|
|
سؤال الثقافة الأمازيغية:
من مكتسبات الاعتراف إلى تحديات الترسيم1
بقلم: عبد السلام خلفي 1ـ في معنى الثقافة المغربية إلى حدود 2001، تاريخ الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية، ظلت الثقافة المغربية منحازة إلى التقسيم الكلاسيكي بين ثقافة عالمة تعبر عنها اللغة العربية واللغات الأجنبية، وبين ثقافة شعبية تعبر عنها الأمازيغية والدارجة المغربية. وهكذا أعطتنا الثقافة الأولى ثقافة النخب «العالمة» التي تقترح نفسها لتكون في موقع السيادة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وأعطتنا الثقافة الثانية ثقافة السواد «الشعبي» الذي يمتاح من الفلكلور ويعيد إنتاجه خارج كل رعاية رسمية (إذا استثنينا، بطبيعة الحال، الاستعمال السياحي الفج لها). وإذا كان الأنتروبولوجيون وعلماء الاجتماع واللغة قد أعادوا طرح السؤال في معنى «الثقافة»، وعملوا من أجل دحض كل الكليشهات التقليدية عن التقسيم المشار إليه، على أسس علمية، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها، هي أن الحركة الثقافية الأمازيغية قد لعبت دوراً أساسياً في إنتاج خطاب يستعيد الخلاصات الأنتروبولوجية والسوسيولولجية واللسانية بله والتاريخية أيضاً، ليتخذها مرتكزاً في سبيل بناء تصور جديد عن معنى الثقافة ومن خلالها عن معنى الهوية. 2ـ في المنطلقات الفلسفية لتعريف الثقافة والذي تجدر الإشارة إليه هو أن التقسيم الآنف الذكر قد ارتكز في تعريفه وتسويقه لمفهوم الثقافة على منطلقات فلسفية ذات علاقة وطيدة بطبيعة الدولة؛ فإذا كان تيار التقسيم الكلاسيكي قد انطلق من فكرة «التوحيد» التي نظرت لها الحركة الوطنية في سياق تاريخي محدد، هو سياق بناء الدولة الوطنية الموحدة، فإن التيار الحركي الأمازيغي انطلق من مفهوم»التنوع»، مع ما يستضمره هذا المفهوم من إحالات مباشرة وغير مباشرة على الترسانات الحقوقية العالمية، وما يمثله ذلك من سمو قوانينها على القوانين الوطنية. لقد كان تيار التوحيد ينظر إلى التنوع بوصفه خطأ تاريخياً يجب تصحيحه عن طريق التعريب، أي عن طريق فرض الثقافة العالمة ومن خلال تبني لغة التوحيد التي تعبر عن هذه الثقافة؛ وكان الهدف من وراء ذلك، هو مركزة الدولة الوطنية ذات الثقافة الواحدة واللغة الواحدة والدين الواحد في يد نخبة مدينية اعتبرت نفسها دائماً هي الممثلة الوحيدة للثقافة الشرعية ضداً على الثقافة اللاشرعية («البربرية») التي نودي في لحظات ما بوأدها. وأما تيار التنوع فقد جاء كرد فعل على هذا التيار الأول، مما جعله ينظر إلى التوحيد بوصفه تهديداً للتنوع الذي تعبر عنه اللغة الأمازيغية في تعددها. ولذلك تحول لديه مفهوم «التوحيد» إلى فوبيا يساوي القومية والبعثية والوطنية بالاستبداد، وبدأت تتشكل منه ملامح توجهات تدعو إلى تبني النماذج الدولتية المبنية على الأوطونوميات الجهوية وتلح في الخروج عن النموذج التوحيدي اليعقوبي الفرنسي. 3ـ الدينامية اللسانية المغربية وتشكل ملامح ثقافة «التأحيد» كما طرحت منذ الاستقلال لقد جاء «التأحيد» الثقافي الوطني في سياق عقدة الانتماء التي نماها الاستعمار الغربي لشمال إفريقيا؛ إذ نتيجة للسياسة الكولونيالية التي مهدت لنشوء الوعي الوطني لدى النخب المغربية، ونتيجة للحركية القومية التي عبرت عنها النخب الوطنية المتأثرة بالرواد القوميين في كل من مصر ولبنان وسوريا إلخ، والذين كان لهم حضور قوي في باريس منذ أواخر القرن التاسع عشر، فإن مفهوم الدولة الموحدة سوف يصطبغ برفض الاستعمار عن طريق: ـ اتخاذ الشرق مرجعاً للهوية الوطنية، وهدفاً تعمل الدولة المغربية على تحقيقها من خلال سياسة التعريب المعتمدة (المبادئ الأربعة)؛ ـ اعتبار الأمازيغية نتاجاً استعمارياً (من خلال الإحالة المستمرة على ما يُسمى بالظهير «البربري») وخطراً يهدد الوحدة الوطنية، بله والعربية المراد تحقيقها؛ ـ اعتبار المغربي مواطناً عربياً في انتظار تعريبه عن طريق المدرسة وتحييد استعماله من طرف قوى الغرب الذي ظل، في نظرهم، يمثل قوى التغريب والاستلاب الثقافي؛ ـ اعتبار المغرب جزءاً من «العالم العربي»، وعضواً في «الجامعة العربية»، ويهدف من خلال بناء وحدته الوطنية بناء الوحدة العربية. وبهذا ستُقدم الثقافة العربية بوصفها ثقافة التوحيد والتحرر الاشتراكي والقومي والإسلامي، وبوصفها الثقافة الأصيلة المحيلة على الأصول العربية- الإسلامية النقية والخالصة من كل أنواع البدع والخرافات؛ في حين ستُقدم الثقافة الأمازيغية بوصفها ثقافة «الظهير البربري» وثقافة الفلكلور والسحر والتخلف والتعصب والتشتت واللاعقلانية إلخ، ورديفاً للمرحلة الجاهلية المغربية. ودون أن نناقش الخلفيات الإيديولوجية لهذا الاختيار الثقافي فإن الأكيد هو أن السياسة التي تمخضت عنه قد أدت إلى خلق دينامية عميقة في النسيج اللغوي المغربي وفي الأشكال الثقافية التي يعبر عنها هذا النسيج؛ ويمكن لنا، في هذا الصدد، أن نحصر هذه الدينامية، على الأقل، في مستويين: 3ـ 1ـ مستوى الدينامية اللسانية فلقد أمكنت السياسة اللسانية المغربية المعتمدة منذ 1956 من: ـ خلق دينامية لسانية عربية داخلية: ونقصد بالدينامية الداخلية، هنا، ذلك التفاعل الكبير الذي وقع بين مستويات اللغة العربية الفصيح والدارج نتيجة للسياسة اللسانية المعتمدة من طرف الدولة المغربية؛ إذ أدى تعميم اللغة العربية في المنظومة التربوية وإدراجها في الإعلام وفي مختلف المؤسسات الرسمية إلى إطلاق دينامية لسانية مهمة كان من نتائجها توحيد اللهجات العربية المغربية، من جهة، وتقريبها من اللغة العربية الفصيحة، من جهة ثانية. وللإشارة فإنه إلى حدود القرن التاسع عشر لم يكن في إمكان المغاربة أن يحققوا تواصلاً كاملاً بالدارجة المغربية نظراً لتعدد تنويعاتها الجهوية ولغلبة التنويعات اللهجية الأمازيغية؛ فبسبب العزلة التاريخية التي ظلت تعيش فيها هذه الجهات أنتجت كل منطقة لهجتها الخاصة، مما كان يقف، في الكثير من الحالات، حجر عثرة أمام تحقيق تواصل سهل وسلس بين مغربي من مراكش وآخر من دكالة مثلاً. إلا أن السياسة اللسانية المعتمدة منذ سنة 1956، والتي تم تدشينها منذ بدايات القرن الماضي ببناء المدارس الحرة، قد أدى إلى التقريب بين هذه اللهجات وإلى بناء نموذج لساني لهجي مغربي ممعير يستعير ما ينقصه من معجم وتعابير وأشكال أسلوبية من اللغة العربية الفصيحة، ويتجه نحو التوحيد اللساني المغربي، الذي يؤصل، من جهة، لتواصل عبر – وطني، ويتجه، من جهة ثانية، نظراً للثورة الإعلامية المتجلية في تناسل القنوات العربية الشرقية، وانتشار البارابول، في المرحلة الحالية، إلى بناء مستوى لساني يتجاوز الحدود الوطنية ليشمل كل دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ـ خلق حيوية كبيرة في مجالات الإبداع بمختلف أشكاله: حيث برزت أعمال ذات عمق إبداعي وفكري كبير استعملت فيها الدوارج المغربية، وانفتحت أمامها وسائل الإعلام، ومن ضمنها الأعمال الفنية والسينمائية والتلفزيونية خاصة المسلسلات والمسرحيات إلى جانب الأعمال الصحفية والأدبية المكتوبة التي حاولت منذ الستينيات المزاوجة أحياناً بين الدارجة والعربية الفصحى، وأحياناً أخرى استعمال لغة عربية فصيحة أقرب إلى الدوارج منها إلى العربية الكلاسيكية؛ وقد كان لهذا أيضاً أثر كبير على التقريب بين التنويعات اللسانية اللهجية المغربية؛ ـ توسيع دائرة استعمال الدارجة المغربية: حيث أصبحت هذه اللغة هي اللغة الأولى للمغاربة من حيث الإتقان والتواصل الشكلي وغير الشكلي على الصعيد الوطني؛ ذلك لأن انفتاح الإعلام والإدارة على استعمالها، مع ما رافق ذلك من استفادتها من الوضعية الرسمية للغة العربية الفصيحة، قد أدى إلى أن تصبح هي اللغة الأولى من حيث نسبة المتكلمين بها التي وصلت، حسب الإحصائيات الرسمية لسنة 2004 إلى 89/ من السكان البالغين 5 سنوات فأكثر؛ ـ تشكل اللغة الوسيطة: إذ نتيجة للدينامية المشار إليها آنفاً، ونظراً إلى انفتاح العربية الفصيحة على الأشكال التعبيرية والأسلوبية للغة الفرنسية، واقترابها من استعمالات الدارجة، تشكل مستوى لساني عربي جديد يسميه اللسانيون بمستوى العربية الوسيطة التي يستعملها المثقفون إضافة إلى وسائل الاتصال السمعية والسمعية -البصرية والمكتوبة؛ ويتسم هذا المستوى بكونه مفهوماً من طرف غالبية المغاربة، وإن كان عدد كبير منهم يصعب عليه استعماله. 3ـ2ـ الدينامية اللسانية الأمازيغية: على عكس الدينامية اللسانية العربية التي أطلقتها سياسة الدولة على المستويين اللساني والثقافي، فإن الأمازيغية عرفت ما يمكن تسميته بالدينامية الخارجية. إذ نتيجة لغياب هذه الثقافة وهذه اللغة بكل أشكالهما الفنية والتعبيرية من المدرسة والإعلام ومن مختلف مؤسسات الدولة، فإنها أخذت تتجه نحو استعارة معجمها وأساليبها من خارج تنويعاتها اللسانية التي تتشكل منها؛ ولما كانت العربية والفرنسية والإسبانية إلخ هي أكثر اللغات هيمنة نظراً لوضعيتها المؤسساتية، فإنها شكلت بالنسبة لها مصدراً أساسياً في التعبير عن المفاهيم الجديدة، وفي حالات كثيرة في استبدال معجم أو أسلوب بآخر؛ وللأسف فإن هذه الدينامية الخارجية قد أدت إلى: ـ تباعد المظهر التواصلي البيلساني الأمازيغي، وعرقلة ظهور المظهر المعياري للغة الأمازيغية الذي كان في الإمكان أن يتشكل انطلاقاً من فروعها الثلاث؛ ـ إنهاك القدرات اللغوية والتعبيرية لها، وذلك بالشكل الذي جعلها تنزع إلى تعويض مظاهرها المعجمية والتعبيرية وأحياناً التركيبية بمظاهر لسانية عربية، في الدرجة الأولى، وفرنسية وإسبانية في الدرجة الثانية (الكسل اللساني)؛ وقد أدت هذه الوضعية إلى خلق حالة تآكل داخلي للسجلات المعجمية والتعبيرية التراثية التقليدية، والتي كان لتآكلها الأثر السلبي في موت عدد من الأشكال الأدبية والفنية (فنون الرقص الجماعي بالريف، فنون الحكي الأمازيغي، فنون المسرح الحلقي في الأسواق المغربية، فنون الإنشاد الديني إلخ)؛ ـ خلق حالة عجز مزمنة في مجال إنتاج السجلات اللسانية الجديدة من داخل المنظومة اللسانية الأمازيغية، والحاملة للمضامين الأدبية والعلمية والاقتصادية إلخ، مما كان له الأثر السلبي أيضاً على انخفاض منسوب مردودية «استعماليتها» (l’utilisabilité) في مجالات الفكر والثقافة والفن والأدب؛ ـ تراجع كبير في مجال الإنتاج الأدبي والفني والثقافي التقليدي (توقف الحكي، توقف الإبداع الأمثالي، توقف أو ضعف الأشكال الموسيقية التراثية في المنتوجات الفنية العصرية إلخ)؛ وتوجه غالب نحو تبني النموذج الرسمي للثقافة المغربية، مما نتج عنه انخفاض واضح في منسوب الإبداع الأمازيغي بمختلف أشكاله وفنونه؛ ـ جعل اللغة الأمازيغية في وضعية تنافسية غير متوازنة مع اللغة العربية ومع اللغات الأجنبية، بل وفي حالات كثيرة في وضعية مقاومة نتيجة للتوجه الانسجامي الذي مأسست له السياسة اللغوية المغربية؛ ـ تراجع مرعب لعدد الناطقين باللغة الأمازيغية بالمغرب؛ إذ حسب الإحصائيات التي قدمتها لنا الحكومة المغربية سنة 2004 فإن عدد الناطقين بهذه اللغة قد انخفض إلى 28 /2؛ في الوقت الذي كانت نسبتهم سنة 1956 تتعدى 85/؛ وهو نفس التراجع الذي شهدته الأمازيغية عند الجارة الجزائر (من أكثر من 60 / بداية القرن التاسع عشر إلى أقل من 15 / سنة 1990). وتذهب اليونسكو إلى أن حالة الأمازيغية في شمال إفريقيا في تناقص مستمر، وأن الكثير من تنويعاتها قد انقرضت في حين أن هناك تنويعات أخرى في طريقها إلى الانقراض وذلك مثل الزناكية على الحدود المغربية الموريطانية، والغمارية في الشمال، والفيكيكية واليزناسية إلخ. 4ـ ظهور الحركة الثقافية الأمازيغية وتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية 4ـ1ـ ظهور الحركة الثقافية الأمازيغية إذا كانت الحركة الثقافية الأمازيغية التي ظهرت منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي قد أثرت بشكل كبير في تغيير الكثير من التمثلات عن الثقافة الوطنية، فإن تأثيرها الكبير قد مس بالدرجة الأولى الجانب الأدبي والفني والأكاديمي من القضية، ذلك لأنه بظهور هذه الحركة بدأت تتشكل معالم أدب مكتوب في ميادين القول الشعري وفي الكتابة المسرحية والروائية والقصصية؛ كما ظهر جيل من الفنانين الذين بدأوا يؤلفون روائع غنائية وموسيقية تستلهم من التراث الفني الأمازيغي، وتحاول الانخراط في موجة التحديث التي أخذت في التبلور؛ وإلى جانب الأعمال الأكاديمية التي باشرها باحثون في اللغة والثقافة الأمازيغيين بالجامعات المغربية والأجنبية، بدأت، موازاة مع ذلك، تظهر ملامح مسرح أمازيغي ودراما أمازيغية بكل من الريف وسوس. إلا أن الملاحظ هو أن هذه الأعمال لم يكن ليُلْق إليها بال من طرف المشرفين على الشؤون الثقافية المغربية، ولذلك ظلت أعمالاً فردية أو ذات طابع جمعوي ولا تستفيد من أي دعم مؤسساتي. وأمام هذا الوضع عملت الحركة الثقافية الأمازيغية على ترصيد كل ما قامت به في المجال الثقافي لكي تنتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل تسييس القضية الأمازيغية، فأسست سنة 1991 لميثاق أكادير الذي طالبت فيه الدولة بالاعتراف باللغة الأمازيغية في الدستور المغربي بوصفها لغة وطنية؛ وفي سنة 1994 ستؤسس لمجلس التنسيق الوطني الذي سيفتح الأبواب مشرعة أمام الفاعلين الأمازيغيين لتوحيد رؤاهم حول إشكالية الثقافة المغربية، ووضعية اللغة الأمازيغية في النصوص القانونية، والعمل على خلق أنشطة أمازيغية منفتحة على تنويعاتها الجهوية؛ وفي سنة 1995 ستنخرط الحركة الأمازيغية المغربية إلى جانب الحركات الأمازيغية العالمية في عولمة قضيتها من خلال تأسيس الكونكريس العالمي الأمازيغي، ومن خلال المشاركة في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي انعقد ببرشلونة سنة 1996 أو عن طريق المشاركة منذ 1998 في أشغال الأمم المتحدة ONUفي مجال حقوق الشعوب الأصلية أو أيضاً عن طريق تقديم مداخلات في إطار الأوراش المخصصة للتعددية الثقافية خلال تنظيم الكونكريس الأربع والثلاثين للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، سنة 2001، بالدار البيضاء أو خلال تنظيم الدورة الثامنة والخمسين للجنة القضاء عن التمييز العنصري (CERD) بجنيف (2001). وفي سنة 2000 سوف يصدر بيان الاعتراف بأمازيغية المغرب الذي وقعته غالبية الشخصيات الفاعلة في الحقل الثقافي المغربي وعلى رأسهم الأستاذ محمد شفيق والمناضل عبد الحميد الزموري. وقد شكل هذا البيان مناسبة لطرح إشكالية الثقافة المغربية وعبرها إشكالية الهوية، حيث تمت المطالبة بضرورة الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية لغة رسمية، واعتبار الهوية المغربية هوية أمازيغية، والتحلل من الأسماء الإقصائية مثل المغرب العربي، والجامعة العربية إلخ. ودعوة الدولة إلى الاعتناء بالأشكال الثقافية الأمازيغية وتقديم الدعم لها. وقد كانت لحظة 2000 مفصلاً تاريخياً في توجه الحركة الأمازيغية التي بدأت منذ ذلك الحين تطرح خيارات التسييس الهوياتي للقضية الأمازيغية في حالة عدم الاعتراف بها؛ مما أدى إلى تدخل الملك محمد السادس بعد أن تسربت وثيقة البيان إلى القصر، ووقع ما وقع من إنشاء للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، استجابة لإحدى البنود المنصوص عليها في البيان المذكور. 4ـ2ـ تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لقد كانت للحركية التي أطلقها بيان سنة 2000 الأثر البالغ على أصحاب القرار، وهو ما أدى بالملك محمد السادس إلى الإعلان في خطاب العرش لـ 30 يوليوز 2001 عن الخاصية التعددية لهويتنا الثقافية الوطنية، وإلى التأكيد في خطاب أجدير 17 أكتوبر من نفس السنة على المسؤولية الوطنية في سبيل النهوض بهذه الثقافة، بل والإعلان أيضاً عن كونها «ملكا لجميع المغاربة بدون استثناء»، وعلى ضرورة إدراجها «في المنظومة التربوية وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي». وللحقيقة فإن إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والذي انطلق العمل به منذ سنة 2003 كان له أثر كبير على المشهد الثقافي واللغوي الأمازيغي؛ إذ رغم كل المشاكل التي اعترضت مسار عمله فيما يتعلق بإدراج اللغة والثقافة الأمازيغيين في المؤسسات التربوية والإعلامية والثقافية والإدارية إلخ فإنه تمكن من وضع قاعدة علمية لانطلاق المشروع الثقافي الأمازيغي؛ ذلك المشروع الذي يمكن لنا تلخيص بعض معالمه فيما يلي: ـ مستوى تأهيل اللغة: إذ تمكنت المؤسسة من تنميط حرف تيفيناغ ووضع القواعد الإملائية ومعيرة اللغة، وأصدرت عدداً هائلاً من الكتب المرجعية في مجال النحو والمعاجم في مختلف التخصصات (الإعلام، المصطلح النحوي، المعجم المدرسي، المعجم العام إلخ) (أكثر من 19 مؤلفاً). ـ مستوى تأهيل الحرف: حيث تم: ـ إدماج حرف تيفيناغ في تكنولوجيات الإعلام والتواصل، ـ تبنيه من طرف منظمة «إيزو» للمعيرة (ISO) ـ إدماجه من طرف شركة ميكروسوفت في برامجها المعلوماتية. ـ مستوى التأهيل البيداغوجي والديداكتيكي: إذ عمل المعهد على إعداد مناهج وبرامج اللغة الأمازيغية وإنجاز الكتب المدرسية والدلائل البيداغوجية والكراسات الإدماجية والحوامل الداعمة من حكايات وأشرطة ومعاجم مصورة وحوامل لتعلم حرف تيفيناغ إلخ؛ وقد كان ديدنه التربوي دائماً هو إدراج القيم الثقافية الأمازيغية في هذه المناهج مما جعله يركز في كل ما تم إنتاجه على الجانب الثقافي والتاريخي المشرق لثقافتنا المغربية مع الانفتاح بطبيعة الحال على القيم العالمية؛ وقد أنتج في هذا الإطار ما لا يقل عن 36 مؤلفاً إضافة إلى عدد مهم من الوثائق التربوية الأخرى؛ كما أنه بادر، على المستوى الجامعي، إلى المساعدة في إدراج اللغة والثقافة الأمازيغية عن طريق تأسيس عدد من المسالك والماسترات والمشاركة في تكوين الطلبة؛ ـ مستوى تأهيل الأشكال الفنية والتعابير الأدبية والإنتاج السمعي البصري إذ أصدرت المؤسسة، في هذا الصدد، أكثر من 17 مؤلفاً في مختلف المجالات المتعلقة بالفن والأدب والإنتاج السمعي البصري، كما أنها قامت بتكوين العديد من الفنانين والمسرحيين والصحفيين في مجالات الموسيقى والمسرح والدراما والسينما والصحافة، وعقدت شراكات مع العديد من الفرق الفنية والمسرحية والسينمائية إلخ وأصبحت لها فرقة خاصة بالكورال الأمازيغي للأطفال، وعمدت إلى إحداث جائزة الثقافة الأمازيغية في مختلف الفنون والإبداع وميادين البحث الأكاديمي إلخ هذا إلى جانب جمع ما لا يقل عن 20.000 وثيقة فنية وأدبية بهدف توثيقها ودراستها وتعميمها لتستغل في مجالات الإبداع المختلفة؛ ـ مستوى تأهيل الثقافة الأمازيغية في مجال الدراسات التاريخية والبيئية وتمكنت المؤسسة أيضاً من دراسة التاريخ والتراث الأمازيغيين في الجبال والهوامش الصحراوية، وقامت بأبحاث ذات الصلة بالجغرافيا التنموية. كما انكبت على تحقيق ونشر سلسلة من النصوص التاريخية الأمازيغية ذات الأهمية البالغة من حيث التأريخ للأرض المغربية ولحضارة المغاربة. وقد بلغ عدد المنشورات في هذا المجال أكثر من 11 مؤلفاً، ناهيك عن نفس العدد الماثل للطبع. ـ مستوى تأهيل الثقافة الأمازيغية في مجال الدراسات الأنتروبولوجية والسوسيولوجية إذ تمكن المعهد من دراسة الظواهر الاجتماعية، ونظم المعرفة، وطرق تلقيها وانتقالها، ودرس مظاهر الهوية الثقافية، والتواصل الثقافي والاجتماعي، والمنتوجات الثقافية والقيم والعادات إلخ. وقد أثمر هذا العمل إنتاج أكثر من 8 كتب في مجالات الميثولوجيا والقانون والمجتمع والتراث والمتاحف والمرأة إلخ. ـ مستوى التأهيل في مجالات الترجمة وعلوم التوثيق والنشر والتواصل إذ نظراً لما تمثله الترجمة من أهمية بالغة في تطوير اللغة الأمازيغية والتعريف بثقافتها؛ ونظراً لما لعلوم التوثيق والنشر والتواصل من أثر على تطور هذه اللغة والثقافة، فإن المعهد باشر أعمالاً تطبيقية وأبحاثاً أكاديمية في مجالات الترجمة وعلوم الإعلام وأشرف على تتبع الإصدارات في مجال اللغة الأمازيغية وثقافتها. وقد أدى هذا العمل إلى إنتاج أكثر من 14 مؤلفاً في مجالات الإعلام والترجمة من وإلى الأمازيغية؛ كما قام في مجال التوثيق بمعالجة رقمية ومادية للمؤلفات المقتناة التي يصل أعدادها إلى أكثر من 20.913 عنوان، هذا دون الحديث عن الوثائق المتعددة الوسائط بالعربية والأمازيغية والفرنسية؛ وهو ما جعل من المعهد، في ظرف يسير، قطباً مرجعياً، ليس فقط على الصعيد المغربي أو المغاربي، ولكن أيضاً على الصعيد الدولي. وللإشارة، فقط، فإن مجموع ما تم إنتاجه من دراسات في الأمازيغية منذ 1956 إلى حدود سنة 1974، كان صفراً، كما أنه لم يتم إنتاج ما بين 1975-1984 سوى عنوانين فقط؛ وما بين 1985-1994 لم يتم إنتاج سوى 14 عشر عنواناً؛ وما بين 1995- 2003 تم إنتاج عدد من المؤلفات لا تتعدى 36 عنواناً. وهو ما يبين لنا أن ما أنتجه المعهد خلال الثماني (8) سنوات الأخيرة، والتي تزيد، حالياً، عن أكثر من 200 مؤلف في جميع المجالات، يجعل من الأمازيغية لغة وثقافة في مقام أحسن بكثير مما كانت عليه إلى حدود 2001. ـ مستوى التأهيل في مجال التكوين ـ على مستوى التكوين المستمر: إذ أمكن تكوين أزيد من 14.000 أستاذة وأستاذ للتعليم الابتدائي، وأزيد من 300 مفتشة ومفتش، وحوالي 700 مديرة ومدير وحوالي 75 مكونة ومكون في مراكز التكوين على الصعيد الوطني. ووصل عدد الذين يدرسون الأمازيغية إلى حوالي 600 ألف تلميذة وتلميذ، وذلك بما يناهز 15/ من أعداد المتمدرسين الذين يصل عددهم الإجمالي إلى 3.5 مليون تلميذة وتلميذ بالمرحلة الابتدائية. ـ على مستوى التكوين الأساس: تم التمكن من تكوين وتأطير الطلبة المسجلين حالياً في مسالك الدراسات الأمازيغية وفي الماسترات، والذين تقدر أعدادهم بحوالي 1049 (2009-2010). ـ مستوى تأهيل اللغة الأمازيغية وثقافتها في مجال الإعلام إن إنشاء قناة الأمازيغية، يعتبر إحدى أكبر المكتسبات التي أثرت المشهد السمعي-البصري وردت إلى اللغة الأمازيغية وثقافتها شيئاً من عنفوانها الذي كادت أن تفقده بحكم الحرمان الذي تعرضت له طيلة العقود الماضية. فقد تمكنت هذه القناة الفتية، رغم تجربتها القصيرة، من تصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة عن اللغة والثقافة الأمازيغية، ومنها ذلك الادعاء الباطل الذي كان يؤكد على أن اللغة الأمازيغية غير قادرة على أن تنقل الكثير من المضامين الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والفنية إلخ.، وأن وضعها اللهجي يجعلها غير قابلة للمعيرة أو مباشرة تواصل بي-لهجي داخل تنويعاتها؛ هكذا سنلاحظ أن الكثير من الذين كانوا يذهبون إلى استحالة التواصل بلغة أمازيغية موحدة قد بدأوا، شيئاً فشيئاً، يعيدون النظر في مسلماتهم، خاصة عندما رأوا كيف يتفاعل المتحاورون رغم انتمائهم إلى فضاءات لسانية أمازيغية متنوعة. ومن الواضح فإن اندراج اللغة الأمازيغية في الإعلام، وكذلك في المدرسة، هو ما سيؤدي إلى خلق الدينامية الداخلية (البلهجية) التي أشرنا إليها، التي ستكون نتيجتها بدون شك هو بناء لغة أمازيغية عبر-وطنية على غرار ما وقع للدارجة المغربية. 5ـ الحراك السياسي المغربي وترسيم اللغة الأمازيغية إذا كان المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية قد اشتغل خلال العقد الماضي في ورش تأهيل اللغة الأمازيغية وثقافتها، فإن الحركة الثقافية الأمازيغية عملت من جانبها للضغط على المسؤولين من خلال انخراطها في حركة 20 فبراير، ودعوتها إلى دسترة اللغة الأمازيغية بوصفها لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية. وهو مطلب كان قد تقدمت به الحركة الأمازيغية رسمياً منذ سنة 2000 كما أشرنا، وأكد عليه الملتمس الذي تقدم به المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ سنة 2006؛ حيث التمس أعضاء مجلس إدارة المعهد بالإجماع من جلالة الملك ترسيم اللغة الأمازيغية، وتبني الجهوية الثقافية. وللحقيقة فإن العمل الذي قام به المعهد قد أهل اللغة والثقافة الأمازيغيين لكي يتم ترسيمهما، كما أن النشاط السياسي الذي مارسته الحركة الأمازيغية قد مكن من تعبئة الشارع المغربي للمطالبة بإنزال هذا المطلب في الدستور. 5ـ1ـ ملاحظات على الفصل الخامس من الدستور بكل تأكيد أن التنصيص على ترسيم اللغة الأمازيغية يعد خطوة جبارة في أفق إعادة الاعتبار لهذا المكون الأساسي من الهوية المغربية؛ فقد نص الدستور في الفصل الخامس على ما يلي: «تعد الأمازيغية أيضاً لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة، بدون استثناء»؛ إلا أن التخوفات التي تُطرح داخل الجسم الحركي الأمازيغي، بالرغم من إشادة جزء من الحركة بهذا التنصيص، يمكن اختزالها فيما يلي: ـ إن منصوص الفصل الخامس يربط الترسيم بقانون تنظيمي «يحدد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية»؛ وهو ما يُعتبر قيداً في مسار ترسيمها الحقيقي؛ ـ إن الصيغة التي استعملت للتنصيص على رسمية اللغة الأمازيغية تكرس لتمييز واضح بين اللغتين الوطنيتين، فاللغة العربية استعمل المشرع لترسيمها صيغة واضحة وغير مقيدة، حيث نص الفصل الخامس على ما يلي: «تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها» فنص بذلك على إلزام الدولة بحمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها دونما أي حاجة إلى قانون ينظم عملية ترسميها؛ في حين جاءت اللغة الأمازيغية عارية من كل حماية أو تطوير أو تنمية؛ بل والأدهى من ذلك أنها جاءت، كما أشرنا، مقيدة، بالقانون المشار إليه؛ وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا القانون سيصدر عن برلمان أغلب أحزابه لم تتشبع بعد بقيم التعددية، وستطبقه حكومة ما تزال تومن بالأحادية اللسانية والثقافية، فمعنى ذلك أننا لا نعيش إشكالية الترسيم في حد ذاتها، ولكن نعيش أزمة النخب الهرمة التي لا تريد أن تفهم أن العالم قد تغير؛ ـ إن التنصيص، في نفس الفصل، على إحداث «مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات»، والتي تتحدد مهامها المنوطة بها في «حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية»، يجعل مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في وضعية قانونية غير الوضعية التي كان عليها في الدستور السابق؛ ذلك لأن الفصل التاسع عشر الذي أسس على أساسه المعهد كان يخول له، على الأقل، أن يشتغل بكل حرية وبعيداً عن وصاية البرلمان والحكومة؛ مما كان يوفر له هامشاً كبيراً للاشتغال ولوضع استراتيجياته في مجالات التعليم والإعلام والبحث الأكاديمي والانفتاح على المحيط إلخ. أما وقد أصبح الآن جزءاً من المجلس الوطني اللغات والثقافة المغربية، فهل سيحتفظ بتلك الحرية في وضع برامجه واستراتيجياته، أم أن المجلس سيعتمد سياسة أخرى مختلفة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل معنى ذلك أن كل ما أنتجه المعهد طيلة السنوات العشر الماضية سيصبح في خبر كان؟ خاصة وأننا بدأنا نسمع ونقرأ عن بعض قياديي الأحزاب الذين أصبحوا يميطون اللثام عن مواقفهم الحقيقية من اللغة الأمازيغية وثقافتها إلخ. إن القلق المشوب بالكثير من الأمل هو ما نراه مسيطراً على الكثير من الشباب الأمازيغي والمناضلين في الميدان؛ ولذلك فإنه في حالة ما إذا ركبت النخب «القديمة» رأسها، وعملت على إعادة إنتاج نفس السيناريوهات السياسية الكلاسيكية التي لم تعمل إلا على إقصاء العمق الأمازيغي من الهوية الوطنية، فإن ذلك سيؤدي إلى كارثة حقيقية. وهذا ليس فقط لأن الأمازيغية لم تحتل مكانة الثوابت الوطنية، كما دأبنا على الدعوة إلى ذلك، ولكن أيضاً لأنها ستكون آخر مرحلة من مراحل المصالحة الوطنية بين النخب العروبية التي دمرت عن سبق إصرار وترصد ثقافتنا ولغتنا وهويتنا وبين النخب الأمازيغية التي قد تعلن عن مواقف أخرى أكثر راديكالية. 5ـ2ـ ملاحظات على تصدير الدستور يمكن لنا أن نسجل في هذا الإطار ثلاث ملاحظات جوهرية نختزلها فيما يلي: أولاً: إن التنصيص في التصدير على تلاحم مقومات الهوية الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية- الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، وبتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، يقدم لنا صورة ملتبسة عن هذه الهوية؛ إذ ما معنى أن يتم ربط المكون العربي بالإسلام ويُفصل عنه المكون الأمازيغي؟؛ وما معنى فصل المكون الصحراوي والمكون الحساني عن المكونات العربية والإسلامية والأمازيغية؟ أليس المكون الصحراوي أمازيغياً في شق منه وعربيا في شق آخر منه؟ وأليس المكون الحساني مكوناً عربياً وإفريقيا؟ ثم أليس المغرب، في كُليته، بلداً إفريقياً؟ وهويته بشقيها الأمازيغي والعربي إفريقية؟ فلماذا إذن يتم التنصيص على الروافد الإفريقية كما لو أنها روافد تأتينا من خارج إفريقيا؟ ونفس الشيء أيضاً يمكن قوله عن الرافد الأندلسي؟ أليس بدوره رافداً عربياً وإفريقياً ومتوسطياً؟ إن الإحساس الذي يمنحه الدستور هو أن الجغرافيا الإفريقية قد اختفت لصالح آسيا؛ إذ أن الحضور الجغرافي الآسيوي أقوى من الحضور الجغرافي الإفريقي الذي تحول هنا إلى عنصر خارجي أغنى بروافده الهوية «الأصلية» الآسيوية، تماماً كما تغني الروافد الإفريقية الثقافة الفرنسية مثلاً. ثانياً: إن التنصيص على الانتماء إلى المغرب الكبير، وتأكيد الالتزام لبناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي، وتقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، يشكل إحدى اللحظات المضيئة في الدستور الجديد، من حيث كونه تراجع عن استعمال عبارات «المغرب العربي» التي تم استعمالها في دستور 1992 ودستور 1996، إلا أن ما يثير الشبهة هو التنصيص على «تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية» دون الإشارة إلى الانتماء الإفريقي والمتوسطي الذي تم التأكيد عليه؛ فهل معنى ذلك أن ما تم طرده من الباب (المغرب العربي) قد دخل من النافذة (الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية)؟؛ أي منطق هذا الذي ينفي عن الهوية المغربية انتماءها إلى إفريقيا بالدرجة الأولى؟ هل يكفي فقط التنصيص على» تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية»، دون الإشارة إلى كوننا نشكل جزءاً من هذه القارة التي نحاول في كل مرة التبرؤ منها جغرافيا وثقافياً وهوياتياً؟ هل تنتمي هذه القارة التي نشكل جزءاً من شعوبها وبلدانها إلى قارة أخرى غير التي نحن مستقرون فيها؟ إن الجواب عن الأسئلة توجد، في نظرنا، في الإيديولوجيا التي أعمتنا حتى عن التعرف على الجغرافيا؛ فلكل قارة في العالم شمالها، ما عدا قارة إفريقيا التي انتُزع منها شمالها. فلله الأمر من بعد ومن قبل. ثالثاً: إن التنصيص في الفقرة الثانية من التصدير على إسلامية الدولة يجعلنا أمام دولة دينية وليست مدنية؛ فالدين هنا لا يشكل إحدى المرجعيات فقط ولكن يشكل الهوية الحقيقية للمغرب، إذ أنه هو من يتبوأ مركز الصدارة في هذه الهوية؛ وهذا يجعلنا، من جهة، أمام حقيقة السقف التي يمكن أن يصل إليها الإبداع الثقافي والفكري والسياسي المغربي في ظل الدولة الدينية، كما يجعلنا، من جهة ثانية، أمام حد المعارضة بين الهوية المغربية بوصفها نتاجاً تاريخياً تفاعلت فيه العناصر الأمازيغية بالعناصر العربية بالمتوسطية، والهوية الدينية بوصفها حقيقة متعالية عن هذا التاريخ بل وتعمل على إلغائه. هل يمكن للدولة الإسلامية، مثلاً، أن تعترف بالعناصر الأمازيغية المتعلقة بالقانون العرفي؟؛ هل يمكن لها أن تعترف بالقانون اليهودي –العبري بوصفه أحد روافد الهوية المغربية؟ هل يمكن لها أن تستبطن التشريعات العالمية عن حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا؟؛ هل يمكن لها أن تتبنى موقفاً ليبيرالياً من الفن ومن كل الأشكال الإبداعية الحديثة دون أن تتدخل؟ ما موقف الدولة الدينية، مثلاً، من المهرجانات والأفلام السينيمائية التي تتميز بلبيرالية فنية أكبر؟ ثم إنه إذا اعتبرنا أن الدولة المغربية ذات هوية إسلامية فما هو الفرق بيننا كهوية إفريقية أمازيغية وعربية بالهوية الدينية لدول مثل ماليزيا وإيران وباكستان إلخ أليست هذه البلدان إسلامية ومع ذلك ليست هويتها مغربية؟ من الذي يميزني عنها؟ هل هو الدين أم شيء آخر؟ إن شعوب هذه البلدان مسلمون أيضاً مثلنا، ولكنهم مع ذلك يختلفون عنا في الانتماء إلى نفس الهوية. أين تبدأ الهوية الإسلامية المغربية، إذن، وإلى أين تنتهي؟ وأين تبدأ الهوية المميزة للمغرب عن باكستان ؟ وإذا استعدنا الآية القرآنية التي تؤكد على أن الإسلام جاء للعالمين، ألا يثبت هذا الدستور أننا نستعمل الدين الإسلامي استعمالاً في غير محله؟ ألا نحصره داخل هويات فئوية ولا نتركه يتعالى عن هذه الفئويات ويتفاعل مع العالمين بوصفه تراثاً عالمياً غير محصور في شعب أو إثنية أو هوية خاصة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة هي ما يحدد في نظرنا مستقبل الهوية المغربية، وهو ما يحدد تمايزه وتقاطعه أيضاً بالعديد من الهويات الأخرى. وأما الدين فهو المشترك الذي لا يحدد الهوية، بل هذه الأخيرة هي ما يحدده. خلاصة إن هذه الملاحظات التي نوردها حول الدستور تجعلنا مع ذلك نسجل أنه، لأول مرة، في التاريخ المغاربي يتم الاعتراف، ولو بكيفية ملتوية، برسمية اللغة الأمازيغية؛ وسيكون على النخب المسؤولة، لكي لا تعيد إنتاج نفس الإقصاء الذي عشناه سابقاً، والذي قد يؤدي إلى كارثة، كما أشرنا، استنزال هذا الترسيم بالكثير من الوطنية الصادقة المترفعة عن الانحيازات الفئوية، والمتشبعة بالانتماء إلى كل مكونات الهوية المغربية؛ وذلك بالشكل الذي سيجعلنا نتمكن من: ـ وضع قانون تنظيمي حقيقي يمأسس لهذه اللغة ويمنحها كل إمكانيات الانطلاق؛ ـ العمل من خلال المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية على حماية وتنمية اللغة الأمازيغية، والبحث، من خلال هذا المجلس، عن الوسائل القمينة للتمكين لها من الانتشار بوصفها لغة وطنية رسمية قادرة على استيعاب تحولات المجتمع وقيم التحديث؛ ـ تقوية دور مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من خلال منحها كل الإمكانيات اللازمة بما فيها تلك المتعلقة بالرفع من ميزانيته أو تلك المتعلقة باستقلالية قراراته وتوجهاته العلمية والأكاديمية، واتخاذه مرجعاً في كل ما يتعلق باللغة الأمازيغية وثقافتها؛ فهي المؤسسة الوحيدة، لحد الآن، القادرة على رسم معالم سياسة لسانية وثقافية مبنية على مرتكزات العلم والمعرفة؛ ـ ترصيد مختلف المكتسبات المرجعية، سواء المتعلقة بالمرجعيات السياسية السابقة (الخطب الملكية، الظهير إلخ)، أو تلك المتعلقة بالمرجعيات التنظيمية والتربوية (المذكرات الوزارية، منهاج اللغة الأمازيغية إلخ) أو تلك المتعلقة بالمبادئ الموجهة (التعميم العمودي والأفقي، معيرة اللغة الأمازيغية، تدريسها بحرفها العريق تيفيناغ إلخ)؛ والعمل على تجويدها في ظل مستجدات الترسيم؛ ـ ترصيد مختلف المكتسبات الأكاديمية، وبخاصة تلك التي أنتجها المعهد في مختلف المجالات العلمية سواء في مجال اللغة أو البيداغوجيا أو التاريخ أو الأنتروبولوجيا أو السوسيولوجيا أو الآداب أو تكنولوجيا الاتصال بحرف تيفيناغ إلخ. ـ استثمار الموارد البشرية التي كونها المعهد ومختلف المؤسسات التي تعاون معها، خاصة ذلك العدد الهائل من الباحثات والباحثين والطالبات والطلبة المتخرجات (يـن) من مسالك اللغة الأمازيغية ونساء ورجال التربية والمؤطرات والمؤطرين وأستاذات وأساتذة اللغة الأمازيغية والمديرات والمدراء اللائي والذين تم تكوينهن (هم) خلال هذه السنوات العشر، وتخويلهن (هم) الإمكانيات اللازمة لتحقيق التعميم وتحيين منصوص الدستور الذي أكد على أن اللغة الأمازيغية “لغة رسمية للدولة”، وعلى “اعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء“.ـ خلق جيل جديد من التمازج اللساني والثقافي المؤسس على تبني لغتين وطنيتين ورسميتين تحيلان على نفس الهوية، ولكنهما تمتحان من نفس الثقافة، ومن نفس الروافد، وتقفان سدا منيعاً في وجه أي مذهبة إتنية أو عنصرية أو دينية؛ ـ ربط الثقافة الجهوية بالثقافة الوطنية من خلال ربط جميع التعبيرات اللسانية الأمازيغية والتعبيرات اللسانية العربية بالنموذجين اللسانيين الممعيرين: الأمازيغي والعربي؛ وجعلهما رافعين من رافعات الالتحام الوطني؛ وذلك من خلال إطلاق دينامية لسانية جديدة بالنسبة للغة الأمازيغية تستند على الحيوية الأمازيغية الداخلية بالدرجة الأولى؛ والدفع من خلال ذلك إلى بناء المشترك اللساني الأمازيغي على غرار ما وقع للدارجة المغربية، وعلى غرار ما وقع للغات أخرى مثل الكاطالونية والباسكية في إسبانيا، والألمانية في سويسرا، والنيرلندية في هولاندا إلخ. إحالات: 1 ألقيت هذه المداخلة يوم الأحد 24 يوليوز 2011 بمقر المقاطعة الحضرية بسيدي بليوط، بالدار البيضاء في إطار الندوة الوطنية التي نظمت من طرف النقابة الوطنية لمحترفي المسرح حول موضوع :ّ سؤال الثقافة والفن في الدستور الجديد». 2 هذه الأرقام التي قدمتها لنا الحكومة مشكوك فيها، لأنها لا تعبر بالضبط عن الواقع السوسيو-لساني المغربي. إذ أن الكثير من المناطق التي تقدمها لنا بكونها ناطقة بالعربية هي في الواقع ناطقة بالأمازيغية، كما أن القول بأن الريف يتشكل فقط بحوالي 4/ 00 من الناطقين لا يمكن أن يتقبله أي ملاحظ، ونفس الشيء بالنسبة لسوس التي لا تتعدى النسبة فيها حسب هذه الإحصائيات 14 /00 والأطلس المتوسط التي لا تتجاوز 8/ 00. ويبدو أن السيد لحليمي الذي قام بهذه الإحصائيات كان له هدف آخر غير الحقيقة السوسيو-لسانية.
|
|