|
|
لماذا لا يمكن حالياً إلا دسترة اللغة الأمازيغية بوصفها لغة رسمية؟ بقلم: عبد السلام خلفي
طلعت علينا جريدة التجديد (27-29 ماي 2011، العدد 2649) بعنوان عريض: «لماذا دسترة اللغة الأمازيغية لغة وطنية؟»؛ وقبل ذلك طلع علينا النقيب عبد الرحمان بنعمرو بمقال يحمل عنوان: «لماذا لا يمكن حالياً دسترة الأمازيغية كلغة رسمية؟» (مداخلة ألقيت بالبرلمان يوم 3 ماي 2011)؛ ونُشرت بعد ذلك وقبله مقالات إلى جانب مواقف الأحزاب السياسية التي تقدمت بها إلى لجنة المنوني المكلفة بصياغة الدستور؛ وفي نفس السياق نُشر عدد جديد من مجلة «المدرسة المغربية» (العدد الثالث، ماي 2011) الذي يصدره المجلس الأعلى للتعليم، وخُصص، هذه المرة، للغات في المدرسة. وللأسف الشديد فإن المنحى العام لهؤلاء كان هو ضرب مبدأ التعددية والمساواة وتكافؤ الفرص في الصميم، والدعوة إضماراً وتصريحاً إلى غض الطرف أو تهميش الأمازيغية. والغريب في كل هذا هو أن هؤلاء (أو أغلبهم) عندما كان يتعلق الأمر بالدفاع عن مبدأ التعددية والديموقراطية اللسانية على المستوى النظري المجرد، كثيراً ما كانوا يرفعون عقيرتهم دفاعاً عن هذا المبدأ، مقدمين أنفسهم بكونهم هم الحافظين له، ولكن عندما جد الجد، وبدا واضحاً أن الدولة سائرة في طريق ترسيم لغاتنا الوطنية، ظهر لنا أن هؤلاء، لم يكونوا كذلك، وأنهم كغيرهم من الذين رضعوا من أثداء التصورات الإيديولوجية البعثية، يرفضون أن تحتل الأمازيغية مكانتها الملائمة في سماء المؤسسات. وهكذا، فباسم الواقعية والتداول الواسع للدارجة أحياناً، وباسم المشروعية التاريخية والدينية للغة العربية أحياناً ثانية، بله وباسم التهديد (يالها من إهانة) الذي تمثله اللغة الأمازيغية وثقافتها على اللغة العربية وعلى نسيج التلاحم الوطني وعلى لغة القرآن أحياناً أخرى، وباسم التكلفة الاقتصادية والإحصائيات المكذوبة المقدمة من طرف بعض أجهزة الدولة أخيراً، يخلص كل هؤلاء إلى النتيجة نفسها: «أتركونا من هذه الأمازيغية، فهي إن لم تكن الشر المطلق، فهي، على الأقل، العقبة الأساسية في مشروع الوحدة العربية». لقد ذهب السيد مصطفى الخلفي (وكم كنا نترجى بركة الفقيه) إلى أن اللغة الأمازيغية ليست جاهزة لكي تُرسّم، وأنها لا تتوفر، لحد الآن، على نحو ممعير ولا على عدد من المعاجم ولا حتى على الحد الأدنى من الاستعمال، فهي لغةٌ، عدد المتمدرسين بها لا يتجاوزون 15 في المائة، واستعمالها في المعيش اليومي محدود؛ ولذلك أصدر السيد الخلفي فتواه أو حكمه بالإعدام على اللغة الأمازيغية، فقرر أن تكون فقط لغة وطنية (وهل كانت غير وطنية قبل أن يفتي السيد الخلفي؟). وبتعبير آخر فإن السيد الخلفي قرر أن تظل هذه اللغة على حالها كي لا تزاحم اللغة العربية، أي أن تظل هامشية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً بموتها الطبيعي، كما تؤكد على ذلك كل الدراسات المقامة في هذا الإطار، وعلى رأسها تلك النتائج الصادمة التي نشرتها منذ 2008 منظمة اليونسكو (لعبة الانتظار والتسويف هي لعبة القتل العمد عن سبق إصرار وترصد). وأما بالنسبة للسيد النقيب عبد الرحمان بنعمرو فقد حاجج بضرورة عدم ترسيم اللغة الأمازيغية لكون الأمم المتحدة لم ترسّم، بمختلف أجهزتها المركزية والجهوية، إلا ست لغات، وضمنها اللغة العربية؛ وفي نظر السيد النقيب فإن هذا مبرر كاف لكي لا تُرسّم الأمازيغية في الدستور المغربي؛ مضيفاً أن هذه اللغة التي يريد الأمازيغ ترسيمها ليست واحدة وموحدة، كما أن ترسيمها يتطلب تكلفة باهظة. ودون أن ندخل في الاعتبارات الحقوقية التي استند إليها كي لا تأخذ الأمازيغية حقها، فإن كل ما يمكن أن نقوله، في هذا الصدد، هو أن ليَّ عنق حقوق الإنسان لكي تصبح ضداً على حقوق الإنسان هو آخر شيء يمكن أن يتجرأ عليه رجل وهب حياته لحقوق الإنسان. أيضاً، وباسم العلْمية، سيحاول البعض الآخر، من خلال المجلة التي يصدرها المجلس الأعلى للتعليم1 (يا لها من مصادفة)، ليّ عنق هذه العلمية لكي يتم التشكيك في كل ما قامت به مؤسسة علمية مختصة، هي مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وذلك منذ أكثر من عقد من الزمن، في مجال تهيئة اللغة الأمازيغية وثقافتها. فقد أقر أغلب كتابها تصريحاً وإضماراً بـ»العائق الأمازيغي»، بل إن منهم من ناقض موقف الدولة في أمر تعميم تعليم هذه اللغة، ونادوا بالتركيز على الثقافة دون اللغة؛ واعتبر جزء منهم، أيضاً، معيرة الأمازيغية عملاً مختبرياً، ودعوا إلى التوقف عنها. ولكأن العمل الذي يأتيه المعهد بدعاً لم تأته الدول في العالم باسم العلم، ولم تقم به مؤسسات متخصصة عالمية (ولكم أن تراجعوا ما قامت به الكثير من الدول في أروبا وآسيا وأمريكا وأفريقيا).لقد كتبت السيدة رحمة بورقية في هذا الصدد: «إن تعليم الثقافة الأمازيغية في كل أسلاك التعليم وإحداث كراسي جامعية لها مع تدريس تاريخها بجانب البعد العربي والإفريقي والأندلسي للهوية المغربية هو الذي سيقوي مبدأ الهوية متعددة الأبعاد لدى المتعلمين. أما اللغة، فهي حق لكل من يتكلمها، وكل محاولة لفرضها على كل المغاربة وعلى الذين لا يتكلمونها هو دفع الدولة والضغط عليها لفرضها». والأمر بالنسبة للسيدة بورقية يتعلق فقط بتعليم الثقافة والتاريخ، وأما بالنسبة للغة فإنها تستشهد بما ذهب إليه عبد العالي بنعمور الذي يرفض معيرة الأمازيغية ويطالب بـ «لغة مغربية عربية يكون فيها مزيج من الدارجة والأمازيغية ولغات أخرى». بل إن السيدة بورقية لم تستنكف عن انتقاد المعهد الملكي الذي ارتكب خطيئة المعيرة، فقد تساءلت: «هل يراد رد الاعتبار للأمازيغيين، أي للذين يتكلمون تلك اللغة، أم فقط للغة لذاتها؟». وعلى هذا الأساس فإن أمر دسترة اللغة الأمازيغية غير مطروح البتة لديها، فهي لم تقترحها لا وطنية ولا رسمية، ما دامت هذه اللغة سائرة إلى بوار. وإحصائيات السيد لحليمي لسنة 2004 تقدم الدليل على هذا البوار. ففي نظرها أن 89.8 في المائة من السكان البالغين 5 سنوات فأكثر يتكلمون اللغة الدارجة، و 14.6 في المائة يتكلمون تشلحيت، و 8.8 في المائة يتكلمون تمازيغت، و 4.8 في المائة يتكلمون تريفيت؟ وعليه، فلسان الحال يثبت أن المستقبل للدارجة العربية وليس للأمازيغية. فهذه هي لغة الأمة، وهذه هي لغة الانسجام الثقافي واللساني والهوياتي. والحقيقة فإن كل الحجج التي تقدم بها هؤلاء لكي لا تحتل اللغة الأمازيغية مكانتها في مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسسة الدستور، لم تنطلق، في الغالب الأعم، إلا من منطلقات ذاتية وشخصية وإيديولوجية؛ فلا هم قاموا بدراسات ميدانية، ولا هم استفتوا الشعب في هذا الأمر، ولا هم استشاروا مؤسسة وضعها جلالة الملك التي اشتغلت لعقد من الزمن على موضوع حصري هو موضوع اللغة والثقافة الأمازيغيتين. إذ لم يسبق لأي واحد منهم أن جاء إلى هذه المؤسسة وطلب من مختصيها رأيهم في أمر كهذا، ولا جاءوا ليأخذوا المعلومات الكافية عما قامت به المؤسسة طيلة السنوات العشر الماضية. ولمعلومات هؤلاء وغيرهم، نقول: 1ـ إن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية قد بذل مجهوداً كبيراً، طيلة السنوات الماضية، في مجال التهيئة (وليس التأهيل، فكل اللغات مؤهلة لكي تُرسّم) اللسانية؛ وإن هذا العمل الجبار قد أمكنه من تنميط الحرف الأمازيغي، وبناء قواعده الإملائية، ومعيرة اللغة، ووضع الأنحاء المرجعية، التي يقول مصطفى الخلفي أنها غير موجودة؛ بالإضافة إلى إصداره للكتب المدرسية، ووضعه لمختلف الأدوات التربوية والديداكتيكية، وتأليفه لعُدة التكوين والدلائل، إلى جانب الحوامل البيداغوجية المختلفة، ومن ضمنها الموارد الرقمية؛ وهو عمل لا يؤهل الأمازيغية لتكون رسمية فقط، كما يدعي المدعون، بل يؤهلها أيضاً لكي تلعب دوراً أساسياً في تجويد منظومتنا التربوية، ومؤسساتنا القضائية والإدارية ورفض الظلم عن فئات واسعة من شعبنا. 2ـ إن عدم تعميم اللغة الأمازيغية عمودياً وأفقياً، والاقتصار فقط على 15/00 لا يعود إلى مشكل كامن في اللغة ذاتها، كما يحاول البعض التأكيد على ذلك، ولكن يعود بالدرجة الأولى إلى الاستهانة السياسية، إن لم نقل «الحكرة»، التي تعاملت بها الحكومة مع هذه اللغة، تلك الاستهانة / «الحكرة» التي ترجع، في العمق، إلى غياب الأمازيغية من الدستور بوصفها لغة رسمية؛ وكم سمعنا من إهانات، عندما كان ينتفض بعض المسؤولين بالقول: «واشْ تْفاكّينا مع اللغة الرسمية عادْ نْتومَا تْزيدونا الشّلحة». وعلى هذا الأساس، فإن ما يشكل سبباً في عدم انتشار الأمازيغية داخل المنظومة التعليمية لا يعود إلى عجز في اللغة، ولكن يعود إلى السياسة الحكومية التي تنفذ دستوراً يغيب اللغة الأمازيغية بشكل كلي من مواده. 3ـ إن ترسيم اللغات لا يفترض على الإطلاق: أ ـ أن تكون اللغة المعنية مؤهلة بالشكل الذي يدافع به السيد مصطفى الخلفي؛ فالكثير من التجارب العالمية في آسيا وأمريكا وإفريقيا وأوروبا رسمت لغاتها الوطنية دون أن تشترط حتى أن تكون هذه اللغات مالكة لحرف تُكتب بها؛ فالتأهيل لا يكون قبلياً، أي لا يكون خارج زمن الترسيم وزمن إدراجها داخل المؤسسات، فهي عملية موازية ومواكبة. إذ كلما رسمنا لغة ومنحنا لها الفرصة لكي تضطلع بوظائفها الأساسية، كلما تأهلت، وتطورت. أما تركها جانباً، وعدم حمايتها مؤسساتياً، ثم انتظار لحظة تأهيلها، واتهامها بالعجز، فهذا هو الضحك على الأذقان. ب ـ أن تُرسّم في الأمم المتحدة وداخل أجهزتها المركزية والجهوية. فالأمازيغ لم يطالبوا أبداً بترسيم الأمازيغية داخل هذه المنظمة؛ إن ما يطالبون به هو ترسيمها في بلادهم الذي ليس لهم غيره. وكم من لغة مرسمة في بلادها وليست مرسمة داخل أجهزة الأمم المتحدة. 4ـ إن إدماج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية المغربية لن يهدد أبداً اللغة العربية؛ وهذا ما تؤكده كل الدراسات وكل التجارب التي أقيمت في العالم. وعلى العكس من ذلك فإن اللغات الأم هي ما يساعد بشكل أكبر في تسريع وتجويد اللغات الثواني والثوالث. هذا ما يؤكده العالم الكندي جيم كامنس (Jim Cummins)؛ إذ بالنسبة إليه، واستناداً إلى الدراسات التي أقيمت، في هذا الصدد، فإنه كلما تعمقت كفايات الأطفال في لغاتهم الأم كلما تعمقت كفاياتهم اللسانية في اللغات الثواني والثوالث. والأكثر من ذلك، أنه كلما أعيد الاعتبار إلى اللغة الأم، كلما تشبع الأطفال بقيم التسامح تجاه مواطنيهم الذين لا يتكلمون لغاتهم؛ وهي حقيقة علمية أكدتها تجربة الأمم المتحدة، واليونسكو وتجارب أخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبا. 5ـ إن إدماج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية لن يهدد ميزانية الدولة بالشكل الفاضح الذي يدعيه المناوئون، بل إنه سيجعلها تربح أموالاً كبيرة تصرفها اليوم بدون جدوى؛ فقد أثبتت الكثير من الدراسات والتجارب أن إدراج اللغات الأم في المنظومات التربوية، يقلص من الهدر المدرسي، ويجعل الدولة تربح سنوات كثيرة يستغرقها الأطفال في تعلم لغات لا يتمكنون من إتقانها حتى في مراحل دراستهم المتقدمة؛ لاحظوا، مثلاً، أنه بالرغم من أن الأطفال المغاربة يستفيدون من 3800 ساعة لتعلم اللغة العربية، وهي من أعلى النسب في الحصص عالمياً لتعليم لغة (المعدل العالمي لا يتعدى 2500)، إلا أنه، رغم ذلك، يلاحظ أن الهدر المدرسي بلغ أقصى حد، والأطفال لا يتقنون لا اللغة العربية ولا اللغة الفرنسية (راجعوا أرقام الهدر المدرسي في تقرير المجلس الأعلى للتعليم لسة 2008). وإذا أضفنا إلى هذا الهدر المالي الناتج عن هذا الرفع من الحصص، والهدر الناتج عن مغادرة الآلاف من الأطفال للمدارس، والهدر الناتج عن عدم إتقان أي لغة، والهدر الناتج عن عودة الأمية بسرعة إلى المغادرين والمتخرجين بعد تركهم للمدرسة، فسنعلم ما الذي يهدد ميزانية الدولة، هل وجود الأمازيغية في مؤسساتنا أم غيابها منها؟ 6ـ إن الدعوة إلى بناء لغة عربية دارجة موحدة بوصفها مرتكزاً للهوية المغربية إنما هي دعوة لا تختلف، على الإطلاق، عن تلك التي رفعها البعثيون والوطنيون طيلة العقود الماضية؛ فباسم الوحدة الوطنية، وباسم العروبة، وباسم الإسلام، وباسم الإحصائيات، تم تهميش اللغة الأمازيغية وثقافتها، وتم اعتبارها خطاً أو خطيئة تاريخية يجب تصحيحها. والآن، وبعد أن وصلت هذه السياسة إلى منتهاها، وبعد ارتفعت أصوات الأمازيغ الذيي يدافعون عن حقهم في لغتهم وانتمائهم، يراد، مرة أخرى، لي عنق الحقيقة، والعودة بهم إلى المبتدأ. يُراد من الأمازيغ أن يتبنوا الدارجة دون لغتهم، ويطلب منهم تبني لغة الشعب بعد أن طُلب منهم، لعقود طويلة، تبني لغة القرآن. ومن بين الحجج المتهافتة الأخرى التي تُقدم إلينا كي لا تأخذ اللغة الأمازيغية حقها في الحماية الدستورية، ذلك الادعاء السافر، الفاقد لكل اعتبار أخلاقي أو علمي، بكون الأمازيغية تهدد الوحدة الوطنية2. هكذا، إذن، وبجرة قلم، بل وبدون أي مرتكز علمي تصبح لبنان، كما قدمها لنا السيد فؤاد بوعلي، أحد الباحثين في اللسانيات (أي لسانيات؟) درساً ماثلاً أمام الجميع (عن أي درس يتحدث؟) (أنظر جريدة التجديد المشار إليها). ويقدم إلينا السودان أيضاً بوصفه بلداً تعددياً (يا ألله). لقد كان على السيد فؤاد أن يحدثنا عن المآل الذي وصلت إليه السياسات اليعقوبية والعنصرية في الشرق العربي أيضاً. كان عليه أن يحدثنا كيف أنَّ رفض الحق في الانتماء بكل من العراق، مثلا، وبكل من سوريا والسودان قد أدى إلى كوارث إنسانية خطيرة، بل، وأحياناً، إلى عكس تلك «الوحدوية» العنصرية المفروضة بقوة السلطة والسلاح. كان عليه أن يحدثنا أن هذا المآل الذي وصلت إليه هذه الدول لم يكن بسبب التعدد الذي عاشته هذه الأمم كحالة طبيعية منذ قرون طويلة، بل إنه كان بسبب نفس الأفكار التي يحملها السيد فؤاد والسيد النقيب والسيد الخلفي والسيد الأوراغي والسيد موسى الشامي، والفاسي الفهري وغيرهم كثير. فهؤلاء جميعاً يرضعون من نفس الثدي، وإذ يرفضون اليوم أن تحتل الأمازيغية مكانتها في الدستور، عل وعسى أن تموت بعد أربعة أو خمسة عقود، كما أنذرتنا بذلك اليونسكو، فإنهم يسيرون على نفس الدرب: درب صدام وحافظ الأسد والنميري والقدافي وغيرهم.ولكي يفهم القارئ منابع الفكر الإقصائي الذي ينهل منه كل من يرفض التعددية والمساواة اللسانية بالبلاد، ويناضلون ضد اللغة الأمازيغية كي لا تتبوأ مكانتها التي تستحقها في الدستور، فإني سأقدم ثلاثة أمثلة عن هذه النماذج، تكفي لتوضيح المآل الذي يريد هؤلاء أن يوصلونا إليه. المثال الأول هو النموذج العراقي، والمثال الثاني هو النموذج السوري، وأما المثال الثالث، فهو النموذج السوداني الذي وُصفَ بكونه نموذجاً للدولة التعددية. 1ـ النموذج العراقي من المعلوم أن حزب البعث الذي تأسس سنة 1940 قد شكل الأداة الرئيسية لتعريب المجتمع العراقي؛ فمنه انحدرت كوادر الدولة، ومنه تشكلت الميليشيات الانقلابية التي ستُدمج منذ سنة 1968 في الجيش الجمهوري. وهكذا، فباسم الوحدة الوطنية ووحدة الأمة العربية وواحدية لغتها العربية التي تهددها اللهجات واللغات الأجنبية، ستعمل هذه الكوادر، على تذويب كل الكيانات الإثنية غير العربية. ونظراً للرفض الذي عبرت عنه هذه الكيانات، فإن الدولة ستتعامل معها، في بادئ الأمر، بنوع من الدهاء المخادع، حيث ستعلن سنة 1970 عن منح الأكراد حكماً ذاتياً، وتعترف لهم بلغتهم بوصفها لغة رسمية. وقد شارك صدام حسين، في ذلك الوقت، في صياغة هذا الاعتراف. إلا أن الهدف لم يكن، في الواقع، إلا تمهيداً لما سيقع فيما بعد من كوارث إنسانية يندى لها الجبين؛ فقد كان البعثيون يريدون، فقط، ربح الوقت، إلى حين بناء قوتهم العسكرية القاهرة التي سيستعملوها، بدون رحمة أو شفقة، في قمع المطالب اللسانية والثقافية. هكذا، إذن، ستشن الدولة البعثية حملة شرسة ضد الأكراد منذ أواخر السبعينات، كما ستتقدم ببرنامج للتعريب يحمل شعار «القضاء على الأمية» مستهدفين، من وراء ذلك، القضاء على اللغة الكردية وثقافتها؛ ومنذ سنة 1980، أي منذ أن أصبح صدام حسين رئيساً للعراق، ستتكثف عمليات التعريب، إلى الدرجة التي جعلته، بعد إحصاء 1987 وانتهائه من حربه ضد إيران، يفرض على الشعب الكردي، بالقوة، التنكر لهويتهم وإعلان انتمائهم إلى العروبة؛ إلا أن رفض هؤلاء لهذه الدعوة، سيجعله يلتجئ إلى أساليب القمع والتشريد والتهجير والقتل، كان أسوأها عندما تجرأ واستعمل الأسلحة الكيماوية؛ إذ استناداً إلى المرسوم رقم 160 لشهر مارس 1987، واستناداً إلى مبدأ الدفاع عن الوحدة الوطنية واللغة العربية، سيقوم صدام، وزبانيته، بتدمير كل المدن والقرى الكردستانية، ويصفي كل الجماعات المعارضة لنظامه. وقد انطلقت العملية الإجرامية من قرى السليمانية، مما تمخض عنه قتل المئات من المدنيين واعتقال وتعذيب وتشريد الآلاف منهم. وفي نفس الوقت كان حسن المجيد (الكيماوي) يعلن في 26 ماي عن قرار هجومه بالأسلحة الكيماوية وتبنيه لخطة الاغتيالات الجماعية ضد المعارضين في الخارج. ونتيجة للقصف المكثف بالطائرات، وهجوم أزيد من 200.000 من الجنود المسلحين بأشد الأسلحة فتكاً، سوف يهرب أزيد من 100.000 كردي إلى تركيا؛ وستختفي من الخارطة الترابية الكردية أكثر من 25 مدينة، وأكثر من 4500 مدار حضري، وضمنها مدينة حلبجة، العاصمة الثقافية للأكراد؛ كما سيتم قتل إحراقاً بالقنابل الكيماوية أزيد من 5000 كردي وسط صمت مدقع لكل الأحزاب والتيارات القومية التي تسمي نفسها عربية، سواء في الشرق أوفي شمال إفريقيا، بل وبمباركة أحياناً من بعض الأطر الحقوقية المغربية التي رأت فيما قام به صدام انتصاراً للقومية، واستئصالاً للإمبريالية؛ وهو ما دفع برجل في حجم محمد شفيق آنذاك إلى إعلانه الاستقالة والانسحاب من هذه الأطر التي تقيس قيم حقوق الإنسان بمقياس الانتماء العروبي القومي والبعثي والعرقي وليس بمقياس الانتماء إلى الإنسانية؛ وبانتهائه من العملية التصفوية، سيعلن صدام في ديسمبر 1989 أمام العالم، وببساطة، أن «مشكل الأكراد قد سوي»، وسيفرح الكثير من القوميين العرب في الشرق وفي الغرب لهذا «النجاح الباهر» الذي حققه صدام. وحسب بعض الإحصائيات المقدمة، في هذا المضمار، فإن النظام البعثي قد قام بتدمير حوالي 90/ من القرى الكردية، وقتل أزيد من 400.000 مواطن، وزرع أكثر من 15 مليون لغم، وجعل أزيد من مليون ونصف من الفلاحين الأكراد يعيشون في المخيمات في ظروف قاسية ولا إنسانية، بل وغير قادرين، لسد جوعتهم، حتى على زراعة أراضيهم نتيجة الألغام المزروعة بكثافة. وحسب هيومان رايتس فإنه قد تم تهجير أكثر من 250.000 مواطن كردي، ثم تضاعف هذا الرقم عندما تم الإعلان عن حرب الأنفال التطهيرية. ولينضاف إليهم منذ سنة 1991 أزيد من 102.000 من المهجرين الآخرين الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها منزوعي الملكية، ومنفيين من أراضيهم، ويعيشون أوضاعاً مأساوية نتيجة لبرد الشتاء وحر الصيف وقلة ذات اليد. كل هذا من أجل الوحدة الوطنية، ومن أجل الدفاع عن اللغة العربية، ومن أجل إشعاع العروبة. وقد قام صدام، بعد ذلك، بتعويض كل هؤلاء المهجرين بمهاجرين آخرين أتى بهم من المناطق الناطقة بالعربية، مشجعاً إياهم بالأموال، ومغرياً لهم بالثروات الكبيرة التي تختزنها الأراضي الكردية، وعلى رأسها البترول. وقد أدت هذه السياسة العنصرية بعد رحيل صدام إلى كارثة، من حيث أن هؤلاء المهجرين الأكراد عادوا إلى أراضيهم، فوجدوا مساكنهم محتلة من طرف سكان آخرين؛ ولولا السياسة الحكيمة التي تعتمدها، لحد الآن، السلطات الكردية المحلية لأدى ذلك إلى مأساة إنسانية وإلى حروب أهلية بين أبناء الوطن الواحد. ولم يتوقف أمر التعريب عند التهجير والإحراق والقتل والاعتقالات الواسعة، وأخذ أموال الناس، ونزع ملكيات مساكنهم، بل إن الحكومة الصدامية ستحرم بشكل نهائي الحديث باللغة الكردية في الأماكن العمومية، وستفرض مراقبة صارمة على التلفون، وترغم الأفراد على التبرؤ من هويتهم وتبني الهوية العربية، ثم ستعمل على استبدال كل المعالم الثقافية واللغوية الكردية بأخرى عربية، بحيث لم تنج من هذه العملية حتى المقابر التي مسحت أسماؤها الكردية. وأما في الحالات التي كانت السلطة العراقية تجد فيها اعتراضاً على سياستها، فإن المعترضين يُحرمون من الإرث ومن شراء بيت أو أرض أو سيارة، ويُستثنون من جميع وظائف الدولة، ومن تعليم أبنائهم، بل وحتى من السفر دون إذن. وسيشكل قانون «تصحيح الجنسية» الذي تم إقراره في سبتمبر 2001 والذي ينص على تغيير الهوية مرتكزاً آخر للدفع بالأكراد كي يغيروا انتماءهم ويتبنوا العروبة، وإلا فإنهم كانوا يتعرضون للتهجير. وحسب الباحث حميد بوزارسلان فإن الاغتيالات التي ارتكبها النظام البعثي لم تكن محكومة بضرورات أمنية، بل كانت محكومة بخلفية التطهير العرقي وإفناء الجماعة والتقليل من خصوبة نساء الأكراد. لقد بدأ كل شيء برفض المساواة، وباتهام جزء من المواطنين بكونهم يهددون أمن وطنهم ووحدتها ولغتها العربية؛ وتجاوز ذلك إلى التخوين والاشتغال على أجندات خارجية، لينتهي، في الأخير، إلى القمع والقتل وإلى فرض الأمر الواقع بقوة السلطان. وإذا كان أمازيغ المغرب، اليوم، محظوظين لكون السلطة المغربية لم تكن مطمئنة إلى الدعوات القومية الشرقية نتيجة لنزوع هذه القومية إلى محو كل الخصوصيات المحلية، ومنها خصوصيات الحكم القطري، فإن المواقف المسجلة على بعض الأحزاب المغربية، والنخب العروبية والإسلامية والقومية، نراها تسير في نفس اتجاه البعثيين، مما يشكل منها خميرة فكرية لبناء توجهات لن تتوقف عند الاستئصال الرمزي، اللساني والثقافي، كما دأبنا منذ الاستقلال، ولكن ستتجاوزها، إن تمكنت من السلطة، إلى إعادة إنتاج ما قامت به الدول القومية «الشقيقة» (وهل سيمنحنا الدستور المراجع هذه الإمكانية؟). ومن حسن حظنا أن هؤلاء القوميين والوطنيين الراديكاليين لم يحصلوا على السلطة، وإلا لكنا، ربما، عشنا نفس التجربة العراقية. 2ـ النموذج السوري ويعتبر هذا النموذج أيضاً من أسوأ النماذج القومية البعثية؛ فهو شبيه بالنموذج العراقي؛ إذ شرعن بدوره، إما باسم التوحيد والوحدة الوطنية أو باسم الدفاع عن اللغة العربية التي يتهددها «الإمبرياليون» و»أذنابهم من الإثنيات غير العربية»، لتعريب تسلطي وقمعي وعنصري ضد كل المكونات الإثنية السورية غير العربية، وخاصة منهم الأكراد الذي يمثلون حوالي 8 بالمائة من ساكنة سورية والتي تصل أعدادها إلى 22 مليون نسمة. وبهذا ستباشر هذه الدولة اليعقوبية سياستها الاستئصالية منذ سنة 1963 متخذة إلى ذلك عدة وسائل جهنمية، والتي منها التعريب المكثف الذي بوشر بتنسيق مع عدة دول عربية. ولكي تسرع من وتيرة التعريب هذه قامت الدولة بحرمان الأكراد وغيرهم من حق المواطنة، وهجّرت بشكل قسري لأزيد من 100.000 كردي، وعوضتهم بالساكنة العربية. ففي إطار سياسة الاستئصال اللساني والثقافي والهوياتي قدمت الحكومة مشروعاً لتعريب كل المناطق الكردية التي كانت تضم 332 قرية ومداراً حضريا، والتي تمتد على مدى 280 كلم طولاً و15 كلم عرضاً على الحدود التركية. وقد كان أسوأ ما تعرض له الأكراد، في هذا الصدد، هو حرمانهم من كل الحقوق الإنسانية، والتي منها حق المواطنة والتصويت وحرية التنقل داخل البلاد وخارجها، وحق الملكية، وحق الاشتغال والانتساب إلى القطاع العمومي، وحق الاستفادة من التطبيب في المستشفيات العمومية ومن التعليم، وحق الاشتغال في الصحافة، وحق التسجيل في الوثائق الرسمية (أزيد من 100.000 كردي غير مسجلين) وكذا حق الحصول على وثائق السفر (حوالي 360.000 من المحرومين من وثائق السفر). وفي سنة 1970 سيواصل حافظ الأسد سياسة التهجير، مستهدفاً، من جهة، خلق حزام من الساكنة العربية، على طول الحدود الشمالية مع تركيا والعراق، ومتوخياً، من جهة ثانية، منع تشكل منطقة كردية منسجمة لسانياً وثقافياً وحضارياً. فالذي كان يقض مضجع السلطات المركزية هو قيام وحدة ثقافية ولسانية بين مختلف المكونات الكردية، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي. ومنذ هذا التاريخ، سيتم التكثيف من عملية تعريب المحيط، ويحرم حافظ بشكل كلي وكامل استعمال اللغة الكردية وثقافتها وموسيقاها وأهازيجها وأعيادها في الحياة العامة، ويمنع الأسماء الكردية (1992)، ويعتبر كل دعوة إلى احترام الحقوق اللغوية والثقافية للأقليات خيانة وطنية، وضرباً في الصميم لمبدأ العروبة الخالد؛ وكان يتم التعبير عن كل دعوة من هذا القبيل بــ «المشاركة في أفعال لإضعاف الوعي الوطني» أو «محاولة تقسيم البلاد وربطها بدولة أجنبية»؛ وأما بالنسبة للمناضلين المناوئين لهذه السياسة، فقد كان مصيرهم التعرض لكل أشكال القمع والقتل والاعتقال والتعذيب، مما أدى إلى اندلاع أحداث ذهب ضحيتها الكثير منهم؛ هذا ما وقع، مثلا، سنة 1994، عندما صوبت السلطات فوهات بنادقها إلى المشجعين الأكراد إثر مباراة لكرة القدم؛ فتحولت ساحة الملعب إلى أرضية لسقوط هؤلاء المشجعين في برك من دمائهم، وليموت منهم حوالي 36 شخصاً، ويعتقل منهم أكثر من ألفين. وإذا كانت أحداث الرفض لهذه السياسة لم تتوقف منذ سنة 1963، فإن الآمال التي عُلقت على بشار الأسد، عندما وصل إلى سدة الحكم، قد ذهبت أدراج الرياح، مما أدى إلى اندلاع أحداث أخرى سنوات 2005 و 2008 و2010؛ ومرة أخرى سيؤدي ذلك إلى سقوط قتلى وجرحى وإلى إيداع السجن للكثير من المتظاهرين والمناوئين لهذه السياسة الإقصائية والاستئصالية. ولقد كان على الأكراد أن ينتظروا الثورات التي اندلعت في كل من تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا وأخيراً في سوريا، لكي يطل علينا بشار الأسد من شاشة التلفزيون سنة 2011، ويعلن أنه سيمنح بطاقات الهوية للإخوة الأكراد (هكذا سماهم؛ فهم في نظره، إخوة وليسوا مواطنين). وبالرغم من الإيديولوجيا البعثية التي تؤمن بسوريا عربية وقومية، فإن اندلاع الأحداث قد جعل الحكومة لا تستنكف عن استعمال النعرات الإتنية كي تخلق شرخاً في الشارع السوري؛ وكم كانت إجابة هذا الشارع حكيمة، عندما رفض هذا الاستعمال الدنيء لمكونات الشعب ضد بعضها البعض؛ فقد ارتفعت حناجر الأكراد، الذين ظل النظام يتهمهم لأكثر من أربع عقود بالخيانة وموالاة الأجنبي، مرددة لشعارات تؤكد على انتمائها إلى الوطن: سوريا، وأن الشعب السوري واحد بعربه وأكراده، مما أُسقط في يد السلطة البعثية (وهل لنا أن نذكر بنفس الاستعمال الدنيء الذي مارسه القومي العربي معمر القذافي في صراعه ضد شعبه؟). 3ـ النموذج السوداني لقد قدم لنا السيد فؤاد أبو علي هذا البلد بكونه تعددياً، كما نقلت عنه صحيفة التجديد؛ والحقيقة أن حكاية هذا البلد الإفريقي مع العروبة حكاية دماء الملايين من المواطنين سالت على الأرض السودانية، وحكاية ملايين من المهجرين انتُزعت منهم أراضيهم ومساكنهم وأموالهم، واغتصبت نساؤهم، واستعبدت فلذات أكبادهم؛ إنها حكاية تطهير لساني وثقافي وعقدي وعرقي لم يشهد العالم مثيلاً لها. فمنذ أن نالت السودان استقلالها سنة 1956، وفي الوقت الذي كانت تدافع فيه النخب السودانية الجنوبية عن فكرة دولة علمانية فيدرالية تُحترم داخلها الهويات اللسانية والثقافية والدينية للمواطنين السودانيين، كانت النخب القومية العروبية والقومية في الشمال تهيئ لأمر آخر. كانت تحضر لسياسة تعريب شاملة، باسم الوحدة الوطنية، وباسم التعالي المقدس للغة العربية وللحضارة العربية، وباسم الانتماء إلى الجامعة العربية في مراحل لاحقة؛ وهكذا ستفرض ديكتاتورية الجنيرال عبود (1958-1964) تعريباً وأسلمة شاملين في الجنوب، رغم أن الساكنة ليست بعربية ولا مسلمة. ولم يتوان الجنيرال لتحقيق مشروعه الاستصالي في استعمال القتل والتهديد والاعتقال والاغتصاب وهدم الكنائس وأماكن عبادة الإحيائيين، ومنع بنائها. ونتيجة للظلم الذي مس حوالي 125 إثنية، فإن هذه الأخيرة ستنتفض ضد الظلم، وهو ما أدى إلى قيام حرب أهلية، في الجنوب، فرضت على السلطة المركزية قيام حكم ذاتي (1972-1983) تحت قيادة الدكتاتور الاشتراكي النميري؛ وكم ستكون سياسة هذا الأخير ظالمة، عندما سيرتد عن اشتراكيته، ويعلنها حرباً ضروساً ضد اللغات والأديان الإفريقية السودانية باسم نفس المرجعيات الوحدوية التي مأسس لها القوميون والإسلاميون. وقد مهد عمله هذا للجبهة الوطنية الإسلامية كي تواصل عمل القمع والقتل والتهجير. هذا ما سوف تعلن عنه منظمة «أطباء بلا حدود»؛ فقد أكدت هذه المنظمة، سنة 1983، أن وضعية الجنوب هي الوضعية «الأكثر خطورة والأكثر عمقاً من كل الأزمات الإنسانية التي عرفها كوكب الأرض». ومنذ ذلك الحين ستنتشر مصطلحات من قبيل التصفية العرقية والقتل الجماعي génocide في الخطابات الحقوقية والإعلامية لوصف بشاعة ما وقع بالسودان. وحسب أوكسفام OXFAM فإن عدد الضحايا كان كارثياً إذ تراوح ما بين المليون ونصف، والمليونين من المقتولين، هذا دون احتساب مليونين من الساكنة الذين تم تهجيرهم إلى منطقة الخرطوم، ودون احتساب نصف السكان الذين تركوا منازلهم وأصبحوا في العراء؛ وأما بالنسبة للأعداد الذين أهلكتهم المجاعة، فقد وصلوا إلى 250.000 ألف من الموتى، وفي سنة 1998 ستقتل المجاعة، مرة أخرى، حوالي 2.6 مليون من الأشخاص. والأدهى من كل ذلك هو أن النزوع الديني لحكومات الخرطوم قد جعلها تبرر الاستعباد واتخاذ السبايا من غير العرب المسلمين. وهكذا فمنذ سنة 1989 سيجعل النظام الدكتاتوري للجنيرال عمر البشير من التعريب والأسلمة سياسته المركزية، وسيسن سياسة غزو منظمة للمناطق الجنوبية، للاستيلاء، من جهة، على جميع مصادر الاقتصاد، والتي منها البترول، مؤسساً لميليشيات إسلامية هدفها الأساسي هو سبي النساء والفتيات وتحويلهن إلى إماء ومعاشرات للغزاة، وتحويل الأطفال الأسرى إلى مقاتلين بعد أن يتم تعريبهم وأسلمتهم داخل «معسكرات السلم». ورغم تدخلات منظمات عالمية لتحرير العبيد3، وذلك كما وقع سنة 1999 والتي أسفرت عن إطلاق أزيد من 1000 عبد، فإن الواقع أكثر مأساوية مما تقدمه هذه المنظمات. وإذا كان السيد فؤاد يحيل على دستور 1989 الذي يعترف بنده الثالث بإمكانية استعمال اللغات المحلية، فالواقع يؤكد أن الحكومة المركزية لم تطبق أبداً هذا البند؛ بل إنها عملت، بكل الطرق غير المشروعة، لفرض اللغة العربية وإقصاء اللغات الأخرى؛ فقد أعلن عمر البشير عن عروبة البلاد وانتمائها إلى الجامعة العربية، كما أنه قدم برنامجاً منذ سنة 1999 هدفه الأساسي، حسب تعبيره، هو أن «يحيا المجتمع السوداني حسب تعاليم القرآن»؛ وقد تحدد هذا البرنامج في تحويل كل مدارس السودان إلى مدارس قرآنية انطلاقاً من سنة 2002. وأما بالنسبة لدستور 2005، فإنه سينتهي نهاية مأساوية بسبب اغتيال جون كرانك يوم 30 يوليوز 2005.وللأسف فإن هذه السياسة اليعقوبية المدمرة لم تؤد أبداً إلى الوحدة الوطنية كما يدعو إلى ذلك إخوان العروبة والتأحيد؛ ولكنها، على العكس من ذلك، أدت إلى الخراب والقتل والحروب الأهلية، وفي الأخير أدت إلى الانفصال. فبعد عقود طويلة من التعريب ومن الأسلمة القسريين، ها نحن أولاء نجد أنفسنا أمام دولة جديدة بجنوب السودان، حبذت الانفصال عن الشمال بنسبة تتجاوز 99 في المائة؛ دولة لم تكن تُطرح أبدا، من قبل، في الأجندات السياسية للنخب الجنوبية، ولم يفكروا فيها، فهم لم يكونوا، في البداية، يطالبون إلا بقيام دولة فيديرالية موحدة، مركزها الخرطوم؛ دولة تحترم كيانهم وكرامتهم وتمنحهم إمكان مأسسة خصوصياتهم اللسانية والدينية. ولكن نخب الشمال المتعنتة والمتشبعة بمفهوم الوحدة الوطنية الإقصائية، على غرار الدول الشرقية البعثية، لم تفهم أبداً، إلا متأخرة، أن سياسة «التأحيد» القهري، لن يؤدي إلا إلى عكس ما يطمحون إليه. وهو ما تحقق بالفعل. نفس الشيء يقع، وإن بأشكال أخرى في العراق وفي سوريا. فها هي ذي الدولة العراقية الجديدة تعود إلى البداية، وتعترف بلغاتها وثقافاتها. ولكن هل للجراح العميقة التي تسببت فيها السياسة البعثية أن تندمل، وهل للدستور أن يشفيها بعد الكوارث التي تسببت فيها الطروحات «التأحيدية» الرافضة للتعدد، والرافضة لأن يعيش الإنسان كرامته الإنسانية التي لا يمكن أن تتحدد إلا في لغته وثقافته وانتمائه؟ وهل للشرخ الذي مأسس له البعثيون بين الأكراد والعرب أن يختفي؟ نفس الشيء أيضاً بالنسبة لسوريا، فالسياسة التي باشرها البعثيون لن تنسي الأكراد ولا الإثنيات الأخرى مدى الدمار الذي مورس عليهم كجماعات وكثقافات وكلغات. صحيح أن هذه الإثنيات تريد أن تفوت الفرصة على نظام بشار كي لا يستغلها في إثارة الشرخ بين مكونات الأمة السورية، لكنها لن تنسى أبداً أنها كانت عرضة للاحتقار والقمع والقتل والتشريد والتهميش على مدى عقود طويلة. وقد قال العرب قديماً: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على المرء من وقع الحسام المهند. ولهذه الأسباب كلها، فقد طالبتُ، منذ الإعلان عن إنشاء لجنة تعديل الدستور، بأن لا يكتفي المُراجِع للدستور بترسيم اللغة الأمازيغية فقط؛ بل وطالبتُ، إلى جانب ذلك، بالتزامات دستورية تضمن تفعيل هذه الدسترة؛ فقد علمتنا تجارب الدول القومية في العراق وفي سوريا وفي السودان وفي غيرها من الدول الأخرى، أن الترسيم لا يعني شيئاً في ظل أنظمة شمولية استبدادية. ألم يتلاعب صدام حسين بهذا الترسيم، ففرض، في ظل عز الدستور المقِرّ بالحكم الذاتي، تعريباً يعقوبياً استئصالياً؟ ألم يفعل نظام الخرطوم، بحكوماته المتعاقبة، نفس الشيء؟ والجزائر، التي هي بين ظهرانينا، ألم تعمق أساليب التعريب بعدما أعلن رئيسها أن اللغة الأمازيغية أصبحت لغة وطنية؟ إنها تجارب تجعلنا نشك، حتى في حالة ترسيم اللغة الأمازيغية، في النوايا الحقيقية لحكامنا الذين رضعوا من ثدي الإيديولوجية البعثية، بشعور منهم أو بدونه. فماذا نحن صانعون إذا ما حكومة قومية استبدت بالسلطة، بعد تعديل الفصل 19 من الدستور، ومنحناها كل أجهزة السيطرة، فقررت أن تضع بند الترسيم جانباً تماماً كما توضع الكثير من بنود هذا الدستور على الرف؟ وعليه فقد اقترحتُ أن يتم التنصيص، إلى جانب ترسيم اللغة، على اعتبار اللغة والثقافة الأمازيغيتين إحدى الثوابت الوطنية؛ وأكدت أن هذه الثوابت لا يمكن أن تضمن استمراريتها غير المؤسسة الملكية التي تتعالى عن الانتماءات الإثنية؛ فبوصفها المؤسسة التي ترمز إلى وحدة الأمة المغربية، وبوصفها الممثلة الأسمى للشعب المغربي في تعدده، أمازيغييه وعربه، فإن من حق الملك أن يقيل الحكومة أو الحكومات التي تخرج عن منصوص الدستور عندما يتعلق الأمر بانحياز غير موضوعي إلى هذه اللغة أو تلك أو إلى هذا المكون دون آخر. ويتضمن هذا أن ينص الدستور على التزامات تشريعية وتنفيذية على البرلمان إصدارها وعلى الحكومة تنفيذها. فالحكومات التي ستتشكل، واعتباراً لانتماءاتها الإيديولوجية، لن تكون أبداً محايدة؛ فهي حكومات منبثقة من أحزاب لا يؤمن أغلبها، لحد الآن، بالديموقراطية الثقافية واللسانية؛ وإذا لم تكن هناك مؤسسة محايدة لا تدخل في لعبة الرهانات الفئوية، فإن ذلك يعني أن هذه الحكومات ستستعيد نفس السياسات التي رأينا نماذج منها في الشرق وفي شمال إفريقيا؛ وهو ما يعني أيضاً تهديداً مباشراً للسلم الاجتماعي، ذلك السلم الذي يجب على المؤسسة الملكية الحفاظ عليه. وأمام هذا المعطى، فإن المفروض هو أن لا تُرَسّم اللغة الأمازيغية فقط، ولكن أن تصبح ثابتاً أساسياً من أسس الدولة المغربية. على سبيل الختم إن الذي يجب أن يفهمه مواطنونا من البعثيين والإقصائيين هو أن المغرب ما يزال يمتلك فرصاً سانحة لتحقيق مصالحة لسانية وثقافية تجبر الأضرار التي أصابت اللغة والثقافة الأمازيغيتين. وإذا كان الإنسان الأمازيغي لم يُصَفَّ عرقياً كما وقع في السودان والعراق وسوريا إلخ، نتيجة للتمايز الحضاري بين شمال إفريقيا والشرق، ونتيجة للسياسة التي اتبعها المرحوم الحسن الثاني؛ تلك السياسة التي كانت تتميز بالكثير من التريث والحذر من الدعوات القومية للبعثيين الذين كان يتحدد مشروعهم الجوهري في تصفية كل التركات اللسانية والثقافية للشعوب غير العربية، والعمل من أجل كيان عربي قومي واحد، يحكمه حاكم مقدس واحد، ويتكلم لغة مقدسة واحدة، ويدين بدين سماوي واحد... إذا كان الإنسان الأمازيغي لم يُصفّ، طيلة هذه العقود، إلا لغوياً وثقافياً نتيجة للسياسيات اللاوطنية المعتمدة منذ 1956، فإن على مواطنينا من الإقصائيين، سواء كانوا بعثيين قوميين أو وطنيين أو إسلاميين أن يلتقطوا تجارب هذه الدول الثلاث التي قدمتها بكثير من الاختزال، ويراجعوا مشروعهم التعريبي القسري، ويعترفوا بالتعدد بوصفه ظاهرة طبيعية، وبأن الله لو أراد أن يجعل الناس كلهم أمة واحدة بلسان واحد لجعلهم كذلك، ولكن حكمته شاءت أن تكون لهم ألسنة متعددة، والتي جعل منها إحدى آياته؛ إذ من آياته، كما ينص على ذلك القرآن نفسه، اختلاف الألسنة والشعوب والقبائل. وإذا كان السيد الخلفي يؤمن بمضمون هذه الآية (الآيات)، فما عليه إلا أن يدافع عنها، وإذا كانت العروبة أقوى في نفسه من الإسلام، فلله الأمر من بعد ومن قبل. إن على إخواننا من العروبيين، (ولا أقول العرب، لأن هؤلاء برهنوا تاريخياً على تعايشهم وقبولهم للآخر) الذين نكن لهم كل الاحترام والتقدير، أن ينخرطوا معنا في مجتمع التعدد الذي عشناه بشكل طبيعي منذ قرون، وأن يتبنوا القيم الإنسانية والدينية التي تكفل كرامة الإنسان وتعمق الانتماء المشترك إلى إنسانية أعمق تتجاوز الانتماءات اللسانية والعرقية الضيقة والوحدوية، وتحول تعددنا إلى غنى وليس إلى تهديد. إن احترامنا لبعضنا البعض، واعترافنا ببعضنا البعض هو الكفيل وحده بتوطين اللغة العربية وانتشارها وتوسعها وتطورها؛ وهو الكفيل أيضاً بالحفاظ على اللغة الأمازيغية وتوسيع سجلات استعمالها، وإخراجها من مأزق الموت الذي يتهددها؛ وأما استلهام النماذج اليعقوبية والإقصائية، سواء كانت غربية أو شرقية، فإنه لن يؤدي إلا إلى تهديد السلم الاجتماعي، وأمثلة ذلك ظاهرة للعيان كما رأينا. وبيننا وبينكم الدستور.إحالات: 1 ـ لست أدري لماذا لم تحاول هذه المجلة أن تنفتح على أقلام أكاديمية أخرى لها وجهة نظر مختلفة عن التي نشرتها لأكاديميين معروفين بمواقفهم. فإذا ما استثنيا تدخل السيد عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فإن الملاحظ هو غلبة الفئة التي لا ترى في الأمازيغية إلا جانبها الثقافي والتاريخي والغياب الفاقع لمتخصصين آخرين في الميدان الأمازيغي. ولقد سبق لنا أرسلنا إلى المجلة دراسة عن استراتيجية مأسسة اللغة الأمازيغية وثقافتها، ولكن يبدو أن المشرفين عليها فضلوا وضعها في «التيروار». 2 ـ إن القول بأن ترسيم لغة ما سوف يؤدي إلى تهديد الوحدة الوطنية لا يستند على أي أساس علمي؛ بل إن العكس هو الذي يحدث تماماً، فكلما هُمشت لغة، واستُهينت كرامة ثقافة ولم تُعط لها حقوقها الطبيعية، كلما كان ذلك سبباً، من ضمن أسباب أخرى، للتشرذم. إذ ما الذي سوف يجمع جماعة ما بجماعة أخرى إذا كانت الجماعة الغالبة لا تعترف للمُهيمن عليها بحقها في الوجود الهوياتي؟ وكيف يمكن للتعايش أن يحدث والسلطات القائمة تعمل من أجل محو ثقافتها وهويتها وتاريخها وانتمائها؟ وهكذا فإنه كلما كانت السلطة تصدر عن إيديولوجية اختزالية للهوية، قومية كانت أو دينية كلما أدى ذلك إلى انتفاء الديموقراطية، وعبرها إلى تهديد السلم الاجتماعي. ولذلك فإن أكثر الدول استقراراً هي أكثرها ديموقراطية واعترافاً بتعددها اللساني والثقافي. 3 ـ رغم أن السودان وقع على المعاهدات المتعلقة بالقضاء على العبودية، إلا أن هذه الظاهرة ما زالت مستمرة رغم نفي السلطات لها.
|
|