريف الأمازيغية أمام أكبر جيش شهدته بلاد الأمازيغ منذ زمن القرطاجيين، علاوة على مشاركة طيارين أمريكيين وأيضا مشاركة حوالي 7000 مرتزق يمثلون مختلف القبائل الخاضعة للاستعمار الفرنسي تحت قيادة عدد كبير من الخونة وفي مقدمتهم مذبوح قائد إكزناين وعمار بن حاميدو وقائد إمرنسان والبشير قائد البرانص ومحمد بن بوشتى البغدادي باشا فاس وابن الطاهر باشا أزمور والجيلالي قائد الشرادة وبن عمار قائد زعير واللائحة طويلة. هذا دون أن ننسى ونذكر أيضا مشاركة الجيوش الإفريقية المرتزقة أو «الكوم» بقيادة الكابتين شميت والتي تشكلت من مرتزقة السينغال والجزائر وتونس وغيرها من الدول الخاضعة للاحتلال الفرنسي، ونفس الشيء ينطبق على القوات المخزنية المغربية بمخازنها ومحلتها التابعة لمولاي يوسف الذي حارب إلى جانب الاستعمار الفرنسي والاسباني ضد المقاومة الريفية. وعن هذا الموضوع يقول المؤرخ البريطاني سباستيان بالفور أستاذ العلاقات الدولية بجامعة لندن في حوار مع جريدة العصر: «علينا أن نتذكر أن العديد من الجنود ممن كانوا يتلقون الأوامر من السلطان المغربي، كانوا يحاربون إلى جانب الجيش الإسباني ضد المقاومة الريفية. أتأسف كثيرا على التزام السلطات المغربية الصمت على هذا الموضوع، بالرغم من مرور كل هذه العقود»(25). لم يكن إذن باستطاعة القوات الريفية القليلة العدد أن تصمد أمام هذا الهجوم الضخم الذي قاده التحالف الأمبريالي، والذي استعمل فيه سلاح الطياران بشكل عشوائي ومكثف في جميع تراب الريف التي كانت تقوم به أسراب من الطائرات المحملة بأطنان من قنابل الغازات السامة. وفي علاقة بهذا الموضوع يعلق «وولتر هاريس» مراسل جريدة «التايمز» اللندية على مثال لذلك يتعلق الأمر بقصف وقنبلة مدينة أشاون الريفية بالقنابل المسمومة ويقول: «أرى أن الفعل الأكثر شراسة ووحشية والذي شهدته الحرب برمتها، والذي لا يمكن تبريره على وجه الإطلاق، هو قنبلة المدينة المفتوحة أشّاون سنة 1925 في الوقت الذي كان من المفروض أن يكون كل الرجال القادرين على حمل السلاح غائبين عن المدينة، بسرب من الطائرات التي تحمل متطوعين من الجيش الأمريكي بالاشتراك مع وحدات جوية فرنسية، وقد ذهب ضحية ذلك الهجوم العديد من النساء والأطفال العزل، كما جرح وأسر العديد منهم»(26). لقد كان الريف خلال الغزو الأمبريالي مسرحا لأكبر جريمة ضد الإنسانية مورست فيه عمليات التقتيل الجماعي باستخدام قنابل شديدة الانفجار، الأكثر تطورا في العالم، ونفس الشيء بالنسبة للقنابل المحشوة بالسموم والمعبأة بعدة غازات قاتلة كغاز الفاسكين المسمم الرئوي وغاز اللوست المسمم للجلد والرئة وغاز الدك ذو سم خاص بالجلد وله تأثير بالغ على أعضاء التنفس وغاز الكلوريكريت وهي مادة تهيج العين والرئة. هذا بالإضافة إلى غازات أخرى قاتلة كغاز BN المهيج وغاز الفوسفور الأصفر وغاز الأكترون وغاز الخردل وغاز الأكسول... إلخ. بهذه الغازات الكيمياوية والهيدروجينية التي كانت معبأة في القنابل الغازية والحارقة قصفت بها جمهورية الريف الأمازيغية وخلفت في فترة الغزو ما يناهز ثلاثة آلاف شهيد علاوة على تأثير ذلك على البيئة ككل، إذ أصبحت معظم الأراضي الزراعية التي ضربت بالسلاح الكيمياوي غير صالحة للزراعة، ولا زلت بادية حتى يومنا هذا والأمثلة كثيرة بالريف المنسي. إذن بفضل تلك الغازات السامة حقق التحالف الاستعماري نصرا سريعا على المقاومة الريفية عن طريق تلويث وتسميم المناطق الريفية بالمواد السامة القاتلة وعن هذا الموضوع يقول الدكتور شتولسنبرغ (Dr. Hugo Stolzenberg)، الإخصائي في سلاح الغاز في إحدى مذكراته «حققت قنبلة –اللوست-التي ألقيت بواسطة الطائرة خلال الحرب التي خاضتها إسبانيا بالمغرب ضد القبائل الريفية نصرا سريعا عن طريق تلويث القرى المتناثرة بالأراضي الصخرية القاحلة أو بالمنطقة الجبلية»(27). وعلاوة على تلويث البيئة فقد سببت تلك الأسلحة الكيمياوية عدة عاهات وإصابات خطيرة ومرض التنفس والحروق الجلدية ومرض التيفويد أو الحمى الصفراء التي اجتاحت الريف صيف 1925، ونتيجة لذلك اضطرت الحكومة الريفية في صيف 1925 إلى طلب المساعدة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر بجنيف بشكل مستعجل لتوفير الإغاثة الطبية لضحايا الغازات السامة، ولا زالت امتداداته وأعراضه بادية حتى يومنا هذا من خلال مرض السرطان «Axenzir». والجدير بالذكر هنا أن الريف يسجل أكبر نسبة من الإصابات بالأمراض الخبيثة قياسا بالمستوى المغربي، كما يصرح بذلك معهد الإيكولوجيا بالرباط، وقد أوردت في هذا الصدد الدكتورة أقضاض وفاء (28) أن 80% من الإصابات السرطانية آتية من الريف وخاصة من مدن الحسيمة والناظور وأشّاون وتطوان. لقد كانت إذن امتدادات الغازات السامة بادية حتى يومنا هذا في الريف التي استعملتها اسبانيا ومعها فرنسا والمخزن وبمساعدة ألمانيا وتواطؤ بريطانيا ودول إمبريالية أخرى في حرب قذرة استعملت فيها كل أنواع الغازات السامة المتوفرة آنذاك بواسطة الطائرات وعن طريق السفن لأول مرة في التاريخ. ويسجل التاريخ هنا أنه لأول مرة في الحروب تستعمل فيها الغازات السامة عن طريق قذفها من الجو بواسطة الطائرات وبمنطقة الريف. وحسب المؤرخة الإسبانية ماريا روزا دي مادارياغا في كتابها «المغاربة الذين جلبهم فرانكو، القوات الكولونيالية في الحرب الأهلية «الصادر سنة 2002. تقول بأن أول قصف جوي في التاريخ اعتمد عليه الإسبان كان سنة 1913. وجاء في نفس الكتاب أيضا أن اسبانيا اتهمت رسميا باستعمال الغازات السامة في الريف في ربيع 1925. وفي نفس السنة كذلك اتهمت فرنسا أيضا باستعمال الغازات السامة ضد القوات الريفية في ضواحي فاس أثناء نشوب الحرب بين الطرفين، ولا بأس أن نذكر هنا أيضا أن جيش التحرير الأمازيغي في سنة 1958 اتهم الاستعمار الفرنسي باستعماله للغازات السامة في وادي الذهب بالصحراء الأمازيغية، وفي نفس السنة كذلك اتهمت اسبانيا باستعمالها للغازات السامة في منطقة آيت باعمران الأمازيغية بالجنوب. وعودة إلى ماريا روزا المختصة في حرب الريف فقد أوردت في كتابتها المتعددة حول حرب الريف أن المغرب واسبانيا متساويان من ناحية المسؤولية التاريخية من خلال استعمال الغازات السامة في حرب الريف على اعتبار أن المغرب تواطأ مع اسبانيا في ضرب الريفيين بالأسلحة الكيماوية. وفي علاقة بهذا الموضوع يقول المؤرخ البريطاني سباستيان بالفور مؤلف كتاب «العناق المميت» (Deadly Embrace) حول حرب الغازات السامة بالريف قائلا: «المعروف أن السلطان المغربي كان قد التزم الصمت بخصوص هذا الموضوع، وإن كنت لا أشك انه كان على علم بلجوء جيش الاحتلال الاسباني لسلاح الغازات السامة، خاصة وأن العالم كله تحدث خلال تلك الفترة عن هذه الحرب القذرة، كما أن وسائل الإعلام الدولية كانت تندد وتفضح لجوء الاسبان للغازات السامة في المنطقة»(29). والجدير بالذكر هنا أن حزب اليسار الجمهوري الكطلاني اتهم المغرب واسبانيا باستعمالهم للغازات السامة في حرب الريف وذلك في ندوة نظمتها جمعية أنوال الثقافية بالناظور يوم الثلاثاء 5 يوليوز 2005. وقد أكد الحزب الكطلاني خلال الندوة على أن المسؤولية مشتركة بين النظامين المغربي والاسباني على اعتبار أن الأول هو من سمح للاسبان باستعمال الغازات السامة في المنطقة بتوقيعه على بنود الحماية أمام عدم اتخاذه لأي موقف لصالح حماية شعب الريف. وترخيصه لاسبانيا باستعمال الغازات السامة بموافقة سلطان المخزن مولاي يوسف، وتجدر الملاحظة هنا إلى أن العديد من الاسبان والريفيين يتهمون أيضا السلطان مولاي يوسف باستعمال الغاز خلال حربه ضد ثورة الريف، وما يفيد ذلك وثيقة وزعت باسم مجموعة من الجمعيات الريفية والكطلانية علاوة على أطراف حزبية كطلانية في شهر يوليوز 2005. تقول الوثيقة إن «السلطان مولاي يوسف، هو الذي طلب من الاسبانيين ضرب الريف بالغازات لأن الاستعمار الاسباني والفرنسي كان بموجب معاهدة الحماية مكلفان بالدفاع عن المخزن على اعتبار أن جمهورية الريف كانت في نظر المخزن مجرد عصابة تهدد الأمن العام يقودها الفتان عبد الكريم، كما دأب السلطان يوسف يصف الأمير»(30). إن مسؤولية المخزن المشتركة مع إسبانيا في حرب الغازات السامة بالريف. تؤكدها عدة استنتاجات تاريخية، رغم أن المخزن غير متهم رسميا في هذه الحرب القذرة. أو في تضلعه في قصف الريفيين بالأسلحة الكيمياوية، وطبعا هذا راجع إلى عدم توفر أدلة مادية تؤكد تورط المخزن في حرب الغازات السامة. أو في ترخيصه وموافقته لاسبانيا باستعمال تلك الغازات السامة ضد المقاومة الريفية. أو فيما نعتقد نحن على أن المخزن قد استعمل فعلا تلك الغازات السامة ضد المقاومة الريفية طبعا بالتنسيق مع القوات الإسبانية والفرنسية، و هذا الاعتقاد أو الاحتمال يعني انه لربما قد أعطيت بعض القنابل الكيماوية والغازية إلى القوات المخزنية كي تستعملها هي أيضا للقضاء على المقاومة الريفية بشكل سريع خلال الزحف العدواني الدولي على جمهورية الريف الأمازيغية. وإذا كان الأمر غير هذا الشكل على ما اعتقدتاه فإننا لا نفهم لماذا يرفض المخزن حتى يومنا هذا الكشف عن وثائقه وأرشيفه المتعلق بضرب الريفيين بالأسلحة الكيماوية. هل لأن السبب في ذلك، يرجع إلى تضلعه ومشاركته في قصف الريفيين بالمواد السامة في عهد الحماية الإسبانية وأيضا في السنوات الأولى من «الاحتقلال» في سنة 1959. أم أن ذلك يعود إلى سبب آخر لا نعرفه. غير أننا نرجح السبب الأول في قيام المخزن بإغلاق أبواب خزائن أرشيفه في وجه الباحثين والمهتمين، إن لم يكن قد سبق له أن أضاعها أو أحرقها خوفا من وصولها إلى الباحثين وإلى عامة الناس، وخوفا من أن تكشف وثائق وأسرار جديدة تفيد تورط المخزن في إبادة منطقة الريف كاملة حينما استعملت مواد سامة لا زالت آثارها قائمة لحد اليوم، وبالتالي ستكون له عواقب وخيمة على النظام المخزني الحالي تجاه منطقة الريف الحساسة جدا. لهذه الأسباب وغيرها بقي ملف الغازات السامة في عداد الطابوهات بالمغرب، ووراء الحصار المفروض على الأرشيف العسكري التاريخي لكل من المغرب وفرنسا واسبانيا على وجه الخصوص حيث ما زالت هناك عدة وثائق محفوظة حتى اليوم في الأرشيف العسكري لتلك البلدان الثلاثة والتي تشير إلى تلك القنابل الغازية بواسطة الشفرات والرموز حتى تخفي محتوياتها الكيمياوية وخاصة الأرشيف العسكري الاسباني التي تشير إليها بـ «القنابل الخاصة» أو «تلك القنابل» أو «قنابل x»... وأخطر من هذا هناك عدة جهات مغربية وفرنسية وإسبانية تعمل على طمس الحقائق التاريخية وتعمل على أن تبقى الغازات السامة مجهولة حتى يومنا هذا في الريف. لقد وقع تعتيم كبير على استعمال اسبانيا بجانب فرنسا والمغرب لقنابل الغازات السامة ضد المقاومة المسلحة الريفية. وإزاء هذا نطالب بضرورة فتح الأرشيف العسكري لهذه البلدان الثلاثة المتهمة في قصف الريفيين بالأسلحة الكيماوية، والكشف عن تاريخهم الأسود المشترك تجاه منطقة الريف. وكذا ضرورة استرجاع الوثائق والمخطوطات التي سرقت من مؤسسات الريف بعد سقوط دولة الريف الأمازيغية. وتجدر الملاحظة هنا إلى أنه خلال القصف العشوائي لمؤسسات دولة الريف ضاعت العديد من الوثائق التي التهمتها نيران الحريق كما التهمت كل شيء، والتي كانت بإمكانها أن تكشف عن العديد من الأسرار والملفات التي ما زالت تثير وتؤرق الباحثين وخاصة فيما يتعلق بملف الأمازيغية. ودستور الريف، والغازات السامة... (لقجيري محمد lakjiri@yahoo.fr) ****** (يتبع في العدد القادم)
|
|