|
|
من مغالطات المعادين للأمازيغية بقلم: ميمون أمسبريذ اعتبارات ذاتية سأطلب من القارئ أن يتحملني بضعة أسطر أبث فيها بعض مواجعي قبل أن أستأنف السجال مع الذين ينكرون علينا حقنا في الوجود. إني أحلم بيوم لا يكون علي فيه أن أكتب مثل هذه المقالات التي شرعت في كتابتها قبل عشر سنوات مكرها. ذلك أنني بطبعي ومزاجي لست ميالا إلى السجال. ولكم كنت أفضل أن أوفر الوقت النادر الثمين الذي أنفقه في كتابة هذه المقالات الجدالية لأستعمله في كتابة أعمال أدبية من قصة وشعر وخاطرة... أعمال أجتهد وسعي أن أحين فيها الطاقات التعبيرية للغتنا الأمازيغية، وأستأنف بها إنجاز وظيفة من وظائف اللغة كادت أن تتعطل بعد أن استسلم الأمازيغيون – تحت ضغط التعريب والعولمة – للحل السهل المتمثل في اقتناء الأشكال بدلا عن إنتاجها: أعني الوظيفة الجمالية (التعبير الجمالي)؛ هذه الوظيفة التي تجعل، أكثر من أي وظيفة أخرى، أهل لغة ما يحبون لغتهم ويتمسكون بها؛ لأنها الوظيفة التي تتحقق فيها وبها العوالم الدلالية والسيميائية والإيحائية والمخيالية (نسبة إلى المخيال) للمجموعة اللغوية. وهذه الوظيفة لا يمكن أن تنجزها أية لغة أخرى – خلافا للوظائف الأخرى للغة. ذلك حلمي وتلك رغبتي... لكن حظنا العاثر شاء أن يجعلنا نساكن قوما ينكرون علينا حقنا في التمتع بحقوق يريدونها وقفا عليهم: الحق في الهوية وما يتفرع عنه من حقوق: الحق في الانتماء والحق في اللغة الحاملة لذلك الانتماء. أما والأمر كذلك، أما وقد حيل بيننا وبين ممارسة الوظيفة الجمالية للغتنا، فلنواصل مزاولة الوظيفة الحجاجية السجالية التي يمكن أن تضطلع بها أي لغة، أملا في أن يكون هذا العمل من جنس العمل التمهيدي الذي يقوم به الفلاح، من إزالة للأحجار واقتلاع للأعشاب الضارة، تهييئا لحقله كي يستقبل البذور الواعدة والأشجار المثمرة... من مغالطات الأمازيغوفوبيين: 1- مغالطة أن اللغة أداة لا غير (أو المغالطة البراغماتية) إن القارئ للأدبيات الأمازيغفوبية المنشورة حاليا يلاحظ أن المعادين للأمازيغية كهوية، أو أكثرهم واقعية على الأقل، يتكيفون مع الظروف ويطورون خطابهم على نحو يجعلهم لا يظهرون أمام الرأي العام للعصر المتشبع بقيم العدل والمساواة وحقوق الإنسان والشعوب بمظهر العنصري الظلامي المتنكص عن روح العصر. هكذا نجدهم يعللون معارضتهم ترسيم الأمازيغية في الدستور المقبل بكون هذه اللغة قاصرة عن الاضطلاع بوظائف التواصل المؤسساتي بمختلف مجالاته؛ وأنه لهذا السبب – ولهذا السبب فقط – يرون أن تبقى العربية اللغة الرسمية الوحيدة للمغرب؛ بحكم أن هذه اللغة تتمتع بالمؤهلات المطلوبة لتلك الوظيفة. ولا ينسون التذكير – دعما لموقفهم الدوغمائي في الأصل – بما سيترتب عن ترسيم الأمازيغية من إثقال لكاهل المالية العمومية بالمصاريف الإضافية التي سترصد لتنزيل ذلك الترسيم في الحياة العامة – مصاريف ما أحوج المغاربة إلى صرفها على بناء المستشفيات والطرق، الخ. (جرعة من الشعبوية لتسويغ الدواء!) إن معارضتهم لترسيم الأمازيغية إذن ترجع لأسباب عملية براغماتية لا غير! (قصور الأمازيغية عن النهوض بوظائف اللغة الرسمية والإكراهات المالية التي ستترتب عن ترسيمها لو تم). أما دفاعهم عن العربية كلغة رسمية وحيدة فليس وراءه أي وازع إيديولوجي: كل ما هنالك أنها لغة جاهزة ولن تكلف ميزانية الدولة شيئا لأنها رسمية سلفا. فاللغة العربية، بهذا المعنى، ليست سوى أداة وظيفية للتواصل المؤسسي، ميزتها الوحيدة هي جاهزيتها (يقرأ كلام النقيب بن عمرو في هذا الشأن على موقع الجريدة الالكترونية «هسبريس»). هذا المنظور الأداتي instrumental للغة، الذي يحرص العروبيون على تبنيه في خطابهم المكيف يخفي في الواقع موقفا إيديولوجيا دوغمائيا لم يتغير. حقا، توجد دول كثيرة، في أمريكا الوسطى والجنوبية وإفريقيا وآسيا، تبنت لغات مستعمريها السابقين لغات رسمية لها (الإنجليزية، الأسبانية، البرتغالية والفرنسية). لكن الفرق بين الدولة المغربية وهذه الدول يكمن في طبيعة العلاقة باللغة الرسمية المعتمدة: إن علاقة تلك الدول باللغات التي اعتمدتها لغات رسمية لها لأسباب ترتبط بظروفها الخاصة (التركة الاستعمارية، التركيبة الاثنولغوية المعقدة، الإبادة التي تعرضت لها الشعوب الأصلية...) علاقة أداتية صرفة فعلا. إن البرازيل وأنغولا مثلا لا تعتبران نفسيهما دولتين برتغاليتين، ولا شعبيهما شعبين برتغاليين وجزء من الأمة البرتغالية، ولا بلديهما قطرين من الأقطار البرتغالية. كذلك قل عن الدولة الأرجنتينية والمكسيكية والهندية... أما علاقة الدولة المغربية باللغة العربية، من خلال نخبها العروبية إيديولوجيا فأبعد ما تكون عن العلاقة الأداتية البراغماتية: إنها علاقة تماه وذوبان وانصهار في ومع الشعب الحامل لهذه اللغة (= العرب). ففي الدستور كما في وسائل «الإعلام» الرسمية وكما في مقالات أعضاء «جمعية حماية اللغة العربية» (من لا أحد) تعد الدولة المغربية دولة عربية، جزء من المغرب العربي وعضوا في جامعة الدول العربية؛ والشعب المغربي – كل الشعب المغربي – شعب عربي-جزء من الأمة العربية؛ والمغرب، ترابيا، قطر من الأقطار العربية؛ وتاريخ المغرب هو تاريخ العروبة فيه؛ وحضارته حضارة العرب، وعمرها اثنا عشرة قرنا. إننا هنا أبعد ما نكون عن لغة عربية وظيفية، يقتصر دورها على تأمين التواصل المؤسسي نظير الإنجليزية أو الفرنسية أو البرتغالية بالنسبة للدول التي اعتمدتها لغات رسمية لها: العربية عنوان على هوية المغرب دولة وأرضا وشعبا وتاريخا ولغة وثقافة وحضارة. هذه القدرة العجيبة للعربية على تعريب كل شيء تطاله هو ما يجعلنا، نحن الأمازيغيين، نعارض تفرد هذه اللغة بمكانة اللغة الرسمية دون الأمازيغية. ذلك لأننا لا نزال نعتقد أننا أمازيغيون ولسنا عربا، وأن بلادنا كانت ولا تزال أرضا أمازيغية، وأن لنا ثقافة وحضارة نتفرد بهما عن العرب (وعن غيرهم)، وأنه من حقنا أن تكون لغتنا الرسمية هي اللغة الحاملة لكل تلك الأبعاد. إن حيلة آداتية/وظيفية اللغة الرسمية لن تنطلي علينا بعد الآن؛ لأننا خبرنا أثرها على هويتنا وهوية أرضنا التي أصبحت هوية عربية بتأثير المفعول السحري للغة الرسمية للدولة المغربية. ونحن لسنا على استعداد للتضحية بآلاف السنين من الوجود الأمازيغي على هذه الأرض لقاء فعالية وظيفية مفترضة للغة العربية، أو من أجل اقتصاد شيء من المصاريف يفترض أن تترتب عن ترسيم لغتنا الأمازيغية. من نحو آخر نجد العروبيين، في سعيهم للطعن في صلاحية اللغة الأمازيغية لتكون لغة رسمية، يبالغون في التكثير من عدد لهجاتها، معتبرين كل لكنة محلية لهجة، رغم أن عدد لهجات الأمازيغية بالمغرب ثلاث؛ وهذا العدد ليس بشيء إذا قورن بالعشرات من اللهجات «العربية» التي هي من التباعد والاختلاف بحيث نضطر إلى التخاطب مع الموريتانيين والجزائريين والتونسيين واللبنانيين وغيرهم ممن نعاشرهم في المهجر ولم يتخرجوا من كليات اللغة العربية وآدابها – نضطر إلى التخاطب بإحدى لغات التواصل الشائعة، كالإنجليزية والأسبانية والفرنسية حسب المقام. ذلك أن اللغة العربية المعيار تتميز بهذه الخاصية العجيبة (التي بسببها أصبحت لغات حضارات كبرى في عداد اللغات الميتة) هي أنها لغة لا يتكلمها أحد! وهي على ما يبدو سعيدة بذلك! إنها لغة تتمتع باستقلال كامل عن الذين يفترض أنهم ناطقون بها! ولا يبدو أن ذلك يزعج أحدا، ما دام أن اللغة العربية «الفصحى» غاية في ذاتها وليست مجرد وسيلة في خدمة التواصل بين الناس! ولقد فطنت الجامعات الغربية إلى هذه المفارقة، فعملت على تجاوزها على الطريقة البراغماتية للغربيين بأن أدرجوا في برنامج تعليم العربية حصصا لتعليم لغة الكتب والصحافة (العربية الكلاسيكية) وحصصا أخرى لتعليم هذه اللهجة «العربية» أو تلك من اللهجات المتداولة (القاهرية، «المغربية»...). إن الاستقلال الذاتي للعربية المعيار عمن يفترض أنهم ناطقون بها، وتعدد اللهجات واللكنات «العربية» لا يقلق راحة بال الذين يطعنون لنفس هذه الأسباب في صلاحية الأمازيغية للترسيم. ذلك أن العمى الأيديولوجي والتعصب القومي يجعلانهم لا يرون القذى إلا في عين الأمازيغية. لنسأل هؤلاء: كم كان عدد المواطنين المغاربة الذين كانوا قادرين على استعمال العربية المعيار كتابة وقراءة وتخاطبا عندما جعلت هذه اللغة رسمية في أول دستور للبلاد؟ لا شك أن عددهم لم يكن يتجاوز بضع عشرات أو بضع مئات على أكبر تقدير. بل لنسألهم: كم عدد المغاربة الناطقين بالعربية المعيار بعد أكثر من نصف قرن من التعريب؟! هل جميع المغاربة أو جلهم آو نصفهم أو ثلثهم أو أقل من ذلك يستطيعون التواصل بها كتابة وقراءة وفهما وتكلما؟ ومع ذلك، لا أحد يطعن في رسمية اللغة العربية. لماذا؟ لأن تعلة l’alibi البراغماتية والفعالية والجاهزية تختفي أمام سطوة الأيدولوجيا عندما يتعلق الأمر بلغتهم القومية. إنها سياسة الكيل بمكيالين deux poids, deux mesures . وهذا بالضبط ما نرفضه نحن الأمازيغيين. إن لغتنا الأمازيغية ليست مجرد أداة حتى تعوض بأداة أخرى أكثر منها فعالية، نقتنيها من سوق اللغات. إنها عنوان هويتنا التي هي من هوية الأرض التي عمرناها منذ آلاف السنين. إن لغتنا الأمازيغية، كاملة أو ناقصة، علامة على وجودنا وعلى استمرارية حضارتنا. وبما أننا لا نزال موجودين، وبما أن حضارتنا لا تزال قائمة، فإننا قادرون على أن نكمل ما نقص من قدرات لغتنا، كما تفعل كل شعوب العالم: فاللغات جميعها في تطور مستمر لا يتوقف. ولن تكون النقائص الفعلية أو المزعومة سببا في جعلنا نطرح لغتنا جانبا لنستعيض عنها بلغة أخرى أكمل وأنجع. لأن ذلك يعني الانتحار الهويتي. ونحن لن ننتحر: دستورا أو غير دستور. ولو كانت المسألة مسألة نجاعة لكان علينا – نحن المغاربة – أن نختار الإنجليزية لغة رسمية لنا: أليست لغة الدبلوماسية والتكنولوجيات الجديدة والبيوتكنولوجيا والنانوتكنولوجيا...؟!إن هذا لا يعني طبعا أننا لا نهتم بالنجاعة؛ بل أن النجاعة تأتي في المقام الثاني بعد الهوية. فعندما يعترف لنا بلغة هويتنا سنعمل على جعلها تحقق النجاعة الوظيفية المطلوبة. ونحن قادرون على ذلك (إن كان هذا سيطمئنكم!)؛ وقد شرعنا في ذلك حتى دون اعتراف. من المفارقات الكثيرة للأمازيغفوبيين أنهم يعيرون الأمازيغية ب»العيوب» التي هم أنفسهم، من خلال المؤسسات التي يجثمون عليها، من تسبب فيها. فلو أنهم لم يقصوا الأمازيغية على مدى نصف قرن من التداول في الوسائط الجماهيرية من تلفزيون وإذاعة (دون ذكر مجالات التداول اللغوي الأخرى)، لكان في إمكان متكلمي لهجة أمازيغية أن يستأنسوا باللهجات الأخرى ويتبينوا الفوارق النطقية و/أو المعجمية الطفيفة ويردوها إلى أصولها المشتركة بغير عسر ولا حاجة إلى أن يكونوا أساتذة لسانيات. ذلك ما يفعله العرب والمعربون يوميا وهم يشاهدون المسلسلات الناطقة بالشامية والقاهرية والصعيدية والعمانية، رغم التباعد الواضح بين هذه اللهجات وبينها وبين العربية المدرسية (العربية المعيار)؛ وذلك ما يفعله الإيطاليون والجرمانيون والفلامانيون وغيرهم. إن القنوات التلفزيونية «العمومية» التي استطاعت أن تجعل أجيالا كاملة من المراهقين والمراهقات ومن ربات البيوت تتقن اللهجات الشرقية كما لو أنها لغات أمومية لهم – إن تلك القنوات كانت تستطيع لو سخرت لخدمة لغة وطنية أن تجعل المغاربة، أيا كانت لهجتهم، يألف بعضهم لهجة بعض ولكنته؛ بل ويتقنونها كما أضحوا يتقنون لهجات بعيدة كل البعد عن فضاء التداول اللغوي اليومي للمغاربة وعن مرجعيتهم الثقافية المشتركة. لقد كان من شأن الألفة اللغوية، لو عمل على إشاعتها عن طريق إشاعة التنويعات اللغوية الأمازيغية عبر الوسائط الجماهيرية، أن ينتج عنها تآلف إنساني يقوي التلاحم بين المكونات اللغوية والثقافية للمجتمع، بما يؤمن التفاهم والوئام، ويقضي على سوء التفاهم والأحكام الجاهزة السلبية المترتبة عن الحواجز اللغوية واللهجية. لكن لم تكن هذه غاية الطبقة المهيمنة على مقدرات بلادنا. غايتهم كانت ولا تزال، على النقيض من ذلك، هي محو كل العلامات الدالة على الهوية المغربية الأصيلة، ضمن مشروع إيديولوجي عماده أمة عربية تمتد بشريا وترابيا من المحيط إلى الخليج. وقد نجح هذا المشروع التذويبي إلى حد بعيد؛ وهو يؤتي الآن أكله المر: لقد أصبح الدكالي يعرف اللبناني وينكر السوسي، والفاسي يأنس بالقاهري ويحذر الريفي، حتى لقد جرت بذلك الأمثال... بل إن المسافة النفسية اتسعت بين متكلمي لهجات اللغة الواحدة. فهنيئا لهم بهذا النجاح الباهر في إضعاف اللحمة الوطنية من أجل خلق وشائج مصطنعة مع كيان هيولاني لا رأس له ولا عقب، يقال إنه يمتد من «الجيبوتي» ولا يعلم أحد أين ينتهي!ويبدو أن للسلف خلفا: فبمناسبة النقاش حول وضع اللغة الأمازيغية في الدستور المرتقب ظهرت أسماء لم أكن أسمع بها من قبل؛ يبدو أن أصحابها حملة دكتوراة في شيء ما خرجت لتوها «حامية» من فرن إحدى كليات البعث العربي المنتشرة في البلاد، إذ يحرصون على قرن أسمائهم بحرف الدال... هؤلاء الحاملون لبضاعة مزجاة طرية من المصطلحات اللسانية سلخوها من هنا وهناك لتحضير شواهدهم، يرون أنهم – هم اللسانيون –، دون سواهم من أفراد الشعب وفئاته، من يحق لهم أن يحسموا في قضية اللغات في المغرب! بل لقد ذهب أحدهم، ويدعى الدكتور فؤاد أبو علي، إلى وضع لائحة من ثلاثة أو أربعة أسماء من مدرسي النحو العربي، على ما يبدو، هم من يرى أن تسند إليهم مهمة الفصل في هذا الموضوع. والواقع أن هذه اللجنة «العلمية» المشهود لها بحيادها القومي العروبي ليس عليها أن تحسم في شيء؛ لأن القضية محسوم فيها سلفا: إبقاء الوضع على ما هو عليه (لا ترسيم للأمازيغية، لكن باسم «علم اللسانيات» هذه المرة!). فهل نحتاج إلى أن نذكر هؤلاء بأن المجتمعات المتحضرة عندما تقدم على خيارات ذات بال فإن المواطنين يتداولون فيها من خلال جمعياتهم المدنية وهيئاتهم المهنية وأحزابهم السياسية... قبل أن تصاغ في شكل مشاريع قوانين تعرض على البرلمان أو على الاستفتاء الشعبي. ولا أحد يقول إن مثل هذه الأمور المهمة تترك لذوي الاختصاص ليمارسوا وصايتهم على عامة المواطنين. بل إن القضايا الجنائية التي تنطوي على وقائع خطيرة تتكون المحكمة التي تعرض عليها من هيئة محلفين من مختلف فئات المجتمع (عامل، نجار، طبيب، معلم...). ولا أحد يقول إن البت في هذه القضايا يجب أن يترك للمهنيين. إذ الأمر لا يتعلق بمسائل قانونية تقنية، بل بقيم المجتمع وتصوراته ورؤيته للعالم. وهذه أمور حاملوها هم أفراد الشعب بمختلف شرائحه، وليس أهل الاختصاص حصرا. فهل توجد قضية أخطر من التقرير في شأن هوية الأمة وفي التجلي اللغوي لهذه الهوية؟! أما النقيبان: بن عمرو وزيان (الأول كان رئيسا لمنظمة حقوقية والثاني كان وزيرا لحقوق الإنسان على عهد إدريس البصري: بدون تعليق!) فينصحان الأمازيغيين بالاستعانة بترجمان إذا لم يكونوا يفهمون ويتكلمون اللغة الرسمية (في الواقع الدارجة المغربية التي بها يخاطب المواطنون في الإدارات والمحاكم والمصالح العمومية، والتي هي لغة جزء من المواطنين فقط، لا كل المواطنين!). ترجمان! ألا تذكركم هذه الكلمة بشيء؟ لقد كان لـ»أترجمان» (بالأمازيغية) وظيفة أساسية في الجهاز الاستعماري؛ بحيث كان يبلغ تعليمات الإدارة الاستعمارية إلى الأهالي les indigènes . فهل قدر الأمازيغيين ألا يخرجوا من استعمار إلا ليدخلوا تحت استعمار جديد! فيا معشر «الحقوقيين»، إنكم تهينوننا وتجرحون مشاعرنا الوطنية عندما تذكروننا بالماضي الاستعماري الذي تعلمون كم قدم آباؤنا من تضحيات من أجل دحره. وإن لم تكن تلك نيتكم، فإننا نرفض شفقتكم: إننا مواطنون. وبصفتنا هذه، لنا الحق في التقاضي بلغتنا، وفي التخاطب مع موظفي الدولة الذين نؤدي أجورهم من جيوبنا بلغتنا، وفي التداول في مجالسنا المنتخبة بلغتنا. إننا مواطنون: لا أهالي ولا أجانب لكي نرضى بترجمان. 2- مغالطة أن العروبة انتماء حضاري مما تفتقت عنه عبقرية القائلين بعروبة المغرب ضمن جهودهم التكيفية مع روح العصر حتى لا يظهروا أمام الرأي العام المتحضر بمظهر العنصريين المتعصبين، كما قلنا سابقا، قولهم إن العروبة ليست انتماء عرقيا بل هي انتماء إلى الحضارة العربية التي أسهمت في بنائها أجناس مختلفة، منها الأمازيغيون؛ فالأمازيغيون بهذا المعنى أصبحوا عربا لأنهم شاركوا في بناء الحضارة العربية. وهذا قلب غريب للأوضاع: فعوض أن تتمزغ العروبة بتأثير الفعل الأمازيغي فيها، فإن الأمازيغي هو الذي تعرب! هكذا تنقلب الأدوار ليصير الفاعل مفعولا به، وتكون نتيجة فعله في حضارة غيره زوال حضارته هو! والواقع أن أطروحتهم أكثر انسجاما من هذا: إنهم حين يقولون إن الأمازيغيين شاركوا في بناء الحضارة العربية، إنما يفعلون ذلك تلطفا؛ فما يفكرونه في قرارة أنفسهم هو أن الأمازيغيين كانوا – ولا يزالون – قوما متوحشين، ولم يتحضر من تحضر منهم إلا بفضل العروبة التي صار انتماؤهم إليها عنوانا على تحضرهم (الانتماء الحضاري إلى العروبة). فمن بنبركة، الزعيم اليساري، إلى زيان، رئيس الحزب الليبرالي الافتراضي: الأمازيغية تساوي الأمية.لكن ماذا يعنون بالحضارة عندما يتحدثون عن انتماء الأمازيغيين إلى الحضارة العربية؟ إذا كانت الحضارة تعني نمط إعمار مجموعة بشرية ما للأرض: معمارا وأنظمة إنتاج وقوانين وصيغ تدبير للمجال وتشريعات تنظم العلاقات الاجتماعية ونظما سياسية ولغة تؤمن التواصل الوظيفي وتصاغ فيها وبها الرؤية الأمازيغية للعالم حكما وأمثالا وشعرا وأسطورة وحكاية... إذا كان هذا هو معنى الحضارة، فقد كان للأمازيغيين حضارة قبل لقائهم بالعرب (ليقرأوا إخبارييهم الذين رافقوا الحملات العسكرية الأولى للعرب على أفريقيا، وليقرأوا من بعدهم الوصف المنبهر للجغرافيين والرحالة المسلمين لما كانوا يسمونه أفريقيا والمغرب قبل أن يتحول إلى «مغرب عربي»). وبما أن الأمازيغيين لم يبادوا عن آخرهم حسب علمنا، فإن حضارتهم تلك ظلت حية محتفظة بخصائصها المميزة لها: من لغة وثقافة وأنماط عيش ورؤية للعالم... وهذه الاستمرارية الحضارية للأمازيغية لا تقتصر على الناطقين بالأمازيغية من المغاربة، بل تشمل جميع المغاربة؛ ومن أراد أن يتبينها فما عليه إلا أن يقارن بين المغرب والحجاز (ليعذرني الحاج أحمد المديني!). إن دعوة الأمازيغيين إلى الدخول في العروبة كانتماء حضاري تقتضي أنهم بدون حضارة: أي أنهم على نحو ما أيتام ستتبناهم الحضارة العربية. والحال أن للأمازيغيين حضارة عريقة كما رأينا. فماذا عليهم أن يفعلوا بها لكي يقبلوا في «حظيرة» الانتماء الحضاري للعروبة؟! أيخلعونها لدى الباب كما يخلع الثعبان جلده المتقادم ؟! أم يبقون عليها لكن بشرط أن يلبسوها لبوس العروبة؟! أيا ما كان الحل الذي يفرضه حراس باب العروبة كانتماء حضاري، فإن الانتماء الحضاري للأمازيغية هو الذي سيتم التضحية به؛ لأن هذا الانتماء يشكل «الثالث المرفوع» في هذه القضية. لذلك، وبكل أدب، نجيب أصحاب الدعوة إلى الدخول في العروبة كانتماء حضاري: لا، شكرا! فان لنا حضارة ننتمي إليها: هي حضارتنا الأمازيغية (البوتقة التي تنصهر فيها كل الحضارات الوافدة على أرضنا الأمازيغية). ختاما نقول لهؤلاء: ما لكم؟! أليست فيكم قطرة حياء؟ ألا تخجلون من أنفسكم حين تواصلون دعوتنا إلى اعتناق القومية العربية والتخلي عن إنسيتنا الأمازيغية وأنتم ترون بأم أعينكم ما يفعله صناديد القومية العربية في شعوبهم باسم العروبة إياها! هل من الصدفة أن يكون حملة لواء القومية العربية في سوريا وليبيا واليمن هم الحكام الذين يواجهون المظاهرات السلمية لشعوبهم بالتقتيل والتنكيل والاغتصاب والتعذيب الذي لم ينج منه حتى الأطفال – بعد أن كتموا أنفاسها خلال نصف قرن من الزمان باسم المصالح العليا للأمة؟! لقد تنحى بن علي ومبارك بمجرد أن شعرا بالخناق يشتد عليهما؛ لأن السلطة بالنسبة لهما لم تكن سوى وسيلة إلى الثروة، ولم تكن مبنية على العقيدة القومية كما هو الشأن مع القذافي والأسد وعلي عبد الله صالح ومن قبلهم السفاح صدام حسين... نقول لكم: إذا كانت مأدبة الدم تلك تثير شهيتكم، فهنيئا لكم بها مريئا! أما نحن الأمازيغيين فأنفسنا تعاف ذلك. لذلك لا نقبل دعوتكم لنا إلى الانتماء إلى عقيدة القيمين عليها. تذييل وأنا أنتهي من تحرير هذا المقال، قرأت منشورا تحت عنوان «البيان الديمقراطي» بتوقيع أسماء كنت أحسب بعضها في عداد الموتى، وبعضها الآخر في عداد المفقودين من طول ما صمتوا. ويبدو أن «خطر الأمازيغية الداهم» جعلهم يلتقطون آخر أنفاسهم لينفثوا آخر شحنة من سمومهم الإيديولوجية القاتلة. فالحذر! الحذر معشر المغاربة!: إن دينصورات العصر البعثي تتململ تحت الجليد.
|
|