إن المتأمل
لتاريخ المغرب، خصوصا فترة ما بعد الاستقلال، سيلاحظ ويستنتج
أنه كلما كانت الحكومات أكثر شرقانية وعروبية كلما كانت أكثر
استبدادا وقمعا للحريات. فالسنون التي تلت مباشرة الاستقلال،
وهي الفترة التي حكمتها حكومات من "الحركة الوطنية" ذات التوجه
الشرقاني العروبي الواضح، عرفت استبدادا وقمعا طالا كل من كان
لا ينتمي إلى الحزب الحاكم وكل المناطق (الريف وتافيلالت) التي
كانت تجرؤ على الاحتجاج ضد الظلم الذي يمارسه عليها هذا الحزب
الذي كانت تتشكل منه الحكومة. أما سنوات الاختطاف والاغتيالات
والسجون السرية التي عرفها المغرب خلال 70 ـ 90، عندما كانت
الحكومات يمينية مخزنية، فسببها الصراع الدامي حول السلطة بين
القصر والقوات اليسارية ذات الارتباطات الشرقانية القومانية.
وهذا موضوع آخر يحسن تمييزه عن الموضوع الذي نحن بصدده، وإن
كان هناك إغراء كبير للخلط بينهما لأن الاستبداد واحد مهما
كانت دوافعه وأسبابه.
وخير مثال
حديث يؤكد هذه العلاقة الطردية بين النزعة الشرقانية والنزعة
إلى الاستبداد هي حكومة "التناوب" ذات المرجعية الشرقانية
والعروبية المعلومة. فخلال ولاية هذه الحكومة ـ التي لا تزال
مستمرة ـ سُجل تراجع واضح في حرية الصحافة ـ عكس ما تؤكده
المظاهر البراقة ـ وتقدم ملموس في استعمال "الزرواطة" ضد
التظاهرات والمسيرات المدنية السلمية.
وليس هناك
نزوع إلى السلطوية والاستبداد بسبب منع ثلاث صحف في يوم واحد
أو محاكمة أسبوعية "دومان" بدعوى أن "الحجر مقدس" أو استعمال
"الهراوات" ضد العاطلين ورجال التعليم، بل لأن الحكومة تحضّر
قوانين تحدّ بشكل مكشوف ومقصود من الحريات العامة (قانون
الصحافة، الجمعيات، المسطرة الجنائية…). فما كان انتهاكا
للقانون سيصبح قانونا ملزما للسلطات: فما كانت تلجأ إليه
الشرطة من تنصت غير قانوني على مكالمات بعض المواطنين سيصبح،
في التعديلات المقترحة لبعض فصول المسطرة الجنائية، تطبيقا
للقانون وليس انتهاكا له. كما أن نظام التصريح
الحالي لإصدار
الجرائد وتأسيس الجمعيات سيتحول إلى نظام للترخيص؛ وهو تراجع
خطير على مستوى الحريات العامة يصبح معه استبداد السلطة هو
المرجع في كل شيء.
ما ذا نستنتج
من هذا التوجه نحو مزيد من التقليص من الحريات العامة وحرية
التعبير والصحافة؟
1
ـ هناك ميل أكثر إلى السلطوية والاستبدادية كلما كان المسؤولون
الحكوميون وأصحاب السلطة أكثر شرقانية وعروبية وقومانية في
اختياراتهم ومرجعيتهم الإيديولوجية والفكرية، لأن المشرق يتميز
بخاصية "الاستبداد"، وهي ظاهرة تعرف عند الدارسين بـ"الاستبداد
الشرقي" Le
despotisme oriental،
وبالتالي فإن
الارتباط بالمشرق يعني الارتباط بالاستبداد، وأن تقليد
الاستبداد يجعل المقلِّد مستبدا هو كذلك. لكن نحمد الله أن
"المغاربة العرب"، وهي تسمية نطلقها على المغاربة أصحاب
المرجعية العروبية، لم يستوردوا من المشرق سوى عقلية الاستبداد
وليس الإرهاب كما فعل "الأفغان العرب"، علما أن الاستبداد ليس
إلا وجها آخر للإرهاب.
2
ـ إذا كنا كلما اتجهنا أكثر إلى المشرق اتجهنا نحو مزيد من
الاستبداد والتسلط، فالنتيجة المعكوسة هو أننا كلما اتجهنا عكس
المشرق اتجهنا نحو مزيد من الحرية والديموقراطية. والاتجاه
المعاكس للمشرق هو الاتجاه نحو المغرب، أي العودة إلى المغرب.
وما معنى العودة إلى
المغرب؟ إنها
العودة إلى الأمازيغية. فكما كتبنا في مناسبات سابقة، فليس
هناك غير الأمازيغية لإنقاذ المغرب من إغراءات الاستبداد
والإرهاب والأصولية، وكل الشرور والمساوئ ذات المصدر المشرقي.
إن الأمازيغية تمثل، بالنسبة للمغرب، أقصر الطرق نحو
الديموقراطية والحداثة والعقلانية. فلماذا ضياع الوقت وتأخير
الحتمية التاريخية إذا لم يكن من الممكن إلغاؤها؟