|
|
الهوية الدنيوية المدنية للتنظيم القضائي الأمازيغي بقلم : ذ – الصافي مومن علي
تتميز حملة الاستفتاء على مشروع الدستور الحالي لسنة 2011، عن سائر الحملات الدستورية السابقة، بكونها أول حملة يطرح فيها النقاش بين المغاربة، المطالبين منهم بتنصيص هذا الدستور على الهوية المدنية للمغرب، وبين المتشبثين باحتفاظه بهويته الدينية الإسلامية. هذا وقد يعتقد بعض الناس أن هذا النقاش العلني طارئ في بلادنا، وأنه ناتج عن تأثر الأولين بالثقافة الغربية الحديثة، غير أن قراءة هذه المقالة، ستؤدي بهم بدون شك، إلى تغيير الكثير من مفاهيمهم السابقة، لاكتشافهم أن المغاربة عرفوا هذا النقاش قبل عصر التنوير، بزمن طويل، بل إنهم مارسوا عمليا في حياتهم الطويلة، أنظمة سياسية عديدة ذات الهوية المدنية الغير الدينية، كما يتوضح ذلك من محتويات هذه المقالة. يشمل التنظيم القضائي الأمازيغي نوعين متميزين من القضاء هما: 1– قضاء زجري 2– وقضاء مدني أولا: القضاء الزجري يتميز هذا القضاء بصدوره من محاكم شعبية مختلفة هي: 1– محكمة عليا تتألف من ممثلي المقاطعات المحلية التي تتكون منها القبيلة، وتختص بالنظر في الجرائم المنصوص عليها في التشريع القبلي العام المسمى "أمقن" 2– محاكم محلية متكونة من ممثلي القرى الكائنة في المقاطعة المحلية التابعة للقبيلة، وتختص بالبت في الجرائم المنصوص عليها في التشريعات الخاصة المسماة "اللوح" المنظمة لميادين مختلفة، كالسقي والرعي وأماكن العبادة، وفتح مواسم الحصاد أو جني الغلات، وغير ذلك من الشؤون المتعلقة بتنظيم المقاطعة. 3– محاكم القرى المؤلفة من ممثلي الأسر والعشائر التي تتكون منها القرية، وتختص بالنظر في المخالفات المرتكبة ضد نظام القرية. 4– محكمة أكادير أو محكمة المخزن الجماعي، وهي تتألف من ممثلي المقاطعة المحلية التابع لها حصن اكادير، وتتميز هذه المحكمة عن المحاكم الأخرى بخاصيتين هما: ـ أنها تعقد جلساتها داخل الحصن. ـ أن لها الولاية العامة التي تخول لها الاختصاص في الجرائم المنصوص عليها في "لوح" أكادير، وكذا الاختصاص في النزاعات المدنية المتعلقة بعقود البيع وسائر التفويتات والمعاملات المدنية الواقعة بداخل الحصن. فقد نص (اللوح) الخاص باكادير صايصيض في الصفحة 25 ما نصه: "من ابتاع في الحصن أو باع فيه شيئا فليس له القاضي، ولا يفصلها إلا في الحصن بأمنائه وأهل الحصن واللوح". وهذا النص منشور في باب الاختصاص وفصل السلط من كتاب الواح جزولة للعثماني محمد السوسي. ثانيا: القضاء المدني: ويتعلق بقضايا الأحوال الشخصية والميراث وبعقود نقل الملكية والضمانات وسائر التفويتات والمعاملات المدنية، والتجارية والشغل. ويتولى البت في هذه القضايا فقهاء يقع اختيارهم من طرف المتقاضين، في إطار مسطرة تحكيم. والمدهش في هذا القضاء المدني أنه على عكس القضاء الزجري يتكون من ثلاث درجات للتقاضي حسب ما ورد في كتاب ألواح جزولة الآنف الذكر، وكذا في كتاب: les sources du droit coutumier dans le sous للمؤلف: ج. لافون، الذي كان يشغل وظيفة رئيس كتابة الضبط للمحكمة العرفية بأكادير. الدرجة الابتدائية ينظر فيها فقيه مختار يطلق عليه اسم "المحكم" أو "القاضي" والدرجة الاستئنافية يتولاها فقيه مختار آخر، يسمى "المفتي" مهمته إما تأييد الحكم الابتدائي أو إلغاؤه والتصدي للفصل في القضية. أما الدرجة الثالثة أو النقض فيقوم بها فقيه مختار ثالث يدعى "المبرز" يحسم القضية بحكم بات لا تعقيب فيه. أجل الطعن يحق لمن خسر الحكم الابتدائي الطعن ضده بالاستئناف داخل أجل سنة من تاريخ صدوره، كما يحق لمن خسر الحكم الاستئنافي، أن يطعن فيه بالنقض داخل نفس الأجل. أما أحكام النقض أي الصادرة من طرف "المبرز" فهي أحكام نهائية لا تقبل أي طعن. وفيما يلي نص فتوى عدم جواز الطعن لفوات الأجل، منشورة في موقع قبيلة أيت أمزال على الأنترنيت الذي أنشأه السيد محمد زلماضي المزالي تحت عنوان: ZALMADI –MOHAMED @ hotmail. com "الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله. فالحكم إذا بناه الحاكم على المحكوم عليه وقرئ عليه وفهمه، فقام وسكت عاما، ولم يكن مدعيا فيه بالفتوى ولا غيرها، ثم أراد الرجوع إلى طلب الفتوى فيه، فليس له ذلك حسبما نص عليه خاتمة المحققين الشيخ سيدي عيسى بن عبد الرحمان السجتاني، والشيخ الإمام حلول، هذا في العام وأحرى أكثر. وعليه فليس للفقير عمر بن امحمد الصباني من سييصيض أن يطلب الفتوى في الحكم الذي قام به عليه ابن عمه محمد بن امحمد بن سعيد النسب، الذي كتبه الفقيه القاضي سيدي سعيد بن احمد الافراني على وصيته الصائرة من والد عمر المذكور، لأنه مضى على تقييده ذلك نحوا من ثمانية أعوام حسبما ذكر في تاريخ المذكور، كان تاريخه في عام ستة وثمانين وألف (الموافق لسنة 1683 ميلادية)، وكتبه مجيبا بعدم لزوم الفتوى فيه عبيد ربه محمد بن أحمد بن موسى الكرى وفقه الله." طرق التنفيذ: تنفيذ الأحكام المدنية يكون إما اختياريا أو جبريا. الاختياري يقوم به المحكوم عليه برضاه، أما الجبري فيتولاه مجلس الأعيان بقيادة "أمغار" القبيلة. المقارنة بين التنظيم القضائي الأمازيغي وبين نظيره الإسلامي: يختلف التنظيمان عن بعضهما اختلافا جذريا فيما يلي: 1)- القضاء في الإسلام تتولاه مؤسسة واحدة هي الحاكم أو من ينوب عنه من القضاة المعينين من طرفه للقيام بوظيفة القضاء. أما القضاء الأمازيغي فإن الشعب هو من يختار قضاته في المحاكم الشعبية المختصة في القضايا الزجرية بينما في القضايا المدنية يكون المتقاضون أنفسهم هم من يختارون الفقيه الذي يتولى النظر في قضيتهم في إطار التحكيم. وبعبارة أوضح القضاة في الإسلام تعينهم السلطة الحاكمة، أما في المجتمعات الأمازيغية فيتم تعيينهم بواسطة الإرادة الشعبية أو إرادة أطراف الدعوى. 2) –القضاء في الإسلام فردي في مختلف القضايا، أما القضاء الأمازيغي فهو جماعي في القضايا الزجرية، وفردي في القضايا المدنية. 3)- الأحكام في الإسلام غير قابلة لأي طعن، بمعنى أن رأي جمهور العلماء استقر على أن المحاكم في الإسلام تتكون من درجة واحدة، وأنه لا يجوز إنشاء محاكم الدرجة الثانية التي تسمى محاكم الاستئناف، حسبما ورد في كتاب (التشريع الجنائي الإسلامي) الصادر من المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض. وبالفعل فالأصل في القضاء في الإسلام، اشتماله على درجة واحدة للتقاضي استنادا للأسباب التالية: ا - عدم وجود نص صريح بذلك، في القرآن أو السنة. ب – تولي الرسول والخلفاء الراشدين مهمة القضاء، وإصدارهم أحكاما لا تعقيب فيها. ج – عدم إذن الرسول للصحابة، الذين أسند إليهم ولاية القضاء، في الأقطار التي انتشر فيها الإسلام، بخضوع أحكامهم للطعن، بدليل أن الإمام احمد أخرج هو وابو داود والترمذي، عن علي، قال: بعثني رسول الله إلى اليمن قاضيا، وأنا حديث السن، فقلت: يا رسول لله، تبعثني إلى قوم بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء، قال : إن الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك. د - أن رسالة عمر بن الخطاب إلى قاضيه بالكوفة أبي موسى الأشعري، التي يعتبرها العلماء المسلمون، دستورا عظيما في سياسة القضاء والفقه، لا تنص على درجات التقاضي في الأحكام، وإنما توصي القضاة بمراجعة أحكامهم الخاطئة، حسبما هو واضح من صيغة العبارة المتعلقة بهذا الشأن الواردة في هذه الرسالة وهي : "ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهديت إلى رشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، لا يبطله شيء". أما الأحكام في التنظيم القضائي الأمازيغي فيختلف الأمر فيما إذا كانت زجرية أو مدنية، فالأحكام الأولى غير قابلة لأي طعن، بينما الثانية تقبله في ثلاث درجات للتقاضي كما سبق الذكر. والغريب في الأمر أنه في الوقت الذي تخلو فيه المرجعيات الإسلامية الأصلية، إلى نص صريح يخضع الأحكام لدرجات التقاضي، فإننا نجد الدولة الإسلامية في المغرب، قد جعلت الطعن في الأحكام، عملا مؤسساتيا، أطلق عليه (ولاية الرد)، كما جاء في الجزء الثاني من كتاب (الحضارة المغربية) لمؤلفه الحسن السائح، ذلك أن هذا الكتاب أشار إلى ما يلي: "إن الخصم الذي لا يرضيه حكم القاضي، يستطيع أن يتظلم أمام قاض آخر يسمى صاحب الرد، الذي ينظر في القضية مرة ثانية، فإذا وجد فيها مظلمة، ردها للقاضي، أو رفعها للسلطان كي يصدر فيها حكمه، بعد استشارة مجلس المشورة، الذي كان يضم قضاة الفتيا" وورد في الكتاب أيضا خاصية مهمة انفرد بها الغرب الإسلامي هي: "إن ولاية الرد، لم تكن موجودة إلا في المغرب والأندلس، ولا تعرف في كثير من البلاد الإسلامية". وما من شك أن تفرد المغرب والأندلس، بخاصية مأسسة طرق الطعن في الأحكام، راجع في تقديري، إلى تاثرهما بالأعراف الأمازيغية. 4)ـ رجال القضاء في الإسلام يشترط فيهم العلم بالقرآن وبالسنة وبفقه المجتهدين، أما القضاة الأمازيغ فالأمر يختلف فيما إذا كان القضاة أعضاء في المحاكم الشعبية المختصة بالبت في القضايا الزجرية، أو كانوا محكمين في القضايا المدنية. فالقضاة الأولون هم على غرار قضاء المحلفين في الولايات المتحدة الأمريكية، يعتبرون أناسا عاديين، لا يفترض فيهم شرط العلم بالقانون الوضعي أو الديني، بل يشترط فيهم فقط النزاهة والاستقامة والصدق وحسن الأخلاق. أما المحكمون في القضايا المدنية فيشترط فيهم الإلمام بالشرع الإسلامي من جهة، وبقواعد العرف الجاري بها العمل في المنطقة من جهة أخرى، لأنهم مطالبون في أحكامهم بمراعاة العرف المحلي. 5)– القضاة في الإسلام يستمدون شرعيتهم وقوتهم من السلطة الحاكمة التي عينتهم، أما القضاة الأمازيغ فيستمدونها من المواطنين الذين اختاروهم بإرادتهم الحرة. أصل التنظيم القضائي الأمازيغي: إذا كان الأمازيغ – وهم مسلمون – لم يستمدوا تنظيمهم القضائي من الإسلام، كما تجلى ذلك من المقارنة السابقة، فمن أين يا ترى جاءوا به، ومن أي مصدر استمدوه؟ّ لقد ظل هذا السؤال في ذهني بدون جواب موضوعي مدة غير قصيرة إلى أن اطلعت على كتاب "في تقسيم العمل الاجتماعي" لإميل دور كهايم، فأدركت من خلاله الجواب. فهذا الكتاب أبرز أن كل المجتمعات البشرية في بدايات نشوئها، كانت تكتفي فقط بتنظيم القانون القمعي المتعلق بالعقوبات الزجرية، لتركيزها آنذاك على الحفاظ على الأمن والسلام الاجتماعيين، أما القانون التعويضي أو القانون المدني بوجه عام، فإنه نظرا لانعدام أو لندرة العقود والاتفاقات المبرمة بين أفراد المجتمع، لم يكن محط أي تنظيم من طرف هذه المجتمعات، وورد في هذا الكتاب أيضا أنه حينما تتعقد حياة هذه المجتمعات بسبب ازدياد كثافة سكانها وكذا ازدياد حاجياتهم، فإنها تدخل مرحلة تقسيم العمل الاجتماعي التي تكثر فيها العقود والالتزامات، وما ينشأ عنها من كثرة النزاعات، فتضطر هذه المجتمعات حينذاك إلى التدخل لتنظيم القانون المدني بتشريعات خاصة. إذن هذا الكتاب يوضح أن إهمال القانون المدني في التشريعات الأولى، كان يعتبر ظاهرة عامة لدى كل المجتمعات الناشئة، التي تظل في صفائها الأولى، ولم تصل بعد إلى مرحلة التعقيد التي تفرض عليها التدخل إلى تقسيم عملها الاجتماعي من جهة، وإلى تنظيم هذا التقسيم بموجب تشريع مدني من جهة أخرى. وبطبيعة الحال كانت هذه الظاهرة هي التي أدت بهذه المجتمعات إلى ترك المنازعات المدنية بيد أطرافها، ليبحثوا لها بأنفسهم عن حل، إما رضائيا، أو بواسطة اللجوء إلى التحكيم. وما من شك أن هذه الظاهرة العامة هي التي أدت بالمجتمعات الأمازيغية إلى الاكتفاء في تشريعاتها بتنظيم قانون العقوبات تنظيما دقيقا في صكوك مدونة ومكتوبة، وتترك القانون المدني بدون تقنين أو تدوين، لأنها لم تدخل مرحلة التعقيد التي تدفعها إلى تقسيم عملها الاجتماعي، وإلى تنظيم هذا التقسيم بموجب تشريع مدني دقيق. وهكذا فقبل إدراكي لهذه الظاهرة كنت أعتقد كسائر الناس أن المتقاضين الأمازيغ كانوا في النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية والإرث والعقار وسائر المعاملات المدنية، يختارون الاحتكام إلى الفقهاء في هذه القضايا، بدلا من محاكم ئنفلاس الشعبية، تنفيذا لأمر الشريعة الإسلامية، غير أنه تبين لي فيما بعد، أنهم يفعلون ذلك بسبب وجود فراغ في التشريع، الناتج عن اهتمام المجتمعات الأمازيغية كسائر المجتمعات الناشئة، بتنظيم القانون الزجري فقط، دون القانون المدني. أما عن التجاء أطراف الدعوى في هذه المنازعات المدنية إلى الفقهاء، فأرى أنه ليس حديث العهد، بل يعتبر تقليدا اجتماعيا يعود إلى أعماق التاريخ، حيث كان الكهنة لدى جميع الشعوب هم من يتولون مهمة الفصل في كل النزاعات القائمة بين الناس،على اعتبار أنهم كانوا وحدهم آنذاك المحتكرين للعلم بالمعتقدات، وبأعراف الناس وبعاداتهم، ثم بفنون المعرفة بصفة عامة، وذلك بحكم انزوائهم في غالب الأوقات داخل المعابد والأماكن المقدسة، وعدم اشتغالهم بحاجيات المعاش اليومي مثل عامة الناس، وبطبيعة الحال كانت كل هذه المؤهلات المعرفية تفرض على الناس فرضا أن يستشيروهم في أمور دينهم ودنياهم من جهة، وأن يلتجئوا إليهم للفصل في نزاعاتهم في إطار التحكيم من جهة أخرى. وهكذا، ولما بادرت بعض المجتمعات إلى اختيار النظام الديموقراطي لتدبير شؤونها وقامت تبعا لذلك بإسناد سلطة التشريع والقضاء إلى مجالسها الشعبية المنتخبة، فإن هذا الأمر قد أدى بالكهنة إلى رفع يدهم عن كل القضايا التي نظمتها التشريعات الجديدة، بمعنى أن هذه المجالس قد انتزعت من الكهنة اختصاص الفصل في القضايا التي أصدرت بشأنها تشريعات خاصة. ثم لما كانت كل المجتمعات البشرية قد اقتصرت كما سبق الذكر على تنظيم القانون الزجري فقط، دون القانون المدني، فقد أدى هذا الفراغ في التشريع إلى استمرار لجوء الناس إلى الاحتكام إلى كهنتهم في المسائل المدنية، لسد هذا الفراغ. وبطبيعة الحال لما كانت المجتمعات الأمازيغية من ضمن الشعوب التي اختارت هذا النظام الديموقراطي، فقد انتزعت من الكهنة مهمة الفصل في قضايا القانون الزجري، بعدما أصدرت مجالسها الشعبية تشريعات خاصة في هذا الشأن، غير أنه لما ظلت هذه المجتمعات بسيطة في طبيعتها، أي لم تبلغ بعد مرحلة التعقيد التي تفرض عليها تقسيم عملها الاجتماعي، فإنها والحالة هذه، لم تكن أمام الحاجة الملحة التي تدفعها إلى التدخل لإصدار تشريع خاص بتنظيم القانون المدني، مما أدى بمواطنيها إلى الاستمرار في الرجوع إلى كهنتهم للفصل في القضايا المدنية. وبعدما اعتنق الأمازيغ الدين الإسلامي أخذوا عنه العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك، لكنهم احتفظوا بتنظيمهم القضائي القديم، الذي يختلف جذريا كما رأينا سابقا عن التنظيم القضائي الإسلامي. إذن هذا الفراغ في التشريع هو الذي كان يجعل المتقاضي الأمازيغي الذي يقف أمام محكمة ئنفلاس الشعبية محقا في الدفع بعدم اختصاص هذه المحكمة للفصل في قضيته المدنية، مرددا العبارة المأثورة: (أنا بالله وبالشرع)، المستعملة عادة في إثارة هذا الدفع الشكلي، ويجعل بالتالي تلك المحكمة لا تملك إلا أن تصرح بعدم اختصاصها، لعدم توفرها على تشريع خاص ينظم القانون المدني، وحينذاك يصبح هذا المتقاضي محقا أيضا في اللجوء إلى تحكيم الفقهاء، باعتبارهم المؤهلين موضوعيا للفصل في قضيته المدنية، بحكم إلمامهم العميق بشرع الإسلام الذي هو دين مجتمعه، وكذا إلمامهم بأعراف هذا المجتمع وبعاداته، وذلك على غرار أجداده القدامى الدين كانوا قبل الفتح الإسلامي يحتكمون إلى كهنتهم في مثل هذه القضايا. وهكذا يبدو من خلال كل هذه المعطيات التاريخية والواقعية أن التجاء المتقاضين إلى الفقهاء المحكمين، في قضايا الأحوال الشخصية والميراث ونقل الملكية وغير ذلك من المعاملات المدنية، لم يكن بدافع هاجس ديني، وإنما بسبب وجود فراغ في تنظيم الميدان المدني بتشريع خاص، لأنه لو كان الأمر يعود إلى هذا الهاجس الديني كما يعتقد، لما اكتفى الناس بالرجوع إلى الفقهاء في القضايا المدنية فحسب، بل يرجعون إليهم حتى في القضايا الزجرية، لأن الإسلام خول للقاضي حق الولاية العامة، للنظر في جميع القضايا كيفما كانت. المقارنة بين التنظيم القضائي الأمازيغي وبين نظيريه اليوناني والروماني: في الوقت الذي يلاحظ فيه ذلك الاختلاف الجذري بين التنظيم القضائي الأمازيغي ونظيره الإسلامي، فإنه على العكس من ذلك يلاحظ وجود تطابق شبه تام بين التنظيم الأمازيغي ونظيره اليوناني والروماني. وهذا التطابق يتمثل فيما يلي: 1– اشتراك هذه التنظيمات الثلاثة كلها في تقسيم المحاكم إلى زجرية وإلى مدنية. 2– اشتراكها في جعل القضاء الزجري جماعيا، يتألف من محكمة شعبية عليا، ومن محاكم شعبية محلية، واشتراكها أيضا في جعل القضاء المدني فرديا، يتألف من محكمين. 3– تطابقها في إقرار نظام درجات التقاضي في أحكام المحكمين. 4– اشتراكها في إضفاء طابع الحرية في اختيار القضاة، وذلك بإعطاء كل من الشعب والمتقاضين حق اختيار قضاتهم بإرادتهم الكاملة. اتسام التنظيم القضائي الأمازيغي بالهوية الدنيوية غير الدينية: إن التشابه الموجود في ميزات التنظيم القضائي الأمازيغي ونظيريه اليوناني والروماني، يفضي حتما إلى نتيجة منطقية مفادها وجود كذلك نفس هذا التشابه في طبيعة هوية هذه التنظيمات. ولذلك لما كانت كل المصادر التاريخية التي تحدثت عن النظام القانوني اليوناني والروماني، تصنف هذين النظامين ضمن الأنظمة القانونية المتسمة بالصبغة الدنيوية، استنادا إلى اتصافها بالميزات السابق ذكرها، فإن اتصاف التنظيم القضائي الأمازيغي بنفس الميزات يجعله بديهيا مصنفا كذلك ضمن هذه الأنظمة، استنادا لمعادلة البرهان المنطقي التالية: إذا كان ا = ب، وكان ب = ج فان ج = ا. بمعنى أن تطابق تنظيمات هذه الشعوب في ميزاتها، يؤدي منطقا و بداهة، إلى التطابق في طبيعتها وفي صبغتها. ومن جهة أخرى، نظرا لندرة المصادر التاريخية التي سلطت الضوء على النظام القانوني الأمازيغي القديم، أعتقد أن هذا التطابق الموجود في ميزات وفي طبيعة هذه التنظيمات القضائية الثلاثة، يجعلنا نقترب أكثر من فهم حقيقة التنظيم القضائي الأمازيغي، عن طريق فهم الأنظمة القانونية اليونانية والرومانية، وكذا فهم تحولها من الطابع الديني إلى الطابع الدنيوي. فلنترك إذن المؤرخ ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة"، يصف لنا هذا التحول في المجلد رقم: 7-8 الخاص بحياة اليونان: "كان القانون اليوناني جزءا من الدين، غير أن مشترعين كبار أمثال زالولسوس، وكرونوداس، وداركون، وصولون، قاموا بتدوين تشريعات جديدة، فتحولت القوانين بذلك من صنع المقدس، إلى صنع الإنسان، وتحرر القانون من سيطرة الدين، وازدادت على توالي الأيام صبغته الدنيوية". وفي فقرة أخرى أضاف قائلا: "وهكذا، بعدما تحول اليونان إلى نظام الحكم الديموقراطي، كان أعظم إصلاح قام به ايفيليتز، وبيركليز، هو نقل الحقوق القضائية إلى الهيلية، أي إلى المحاكم الشعبية، وكان إنشاء هذه المحاكم هو الذي وهب أثينا ذلك النظام القضائي الذي أخذت عنه أوروبا نظام المحلفين الذي عاد عليها بالخير العميم". أما في المجلد رقم: 9-10 المتعلق بالحضارة الرومانية، فيقول فيه: "كان القانون الروماني فرعا من الدين، ولم يكن يحدد العلاقة بين الناس بعضهم بعضا فحسب، بل كان يحدد فوق ذلك العلاقة بين الآلهة والناس، وكان الغرض من القانون ومن العقاب هو الاحتفاظ بهذه العلاقة، وعدم تعكير صفوها، وكان الكهنة هم الذين يعلنون ما هو حق، وما هو باطل، وكانت كل المسائل المتعلقة بالزواج والطلاق والوصايا ونقل الملكية وغير ذلك من الحقوق، كانت كل هذه المسائل لا بد من عرضها على الكهنة، وكان هؤلاء الكهنة هم وحدهم الذين يعرفون القوانين والسنن، وكانوا في روما هم المستشارين القانونيين.......... ولقد أحدثت الألواح الإثني عشر انقلابا قضائيا مزدوجا، ذاك أنها أذاعت القانون الروماني ونشرته، ثم أنها صبغته بالصبغة الدنيوية غير الدينية". إذن من خلال هذه الإطلالة التاريخية على القانونين اليوناني والروماني يمكن القول إن القانون الأمازيغي قد مر بدوره بالمراحل الثلاثة التالية: 1– مرحلة الخضوع المطلق لسيادة القانون المقدس، وما يورثه من خضوع للكهنة الذين يملكون هذا القانون، ويملكون بالتالي حق تقرير ما هو حق، وما هو باطل، وأعتقد أن هذه المرحلة قد مرت بها جميع شعوب الأرض كما ورد ذلك في كتاب انجلس، (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) 2– مرحلة استرجاع المجتمعات الأمازيغية لسيادتها، وتقريرها بالتالي حكم نفسها بنفسها ديموقراطيا بواسطة مجلس شعبي عام، ومجالس محلية خاصة بتدبير شؤون مقاطعتها الترابية. غير أن المدهش في هذه المرحلة هو تقرير هذه المجتمعات تحررها من عقوبات القانون المقدس المتعلقة بانتهاك الحقوق الطبيعية للإنسان، واستبدالها بعقوبات أخرى محددة في تشريعات وضعية أصدرتها مجالسها الشعبية، ثم قيامها بانتزاع سلطة الفصل في القضايا الزجرية من الكهنة، وإسناد هذه السلطة إلى مجالسها الشعبية المختلفة. إذن فالأمر الذي أصبغ على هذه المجتمعات الصبغة الدنيوية أو هوية النظام المدني بلغة هذا العصر، هو تحرير تشريعاتها من التأثير الديني، أي عدم جعلها القانون الديني مصدرا عاما للقانون. وهذا حقا ما أدهشني في هذه المجتمعات، إذ أنها كانت تجمع الهوية الديموقراطية، والهوية الدنيوية المدنية في نفس الوقت، وذلك على اعتبار أن هذا الجمع كان ولا يزال يعتبر من الأشياء النادرة قديما وحديثا، خصوصا إذا ما أدركنا الفرق الكبير الموجود بين هاتين الهويتين، إذ كما هو معلوم ليس كل مجتمع ديموقراطي هو بالضرورة دنيوي، والعكس بالعكس، بمعنى أنه يمكن أن يكون هناك مجتمع ما ديموقراطيا ولكنه غير دنيوي، كالشعب الإيراني مثلا، كما يمكن أن يكون دنيويا، ولكنه غير ديموقراطي، كالدول الشيوعية، التي يحكمها حزب وحيد. 3– أما المرحلة الثالثة فهي فترة الفراغ في التشريع التي نجم عنها عدم تنظيم القانون المدني بتشريع وضعي خاص، مما أدى بالمواطنين أمام هذا الفراغ إلى الاستمرار في اللجوء إلى كهنتهم للفصل في القضايا المدنية بواسطة التحكيم، فتولد عن هذا الوضع ميلاد تنظيم قضائي جديد يقسم المحاكم إلى نوعين: ـ محاكم زجرية تتألف من هيئات شعبية. ـ محاكم مدنية تتكون من المحكمين الكهنة. غير أن جو الحرية والمساواة الذي جلبه النظام الديموقراطي الذي اختارته هذه المجتمعات الأمازيغية، قد انعكس على أحكام الكهنة، فلم تعد استبدادية تحكمية لا تقبل أي طعن، كما كانت من قبل، بل وقع طبعها بالمرونة والنسبية، فأخضعت بالتالي إلى ثلاث درجات للتقاضي: ابتدائية واستئنافية ونقض، كما سبق توضيح ذلك انفا. 4 – مرحلة اعتناق هذه المجتمعات للدين الإسلامي، واحتفاظها بنفس التنظيم القضائي القديم، الذي أصبح فيه الفقهاء الإسلاميون يقومون فيه بدور التحكيم في المنازعات المدنية. هذا وما من شك أن التسليم بتشابه التنظيم القضائي الأمازيغي مع نظيره اليوناني والروماني، سيدفع بالبعض إلى التسرع في إصدار الأحكام، عن سر هذا التشابه، منهم من سيعتقد أن سببه هو تأثر الأمازيغ باليونان والرمان، ومنهم من سيظن عكس ذلك. غير أن قراءة كتاب "في السياسة" لأرسطو، تبين لنا أن هذا الفيلسوف سبق أن أجاب عن هذا السؤال بصيغة أخرى بعيدة كل البعد عن فرضية تأثر أحد الفريقين بالآخر، وذلك بتأكيده بعد دراسته المستفيضة لتشريعات أوروبا وشمال إفريقيا ومقارنتها بتشريعات أسيا، أن شعوب أسيا تتخلق بأخلاق الأرقاء أكثر من شعوب أوروبا الشيء الذي جعل تلك الشعوب أكثر انقيادا إلى الحكم السيدي الطغياني. وهكذا، ولما سبق لأرسطو في نفس هذا الكتاب أن صنف نظام الحكم في كرخدون أي قرطاج، ضمن الأحكام الشعبية الديموقراطية، لاستناد هذا النظام على مبدأ الحرية والمساواة، معتبرا إياه هو والنظام اللكوني وكذا النظام الكريتي من بين الأنظمة الثلاثة التي تقدر وتجل فإن ذلك يقود إلى استنتاج أن شعوب شمال أفريقيا كانت قبل كشعوب أوروبـا لا تسود فيها في عهد أرسطو أخلاق الأرقاء، ولا الانقياد إلى الحكم السيدي مثل شعوب آسيا. وهذه الأخلاق هي التي أطلق عليها الدكتور محمد عابد الجابري (أخلاق الطاعة) في الجزء الرابع الخاص ب (العقل الأخلاقي العربي) من مؤلفه (نقد العقل العربي)، مشيرا أن الدولتين الأموية و العباسية، استوردتا هذه الأخلاق من الفرس ونشرتاها في العالم الإسلامي. وأعتقد أن أرسطو لو كان قد قارن النظم القانونية السائدة في شمال إفريقيا آنذاك، وبين نظام مدينة قرطاج، لتوصل إلى نتيجة كون النظام الشعبي في هذه المدينة ما هو إلا صورة مكبرة ومعقدة لتلك النظم الشعبية الديموقراطية، التي كانت منتشرة في هذه الربوع منذ القدم، وإلى حدود القرن العشرين. وعلى كل حال ففي مقالتي السابقة (الميزات العقلانية لنظام التشريع الأمازيغي) سبق تأكيد أن النظام الديموقراطي العادل الذي يؤدي بالمجتمعات إلى العيش في ظل المساواة والكرامة والسلام والسعادة الاجتماعية، كامن في العقل، وأنه ليس من صنع أو ابتكار أي إنسان أو أي شعب، ولذلك فالمجتمعات التي تعود إلى العقل وتنتظم بالمبادئ المنقوشة فيه، تنتقل حتما من نظام القطيع الإنساني المغيبة فيه تلك الفضائل إلى نظام المجتمع الإنساني المتمتع بها. ومن هنا يبدو أن السر في اتصاف التنظيمات القضائية الأمازيغية واليونانية والرومانية بالميزات الإيجابية المذكورة آنفا، وتصنيفها بالتالي في إطار النظم الدنيوية أو المدنية، هو تخليها في تشريعاتها عن نظام القانون الديني الذي كانت تعمل به سابقا، والرجوع إلى العمل بالنظام الديموقراطي العادل المنقوش في العقل. (ذ – الصافي مومن علي، محام بالدار البيضاء) ***** المراجع 1)الواح جزولة - الاستاذ العثماني محمد السوسي 2)Les sources du droit coutumier dans le sous _ par J. LAFOND 3)التشريع الجنائي الإسلامي - المركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض – طبعة 1406 هجرية 4)الحضارة المغربية – الجزء الثاني – الحسن السائح – منشورات عكاض 5)في تقسيم العل الاجتماعي – اميل دركهايم – ترجمة حافظ الجمالي – اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 6)في السياسة - ارسطو - ترجمة – الاب اوغسطينس باربارة البولسي – الطبعة 2 - اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 7)قصة الحضارة – ويل ديورانت – حياة اليونان – الجزء 7- 8 - ترجمة محمد بدران 8)قصة الحضارة – ويل ديورانت – الحضارة الرومانية - الجزء 9- 10 - ترجمة محمد بدران 9)العقل الاخلاقي العربي – الدكتور محمد عابد الجابري - نقد العقل العربي 4 10)مقالة.( الميزات العقلانية المجهولة لنظام التشريع السياسي الامازيغي - الصافي مومن علي 11)نص فتوى عدم جواز الطعن بعد فوات الاجل - منشورة في الانترنيت في zalmadi – mohamed @ hotmail.com
|
|