|
عودة إلى ”معركة الحرف“ الأسئلة الظاهرة والحسابات الخفية في مناقشة حرف كتابة الأمازيغية بقلم: محمد بودهان في إطار النقاش ـ الذي كان دائرا ـ حول الحرف الأنسب لكتابة وتدريس الأمازيغية، نشر الأستاذ محمد المدلاوي المنبهي مقالا مطولا حول الموضوع، صدر في جزأين بجريدة "الأحداث المغربية" ليومي 15 و 17 يناير 2003، خلص فيه إلى أن الذين ناقشوا المسألة ظلوا بعيدين عن الأسئلة العلمية ولم يطرحوا الموضوع طرحا معرفيا، بل انطلاقا من "الشعارات" و"الهوى" و"الرأي"، و»أن هذا التغييب للطرح المعرفي للمسألة يترجم لدى الحركة الأمازيغية خاصة احتقارا عميقا للعمل، وللأمازيغية نفسها من حيث العمق«. هذه الخلاصة بناها الأستاذ المدلاوي على مسلمة أقام عليها كل تحليله الطويل للموضوع. وتتمثل في الاعتقاد الخاطئ و"الموهوم" لبعض نشطاء الحركة الأمازيغية بأن إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية هو بمثابة، حسب ما يقوله الأستاذ المدلاوي، "تحالف" أو "تعاقد ضمني" بين المؤسسة الملكية والحركة الأمازيغية التي أصبحت، بحكم هذا "التحالف" و"التعاقد" »سياسيا سيدة الموقف«. لنناقش أولا مدى صحة هذه المسلمة التي بنى عليها صرح مقاله، ثم الجانب العلمي والمعرفي المغيّب، في رأي الأستاذ المدلاوي، لدى الحركة الأمازيغية في مسألة مناقشتها لمسألة الحرف. 1 ـ تحالف المؤسسة الملكية مع الحركة الأمازيغية!: ينطلق الأستاذ المدلاوي في مناقشته من فكرة أساسية تؤطّر كل مقاله، مفادها أن بعض نشطاء الحركة الأمازيغية فهموا »أن ظهير أجدير وما تأسس عليه يندرج في إطار تحالف المؤسسة الملكية مع الحركة الأمازيغية«. فإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية هو إذن، بالنسبة لهؤلاء النشطاء من الحركة الأمازيغية، حسب ما يقوله الأستاذ المدلاوي، تعبير عن "تحالف" أو "تعاقد ضمني" بين المؤسسة الملكية والحركة الأمازيغية التي أصبحت، بحكم هذا "التحالف" و"التعاقد" »سياسيا سيدة الموقف بمقاييس موازين القوى فيما يتعلق على الأقل بالحسم فيما يتعلق بالاختيارات الكبرى للمسألة الثقافية، وما ينتظر ـ في تقديرات هذه الأطراف ـ أن يترتب عنها من ترتيبات وإعادة ترتيبات نظرا للطابع الانتقالي على صعيد المؤسسات بين عهدين«. وإذا كانت تلك الجمل القليلة المنسوبة لثلاثة مناضلين من الحركة الأمازيغية، والتي استشهد بها الأستاذ المدلاوي كدليل على صحة مسلمة "التعاقد" المزعوم، لا تؤكد بوضوح هذا الفهم الساذج والتبسيطي للهدف من إنشاء المعهد الملكي للأمازيغية، فإن كلامي، الذي أورده في نفس السياق ولنفس الغرض، ينفي قطعا فكرة وجود مثل هذا "التحالف" أو "التعاقد" المفترض بين الملكية والأمازيغية. لقد كتبت، كما نقل ذلك الأستاذ المدلاوي: »وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن أحد أهداف إنشاء المعهد هو إقامة نوع من المصالحة بين الحركة الأمازيغية والمؤسسات الرسمية، تلافيا لاشتداد التوتر بينهما وتجنبا لأي تجذير وتسييس للمطالب الأمازيغية، فإنه لن يكون منطقيا ولا مفهوما أن يحاول أصحاب الحل والعقد فرض حرف رفضته الحركة الأمازيغية رفضا باتا ومطلقا، سواء لأسباب تقنية وتكنولوجية أو لأسباب سياسية وإيديولوجية، لأن ذلك سيعني العودة إلى التوتر والصراع بين الحركة الأمازيغية والمؤسسات الرسمية، وهو ما يتناقض مع أهداف المعهد التي ترمي، من بين ما ترمي إليه، إلى التهدئة وتلطيف الأجواء بين الحركة الأمازيغية والمؤسسات الرسمية«. فأين هو "التحالف" أو "التعاقد" الضمني أو الصريح في هذا الكلام؟ فـ"المصالحة" و"التهدئة" و"تلطيف الأجواء" لا تعني إطلاقا "التعاقد" أو "التحالف" كما أراد أن يؤول ذلك الأستاذ المدلاوي، بل على العكس، إنها تفيد محاولة احتواء نضال الحركة الأمازيغية وتدجينها ومخزنتها لقطع الطريق عن اتجاهها نحو مزيد من النضال والتسييس. وشتان بين "التعاقد" أو "التحالف" بين طرفين وبين محاولة طرف واحد احتواء الطرف الآخر ومخزنته بتقديم بعض التنازلات لصالحه. والغريب في الأمر أن الأستاذ المدلاوي استشهد على التحالف المزعوم ليس فقط بنص لا يقول ذلك، بل بنص مأخوذ من مقال كتب أصلا ـ ومرفق بكاريكاتور يصور المعهد كسراب، وهو وحده كافٍ لنفي فكرة "التحالف" ـ لتبديد مثل هذا الفهم لدور المعهد الذي كشفنا عن بعض عيوبه وسلبياته، مثل التعويضات الممنوحة لأعضاء مجلسه الإداري، والتي قلنا بأنها تشكل »نوعا من المكافأة والإثراء بلا سبب... يصبح [معه] الجميع "مضطرا" إلى المهادنة والملاطفة وإعطاء الدليل على السلوك الحسن حتى لا يحرم من راتب شهري كمكافأة دون تعب أو جهد«. كما كتبنا بنفس المقال بأن هناك فصولا »تفرغ في الحقيقة اختصاصات المعهد من مضمونها الحقيقي... إذ ما الفائدة من اختصاصات واسعة إذا كانت القرارات قد تُرفض ولا ترى النور أبدا لأنها تعتبر مجرد إبداء للرأي؟ ... وهنا نفهم أن محرري الظهير المنظم للمعهد حرصوا على جعل هذا الأخير، رغم كل الاختصاصات المخولة له، مقيدا، وبطريقة ذكية وفعالة، حتى يمكن توجيه "السياسة البربرية"، لا حسب ما يقرره المعهد نفسه، بل حسب ما يرتئيه من يعرض عليهم المعهد اقتراحاته التي هي مجرد "إبداء للرأي" من الناحية القانونية. وهذه هي أحد الحسابات التي روعيت في إعداد نصوص الظهير«، مبينين أن المعهد سيصبح بذلك مجرد مؤسسة »صورية وشكلية ليس إلا«. وهذه هي الرهانات والحسابات الخفية للسلطات. وهو ما قصدناه بالعنوان "المعد الملكي للثقافة الأمازيغية: الرهانات والحسابات"، أي رهانات وحسابات المخزن، وليس رهانات وحسابات الحركة الأمازيغية كما أراد أن يفهم ويؤول الأستاذ المدلاوي. ثم كيف لمن يؤمن بفكرة "التعاقد" و"التحالف" بين القصر والحركة الأمازيغية أن يرفض التعويضات الممنوحة لأعضاء المجلس الإداري إلى حين البت في مسألة الحرف؟ فهذا ليس رفضا لفكرة "التعاقد و"التحالف" فحسب، بل هو رفض لرهانات وحسابات السلطات المخزنية التي ترمي إلى ضبط Contrôler الحركة الأمازيغية من خلال مؤسسة المعهد. يبدو أن الأستاذ المدلاوي اختار فرضية فكرة "التعاقد" الغير الصحيحة لأنها فكرة مغرية حقا تسمح له ببناء استدلاله والوصول إلى ما أراد الوصول إليه من خلاصات ونتائج. فما هي هذه الخلاصات والنتائج؟ 2 ـ مقدمة خاطئة، نتائج خاطئة بالضرورة: هذا الفهم الخاص ـ التعاقد والتحالف ـ لدور المعهد وأسباب إنشائه، الذي يعزوه الأستاذ المدلاوي إلى بعض مناضلي الحركة الأمازيغية »هو ما جعل بعض أطراف الحركة الأمازيغية يدشنون في غير قليل من الاستعجال والتهافت مرحلة تصفية التناقضات الداخلية الضيقة على المستويات الشخصية والزعاماتية والتنظيمية والجهوية معبرا عنها بمزايدات في المبادئ والشعارات على شكل اتهامات بالتخوين تارة وبالتكسب بالأمازيغية تارة أخرى، كما تجلى ذلك من خلال الحملة التي شنت طيلة عدة أشهر على المشاركين في تجربة Medersatcom للتعليم الخاص للأمازيغية بالوسط القروي من طرف مؤسسة البنك المغربي للتجارة الخارجية«. هذه المعطيات التي أوردها الأستاذ المدلاوي، كنتيجة "للتحالف" المزعوم، تستحق منا التصحيحات والملاحظات التالية: ـ إذا كان صحيحا أن جريدة "تاويزا" ـ لأن مديرها هو المعني في كلام الأستاذ المدلاوي بصدد "المحملة" على مؤسسة BMCE ـ هي التي دشنت "الحملة" على هذه المؤسسة ـ وتاويزا تفتخر بهذا السبق النضالي ولا تنفيه ـ، فليس صحيحا على الإطلاق أن هذه "الحملة" جاءت نتيجة اقتناع بـ"التعاقد" الوهمي بين المؤسسة الملكية والحركة الأمازيغية، الذي يكون محله ـ محل التعاقد ـ هو المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حسب ما جاء في مقال الأستاذ المدلاوي. وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان ولا برهان لأن هناك معطيات واقعية Factuelles ـ وليست ميتافيزيقية ـ وموثقة يمكن التحقق منها بسهولة. فيكفي أن نشير إلى أن ما سماه الأستاذ المدلاوي "بالحملة" على BMCE انطلقت قبل 17 أكتوبر الذي هو تاريخ ميلاد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. فأول مقال دشن "الحملة" صدر تحت عنوان "مشروع مؤسسة BMCE لتدريس الأمازيغية: هل هو مشروع ضد نفسه؟" بالعدد 54 الذي وزع بالأكشاك يوم 26 شتمبر، أي عشرين يوما قبل تاريخ الإعلان عن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. واضح إذن من هذه الوقائع الصارخة والمفحمة أن "معركة الحرف" التي بدأتها "تاويزا" لم تكن لها أية علاقة لا بالمعهد ولا بفكرة "التعاقد" التي افترضها الأستاذ المدلاوي كنتيجة لذلك، لأنه لا يمكن للاحق أن يكون سببا للسابق. وبالتالي فكل استنتاجات وإنشاءات الأستاذ المدلاوي حول هذا الموضوع باطلة وغير صحيحة. ـ إن المواقف التي عبرت عنها "تاويزا" في "حملتها" على المؤسسة البنكية بصدد الحرف لا تدخل ضمن أية »تصفية للتناقضات الداخلية الضيقة على المستويات الشخصية والزعاماتية والتنظيمية والجهوية«، خصوصا إذا عرفنا أن مدير "تاويزا" كان من أوائل من عرض عليهم، وبإلحاح وتكرار، العمل ضمن الفريق التربوي لمؤسسة BMCE. إن تلك المواقف تعبر عن القناعات والمبادئ الراسخة لأصحابها والخط التحريري للجريدة. وقد سبق لمدير "تاويزا" أن عبر عن نفس المواقف والأفكار بصدد الحرف في مقال نشر بجريدة Agraw تحت عنوان: "La transcription de tmazight entre les caractères latin et arabe" بتاريخ 20/1/1997، أي قبل تأسيس المعهد الملكي بأزيد من ثلاث سنوات، وقبل ظهور مشروع تدريس الأمازيغية من طرف BMCE. ـ ثم ماذا تمثل مؤسسة BMCE؟ أليست هي نفسها مؤسسة مخزنية تمثل السياسة الرسمية "الخاصة" للمخزن في مجال "الاهتمام" بالأمازيغية؟ فكيف لمن يؤمن بفكرة "التحالف" بين المؤسسة الملكية والحركة الأمازيغية أن يهاجم مؤسسة BMCE التي هي جزء من "حليفه"؟ أليس في الأمر تناقض بيّن يقوض فكرة "التحالف" و"التعاقد" الوهمية من أساسها؟ 3 ـ دور العلم والعمل في اختيار حرف كتابة الأمازيغية: يؤاخذ الأستاذ المدلاوي الذين تناولوا موضوع كتابة حرف الأمازيغية بأنهم لم يطرحوا »الأسئلة المعرفية المتعلقة بالأمر طرحا جديا«، وأن مواقفهم حول المسألة تعبر عن »مجرد إرادات سياسية مبنية على محض الرأي العام أو الخاص بناء على تقديرات موازين التدافع السياسي للظرفية«. » و»على مجرد شعارت تقدم كبديهيات لا تحتاج إلى تأسيس عقلاني». »إن هذا التغييب للطرح المعرفي للمسألة يترجم لدى الحركة الأمازيغية خاصة احتقارا عميقا للعمل، وللأمازيغية نفسها من حيث العمق«. وبالتالي فـ»إن تغييب الطرح المعرفي للمسألة انطلاقا من ذلك الميل الطبيعي نحو احتقار قيمة التشخيص العلمي في معالجة الأمور وانطلاقا من ذلك الفهم الخاص لوظيفة المعهد وللدلالات السياسية للظهير باعتبار هذا الأخير ينم عن إشارة إلى تعاقد ضمني.... هو ما أهّل على التو من لم يقتنع قط بالقضية الأمازيغية كقضية وطنية مصيرية« أن يخوض فيها بدوره ويتخذ إزاءها مواقف ويعطي فيها فتاوى. »فلو طرحت المسألة طرحا معرفيا بالدرجة الأولى لما أمكن الانقضاض عليها كذريعة سياسية، ولما أمكن الخوض فيها إلا لمن راكم ـ فردا كان أم جماعة ـ حصيلة سنين من الجهد والبذل في الميدان للتعرف على معاملة (؟) مقدما بين يديه إنتاجات ملموسة ومراجع ومستندات، وهو شيء لا يتسنى إلا لم آمن فعلا ومنذ زمان بالقضية«. لنناقش هذه الأقوال التي تلخص موقف الأستاذ المدلاوي من الحركة الأمازيغية ومن الأمازيغية نفسها ومن النقاش حول الحرف: ـ إذا كان الأستاذ المدلاوي يحكم على الحركة الأمازيغية بأنها تبدي »احتقارا عميقا للعمل، وللأمازيغية نفسها من حيث العمق«. فهذا ليس بغريب ولا بجديد ممن سبق له أن نعتها بما هو أقسى وأشد عندما وصفها بـ"التطرف" و"السفه" و"المرض الطفولي" والانحراف" الإثني الباطولوجي" في مقال له سابق بـ"المستقل الأسبوعي" (تاريخ 24/5/2002) يدافع فيه عن العريضة التي تتهم الأمازيغيين بالعنصرية ويدعو هؤلاء إلى التوقيع عليها كما فعل هو. (انظر مناقشتنها لمقال الأستاذ المدلاوي في العدد 63 من "تاويزا" http://tawiza.net/Tawiza63/Medlawi.htm). في الحقيقة، يكشف الأستاذ المدلاوي، من خلال هذه النظرة إلى الحركة الأمازيغية، عن احتقاره هو لهذه الأخيرة التي يعتبرها متهورة وطائشة ومتطرفة وغير راشدة ـ كما عبر عن ذلك بوضوح في مقاله حول عريضة العنصرية ـ. ولهذا فهو يتعامل معها باستعلاء وازدراء، ويربأ بنفسه أن يحضر ندواتها أو يشارك في أنشطة جمعياتها أو يكتب فيما تصدره من جرائد ومجلات، مفضلا عنها الصحافة العروبية والفرنكوفونية. لكن هذا لا يمنعه من المشاركة باسم الأمازيغية في الندوات التي تنظم حولها في الخارج، لأن هذه المشاركة "الخارجية" تضمن له رحلة مجانية بالطائرة إلى الخارج، فضلا عن التعويضات التي يمنحها عادة منظمو الندوة للمشاركين. وهنا نتساءل: من أكثر إيمانا بالقضية، ما دام أشار الأستاذ المدلاوي إلى "الإيمان بالقضية": من يناضلون من أجلها ببيانات وملتمسات وبلاغات وتظاهرات وجمعيات ومنشورات، أي بوسائل جد محدودة، أم الذين يركبون طائرة البوينغ ويقيمون في أفخم الأطيلات بالخارج باسم الأمازيغية؟ أليس بفضل عمل هذه الحركة الأمازيغية ـ التي قال عنها الأستاذ المدلاوي بأنها تحتقر العمل ـ أصبح هناك معهد ملكي للثقافة الأمازيغية؟ ـ إن هذا "الاحتقار للعمل" من طرف الحركة الأمازيغية هو الذي أعطى، حسب منطق الأستاذ المدلاوي، لجهات كانت معادية للأمازيغية، فرصة الانقضاض على القضية كذريعة سياسية وتصبح طرفا في حلبة الصراع حول مسألة الحرف. هنا كذلك ـ كما فعل في دفاعه عن عريضة العنصرية ـ يلقي الأستاذ المدلاوي باللوم والمسؤولية على عاتق الحركة الأمازيغية التي كان "احتقارها للعمل"، وعدم طرحها للأسئلة المعرفية، وراء دخول كل من هب ودب محراب الأمازيغية. فهو يبرر دخول أطراف جديدة على الخط، فيما يتعلق بالحرف، باحتقار الحركة الأمازيغية للعمل، مثلما برر صدور عريضة سن قانون ضد "عنصرية" الأمازيغيين بـ"تطرف" الحركة الأمازيغية و"انحرافها الإثني" و"مرضها الطفولي" (انظر مقاله في "المستقل الأسبوعي ليوم 24/5/2002). نلاحظ إذن أن نفس البنية الفكرية التي كتب بها المقال الذي يدافع عن عريضة العنصرية، كتب بها كذلك هذا المقال الذي يصف الحركة الأمازيغية باحتقارها للعمل، هذا الاحتقار الذي ـ حسب الأستاذ المدلاوي ـ هو سبب كل الأخطاء والهفوات. ـ إذا كان الذين دافعوا عن الحرف الكوني يدخلون ضمن من يحتقر العمل ولم يطرح الأسئلة المعرفية حول الموضوع، فأين يصنّف الأستاذ المدلاوي باحثين لهم وزنهم الكبير تبنوا نفس الموقف إزاء الحرف الذي يجب أن تكتب به الأمازيغية، مثل الأساتذة: ميلود الطايفي، الجيلالي السايب، بومالك عبد الله، محمد سغوال، بزازي عبد القادر، مريم الدمناتي، كمال ن آيت زراد، سليم شاكر، مولود معمري، وغيرهم من باحثين وأكاديميين أكفاء ومختصين يناصرون الحرف اللاتيني في كتابة الأمازيغية؟ هل هؤلاء كذلك يضعهم الأستاذ المدلاوي ضمن من "يحتقرون العمل" والذين لم يطرحوا الأسئلة المعرفية رغم عطاءاتهم المشهود لها عالميا في مجال الأمازيغية؟ ـ وماذا يقول الأستاذ المدلاوي عن أعضاء اللجنة التقنية المكونة من مختصين في علوم اللغة والتربية، التي احتمعت يوم 5 يوليوز 2002، بتكليف من وزارة التربية الوطنية، لمناقشة كيفية إدماج الأمازيغية في المنظومة التعليمية، والتي اتخذت قرار استعمال الحرف اللاتيني بالإجماع؟ هل هؤلاء هم أيضا لم يراكموا »سنين من الجهد والبذل في الميدان« ولم يعرفوا كيف يطرحون »الأسئلة المعرفية المتعلقة بالأمر طرحا جديا«؟ هل هؤلاء هم أيضا انطلقوا في إجماعهم من »مجرد شعارت تقدم كبديهيات لا تحتاج إلى تأسيس عقلاني«؟. أليس وراءهم سنون من "البذل" الحقيقي في ميدان الأمازيغية و"إنتاجات ملمومسة" معروفة"؟ هل يعرف الأستاذ المدلاوي أن من بين أعضاء هذه اللجنة يوجد الأساتذة: أحمد بوكوس، ميلود الطايفي، أحمد حدّاشي (صاحب أول معجم أمازيغي/أمازيغي)، بلعيد بودريس، محمد سغوال، دون ذكر كل الآخرين أصحاب التخصصات التربوية الأخرى؟ إن إجماع هؤلاء على الحرف اللاتيني دليل لوحده على أن اختيار الحرف اللاتيني اختيار مبني على اعتبارات علمية وليس على مجرد الرأي العام والخاص كما يريد الأستاذ المدلاوي. ـ وإذا كان الأستاذ المدلاوي يعتبر نفسه ممن »سلخ سنوات من البذل لتحصيل المعرفة الدرائية من مصادرها وبوسائلها«، وممن »راكم حصيلة سنين من الجهد والبذل في الميدان للتعرف على معاملة (؟) مقدما بين يديه إنتاجات ملموسة«، نسأله: ماذا أعطى للأمازيغية من "علمه الغزير" و"معرفته الوفيرة"؟ أين هي "الإنتاجات الملموسة" التي يشير إليها معيّرا غيره بغيابها لديه؟ كم صنّف من معاجم أمازيغية لحفظ هذه اللغة من الضياع؟ كم ألّف من كتب لجمع التراث الشفوي للأمازيغية المهدد بالانقراض والاختفاء؟ كم نشر من الروايات والدواوين للارتقاء بالأمازيغية من التداول الشفوي إلى الاستعمال الكتابي؟ كم أصدر من المجلات التي تعنى باللغة والثقافة الأمازيغيتين؟ لا شيء. إن الإنجاز الوحيد الذي سيحتفظ به التاريخ كعمل "عظيم" قدمه الأستاذ المدلاوي لـ"صالح" الأمازيغية هو دفاعه وتوقيعه على العريضة التي دعت إلى استصدار قانون يجرّم المطالب الأمازيغية كمطالب عنصرية! بالإضافة، طبعا، إلى نظريته الشهيرة حول "الحرف العربي الموسّع" لكتابة الأمازيغية. وليقنعنا الأستاذ المدلاوي بأنه "مناضل" قدم "تضحيات" في سبيل الأمازيغية، في غياب أية "إنتاجات ملموسة" كتابية (معاجم، نصوص، روايات، مقالات بالأمازيغية)، يلمّح لنا في كل مقال يكتبه بأنه هو من رفضت له النخبة العروبية »تسجيل رسالة حول اللغة الأمازيغية بقسم اللغة العربية في عاصمة البلاد في بداية الثمانينات بدعوى من مسؤولي هذا القسم بأن القسم قسم اللغة العربية وليس لغيرها، مما اضطر صاحب الرسالة إلى الاغتراب اجتماعيا ومهنيا وأكاديميا«. يذكّرنا بهذا "العمل الفدائي" في كل مقال ومناسبة حتى أصبح ذلك من باب "حتى أنا أمازيغي" أو "حتى جدتي كانت أمازيغية" التي يرفعها الوافدون الجدد على الأمازيغية عندما لا يجدون ما يقولونه ولا ما يعطونه للأمازيغية. ـ أما إذا كانت "المعرفة الدرائية"، التي لاحظ غيابها عند غيره، هي التي ستعطينا "الأمازيغية الفصحى المشتركة"، والتي هي عبارة وردت أربع مرات في مقاله، فنتمنى أن يحتفظ الأستاذ الأستاذ بهذه "المعرفة الدرائية" لنفسه ولا يطبقها على الأمازيغية المتداولة ليجعل منها "أمازيغية فصحى مشتركة"، التي هي مفهوم مخيف لأنه سيجعل من الأمازيغية "غولا" رهيبا مقطوع الصلة بالواقع، وممارسة سحرية لا يتقنها ويعرف أسرارها إلا نخبة محدودة من الأمازيغيين، ناهيك عن باقي المغاربة. وبذلك تصبح "الأمازيغية الفصحى المشتركة" مثل "العربية الفصحى" ـ ولا شك أن الأستاذ المدلاوي ينطلق من نموذج العربية الفصحى ـ التي هي عبارة عن لغة ميتة لا يعرفها إلا عدد محدود من "الكهنة" وبعد قضاء عشرات وعشرات من السنين في تعلمها ودراستها. فالأفضل للأمازيغية أن تبقى كما هي لهجات متفرقة وغير مشتركة على أن تكون لغة "فصحى مشتركة" ـ على غرار العربية الفصحى ـ لكن لا يتداولها ولا يستعملها أحد في التخاطب والتواصل. إن ذلك يعني تحنيط وقتل الأمازيغية بعد أن قاومت كل محاولات القضاء عليها بالممارسة والتداول والاستعمال اليومي. أما إذا كان يعني بـ"الأمازيغية الفصحى المشتركة" تلك التي صيغت بها الأمثلة التي تضمنتها الوثيقة التقنية التي أعدها مركز التهيئة اللغوية بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والتي أشرف الأستاذ المدلاوي، حسب ما ذكرته الصحافة، على الجزء الخاص فيها بالحرف العربي، فإن "الفصحى المشتركة" في هذه الحالة لن تكون سوى لهجة "آيت إمدلاون" التي ينتمي إليها الأستاذ المدلاوي. وهذا شيء مخيف كذلك بالنسبة لمستقبل الأمازيغية. لكن هذا موضوع آخر لن نخوض فيه الآن، وسنعود إليه في الوقت المناسب. ـ أما عن تسمية الحرف اللاتيني بـ"الحرف الكوني"، فهذا ما يقول عنه الأستاذ المدلاوي بأنه »مغالطة كأداة إقناع بالحرف الكوني« »الموصوف بذلك ادعاءٍ«. لا شك أن الأستاذ المدلاوي، مثل الإسلامويين والعروبيين، يرى أن تسمية حرف تستعمله غالبية الدول، وليس كل دول العالم، بالحرف الكوني أمر مناقض للحقيقة ومخالف للواقع. وهذه نظرة "ديموغرافية" إلى الحرف، أي أننا نحكم على محليته أو عالميته من خلال عدد البشر الذين يستعملونه. وبما أنه غير مستعمل من طرف كل بشر ودول المعمور، فإن القول بأنه حرف كوني هو مجرد ادعاء ومغالطة. وهذه نظرة تبسيطية وحسية تفتقر إلى مستوى التجريد الذي تتطلبه مناقشة مثل هذه القضايا. إن مفهوم "الحرف الكوني" يستعمل هنا بنفس المعنى الذي نستعمل به عبارتي "الحرب العالمية الأولى" و"الحرب العالمية الثانية". فواضح أن هاتين الحربين توصفان بالكونيتين رغم أنهما كانتا مقصورتين على عدد محدود جدا من الدول التي شاركت فيها. ومع ذلك لم يقل أحد بأن وصفهما بالكونية هو مجرد مغالطة وادعاء. لماذا؟ لأن الذي جعلهما كونيتين، ليس عدد الدول المشاركة فيها، بل الوزن العالمي لهذه الأخيرة، الوزن الاقتصادي والعسكري والسياسي والعلمي. كذلك التقويم الميلادي الذي هو تقويم خاص في الأصل بالمسيحيين الذين لا يتعدى عددهم ثلث سكان العالم. ومع ذلك فهو تقويم عالمي يستعمله حتى أصحاب الديانات والتقويمات الأخرى، مثل المسلمين والبوذيين واليهود. فهو إذن تقويم عالمي كوني. كذلك الأمر بالنسبة للحرف اللاتيني الذي أصبح يتعلمه الجميع في المدارس، بما في ذلك الدول التي لها لغاتها الخاصة التي تكتب بحرفها الخاص، كاليابان والصين والروس واليهود والعرب، رغم أنه في الأصل حرف خاص بمجموعة من اللغات وليس بكل اللغات. هذا فضلا على أن استعماله أصبح عالميا في عالم المال والأعمال والتكنولوجيا. فبهذا المعنى يسمّى الحرف اللاتيني بالحرف الكوني، وليس بالمعنى الديموغرافي الذي يحيل على "الإجماع" المحبوب في الثقافة العربية الإسلامية. 4 ـ وظيفة العلم ومجال اشتغاله: وإذا افترضنا، مسايرة للأستاذ المدلاوي، أن من ناقشوا موضوع اختيار الحرف لم يطرحوا الأسئلة العلمية، فهل هذا الاختيار للحرف يتطلب التسلح بالمعطيات العلمية حتى يكون الاختيار علميا؟ الكثيرون يعتقدون، ويبدو أن الأستاذ المدلاوي واحد منهم، أن العلم قادر، بحكم طبيعته ووظيفته، على تناول كل الموضوعات والتدخل في كل المجالات والجواب عن كل التساؤلات. وهذا موقف العامة الذين يجهلون كل شيء عن حقيقة المعرفة العلمية وخصائصها ووظائفها. فالمعروف أن هناك موضوعات ليست من اختصاص العلم ولا تدخل ضمن مجالاته وموضوعاته. ومن هذه الموضوعات ما يتعلق بـ"الإرادة" و"الغايات". فالعلم لا يمكنه، مهما بلغ من تقدم وتطور، أن يحدد "عليما" ما يجب على الإنسان أن "يريده"، ولا "الغايات" التي عليه أن يختارها ويسعى إليها. فمهمة العلم تأتي في المرحلة الثانية، أي بعد أن يكون الإنسان قد حدد اختياراته وغاياته وما يريده ويفضله. وهنا يمكن للعلم أن يتدخل ويرشده ويساعده لإنجاز ما اختاره وما أراده بأفضل الطرق وأنجعها وأكثرها فعالية. لنعط مثالا بأكبر دولة "علمية" التي هي الولايات المتحدة التي تستخدم العلم في كل شيء. فرغم ما تتوفر عليه هذه الدولة من مستوى علمي هائل، إلا أن هذه المعرفة العلمية، التي تمتلكها، لا يمكنها أن "تأمر" أو "لا تأمر" "علميا" الولايات المتحدة بمهاجمة دولة أخرى. لكن إذا اختارت الولايات المتحدة شن حرب على دولة ما، وأرادت ذلك ووضعته ضمن غاياتها، فهنا فقط تتدخل معرفتها العلمية وتساعدها على خوض تلك الحرب بأقل كلفة وخسارة وبأكبر قدر ممكن من الربح والنجاح. وهذا يعني أن العلم لا دخل له إطلاقا فيما يتعلق بالغايات والاختيارات الإرادية، وإنما يقتصر دوره على الوسائل والأدوات فقط. وهذا شيء شرحه بتفصيل ماكس ويبر Max Weber منذ القرن التاسع عشر. لنعد، بعد هذا التوضيح، إلى موضوعنا، موضوع اختيار الحرف الأنسب للأمازيغية. فهذا الاختيار هو كذلك ليس موضوعا "علميا" ـ رغم كل ما قيل وكتب ـ لأنه يتعلق بالغايات ـ وهي موضوع غير "علمي" كما شرحنا ذلك ـ التي نحددها ونريدها من الأمازيغية ولها. وعندما نضع المواقف الثلاثة حول الحرف في علاقتها بما يريده وينتظره أصحاب كل موقف من الأمازيغية، تصبح تلك المواقف كلها منطقية و"علمية" لأنها منسجمة تماما مع ما تريده من غايات ترسمها للأمازيغية. فالموقف الإسلاموي العروبي اختار الحرف العربي لأنه "يريد" للأمازيغية أن تبقى تابعة وخادمة للعربية. وأصحاب تيفيناغ اختاروا الحرف الأمازيغي لأنهم "يريدون" للأمازيغية الاستقلال الخطي والتميز الهوياتي. أما أصحاب الحرف اللاتيني فهم "يريدون" للأمازيغية الاستفادة مما يتيحه الحرف اللاتيني من سهولة واقتصاد وجاهزية وربح في الجهد والوقت والمال. فهذه الاختيارات الثلاثة لا يمكن أن نقول بأنها علمية ولا غير علمية لأنها تتعلق بالإرادة ـ ما يريده كل موقف من الأمازيغية ـ والغايات التي هي موضوعات غير علمية. أما بعد اختيار هذا الحرف أو ذاك، بناء على إرادة الأطراف والغايات التي يحددونها، وليس بناء على تحليل علمي، فآنذاك فقط يمكن للعلم أن يتدخل ليرشد إلى أنجع السبل لاستعمال الحرف الذي وقع عليه الاختيار. وهذا الفصل بين ما ينتمي إلى الإرادة والغايات وبين ما يدخل في نطاق اشتغال العلم، حاضر كذلك في بنية المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي لم ير فيه الأستاذ المدلاوي إلا »هيئة أكاديمية تقترح برامج بحث سنوية«. فالمعهد يتكون من مراكز للبحث العلمي وبمجلس إداري يحدد السياسة العامة للمعهد، أي مختص بتحديد الاختيارات التي لا تدخل في ما هو تقني وعلمي، بل تتعلق بالإرادة والغايات. ولهذا فإن مسألة اختيار الحرف مثلا، لم تسند إلى مراكز البحث العلمية لتحسم فيها رغم اختصاصها العلمي، بل أوكل أمرها للمجلس الإداري لأنها مسألة ترتبط بما نريده للأمازيغية وما نحدده لها من غايات، وهي أمور خارجة عن نطاق العلم كما شرحنا سابقا. أما وقد حسم المجلس الإداري في مسألة الحرف باختياره لـ"تيفيناغ"، فهنا تبدأ مهمة العلم والعلماء الذين عليهم أن يحددوا علميا أحسن السبل لاستعمال حرف "تيفيناغ" من الناحية التربوية والبيداغوجية والتقنية. فالعلم إذن، كما شرحت، يتعلق بالوسائل والأدوات، وليس بالغايات والاختيارات والإرادات. وعليه، فحتى على فرض أن أصحاب المواقف الثلاثة قد غيّبوا الأسئلة العلمية، كما يرى الأستاذ المدلاوي، فإن ذلك سيكون شيئا طبيعيا لأن الموضوع يتعلق بالغايات والاختيارات والإرادة التي ليست موضوعات لتحديد العلمي. فالأستاذ المدلاوي هو الذي غيّب إذن وظيفة العلم ومجالات بحثه واختصاصه. أما نضال الحركة الأمازيغية التي لا يرى فيه الأستاذ المدلاوي إلا "شعارات طنانة" يلوم عليها الحركة الأمازيغية التي تكتفي يترديدها، بدل طرح الأسئلة العلمية حسب رأيه، فيجب الاعتراف أن هذا النضال، بـ"شعاراته الطنانة"، هو الذي كان وراء إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كما قلت، وليست الدراسات العلمية حول الأمازيغية، التي كانت متوفرة دائما منذ أزيد من قرن دون أن تحرك ساكنا لدى أصحاب السلطة والقرار. ذلك أن ما هو علمي، كما سبق أن أوضحت، يأتي بعد تحديد الاختيارات والغايات. فالدراسات العلمية قد تفيد اليوم بشكل عملي وملموس بعد أن ضغطت الحركة الأمازيغية بنضالها ـ الذي لا يرى فيه الأستاذ المدلاوي إلا "شعارات طنانة" ـ إلى أن تم تأسيس معهد كإطار رسمي للدراسات العلمية حول الأمازيغية. وأعتقد أن الأمازيغية لا تزال في حاجة إلى مزيد من النضال المعبئ والضاغط في اتجاه الاعتراف بكافة المطالب الأمازيغية. ولن يكون هناك اكتفاء بما هو علمي لوحده إلا عندما تصبح الأمازيغية مساوية للعربية فعلا وقانونا، حيث لا يتصور اليوم، بالنسبة للعربية، أن يصدر "بيان عربي" على غرار "البيان الأمازيغي"، يطالب بالاعتراف باللغة العربية بالمغرب، لأن ما تحتاجه اليوم العربية هو البحث العلمي وليس النضال و"الشعارات الطنانة"، عكس الأمازيغية. وعليه، فإن أكبر احتقار حقيقي للأمازيغية هو أن نتعامل معها كموضوع علمي صرف، لأنه لا توجد بالمغرب قضية أكثر سياسية، عمقا وديمومة، من الأمازيغية. 5 ـ أين علم الأستاذ المدلاوي وأين موقفه من الحرف؟ وإذا كان الذين ناقشوا موضوع الحرف لم يطرحوا الأسئلة المعرفية ولم يتناولوا المسألة في جانبها العلمي، كما يدعي الأستاذ المدلاوي، فلماذا لم يفعل هو ذلك بنفسه فيوجهنا، وهو العالم النِّحْرير والباحث المتخصص، من خلال أسئلته المعرفية والعلمية حول الموضوع، إلى الحرف الملائم للأمازيغية ليريحنا من "الشعارات الطنانة"؟ فالذي يقرأ مقال الأستاذ المدلاوي يخرج بخيبة أمل لم يكن يتوقعها لأنه كلما انتهى من فقرة أو جزء من المقال يقول في نفسه بأن الأستاذ المدلاوي سيعلن عن الحرف الأنسب "علميا" للأمازيغية في الفقرة التالية. ينتهي من تلك الفقرة فلا يجد جوابا لسؤاله، فيقول بأن الجواب سيقرأه في الجزء الثاني، مبررا ذلك بأن الأستاذ المدلاوي، نظرا لامتلاكه "الآلة" و»سلخ(ه) سنوات من البذل لتحصيل المعرفة الدرائية من مصادرها وبوسائلها«، فإنه يؤسس "علميا" للنتيجة التي سيفاجئنا بها في نهاية مقاله، كما يفعل العلماء الأفذاذ. يصدر الجزء الثاني من المقال بـ"الأحداث المغربية" فيسارع إلى قراءته، ثم يصل إلى الفقرة الأخيرة ـ خلاصات عامة ـ فيتنفس الصعداء واثقا أن الأستاذ المدلاوي سيعلن لنا عما يقوله العلم حول الحرف الأصلح للأمازيغية. ينتهي من قراءة هذه الخلاصات العامة، فلا يجد أثرا لأي جواب حول سؤال الحرف. وهنا "يدخله" الشك، كما نقول بالعامية، وتطرح أمامه مجموعة من الأسئلة: لماذا كل هذا الكلام الطويل والعريض حول "الأسئلة المغيبة في النقاش حول حرف كتابة الأمازيغية" وانتقاد أصحاب "الشعارات الطنانة" إذا كان ذلك بدون أية فائدة عملية تقدم لنا حلا لإشكالية الحرف؟ أليس كل ما أطنب فيه الأستاذ هو كذلك مجرد "شعارت طنانة" حول الأسئلة المعرفية، لا تسمن ولا تغني من جوع المتلهفَ لمعرفة الحقيقة "العلمية" حول الحرف الذي يجب أن تكتب به الأمازيغية؟ كنا ننتظر من الأستاذ المدلاوي أن يعطينا جوابا عمليا وملموسا ـ مثلما فعل كل الذين خاضوا في الموضوع، والذين ينتقد مواقفهم بأنها مجرد "شعارات طنانة" ـ خصوصا أن الموضوع ليس ميتافزيقيا ولا فلسفيا لا يمكن إيجاد جواب للأسئلة التي يطرحها. لماذا إذن اكتفى الأستاذ المدلاوي بعرضه ونقده للمواقف المعروفة حول الحرف دون أن يتخذ هو موقفا لصالح هذا الحرف أو ذاك؟ لا نعتقد أنه لم يرد أن يقول رأيه في الحرف الأنسب لأنه يرى أن الأمر يتعلق بالغايات والخيارات التي تحددها الإرادة، وهو ما يخرج عن نطاق العلم بالشكل الذي سبق أن أوضحناه. وحتى لو فرضنا أنه ينطلق من هذه الاعتبارات ـ وهو أمر مستبعد كليا ـ فإن السؤال هو: والأستاذ المدلاوي، أليست له هو كذلك إرادة يختار على أساسها هذا الحرف أو ذاك حسب الغايات التي يحددها للأمازيغية؟ فكيف نفسر عدم إعطاء الأستاذ المدلاوي جوابا فيما يخص الحرف الذي يراه الأنسب للأمازيغية، خصوصا، كما يريد أن يقول لنا ذلك من خلال مقاله، أنه عالم متخصص في الموضوع؟ لا يمكن تفسير ذلك إلا بشيء واحد، وهو أن الأستاذ المدلاوي يتخذ هنا موقفا إرجائيا ـ حتى لا نستعمل لفظا آخر ـ يجعله غير مناصر لا "لمعاوية" ولا "لعلي" ولا "للخوارج"، في انتظار ما ستسفر عنه المعركة ليعلن آنذاك عن مبايعته وانضمامه للمنتصر. وهذا الموقف الإرجائي أخطر بكثير على القضية الأمازيغية من المواقف الأشد عداء لها كالموقف العروبي والإسلاموي، لأن هذه الأخيرة على الأقل واضحة ومعروفة ومعلنة. أما حالة اللاموقف، كما هو الأمر عند الأستاذ المدلاوي، فتعبر عن غياب تام لأية قناعة وأي إيمان بالقضية الأمازيغية، وبالتالي عدم الاكتراث وعدم المفاضلة بين هذا الحرف أو ذاك. ثم ما الفائدة من نقد هذا الموقف أو ذاك إذا لم يكن من الممكن تقديم البديل؟ أليس ذلك فضولا وتطفلا لا غير؟ لأن من لا موقف له لا حق له في انتقاد المواقف المعبر عنها لأنه يبدو كمن هو أجني عن القضية ولا غيرة له عليها. وراء هذا الموقف/اللاموقف حسابات خفية وإرجائية طبعا، منعت الأستاذ المدلاوي من الإعلان عن موقفه بوضوح ومسؤولية، رغم أنه معروف بأنه صاحب نظرية "الحرف العربي الموسع" لكتابة الأمازيغية، وأن مؤسسات أكاديمة رسمية تستدعيه ليحاضر حول هذا "الحرف العربي الموسع" وتطبيقاته على الأمازيغية. لكن إذا كان الأستاذ المدلاوي حاول إخفاء مناصرته للحرف العربي، فإن الإسلامويين كشفوا عن ذلك وأفشوه من خلال استشهادهم به لدعم موقفهم المدافع عن الحرف العربي (انظر "التجديد" لـ31 يناير 2003). فلماذا لم يدافع الأستاذ المدلاوي عن الحرف العربي بكل وضوح وصراحة واعتزاز كما يفعل من يتخذ موقفا من قضية ما بناء على إيمانه وقناعته بصواب موقفه؟ أم أن الأستاذ المدلاوي، اقتداءٍ بأصدقائه العاملين بمؤسسة BMCE، بدأ يطبق هو أيضا منهج "التقية" الذي لجأ إليه هؤلاء بعد اندلاع "معركة الحرف" حيث أصبحوا يحضّرون الكتب المدرسية بالحرف العربي سرا، لكنهم يعلنون للملإ أنهم يشتغلون بثلاثة حروف. ولا ننسى بالمناسبة أن الأستاذ المدلاوي نوّه في مقاله بتجربة مؤسسة BMCE في معرض حديثه عن ضرورة التفكير في الحرف في إطار السياسة العامة للدولة في ميدان التربية والتعليم: »مهام لا يمكن تصور إنجازها على وجه الجد فيما له علاقة بإشكالية الحرف الحامل خارج الانطلاق من تجارب الميدان في المراحل الانتقالية التي يتعين تصور معالمها والتي يمكن اعتبار تجربة Mederastcom وجها من أوجهها الممكنة على الصعيد غير العمومي«. وهذه التجربة "الميدانية" للمؤسسة البنكية كانت تنحاز طبعا للحرف العربي، وهو ما كان وراء اندلاع "معركة الحرف" ودخول عمل المؤسسة في مرحلة السرية والتقية. هناك إذن انسجام تام بين موقف الأستاذ المدلاوي المناصر للحرف العربي دون الجرأة على الإعلان عن ذلك جهرا، وبين موقف المؤسسة البنكية التي تبنت الحرف العربي بشكل علني، ثم بشكل سري بعد أن نددت بذلك "معركة الحرف". يبدو أن الأستاذ المدلاوي يغازل مؤسسة BMCE طمعا في العمل بها بجانب زملائه وأصدقائه لينال حصته من الشيكات هو كذلك. هذا إذا لم يكن يشتعل بها منذ مدة، وهو ما لا تسهل معرفته بعد أن دخلت هذه المؤسسة مرحلة التقية والسرية التي اضطرتها إليها "معركة الحرف". إذا كان الأستاذ المدلاوي لم يتخذ موقفا واضحا وصريحا من الحرف الذي يجب أن تكتب به الأمازيغية، فهذا يعني أنه يريد أن تكتب بالحروف الثلاثة في نفس الوقت، ما دام لا يفاضل بين هذه الأخيرة. لنقرأ بعض أقواله التي تؤكد هذا "الخيار الثلاثي": »أليس هناك خيارات أخرى (أي غير خيار هذا الحرف أو ذاك على الإطلاق) ممكنة تأخذ الظرفية والتطور والمرحلة الزمكانية بعين الاعتبار؟«؛ »وأنه يستحيل إعطاء إجابة إطلاقية وقطعية في الزمان والمكان وأساليب الإنجاز في مسألة حرف أو أحرف كتابة اللغة الأمازيغية بالمغرب لهذا العهد«؛ »إن الطرح الإطلاقي القطعي والإقصائي لمسألة خيارات حرف كتابة الأمازيغية لا يستقيم حتى من الوجهة الوظيفية المحض، ناهيك عن الاعتبارات الأخرى المتعلقة بالسياسة وبالثقافة السياسية«. وهذا موقف ـ كتابة الأمازيغية بثلاثة حروف في نفس الوقت ـ أخطر بدرجات كثيرة، على الأمازيغية، من الموقف الإرجائي الذي يترقب نتيجة الصراع ليعلن عن مبايعته للفائز، لأن هذا الموقف الأول يكشف عن احتقار مبيّت للأمازيغية وغياب لأي إيمان بها والرغبة في استمرار الاحتفاظ عليها والتعامل معها كمجرد لهجات يمكن تدوينها بأي حرف وكيفما اتفق. وفي ارتباط بإشكالية خيار الحرف وإدماج الأمازيغية في التعليم، يدعو الأستاذ المدلاوي إلى مراعاة »الواقع السوسيوـ لغوي الراهن في المدرسة المغربية« و»كل ذلك بانسجام مع السياسة العامة التي تنتهجها الدولة في ميدان التربية الوطنية«، »لأن أية محاولة لمعالجة المسألة الأمازيغية بمعزل عن التفكير في علاقتها بالسياسة العامة للتربية الوطنية بما تطرحه من قضايا التعدد اللغوي وتفاوت القدرات التأهيلية للغات المستعملة وعلاقة المضامين بفرص الشغل وبمقومات الهوية المغربية العامة، محكوم عليها بالفشل«. جميل أن نستحضر الواقع السوسيوـ لغوي الراهن للمدرسة المغربية والسياسة العامة للدولة في مجال التربية والتعليم ونحن نفكر في كيفية رد الاعتبار للأمازيغية وإدماجها في المنظومة التربوية الوطنية. لكن ما هي مميزات هذا »الواقع السوسيوـ لغوي الراهن في المدرسة المغربية؟« وما هي مميزات »السياسة العامة التي تنتهجها الدولة في ميدان التربية الوطنية؟«. أليس أخص ما يميزهما هو الإقصاء الرسمي للأمازيغية؟ وبالتالي، فإن أخذهما بعين الاعتبار في التحضير لتنمية الأمازيغية يعني الأخذ بعين الاعتبار لإقصاء الأمازيغية من أجل مزيد من إقصائها. فتؤدي الأمازيغية، بسبب ذلك، مرة أخرى ثمن إقصائها وتهميشها، فتصبح بذلك ضحية ورهينة إقصائها من طرف السياسة العامة التي تنهجها الدولة في ميدان التربية الوطنية. وهو ما يعني تبرير الإقصاء بالإقصاء والتهميش بالتهميش. يريد الأستاذ المدلاوي أن يسجن إذن الأمازيغية داخل دائرة مفرغة تتكون من حلقات تؤدي كلها إلى مزيد من إقصاء الأمازيغية: المدرسة المغربية تقصي الأمازيغية؛ ويجب مراعاة هذا الإقصاء في كل عملية إنعاش لها، وهو ما يترجم بمزيد من الإقصاء لها. إن الأستاذ المدلاوي يحاول الجمع بين أمرين متنافيين لا يجتمعان، الجمع بين مشروع رفع الإقصاء عن الأمازيغية وبين أسباب إقصائها المتمثلة في السياسة التعليمية الحالية التي يجب أخذها بعين الاعتبار. لو كان الأستاذ المدلاوي يريد حقا رد الاعتبار للأمازيغية وإنعاشها لدعا أولا إلى تغيير السياسة العامة للدولة في مجال التربية والتعليم ـ ولا يهم أن الظهير المنظم للمعهد يحيل على هذه السياسة كذلك ـ المسؤولة عن تهميش وإقصاء الأمازيغية، بدل الدعوة إلى احترام هذه السياسة والعمل في انسجام معها. 6 ـ من يخاطب الأستاذُ المدلاوي في مقاله؟ لنترك ما قاله وكتبه الأستاذ المدلاوي في مقاله لننتقل إلى ما لم يقله ولم يكتبه لكنه أفصح وأبلغ مما قاله وكتبه لأنه هو القصد والغاية من وراء كل ما قاله وكتبه. طبعا سيقول الأستاذ المدلاوي إن ذلك يدخل في »محاكمة النيات« كما قال عن بعض مظاهر الصراع بين مختلف الفرقاء حول الحرف. نعم، صحيح أن الأمر يتعلق هنا بقراءة ـ وليس محاكمة ـ لنية وقصد الأستاذ المدلاوي والكشف عن "الحسابات الخفية" الخفية من خلال مقاله، انطلاقا من السؤال التالي: إلى من يوجّه الأستاذ المدلاوي خطابه؟ فكما أن الأستاذ المدلاوي، في مقاله حول عريضة العنصرية، لم يكن خطابه موجها إلى الحركة الأمازيغية ـ رغم أنها كانت هي موضوع مقاله ـ التي أشبعها قدحا وذما من قبيل "السفه" و"الباتولوجيا" و"المرض الطفولي"، فكذلك في هذا المقال حول الحرف، رغم أنه يناقش مختلف المواقف التي غيّبت "الأسئلة المعرفية"، إلا أن خطابه ليس موجها إليها، بل إلى جهات أخرى يريد أن يقول لها: انظروا كيف أني أنا مترفع ومتعالٍ عن "الشعارات الطنانة" ولغط وضوضاء ما يسمى بالحركة الأمازيغية. أنا امتلك العلم و"الآلة" نتيجة »سلخ سنوات من البذل لتحصيل المعرفة الدرائية من مصادرها وبوسائلها«. أنا لست مع هذا الحرف ولا مع ذاك، أنا مع كل الحروف، أنا مع الحرف الذي تختارونه وتقررونه. ألا تلاحظون كيف أحفظ وأستظهر نصوص وفصول ومواد الظهير المنظم للمعهد وأستشهد بها فصلا فصلا ومادة مادة، وإليها أهدي الضالين من "مناضلي الحركة الأمازيغية" وأدعوهم إلى الاحتكام إليها والتقيد بها؟ ألم تنتبهوا إلى أنني أدعو إلى ربط المسألة الأمازيغية بالسياسة العامة للدولة في ميدان التربية والتعليم، عكس ما يفعله أصحاب الشعارات الطنانة الذين يحاربون هذه السياسة؟ هل هناك من ينادي، من داخل ما يسمى بالحركة الأمازيغية، إلى إقامة ميثاق ثقافي مغربي تساهم فيه كل القوى الوطنية كما أفعل أنا؟ ألا تلاحظون كيف أربط القضية الأمازيغة بـ"الإنسان المغربي" وليس بالإنسان الأمازيغي كما يفعل من يعتبرونها شأنا خاصا بهم لوحدهم؟ ألا ترون كيف أقترح الحلول انطلاقا من احترام الواقع السوسيوـ لسني للمدرسة المغربية وفي إطار النظام التربوي المغربي القائم، عكس ما يفعله المتهورون الذين ينادون بتغيير هذا الواقع وقلب هذا النظام كشرط للاعتراف بأمازيغيتهم؟ ألم تستنجوا بعد بأنني لا أعادي القوميين الذين أستشهد بأقطابهم مثل عبد الصمد بلكبير؟ ألا ترون بأنني أتحدث عن "الهوية المغربية العامة" وليس عن الهوية "الأمازيغية" كما يفعل نشطاء ما يسمى ب"الحركة الأمازيغية"؟ ألم تدركوا بعد كم أنا "ناضج" و"رزين" و"متعقل" و"معتدل" في معالجتي للأمازيغية عكس الغلو والتطرف اللذين يسمان "نشطاء" الحركة الأمازيغية؟ ألست إذن أنا هو الرجل المناسب الذي عليكم أن تضعوه في المكان المناسب؟! |
|