النبض الغافي (2)
بقلم: حميدي لحسن (إيتزار)
إن العلاقة الجدلية
القائمة بين البشر والمحيط عبر الزمن تؤشر على المستوى الحضاري
للمعمليات العقلية، والتي تغري بالمساءلة واستقراء اللغة كصور محكية
لانعكاس المحيط على الذهن، ومن ثم فلا مناص لها من حمل هذا الواقع
وحيثياته بين طياتها واستحضار ما قد يطرأ على اللغة من إضافة إدغام أو
نقصان، تقتضيه ضرورات مختلفة وعوامل متعددة.
وفي ظل غياب مفاهيم
مباشرة أو غير مباشرة ذات صلة بالموضوع، اللهم فيما نجهل. وما لم نقف
على العكس المحتمل لقصور الشمولية والإلمام، وما لم يكن ليا لأعناق
الكلمات تبقى الدلالات الأمازيغية حاضرة في تسميات بعض الشهور العربية،
القريبة من منطوق ومفهوم أمازيغيين، مسايرين لخاصة الشهر وملائمين
لمميز الفصل مع ناظم من بوادر بواعث الملكية التي تغيب خلال فصل الربيع
لتفسح المجال للإنسان ليعايش فرحة الطبيعة متنفسا طبيعيا بعد طول
محاصرة البرد له.
بعد الانتهاء من عملية
الحرث، يجدد رسم الحدود بكومة أحجار في كل زاوية تعرف في الأمازيغية بـ
"أيرور". وحلول الراء محل اللام والعكس المتداول في اللسان الأمازيغي
يحملنا على الاعتقاد أن "أيلول"، اسم الشهر التاسع، غير بعيد عن "أيرور".
ويمتد خيط الملكية في تسمية الشهرين المواليين حيث جاءت التسمية بصيغة
الدعاء بالتوائم للقطيع الذي يضع حملانه في الوقت في "إشنوان"، وتنطق
شينها بين كاف مخففة وشين، وتعني "التوائم" لتتحول إلى "كانون" الأول
والثاني. وامتدت التسمية على مدى شهرين لعدم تنوع في النشاط المميز.
وغير بعيد عن القطيع تظل تسمية الشهرين الآخرين المواليين وفية
للانتظام من حيث الاشتغال على الصوف وبروز نوع من الملكية. "الباطرون"
يهمه الحث على العمل، حيث ورد الاسم بصيغة الجمع في كلمة "تكشررين"،
وينطق كافها مخففا بين الشين والكاف. ومفردها "تكشررت" وهي قرص يثبت
أسفل المعزل، ووارد سقوط الكاف والراء خلال عملية التداول، لتصبح
"تشرين" الأولى والثانية. ولطول مدة البرد ومحاصرته للإنسان، ينفذ
مخزون الحطب، ويلجأ للاستدفاء بـ"أشباظ"، وهو فرع شجرة متوسط الحجم.
يحرق بعد ان أكل القطيع أوراقه شتاء. إنه "شباط" المنطوقة… ليجد من هنا
ارتباط الحرية بقرص الشمس. وفي تماثل الحرية على الأقل إيحاء له. فهي
التي تحررنا من البرد، من الظلام، من الخوف، وخوف الإنسان الأول وسط
غابة أخطار تتهدده. إنها تستحق ذلك، وأن تعبد على ذلك. وأثر الكواكب
واضح في تسمية شعيرة الصلاة بالأمازيغية. فبحذف تاء التأنيث أول
وآخر
كلمة "تزلت" القريبة من "طالت" العبرية ذات المعنى المشترك، يبقى الفعل
"زل" على وزن "صل" بالعربية. وهو فعل آمر بعبادة الشمس "أزل" التي
اشتقت منها. والشهر الثالث لا زال قائم المبنى والمعنى بحيث "أدار"
تعني الرجل. وهي كذلك اسم رقصة لا زال القائمون بها يعرفون بـ"آيت
أدار"، ولعلها قبيلة كذلك، وبديهي أن يتزامن الفرح والرقص مع فصل
الربيع حيث تبتسم الطبيعة للإنسان الخارج لتوه من طول محاصرة البرد
وغضب الطبيعة ليشاركها فرحتها ويجاري روعتها على ظهر الخيل خلال شهر
"نيسان" التي ينطقها الأهالي مبدوءة ب"أل" شمسية مع تشديد مخفف للياء "النيسان"،
وهما كلمتان: "الني يسان" أي فوق الخيل أو "نركب الخيل". على كل، إنها
دعوة لركوب الخيل. وباحتمال سقوط ميم النسب وانقلاب الواو ألفا من "م
أيور" أي صاحبة إله القمر إلى "إيار" يكون الزمن قد فعل فعله.
وحزيران كلمة مركبة من
"حز إيران"، ومعناها الحرفي "ضم الحروف" و "إير" هو مفرد "إيران"، وهو
حرف كل شكل هندسي، والمقصود هو "احرس المحصول". يليه الحث على "موالاة
الجني بالأيدي"، "تم وزر" التي بسقوط الراء القوي الاحتمال أصبحت
"تموز" في الشهر الثامن والأخير، يتضخم الإحساس بالملكية والسلطة،
ملكية الأرض، الأبناء، الزوجة، المحصول الزراعي ليجسد الاسم "آب" معنى
الأبوة والسلطة المحتمل نطقها بباء مشددة أو إضافة باء ساقطة "آب" أو
"باب" الكثيرة الورود في الأغاني.
فبين الوضوح المثير
والتصديق الصعب يجد التردد ما يبرره مما يمر به حقل اللغة البريئة بين
صعود وأفول ثوابت راسخة وشطحات زبدية، تبقى كذلك نشاطا ذهنيا، إذ
باعتبار اللغة مجموعة رموز صوتية لعمليات ذهنية فهي بذلك نشاط عقلي
يوازيه تراكم إنتاجي مادي بما فيه اللغة نفسها، والذهن كمنتج إذن للغة،
يتضح مجهوده العقلي وهدفه النفعي في النحت اللغوي للكلمة التي استجمعت
جذورها من واقع العلاقة التفاعلية للإنسان بالمحيط. فهو بهذا غير محكوم
بها ولا تسمو فوقه ليقدسها. مما يستوجب معه التوجه بالمعالجة للعقل
المنتج للغة لا إلى وليدته بقدح أو تمجيد. وبقدر ما ينفعل العقل
بالواقع، يؤثر فيه وتنمو اللغة لتتشعب وتتعقد بتفرع ودقة اهتمامات
الإنسان باضطراد التحول المستمر لمتطلبات الحاجة ومستحدثات الانسياب
الزمني لتسبقه وتتحكم فيه بمنتوجات مادية لغوية حضارية يمتلئ بها فراغ
قائم، مؤسسة لانتظام مجتمعي حول محور عملي علمي إيديولوجي لهذا التفاعل
الراقي الذي سيتخذ اسم "حضارة". ومن غير تشغيل العقل تبقى كل إجراءات
التطعيم والمحافظة على اللغة غير ذات أهمية إذ لا يمكنها بحال تجاوز
الحدود كإنتاج مادي/لغوي ليملأ فراغا لا بد له من دور المستهلك لأنه
كذلك.