|
|
كيف سنسمي بلدنا؟ أمرّوك أم موراكوش؟ بقلم: مبارك بلقاسم
تناولت في عدد سابق من جريدة تاويزا مسألة اسم بلدنا المروك (أو “المغرب” كما تسميه الدولة). وبينت في اختصار كيف أن كلمة “المغرب” كلمة أجنبية تم فرضها على الشعب الأمازيغي من طرف النخبة الفاسية ودولة 1956 على أنها الاسم الشرعي والوحيد لهذا الجزء الغربي من العالم الأمازيغي أي تامازغا. كما أشرت إلى أن المثقفين الأمازيغ أنفسهم (والذين نتعلم منهم ونتابع نشاطهم باهتمام) قد سقطوا في هذا الفخ عن طريق تبنيهم واستخدامهم لهذا المصطلح الأجنبي بشكل عادي وروتيني، مما يظهر اعترافهم العملي بهذا المصطلح وقبولهم له. ولم يكن “المغرب” معروفا سوى لدى المؤرخين بينما بقيت هذه الكلمة مجهولة لدى الشعب الأمازيغي. وذكرتُ أن المؤرخين القدماء الذين كتبوا بالعربية قصدوا بمصطلح “المغرب” أو “بلاد المغرب” أرض شمال أفريقيا الأمازيغية بأكملها أو معظمها. وكمثال من بين مئات الأمثلة ها هو المؤرخ الأمازيغي ابن عذاري المراكشي يحدد “المغرب” كالتالي: “إن حد المغرب هو من ضفة النيل بالإسكندرية التي تلي بلاد المغرب إلى آخر بلاد المغرب، وحَـدهُ مدينة سلا (...) وبلاد الأندلس أيضاً من المغرب وداخلة فيه لاتصالها به...”. (البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ابن عذاري المراكشي) المغرب إذن هو كل أرض شمال أفريقيا غرب النيل، بل إن الأندلس اعتبروها من بلاد المغرب أيضا! قد يكون هناك من يرى أن مسألة المصطلحات والتسميات ما هي إلا شكليات سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن الأهم هو الاعتراف بالهوية الأمازيغية واللغة، والدمقرطة، والعلمانية السياسية، والمساواة...إلخ. وهذه النظرة قد تكون صائبة إذا تعلق الأمر بمصطلحات أخرى ذات أهمية محدودة، ولكن حينما يتعلق الأمر بالاسم الذي نطلقه يوميا على البلد الذي ولدنا وترعرعنا فيه، فإن أهمية هذا المصطلح تصبح مركزية لأن المسألة مسألة هوية وتاريخ وجغرافيا وليست فقط مسألة شكليات. أمروك أم موراكوش؟! “المروك” و”مراكش” (أو “أمرّوك Amrruk” و”موراكوش Murakuc”) هما الاسمان الأكثر تاريخانية وشرعية عبر التاريخ الحديث لبلادنا. ورغم الشرعية التاريخية لكلمة “مراكش” والشيوع الشعبي لكلمة “المروك”، فقد تم تجاهل هذين المصطلحين وتعويضهما بمصطلح غريب وأجنبي هو “المغرب”.كلمة “المروك” ما تزال مستخدمة من طرف العديد من المواطنين، أحيانا من أجل “التدريج” (من الدارجة) ورفع الكلفة، وأحيانا للنقد والتنكيت والسخرية من الوضع ومن النظام كأسلوب من أساليب النقد الذاتي الشائعة لدى كل الشعوب. ومن المثير للاهتمام أن المواطن العادي حينما يتحدث عن وطنه فهو يعمد تلقائيا إلى تجاهل المصطلحات الرسمية الفضفاضة ذات الحمولة المتكلفة مثل “المغرب” و”المملكة” ويختار الرجوع إلى الأصل واستخدام كلمات شعبية بسيطة مثل “المروك” و”لبلاد” و”ثامورث” و”تامازيرت”. زيادة على ذلك فإن أقرب شعب إلينا في العالم (على جميع المستويات) وهم إخواننا الجزائريون (أو الدزايريون) يسموننا المروك والمروكيين، وليس “المغرب” ولا “المغاربة”، ويستوي في ذلك الناطقون بالأمازيغية الجزائرية والناطقون بالدارجة الجزائرية. ولا نسمع منهم “المغرب” إلا في نشرات الأخبار الإنشائية المكتوبة بلغة عربية كلاسيكية لا يتكلمها أحد في البيت ولا في الشارع الجزائري. والمروك كلمة مشتقة من “مراكش” وقد تكون متأثرة بالكلمات الأوروبية المشتقة هي الأخرى من “مراكش”. أما “موراكوش” أو “مراكش” فهو الاسم الأكثر عمقا وأصالة في تاريخنا منذ ما يزيد عن 970 سنة. كانت العاصمة مراكش مركزا إداريا وسياسيا لكل المناطق التابعة للسلطان الأمازيغي (أو أمير المسلمين) في عهد المرابطين والموحدين وبدايات تاريخ المرينيين، ثم عادت مجددا كعاصمة للسعديين. وبقي اسم “سلطان مراكش” متداولا بشكل رسمي في الداخل والخارج حتى حينما لم تعد مدينة مراكش عاصمة المملكة، وحلت محلها الرباط أو فاس أو مكناس. فالسلاطين المرينيون، وبعدهم العلويون (إلى غاية بدايات القرن العشرين) كانوا معروفين بـ “سلطان مراكش” رغم أن العاصمة السياسية لم تعد منذ زمن طويل في مراكش وإنما انتقلت في عهدهم إلى فاس وأحيانا إلى مكناس والرباط! فكيف يعقل أن تكون العاصمة في فاس والسلطان مقيما في فاس ووزراؤه يشتغلون في فاس، بينما ينادى عليه في الداخل بـ “سلطان مراكش” ويتعامل مع الخارج على أنه “سلطان مراكش”؟! أليس هذا دليلا قاطعا على أن اسم البلاد الذي اصطلح عليه عامة أهل البلاد وقادتها آنذاك هو “مراكش”؟! ولا يمكن إغفال ذلك الدليل الآخر الساطع والمحفور في كل اللغات الأوروبية وهو كلمات Marruecos و Morocco و Marokko و Marocco و Marroc و Maroc. وكلها كلمات منحوتة على أساس كلمة “مراكش” الأمازيغية التي كانت الاسم الوحيد الذي عرف به التجار الأوروبيون بلادنا التي كانوا يتوافدون عليها للتجارة. أما في اللغتين الآسيويتين: الفارسية (إيران وأفغانستان) والأوردو (باكستان) فإنهم مازالوا يسمون بلادنا “مراكش” إلى حد هذه اللحظة. زيادة على أن العرب (وإلى وقت قريب جدا) كانوا يسمون بلادنا مراكش وليس المغرب. ولم يبدأ العرب في السبعينات والثمانينات باستخدام كلمة “المغرب” إلا بعد إصرار المملكة المروكية على ترويج مصطلح “المغرب” وقتل كلمة “مراكش” وحصرها في مدينة مراكش وحدها. من أجل حوار وطني حول تسمية وطننا حينما استقل المروك صوريا عن الاحتلال الفرنسي الإسباني (يسمونه بالحماية)، لم تستشر الدولة الشعب في أي شأن من شؤونه المصيرية. اختاروا اسم البلاد، واللغة الرسمية، ولغة التعليم والإدارة والإعلام دون أن يستشيروا أحدا. لم يشرح أحد للشعب الأمي المسكين (في الاستفتاءات الصورية) آنذاك أن لغة الأجداد قد تقرر قتلها وتعويضها بلغتين أجنبيتين، وأن اسم البلاد قد تقرر أن يكون “المغرب”! وبالتالي فالشعب الأمازيغي لم يقل بعد كلمته في ما يخص اسم البلاد، واللغة الرسمية، وغيرها من القضايا. لقد فكروا في مكاننا وقرروا عنا وحكموا باسمنا ونفذوا على ذمتنا! حان الوقت لتغيير هذا التاريخ الفاسد! والبداية تكون دائما بالرموز والشكليات من أجل تعبيد الطريق لصلب الأمور! إن تحديد اسم وطني أصيل لبلادنا يصطلح عليه الجميع أو الغالبية العظمى لهو شيء من الأهمية بمكان. ولأن الوطن بيت الجميع فإن مسألة تحديد اسمه تعني الجميع أيضا. لهذا فإن المثقفين المنتمين لهذا البلد والمهتمين حقا بتاريخه وهويته والغير المحسوبين (أيديولوجيا، وليس لغويا) على ثقافات أجنبية عربية أو فرنسية مدعوون إلى المشاركة في حوار عقلاني ومفتوح لتحديد أو اختيار الاسم الأنسب لهذا الوطن التي تمت قرصنته أبشع قرصنة، في تاريخه وهويته وثقافاته وموارده من طرف الأجانب العرب والفرنسيين والأسبان وعملائهم وأتباعهم في الداخل. إن المثقفين والمواطنين الغيورين على هذا الوطن لن يرضوا بتسمية بلدهم باسم أجنبي لقيط لا أصل له في ثقافة الشعب، ولا معنى له سوى في ثقافة بعض الأجانب، ولم يعرفه أهل البلاد أبدا إلا بعد خروج الاستعمار الفرنسي ونصبه لذوي الطرابيش الحمراء من الأندلسيين الفاسيين أوصياء على مصالحه الاقتصادية وحماة للغته الفرنسية ولإرثه الاستعماري. لماذا الآن؟ إن أهمية وضرورة أن نعود إلى تسمية بلدنا باسم أصيل مثل “أمروك” أو “موراكوش” لا تنبع من الرغبة في الانتقام من الماضي أو إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء، بل تهدف إلى تصحيح ما هو أعوج وقابل للتصحيح، حتى نتمكن من استعادة قليل من الحقيقة التاريخية المطموسة بإيقاظ الوعي الهوياتي لدى الشعب الأمازيغي وكشف حجم العواقب السلبية المتراكمة بسبب التاريخ المدرسي المزور. إن النخب السياسية العروبية التي قررت أن يكون اسم بلادنا عربيا رغما عن التاريخ وضدا على الجغرافيا إنما هي راغبة في فرض وعيها العرقي المريض على الشعب الأمازيغي من أجل حكمه والتسيد عليه. يريدون تذكيرنا ليل نهار بأنهم جاؤوا من “المشرق - الأصل - المعيار” وأن هذا “المغرب” إنما هو يستمد هويته من موقعه الغربي على بوصلة الأصل العربي المشرقي. إذن يجب أن نخرج أنفسنا من هذه المعادلة المعوجة، وأن نرفض أن تنسب هويتنا إلى العرب وأن نرفض العيش على هامش “الأصل العربي” الخرافي. والدولة المخزنية (بأجهزتها وإمكانياتها) ما هي إلا آلة في يد الأندلسيين أصحاب الطرابيش الحمراء الذين يريدون أن يواصلوا استغلالنا باستعمال المؤسسات الإدماجية والإمكانيات الإعلامية والدعائية التي يسيطرون عليها. وإن قبولنا وخضوعنا لهذا العنف الهوياتي والتزوير التاريخي لاسم بلادنا لهو عين الانهزام والانحدار. والحل هو أن نرفض مصطلحاتهم المزيفة وتصنيفاتهم العرقية الشوفينية وقوميتهم العربية الإدماجية الإلحاقية وتبعيتهم لفرنسا والفرنكوفونية، وندافع عن مصطلحاتنا الأصيلة ونتبناها. أمثلة تصحيحية من شعوب العالم وتاريخ الشعوب مليء بالنضال الثقافي والهوياتي ضد الاحتلال الأجنبي الذي يفرض عادة لغته ومصطلحاته ويقتل الثقافة المحلية أو يشوهها. وفي سياق تحرر الشعوب الأفريقية من الاحتلال الأوروبي فطن المناضلون الأفارقة إلى حجم التشويه الذي اقترفه الرجل الأبيض (وإن كان لا يضاهي التعريب العربي الأعمى) في حق تاريخ وجغرافيا أفريقيا. فالفرنسيون احتلوا “مالي” وسموها “السودان الفرنسي” قبل أن يخرج الاحتلال عام 1959 ويتخلص الوطنيون من الاسم الاستعماري ويعوضوه بكلمة “مالي” الأصيلة التي تعود إلى تاريخ امبراطورية مالي بين عامي 1230 و 1600 ميلادية. ونفس الشيء ينطبق على غانا التي احتلها البريطانيون وسموها “ساحل الذهب”. حينما استقلت هذه الدولة عام 1957 تخلصت من التسمية الاستعمارية وتبنت اسم “غانا Ghana” الذي يرجع هو الآخر إلى تاريخ “امبراطورية غانا” بين 790 و 1096 ميلادية. وهناك أمثلة لا حصر لها في العالم حول بلدان تخلصت من الاحتلال أو الاستبداد وغيرت أسماءها الاستعمارية بأخرى أصيلة، مثل فولتا العليا التي تحولت إلى بوركينافاسو (ومعناها بلاد الطاهرين باللغة المحلية)، و”إسبانيا الجديدة” التي أصبحت المكسيك (كلمة ميخيكو ذات أصل أزتيكي)، والمستعمرات البريطانية الثلاث عشرة التي أصبحت الولايات المتحدة. وفي الهند قامت الحكومة بتغيير النطق الاستعماري الإنكليزي المشوه للمدن الهندية فتم تغيير كالكوتا Calcutta إلى كولكاتا Kolkata رسميا عام 2001، وتم تغيير بومباي Bombay إلى مومباي Mumbai رسميا عام 1996، وهناك نقاش جاد حول تغيير أسماء أخرى لتتلاءم مع الأصول اللغوية الهندية العريقة. وهكذا تقوم الشعوب باستعادة تاريخها ورموزها وإصلاح ما أفسده المعتدون والمستعمرون. ولا يجب على الأمازيغ سوى الاقتداء بهذه الشعوب التي تدافع عن تاريخها ضد التزوير والتشويه. مواجهة على جميع الجبهات
إن مواجهة قافلة المخربين والمفسدين في الأرض من مزوري التاريخ،
والأعيان المطربشين، ومستحاثات “عصر الحماية”، وأتباع فرنسا الجدد، وخدام المخزن،
والظلاميين على جميع الجبهات الفكرية والثقافية والهوياتية والنضالية ليس شيئا “فوق
الشبعة” نفعله في أوقات اليسر والراحة من أجل التسلي بالدردشة والمشاكسة، بل هو من
صميم معركتنا من أجل إثبات الذات وإخراج أنفسنا من الصندوق الكرتوني الذي تم حشرنا
فيه حشرا يرمون لنا فيه بالفتات من حقوقنا ويسرقون مواردنا ويشوهون هويتنا ويزورون
تاريخنا ويعربون أسماءنا أو يفرنسونها. أراكم في أمرّوك.. أو ربما في موراكوش!
|
|