|
افتتاحية: الجهوية القاتلة للجهة بقلم: محمد بودهان استدعتني مناسبة عائلية أن أزور مدينة الحسيمة في أواخر يوليوز. وقد أوحت لي هذه الزيارة بالأفكار والتأملات التالية حول الريف والجهة والجهوية. وأنت تتسلق بالسيارة عشرات القمم الجبلية الشاهقة، عبر طريق حلزونية، في اتجاه مدينة الحسيمة، تتوقع أن تجد هذه المدينة مقفرة ومهجورة إلا من بعض أهلها الذين لم يجدوا سبيلا لمغادرتها والرحيل عنها. تتوقع ذلك وتفكر فيه لأن مدينة تحاصرها الجبال ويطوقها البحر وتهمشها السلطة، وتفتقر إلى خطوط بحرية وجوية للاتصال بالعالم الخارجي، ولا تتوفر إلا على طريق جبلية شديدة الوعورة للدخول إليها أو الخروج منها، لا يمكن أن يسافر إليها أو يقيم بها إلا مغامر أو مستكشف. لكن ما أن تحط رحالك بالمدينة، وتجوب شوراعها وتطوف بأزقتها حتى تعترف بخطأ تقديرك وعدم صحة حكمك وتوقعك لما سيكون عليه حال المدينة "المحاصرة" طبيعيا وسياسيا. فالمدينة التي خلتها مهجورة ومقفرة، بسبب حصارها الطبيعي والمدبر، تجدها مأهولة بالحياة والأحياء، نابضة بالحركة والنشاط، عامرة بالبشر من كل الأصقاع والمناطق كأنها عاصمة إدارية يضطر المواطنون إلى التنقل إليها لقضاء أغراضهم وتسوية ملفاتهم. والذي يلفت نظرك أكثر هي الكتابة الأمازيغية بتيفيناغ التي ترصع المتاجر والمقاهي. تجد الحسيمة أزخر، من حيث حركة السواح والرواج التجاري، من المدن السهلية "الشريفة" التي تتوفر على مطارات دولية وطرق سيارة لاستقطاب الزوار. بعدما تتأكد من هذا الواقع، الذي هو نقيض مباشر لما توقعته وأوحت به إليك الطريق الوعرة التي سلكتها للوصول إلى هذه المدينة، تطرح أمامك أسئلة أخرى: كيف لمدينة، مثل الحسيمة، معزولة عن العالم الخارجي بالجبال والبحر، وبغياب خطوط المواصلات البحرية (الخط الوحيد الذي يربط بين الميرية والحسيمة افتتح الأسبوع الأخير من يوليوز الماضي فقط) والجوية (مطار الحسيمة بإمزورن لا يلعب أي دور لتسهيل التواصل مع العالم الخارجي لأنه أنشئ أصلا كمطار "أمني" لتسهيل نقل الجيوش إلى المنطقة وذلك منذ أحداث 1958 ـ 1959) والطرق البرية الملائمة، أن تصبح مدينة مزدهرة وجميلة ومعشوقة يحج إليها مئات الآلاف من السواح من الداخل والخارج؟ ما الذي جعل الحسيمة، المحاصرة طبيعيا وسياسيا، والمهمشة اقتصاديا وتنمويا، تكسر الحصار وتفك العزلة وترفع التحدي؟ إنه صمود أبنائها وإباؤهم الأمازيغي وحبهم للغتهم وارتباطهم الأسطوري بأرضهم ـ هم لا يفرقون بين حب البلد ولغة البلد ـ، والتي هي خاصية تميز الأمازيغيين. صمود هو استمرار للمقاومة التي عرفوا بها: لقد قاوموا جيوش الاحتلال التي سحقوها في معركة "أنوال" الخالدة، كما قاوموا جيوش الاستقلال التي حاولت إبادتهم خلال انتفاضة 1958 ـ 1959. وهاهم اليوم يقاومون الحضار والتهميش والعزلة. إنه الصمود الدائم والمقاومة المستمرة. ولإحكام العزلة على مدينة الحسيمة وإضعافها اقتصاديا وتنمويا وثقافيا ولغويا، تم إلحاقها إداريا بتاونات وتازة، بدل ضمها إلى شقيقتها الناظور التي ألحقت هي بدورها بوجدة لقطع أواصر التواصل بينها وبين الحسيمة بهدف الحيلولة دون قيام تكتل جهوي حقيقي قوي ينبني على وحدة جغرافية وترابية واقتصادية ولغوية وثقافية وتاريخية وحتى إثنية. إن السياسة اللامركزية والجهوية، التي كثر الكلام عنها في هذه الأيام، تمارس في المغرب بشكل يتناقض تماما مع مفهوم الجهة والأهداف المتوخاة من الجهوية، أي بشكل يمنع قيام جهات حقيقية لأن الهاجس وراء السياسة الجهوية بالمغرب، ليس هو التنمية الاقتصادية للجهة، بل هو الضبط الأمني من خلال تفتيت الوحدة الطبيعية والبشرية والثقافية واللغوية للجهة، وذلك بإلحاق أجزاء منها بجهات لا تربطها بها أية صلة تاريخية ولا ترابية ولا ثقافية ولا لغوية. وخير مثال على هذه السياسة الجهوية الأمنية، المدمرة في الحقيقة للجهة كوحدة، هو فصل الحسيمة عن الناظور وإلحاق كل منهما بمناطق لا تنتمي إليها. ولا يخفى أن الهدف من الفصل التعسفي لمنطقتين هما جزء من جهة واحدة، هو الحيلولة دون تشكيل جهة قوية، بتاريخ أمازيغي واحد، ولغة أمازيغية واحدة، وثقافة أمازيغية واحدة، وهوية أمازيغية واحدة... إلا هذه السياسة الجهوية ـ المضادة في الحقيقة للجهوية الحقيقية ـ تصبح أخطر على المنطقة عندما تكون جزءا من "سياسة بربرية جديدة" تهدف إلى القضاء على اللغة الأمازيغية للجهة بإضعاف وقطع التواصل بين مناطق تلك الجهة بإلحاقها (المناطق) إدرايا وجهويا بجهات أخرى لا تتحدث ساكنتها اللغة الأمازيغية. الشيء الذي يترتب عنه تطور مستقل وغير موحد لأمازيغية كل منطقة، بسبب عزلها وفصلها عن مثيلاتها من المناطق الأمازيغية الأخرى. وهو ما يؤدي في النهاية إلى تفتت في اللغة الأمازيغية الموحدة للجهة إلى لهجات منفصلة بعضها عن بعض تبعا للانفصال الإداري والجهوي لتلك المناطق التي كانت تشكل في الأصل جهة واحدة بلغة واحدة. وهذا ما يضعف طبعا من وحدة اللغة الأمازيغية ويساهم بشكل كبير في "تلهيجها" وتفتيتها، والتعجيل بموتها وانقراضها. وهكذا أصبحنا نلاحظ اليوم ـ ولو أن الظاهرة بدأت منذ الاستقلال ـ ظهور اختلافات بين أمازيغية الناظور والحسيمة بدأت تنمو وتكبر وتصبح بارزة وواضحة قد تؤدي مستقبلا ـ بعد مائة سنة مثلا ـ إلى ظهور لهجتين مختلفتين تنتميان إلى نفس اللغة الأصلية، وذلك بسبب ضعف أو انعدتم التواصل بين المنطقتين ـ الناظور والحسيمة ـ الناتجين أولا عن تلك السياسة الجهوية الأمنية التي فصلت، إداريا وجهويا، بين مدينتي الناظور والحسيمة وعزلت إحداهما عن الأخرى، وثانيا عن غياب البنية الطرقية والمواصلاتية الذي يساهم بدوره في إضعاف التواصل بين المنطقتين، مما يترتب عنه تطور مستقل ومختلف وغير موحد ـ كما سبق أن أشرت ـ للغة المتداولة بكل من المنطقتين. فالسفر من الناظور إلى طنجة ـ أو منها إلى الناظور ـ يقتضي المرور بمناطق الريف عبر الحسيمة. والمرور من هذه الطريق التي تخترق الريف يسمح بتقوية التواصل بين هذه المناطق التي تشكل جهة الريف، وبالتالي تقوية وحدة اللغة الأمازيغية والحفاظ عليها من خلال استعمالها المكثف والموحّد. كما يساهم كذلك في الرواج الاقتصادي لمناطق جهة الريف: المبيت بالفنادق، الأكل بالمطاعم والمقاهي، شراء البضائع...إلخ. إلا أن الحاصل اليوم هو العكس تماما: فالمسافر من الناظور إلى طنجة ـ أو العكس ـ لا يمر عبر الحسيمة لعدم تجهيز تلك الجهة بشبكة طرقية صالحة ومناسبة، بل يمر عبر المدينة "الشريفة" فاس، أو الرباط بعد إحداث الطريق السيار الرباط ـ طنجة. ولا حاجة لتبيان أن السفر من مدينة إلى أخرى تنتميان لنفس جهة الريف عبر فاس أو الرباط، يفرض على المسافر أن يستعمل غير لسانه الأمازيغي بالمناطق التي لا تتحدث ساكنتها الأمازيغية، بالإضافة إلى مساهمته الاضطرارية في التنمية الاقتصادية لتلك المناطق العربوفونية، تلك التنمية التي كانت منطقته ستستفيد منها لو توفرت طريق صالحة تربط بين الناظور وطنجة. نلاحظ إذن العلاقة الوطيدة والمنطقية بين التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية واللغوية (حالة الأمازيغية) للجهة. وهي نفسها العلاقة الوطيدة والمنطقية بين التهميش الاقتصادي ـ غياب البنية التحتية بالخصوص ـ والإقصاء الثقافي واللغوي للجهة. إذا كانت الجهوية أداة لتنمية الجهة وترسيخ الديموقراطية، فإن هذه الجهوية، كما هي مطبقة على جهة الريف، تسير ضد تنمية هذه الجهة، بل هي مخطط لقتلها بتفتيتها إلى مناطق ملحقة بجهات أخرى (وجدة وتاونات). فالجهوية الحقيقية هي التي تقوم على الوحدة الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية واللغوية للجهة. وهذه المعايير متوفرة بشكل مثالي في حالة جهة الريف، خصوصا ما يتعلق بالناظور والحسيمة. فهاتان المدينتان الريفيتان أصبحتا تشكلان قطبا اقتصاديا قويا كما يدل على ذلك احتلال البنكين الشعبيين الجهويين لكل من الناظور والحسيمة المرتبة الأولى على صعيد الربح الصافي لمجموعة البنك الشعبي على المستوى الوطني، متجاوزين بذلك بكثير العاصمة الاقتصادية نفسها. وهذا ما دفع بالبنك الشعبي المركزي إلى تطبيق نفس السياسة الجهوية التي تمارسها السلطات تجاه الريف، أي سياسة التفتيت والفصل والعزل والإلحاق، فقرر إلحاق البنكين الجهويين للحسيمة والناظور بفاس ووجدة. وهو القرار الذي لقي اعتراضا شديدا من طرف المساهمين بالبنكين، اضطر معه وزير المالية للتدخل لوقف مخطط البنك المركزي "لأعدام" البنكين الجهويين للحسيمة والناظور. لماذا إذن لا يتم التعامل مع الريف، كما هو، أي كجهة واحدة موحدة، كما كان دائما وكما هو في الواقع؟ لماذا تقسيم جهة الريف إلى مناطق تلحق بجهات أخرى لمنع قيام وحدة جهوية بالريف؟ لماذا الاستمرار في التعامل مع الريف انطلاقا من أساطير الريفوبيا Rifphobie؟ لكن رغم سياسة تفتيت وحدة الريف الجهوية، فإن هذه الجهة تقاوم بصمود سياسة العزل والفصل المفروضة عليها، كما رأينا في مدينة الحسيمة التي تحدت العزلة والحصار مثلما سبق أن قاومت جيوش الاحتلال والاستقلال. أما بالنسبة للناظور، فعلى عكس الحسيمة التي لا تتوفر على طرق مجهزة توصل إليها، فإن كل الطرق تؤدي إلى الناظور لإغراق المدينة بكل الأجناس والأقوام من مختلف البلدان والمناطق حتى يصبح السكان الأصليون المتحدثون بالأمازيغية أقلية لا وزن لها ولا أهمية. وموازاة مع هذه الهجرة المتوحشة ـ والتي قد تكون مدبرة؟ ـ في اتجاه الناظور، نجد كل الإدارات العمومية ـ بل حتى الخاصة مثل "اتصالات المغرب" ـ لا توظف إلا القادمين من خارج المنطقة الذين لا يعرفون حرفا من الأمازيغية كأنهم اختيروا وعينوا بناء على هذا المعيار، معيار الجهل بأمازيغية السكان الذين سيتعاملون معهم! وهذا مظهر آخر من مظاهر الجهوية الظالمة للجهة والقاتلة لاقتصادها وثقافتها ولغتها، والرامية ليس إلى تنميتها وإنعاشها، بل إلى إفقارها واستغلال ثرواتها. ورغم هذه السياسة الجهوية الاستعرابية والاستيعابية، من خلال الهجرة المكثفة إلى المدينة وتوظيف العربوفونيين الأجانب عن المنطقة لمحاصرة الأمازيغية وتحويلها إلى لغة أقلية تتناقص تدريجيا إلى أن تختفي، فإن العكس هو الذي حصل تماما: فبدل أن تساهم هذه الهجرة العربوفونية "المنظمة" إلى الناظور في استعراب ساكنة هذه المدينة، أصبح أبناء هؤلاء المهاجرين والموظفين العربوفونيين ـ وهم أنفسهم في حدود معينة ـ ممزّغين يتكلمون الأمازيغية كما تتكلمها والدتي. بل حتى المهاجرون الأفارقة الذين يستقرون بمنطقة الناظور في انتظار فرصة العبور إلى الضفة الأخرى، أصبحوا يقولون عندما نمر أمامهم: "Xsegh aghrum" (أريد خبزا). لقد فرضت عليهم هذه المنطقة الأمازيغية أن يتعلموا الأمازيغية إذا أرادوا أن يقيموا بها. كل هذا جعل من الناظور ربما المدينة الأكثر أمازيغية في المغرب: فمن لا يتقن الأمازيغية لا يستطيع العيش بها إلا إذا كان موظفا يحصل على مصدر عيشه من خزينة الدولة. أما ممارسة التجارة أو المهن الحرة أو الاشتغال في البناء أو مسح الأحذية أو بيع الجرائد... فلا يتأتى إلا لمن يجيد الأمازيغية. لهذا نجد أن ماسحي الأحذية وبائعي الجرائد ـ وحتى بائعات الهوى ـ القادمين من خارج الريف يتعلمون الأمازيغية في أقل من ستة أشهر وإلا فشل مشروعم ورحوا عن المدينة. وهذا ما جعل الأمازيغية تعرف نموا وانتشارا مطردا بفضل تلك الهجرة التي ربما أريد بها محاصرتها والحد من توسعها. فهل ستتخلى السلطات عن تجاربها السابقة والفاشلة في مجال التسيير اللامركزي والسياسة الجهوية التي كانت توجهها وتتحكم فيها اعتبارات أمنية، وحتى أمازيغوفوبية، بالنسبة للمناطق الأمازيغية، لتبدأ سياسة جهوية حقيقية هدفها ليس هو الضبط الأمني للجهة، بل التنمية الاقتصادية للجهة وترسيخ الديموقراطية بإشراك السكان في التدبير الحقيقي لشؤونهم التي تعني منطقتهم، والتعامل مع الجهة باعتبارها وحدة جغرافية وتاريخية وثقافية ولغوية، وحتى إثنية كما سبق أن قلت، بالشكل الذي تمارس به الجهوية الحقيقية في الدول الديموقراطية الحقيقية. |
|