Amezwaru

(Page d'accueil)

 

مقالات  

 

التعريب كخدعة للحفاظ على الامتيازات الطبقية

قانون تنظيمي لإعدام ترسيم الأمازيغية

من أجل تصحيح العلاقة بين الأمازيغية والإسلام والدارجة

اللغة العربية في كتاب "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"

الأمازيغية في كتاب "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"

آفة الفرانكوفونيين في كتاب: من أجل ثورة ثقافية بالمغرب

لماذا سيفشل النموذج التنموي الجديد؟

الدارجة بين الجهل المقدس ودعاوى الأكاديميين

إذا كانت العربية لغة القرآن فلماذا تفرضون استعمالها خارج القرآن؟

لم التدريس بالعربية؟

مدافع شرش عن العربية يعترف أنها لغة جامدة

ما دلالة رفض البغرير المعروف وقبول السؤدد المجهول؟

الأمازيغ، أحرار أم مغلوبون وتابعون؟

الأمازيغية والعنصرية العادية

لماذا لم تنجح تجربة العدالة الانتقالية في المغرب؟

هل يستقيم استقلال القضاء مع غياب فصل حقيقيي بين السلط؟

أحكام ظالمة مبنية على تهم استعمارية

لماذا لا أكتب بالأمازيغية ويكتب السيد حميش بالعربية؟

الأمازيغية والاستعمار أم العروبة والاستعمار؟

بدل مخزنة الأمازيغية ينبغي تمزيغ المخزن

محمد مونيب ونهاية أسطورة الظهير البربري

إذا لم يكن المالطيون عربا، فلماذا سيكون المغاربة عربا؟

فيروس التعريب

عندما يكون استقلال القضاء خطرا على العدالة

حراك الريف وتصحيح مفهوم الوطنية

مفهوم الهوية الجماعية وتطبيقاته على حالة المغرب

المشعل والمصباح

لماذا سبقتنا الجزائر إلى إقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية؟

قاموس الدارجة أو تصعيب الدارجة من أجل تفصيحها

بين إنكار أحاديث البخاري وإنكار وجود المسيح

شعب الدولة أم دولة الشعب؟

خطأ الاستهانة بفاجعة طحن محسن فكري وتداعياته

الاستثناء المغربي الحقيقي

بين قمع الكاطالانيين وقمع الريفيين

حراك الريف وميلاد "الهومو ـ زفزاف" المغربي

عندما يُستعمل القضاء للقضاء على العدالة

خرافة "المحاكمة العادلة" لمعتقلي حراك الريف

خرافة وحقيقة "أن التحقيق سيذهب بعيدا"

الأمازيغية والمثقفون المغاربة

هل نفّذ الزفزافي تهديده بالتسبّب في سعار المخزن؟

من يحكم المغرب؟

ناصر الزفزافي أو بروميثيوس المغرب

المخزن يعود عاريا بعد أن مزق حراك الريف أقنعته

لماذا أرفع الراية الأمازيغية وراية الريف ولا أرفع الراية المغربية؟

حكومة العثماني وفرصة الوحدة السياسية بين الأمازيغية والإسلام

كتاب إمازيغن وحتمية التحرر

تظاهرة الناظور وغباء السلطة الذي لا حدود له

نبوءة مولييراس بخصوص تعريب المغرب في القرن العشرين

اغتيال محسن فكري وفرصة التحرر من فوبيا السلطة

مشروع القانون التنظيمي لمنع ترسيم الأمازيغية

متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟

قضية حميد أعطوش: من الاعتقال الجائر إلى الإفراج الماكر

أعطوش وأوساي: لغز الإدانة رغم أدلة البراءة

من أجل علمانية إسلامية

أربعينية إزم: الرسالة والدلالة

المايسترو أو النجم إذا سطع وارتفع

معاشات الوزراء والبرلمانيين

زلزال خطْب الجمعة بمسجد حمزة بسلا

اقتراحات بخصوص القانون التنظيمي للأمازيغية

مطالب الشعب المغربي لـ1934 وميلاد الوعي الوطني الزائف

أي تصور وأية مقاربة لتدريس أمازيغية موحدة ومشتركة؟

هل مساندة المغرب للقبايل اعتراف ضمني أنه بلد أمازيغي؟

الدليل الإحصائي أن الناطقين بالدارجة هم أمازيغيون

ميمون أمسبريذ، ذلك الكاتب الأمازيغي المجهول

التعريب نجح أولا بالفرنسية قبل العربية

متى ينتقل المغرب من السياسة البربرية إلى السياسة الأمازيغية؟

يوطوبيا التعريبيين في المغرب

لماذا لا يجوز تصنيف الأمازيغيين ضمن الشعوب الأصلية؟

نعم لاستفتاء شعبي حول العربية والأمازيغية

الأستاذ حميش والبوصلة التي لا تتحرك إلا في اتجاه المشرق

عبد الله حمودي والفهم العامي للهوية

ولماذا تتركون برنامج الله وتطبقون برنامج إبليس؟

مأزق المتحولين الجنسيين في المغرب

لماذا ليست العربية ضرورية لكفاءة المسؤولين الحكوميين؟

في دحض خرافة الوظيفة التوحيدية للعربية

الداعشية اللغوية

في دحض خرافة "اختيار" الأمازيغيين الطوعي للعربية

في دحض خرافة "الانصهار" بين العرب والأمازيغ

المتحولون الجنسيون في المغرب

المطالب الأمازيغية بين ردّ الفعل وغياب الفعل

من أجل إستراتيجية جديدة لاسترداد الهوية الأمازيغية للدولة المغربية

في الإقصاء السياسي للأمازيغية

L'Afrique absente du Maroc africain

جاهلية القرن الواحد والعشرين

توفيق بوعشرين يستعيذ باللطيف ضد الأمازيغية من جديد

الأمازيغية والعربية في إحصاء 2014

دولة النوم

النزعة الأمازيغوفوبية: نشأتها وتطورها

نعم "للمقاربة الإسلامية"، لكن بدون مضامين وأهداف تعريبية

الأمازيغية المنبوذة في كتاب "الأمير المنبوذ"

معاناة الإسلام من العروبة العرقية

خطْب الجمعة مرة أخرى

لماذا لا يريد التعريبيون الخير للمغرب؟

الأمازيغية والمرأة، ضحيتان لتمييز واحد

من هم الناطقون بالدارجة في المغرب؟

"التضبيع" في تجريم "التطبيع"

هل هو موقف جديد لحزب الاستقلال من الأمازيغية؟

بين ديودوني الفرنسي والمقرئ أبوزيد المغربي

عبقرية اللغة الأمازيغية وسر صمودها

المقرئ الإدريسي أبوزيد أو الأمازيغوفوبيا بلا حدود

الرسام الأمازيغي موحند سعيدي يغادرنا إلى الأبد

فرنسا تواصل سياسة التعريب

الدارجة ولاتاريخانية الأستاذ العروي

لمَ الخوف من الدارجة المغربية؟

متى يعترف المغرب بالفرنسية كلغة رسمية؟

حزب العدالة والتنمية، هبة من السماء للنظام المخزني

رفقا باللغة العربية أيها التعريبيون

المجانية والتعريب أو آلة تدمير التعليم العمومي بالمغرب

خطْب الجمعة

وما هو الحل لإصلاح التعليم بالمغرب؟

لماذا وصف مصري مساند للإخوان المغاربة باللقطاء؟

لماذا سكت رجال الدين عن مسألة العفو عن مغتصب الأطفال؟

"النسب الشرف" أو عندما يصبح الميز العنصري من الثوابت

طارق بن زياد، الأسطورة المقدسة

قداسة الشيخ الكتاني

العقل في تدبير التعدد اللغوي والثقافي في المغرب

ما تفتقر إليه العربية هو استعمالها في الحياة

المغرب من أغنى بلدان العالم

الأسباب الحقيقية لضعف مستوى اللغة العربية عند التلاميذ

اللغة العربية أو المعشوقة التي لا يرغب عشاقها في الزواج منها

لأي شيء ينفع إقرار اللغة الأمازيغية بويندوز 8؟

التعريب والهوية بالمغرب

"الفانطاسمات" اللسنية حول الأمازيغية بالمغرب

عادة التهرب من المسؤولية بإلقاء اللوم على الجميع

الحركة الأمازيغية بالمغرب: عيون على المستقبل

الأساطير المؤسسة للعروبة العرقية بالمغرب

كلمة الختام

وزير العدل والحريات يجهل مفهوم المعتقل السياسي

الأمازيغية في عمق الصراع الإيقوني

منذ متى أصبح ربيع الشعوب يهدد الأوطان؟

مدينة إفران: من السياحة الطبيعية إلى السياحة الثقافية

الأمير والتاريخ المحاصر

جريدة تاويزا في حاجة إلى تاويزا

الممثل الناطق بالأمازيغية واّلإنتاج التلفزي

أيت وراين: أبطال سلكوا درب الحرية

 

 

 

 

التعريب كخدعة للحفاظ على الامتيازات الطبقية

 

بقلم: محمد بودهان

 

(02 ـ 09 ـ 2019)  

 قصة مقال قديم حول التعريب:

وأنا أستجمع عناصرَ كتابة موضوع حول التعريب ولغة التدريس بمناسبة إقرار القانون الإطار رقم 51.17، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، الذي صادق عليه مجلس النواب يوم الاثنين 22 يوليوز 2019، أبيّن فيه (الموضوع) أن الطبقة التي تحتلّ مواقع مهيمنة ومؤثّرة، ماديا ورمزيا، تستعمل اللغة كأداة للحفاظ على مواقعها، ومنع الطبقات الشعبية من أن تحتل، هي أيضا، مثل هذه المواقع ذات النفوذ المادي والرمزي، (وأنا أستجمع) انتابني إحساس ما يُسمّى بالفرنسية(déjà-vu) ، أي إحساس أن هذه الأفكار سبق أن كتبتها ونشرتها، وخصوصا أنني كتبت الكثير عن التعليم والتعريب ولغة التدريس، وهو ما لا يسمح بتذكّر واستحضار كل الأفكار التي تضمنتها تلك الكتابات، التي انصبت على نفس الموضوع، الذي هو التعليم ولغة التدريس. وحتى لا أكرّر، دون قصد، أفكارا حول هذا الموضوع (التعليم ولغة التدريس) سبق أن نشرتها، عدت إلى فحص لائحة من المقالات التي سبق أن نشرتها دون أن أُدرجها ضمن كتبي ذات الصلة بالموضوع، مثل كتابيّ "في الهوية الأمازيغية للمغرب"، و"في العربية والدارجة والتحوّل الجنسي الهوياتي"، اللذيْن يتضمّنان مجموعة من المقالات ذات العلاقة بالتعريب. فكانت المفاجأة أنني عثرت على مقال بالفرنسية بعنوان: "L'arabisation de l'enseignement: un subterfuge pour préserver les privilèges de classe!" (تعريب التعليم: حيلة للحفاظ على الامتيازات الطبقية)، كتبته في أبريل 1995 وأرسلته إلى المجلة الأمازيغية الفصلية "تيفيناغ Tifinagh"، التي ستنشره  بالعدد 7 لشهر سبتمبر 1995. كما سبق أن أرسلته، مترجما إلى العربية بعنوان "التعريب كـميكانيسم للحفاظ على الامتيازات الطبقية"، إلى يومية "الاتحاد الاشتراكي" التي نشرته بتاريخ 11 يونيو 1995 بصفحة "آراء ومناقشات".   

لما قرأت الموضوع في مصدريه، الفرنسي الأصلي والعربي، اللذيْن لا زلت أحتفظ بهما، بهدف أن لا أكرّر ما جاء فيه من أفكار في المقالة الجديدة التي كنت بصدد إعدادها، كما أشرت، اقتنعت أن التحليل الذي قاربت به التعريب في 1995 لا يزال، من وجهة نظري، صالحا لتفسير "ظاهرة" التعريب، ومسألة اختيار لغة التدريس بصفة عامة. فقرّرت أن أعيد نشره، بعد إضافة الأقسام التوضيحية الثلاثة الأولى القصيرة، والقسمين ما قبل الأخير والأخير الخاص بدلالة التراجع عن التعريب، مع تعديلات طفيفة على النص الأصلي، لا تعدو أن تكون تصحيحا فقط لترجمة بعض التعابير من الفرنسية إلى العربية. 

التعريب بين اللغة والهوية:

إذا كان لسياسة التعريب، كما مورست بالمغرب، جانبها الهوياتي، الذي يخص أولا وأساسا مسألة الهوية التي تعمل هذه السياسة على تعريبها، أي التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، كغاية وسبب لهذا التعريب، فإن لها جانبها اللغوي الذي تُستعمل فيه اللغة كرهان اجتماعي وطبقي للاستئثار بمواقع الهيمنة، المادية (السياسية والاقتصادية) والرمزية (الثقافية والفكرية والإيديولوجية)، وإعادة إنتاجها.

هذه المناقشة تقارب هذا الجانب اللغوي للتعريب ـ اللغوي وليس الهوياتي ـ بتبيان أن الصراع بين تعريب وفرنسة التعليم، هو صراع طبقي بين فئة مهيمنة، تحتكر السلطة والثروة، وتعمل على فرض التعريب على الفئات الأخرى من الشعب لتحافظ بذلك على هيمنتها وامتيازاتها السياسية والاقتصادية، عبر شغلها للمناصب والوظائف "النبيلة" والنافذة، بفضل التعليم الذي تلقّته ـ ويتلقّاه أبناؤها ـ  باللغة الأجنبية.

كتاب "إعادة الإنتاج":

هذه المقاربة "الطبقية" لموضوع التعريب، استوحيتها من كتاب "إعادة الإنتاج ـ عناصر من أجل نظرية لنظام التعليم"، لمؤلّفيْه "بيير بورديو" و "كلود باسرون"(Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, "La Reproduction - éléments pour une théorie du système d'enseignement", les éditions de Minuit; 1983). وهو كتاب يبرهن فيه الكاتبان أن وظيفة التعليم الحقيقية، ليست هي المعلن عنها في البرامج والوثائق الرسمية، بل هي تلك المضمرة dissimulée، المتمثّلة في خدمة مصالح الطبقة النافذة وإعادة إنتاج العلاقات الطبقية Rapports de classe التي بها تحافظ تلك الطبقة على وضعها الامتيازي المهيمن، ماديا ورمزيا. ولهذا يعمل النظام التعليمي، كما يوضّح المؤلفان، على إنتاج منتوج معيد لشروط إنتاج ذلك المنتوج.

وإذا كان الكتاب يحلّل نظام التعليم، ليس بفرنسا التي ينتمي إليها الكاتبان، ولا في علاقته بلغة التدريس بهذا البلد، وإنما بصفته تلك، أي كنظام للتعليم، لا يخص لغة التدريس بفرنسا ولا بغيرها من البلدان، إلا أنني سأطبّق المفاهيم التي بنى عليها المؤلفان تحليلهما على مسألة التعريب ولغة التدريس بالمغرب. لماذا؟ لأن هذه المسألة هي التي تجتمع فيها كل الشروط الضرورية لأداء نظام التعليم بالمغرب لوظيفته الحقيقية، أي وظيفته المضمرة، المشار إليها أعلاه. ولأجل ذلك وظّفتُ، في هذا المقال، المفاهيم الأساسية التي يستخدمها الكاتبان، مثل: الرأسمال الثقافي، الرأسمال الاجتماعي، إعادة الإنتاج، العنف الرمزي...

المستوى التعليمي كمحدّد ونتيجة للمستوى الاجتماعي:

رغم أن الاستعمار الفرنسي لم يكن يهمه تعليم المغاربة وتثقيفهم إلا بالقدر الذي يحتاج إليه ويخدم مصالحه، إلا أن ذلك لم يمنع فئة منهم من الاستفادة من فترة الحماية، بإدخال أبنائهم إلى المدارس العصرية الفرنسية، حيث تعلّموا اللغة الفرنسية، واكتسبوا بفضلها مستوى معرفيا وثقافيا متقدمّا جدا بالنسبة لباقي المغاربة في تلك الحقبة. ويتكوّن هؤلاء المحظوظون، كما هو معروف، من أبناء الأعيان والعائلات الموسرة، والمتعاونين مع الإدارة الاستعمارية، وأصحاب الجاه والنفوذ المقرّبين من المخزن المحمي، من ذوي الأصل الحضري، في الغالب. أما بقية أبناء الشعب المغربي، فقد كانوا محرومين من هذه الامتيازات التعليمية، بل كانوا محرومين من كل شيء، كما كانت حال سكان الجبال الذين كانوا منشغلين بمقاومة المستعمر، فلم تتح لهم نفس الفرص لتعليم أبنائهم في المدارس العصرية، التي كانت موجودة في المدن الكبيرة فقط.

وبعد أن أحكمت فرنسا سيطرتها على هذه المناطق، ابتداء من 1936، استمرت في حرمانها من أية إصلاحات أو تجهيزات أو خدمات، كالتي وفّرتها بالمناطق الحضرية المسالمة والمتعاونة، بل لقد ضاعفت من تهميش وتجهيل (نشر الجهل) وتفقير سكان هذه المناطق عقابا لهم على مقاومتهم وعدم تعاونهم. ومع بداية الاستقلال، كان الفرق كبيرا بين فئة صغيرة من المغاربة يملكون رأسمالا ثقافيا وتعليميا، وفئة عريضة ـ بل الشعب المغربي بكامله تقريبا ـ غارقة في الجهل والأمية.

وستظهر نتائج هذا التفاوت، في الرأسمال الثقافي والتعليمي، بين الفئتين، غداة الاستقلال، عندما بدأت مغربة الأطر وتعويض الفرنسيين بالمغاربة في التسيير والمسؤوليات، والوظائف والمناصب. فقد كانت هذه الأخيرة، بطبيعة الحال، من نصيب المنتمين إلى الفئة الأولى، بحكم مستواهم التعليمي وإتقانهم للغة الفرنسية. فكان منهم رجال السلطة، والمسؤولون الحكوميون، ومسيّرو الشركات، ورؤساء المؤسسات العمومية، ومديرو المدارس والثانويات، والمدرّسون بها (كانت مهنة التدريس، في هذه المرحلة، وظيفة مهمة ومحترمة)، والمحامون، والموثّقون... لقد ركّزت هذه النخبة، في أيديها، بفضل التعليم العصري الذي تلقّته في المدارس الفرنسية لعهد الحماية، كل الوظائف والمسؤوليات التي كانت مصدرا لمراكز اجتماعية محترمة، وشرطا لاكتساب النفوذ والسلطة، وكذلك المال والثروة. الشيء الذي مكّنها من إعادة إنتاج شروط تفوّقها وامتيازاتها كنخبة وطبقة متميّزة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه النخبة استفادت من التعليم الفرنسي العصري بفضل ما كان لها من ثروة ومكانة وجاه ونفوذ، وقرب من الإدارة الاستعمارية ومن المخزن المحمي، كما سبقت الإشارة. وها هي، بعد الاستقلال، تشكّل، كذلك، نخبة ذات ثروة ومكانة، ونفوذ وسلطة وقرب من مراكز القرار، بفضل مستواها الثقافي والتعليمي. فالامتيازات الاجتماعية الطبقية تُترجم إلى امتيازات ثقافية وتعليمية، تعيد بدورها إنتاج تلك الامتيازات الاجتماعية الطبقية، لكون إحدى الخصائص الجوهرية لنظام التعليم، هي أنه ينتج منتوجا معيدا لشروط إنتاج ذلك المنتوج، كما بيّن مؤلفا "إعادة الإنتاج" كما سبقت الإشارة. فالسبب، في إطار العلاقة بين المستوى الثقافي التعليمي والمستوى الاجتماعي الاقتصادي، يصبح نتيجة، والنتيجة تصبح بدورها سببا. فهناك دائما دائرة مغلقة تتكوّن من عناصر، هي في نفس الوقت سبب ونتيجة لبعضها البعض، حيث يؤدّي الامتياز الاجتماعي إلى اكتساب امتياز ثقافي وتعليمي، يُنتج بدوره امتيازا اجتماعيا، كما يوضّح الرسم التالي:

وهذه حلقة مغلقة، من الصعب الخروج منها دون تكسير أحد عناصرها. وهذا ما ستقوم به المدرسة المغربية، بتعميمها للتعليم وإقرار مجانيته ودمقرطته لغويا.

الآثار الاجتماعية لتعميم التعليم وتوحيده:

يمكن القول إن من بين مبادئ التعليم الأربعة ـ التعميم، التوحيد، التعريب والمغربة ـ، التي نادت بها ما يُعرف بـ"الحركة الوطنية"، حظي تعميم التعليم، مع ما يعنيه من مجّانية كعنصر تابع وملازم لمبدأ التعميم نفسه، بعناية كبيرة منذ الحكومات الأولى التي تعاقبت على السلطة بعد الاستقلال. فقد أنشِئت المدارس في كافة انحاء المملكة، وخصوصا ـ وهذا هو الأهم ـ في المناطق الريفية البعيدة عن المراكز الحضرية، والتي ظلت محرومة من نور التعليم العصري طيلة فترة الحماية. والأهم كذلك بهذا الخصوص، أن الكثير من أبناء الطبقات المعوزة والأسر القروية الفقيرة، التحقوا بالمدرسة العصرية ـ بعد أن كان ذك مقصورا على أبناء الأثرياء والأعيان بالحواضر والمدن ـ، وذلك بفضل سياسة تعميم التعليم المجّاني، التي انتهجتها، بصدق وجدّية، حكومات العقدين الأولين لما بعد الاستقلال.  

أما ما يهمّ، لعلاقته بموضوعنا، في المبدأ الثاني من هذه المبادئ الأربعة، الذي هو التوحيد، فليس وحدة البرامج والمضامين، بل وحدة لغة التدريس، التي كانت واحدة في جميع مدارس التعليم العصري، وبالنسبة لجميع التلاميذ، سواء كانوا أبناء طبقات راقية أو طبقات شعبية، سواء كانوا ينتمون إلى الوسط الحضري أو الوسطي الريفي القروي. هذه اللغة كانت هي الفرنسية. صحيح أن اللغة العربية حاضرة في البرامج الدراسية لهذه المرحلة، إلا أنها كانت تُدرّس كلغة ولا تُعتمد كلغة للتدريس. ورغم أن تعريب المواد، التي تنتمي إلى حقل العلوم الإنسانية كالاجتماعيات والفلسفة بالتعليم الثانوي، شُرع فيه منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن هذا التعريب الجزئي، والثانوي، لم يكن له تأثير كبير على لغة التدريس الرئيسية، التي ظلت هي اللغة الفرنسية، التي كانت تُلقّن بها العلوم والرياضيات منذ السنة الثالثة من التعليم الابتدائي، وبالنسبة لجميع التلاميذ، كما سبقت الإشارة، إعمالا لمبدأ التوحيد.

وقد بدأت سياسة تعميم التعليم المجّاني وتوحيده اللغوي، تعطي أكلها ونتائجها مع سبعينيات القرن الماضي. وكل الاستطراد السابق كان ضروريا من أجل الوصول إلى هذه النتائج وفهمها، كمرحلة منطقية لفهم دور تعريب التعليم في الحفاظ على تفوّق وامتيازات طبقة نخبوية ونافذة، والإبقاء على الحدود الطبقية بينها وبين باقي الطبقات الاجتماعية الأخرى.

فبفضل التعليم العصري، العمومي المجّاني، الموحّد لغويا، يستعمل الفرنسية كلغة أولى وأساسية، أصبح أبناء الطبقات الفقيرة والعائلات القروية الريفية (نسبة إلى الأرياف وليس منطقة الريف)، يشغلون هم أيضا، مع سبعينيات القرن الماضي، وبفضل مستواهم التعليمي والتكويني، الوظائف والمناصب التي كانت، قبل تعميم التعليم المجّاني وتوحيده اللغوي، حكرا على أبناء الأثرياء والوجهاء الذين درسوا بالمدارس الفرنسية. فكان من أبناء هذه الطبقات، الفقيرة والقروية، رجال سلطة، وأساتذة، ومحامون، وموثّقون، وأطباء، ومهندسون، ومديرو شركات... ومنهم من تسلّق مراتب عليا في المسؤوليات الحكومية، مع ما توفّره هذه المناصب من مكانة ونفوذ وسلطة، وما تمنحه من إمكانات كبيرة لتغيير الوضع الاجتماعي الطبقي لأصحاب تلك المناصب.

هكذا أصبح التعليم، إذن، وبفضل تعميمه ومجّانيته وتوحيده اللغوي على الخصوص، وسيلة فعّالة وناجعة للارتقاء الاجتماعي، ولاختراق الحدود بين الطبقات الاجتماعية بالشكل الذي يسمح لقادم من طبقة شعبية وفقيرة، أن ينتمي إلى طبقة النخبة الراقية، الموسرة والنافذة. وهكذا، فبعد أن أصبح بمقدور أبناء الطبقات الشعبية الوصول، هم أيضا، إلى المناصب الهامة والنافذة بفضل تعميم التعليم المجّاني وتوحيده اللغوي، لم تعد طبقة معيّنة هي التي تتولّى وحدها تسيير شؤون البلاد، وشغل المناصب الهامة والنافذة، بسبب ثقافتها وتكوينها ومستواها التعليمي الجيد، الذي كانت تحتكره، بفضل امتيازاتها الطبقية التي كانت تسمح لها بالحصول على مستوى ثقافي وتعليمي وتكويني يعيد إنتاج تلك الامتيازات، وهو ما كان يشكّل، كما رأينا في الرسم أعلاه، دائرة مغلقة تتحرّك داخلها تلك الطبقة وحدها، وتمنع أبناء الطبقات الأخرى من الولوج إليها.

لقد كسّر تعميم التعليم، المجّاني والموحّد لغويا، هذه الدائرة المغلقة بـ"تحييده" لأهم عنصر فيها، والذي هو التوفّر مسبّقا على امتيازات اجتماعية (رأسمال اجتماعي)، تشمل الثروة والنفوذ والسلطة والقرب من صنّاع القرار... فلم يعد للثروة ولا لأي امتياز اجتماعي دورٌ في أن يتلقّى هذا المغربي تعليما ليس في متناول مغربي آخر، وهذا بفضل تعميم التعليم المجّاني وتوحيده لغويا، حيث أصبح الجميع يستفيدون من نفس التعليم المستعمل لنفس لغة التدريس، بغض النظر عن أوضاعهم الاجتماعية، الشيء الذي نتج عنه، كما رأينا، تلاشي الحدود الطبقية بين النخبة والدهماء، وأصبح بإمكان ابن الطبقات الشعبية أن يغيّر وضعه الاجتماعي الأصلي، ويرتقي إلى مواقع اجتماعية عليا ونافذة، وذلك بفضل تكوينه وثقافته وشواهده التعليمية، التي أصبح الحصول عليها متاحا وممكنا بسبب تعميم التعليم المجّاني وتوحيده اللغوي.

فلم يعد، إذن، الرأسمال الاجتماعي، المتكوّن من مجموع الامتيازات الاجتماعية من ثروة ونفوذ وسلطة وقرب من مراكز القرار...، كما سبقت الإشارة، هو مصدر الرأسمال الثقافي والتعليمي والمعرفي، بل أصبح هذا الأخير هو مصدر لتكوين رأسمال اجتماعي. والنتيجة أن الطبقة، التي تمتلك رأسمالا اجتماعيا، لم تعد هي وحدها القادرة على تحويله إلى رأسمال ثقافي وتعليمي ومعرفي، يسمح لها وحدها بشغل مواقع مهيمنة في المجتمع، ما دام قد أصبح من الممكن الحصول على هذا الرأسمال، الثقافي والتعليمي والمعرفي، دون استثمار سابق لأي رأسمال اجتماعي، وذلك بفضل تعميم التعليم المجّاني وتوحيده لغويا.

وهكذا أصبحت الطبقات الشعبية والفقيرة ـ ودائما بفضل تعميم التعليم المجّاني وتوحيده اللغوي ـ تنافس وتزاحم الطبقات النخبوية على "نخبويتها" ومواقعها وامتيازاتها الطبقية. فلم يعد شكل العلاقة بين الامتياز الاجتماعي والامتياز الثقافي دائرة مغلقة، تبدأ من الامتيازات الاجتماعية وتنتهي بها، كما رأينا في الرسم السابق، بل أصبح شكلا مفتوحا ذا مدخلين، حيث نجد، من جهة، أن تعميم التعليم، المجّاني والموحّد لغويا وغير المعرّب، يؤدّي إلى اكتساب الطبقات الفقيرة، التي لا تملك مسبقا امتيازا اجتماعيا، امتيازا ثقافيا يؤهّلها لشغل مناصب ممتازة، تُنتج امتيازا اجتماعيا؛ ونجد، من جهة ثانية، أن الامتياز الاجتماعي ـ الذي كانت تعيد إنتاجه المناصبُ الممتازة التي تشغلها الطبقات التي تملك هذا الامتياز الاجتماعي، بفضل امتيازها الثقافي الناتج عن نفس الامتياز الاجتماعي ـ أصبح مكسبا مشتركا ـ بعد أن كان حكرا على الطبقة الموسرة ـ تلتقي فيه وتستفيد منه كلتا الطبقتين، سواء الفقيرة التي كانت محرومة أصلا من أي امتياز اجتماعي، أو الطبقة الموسرة التي كانت تتوفّر منذ البداية على امتياز اجتماعي، كما يوضّح الرسم التالي:  

أمام هذا الواقع الجديد، لم يكن للطبقات النافذة والمهيمنة، ماديا ورمزيا، من خيار، حتى تحافظ على نفوذها وهيمنتها، إلا "تحييد" العامل الذي أنتج هذا الواقع الجديد، أي "تحييد" دور التعليم، العمومي المجّاني والموحّد لغويا، أي المستعمل للغة الأجنبية كلغة أولى وأساسية، في الارتقاء الاجتماعي. وهنا تم "الاستنجاد" بالتعريب للقيام بهذه المهمة وتحقيق هذا الهدف.

تعريب التعليم ضد تعميمه ومجّانيته وتوحيده:

إذا عرفنا، كما سبقت الإشارة، أن فلسفة النظام التعليمي قامت، في مغرب الاستقلال، على المبادئ الأربعة المعروفة (التعميم، التوحيد، التعريب والمغربة)، التي نادت بها وطبّقتها المدعوة بـ"الحركة الوطنية"، فإن القول بأن تعريب التعليم هو ضد تعميمه ومجّانيته وتوحيده، كما جاء في عنوان هذا القسم من المقال، قد يبدو نشَازا لا يستقيم مع هذه الفلسفة، مناقضا لها ومتعارضا معها. ولهذا فإن القارئ قد يستغرب، بل قد يستنكر ـ وانا أتفهّم ذلك ـ، كيف أن تعريب التعليم سيُستعمل لضرب مبدأي التعميم والتوحيد، اللذيْن قامت عليهما المدرسة المغربية ضمن المبادئ الأربعة، التي كانت بمثابة أركان فلسفة التعليم بالمغرب. ما يثير هذا النشاز والتناقض والاستغراب، هو النظر إلى نظام التعليم في المغرب من خلال وظيفته التمويهية والخادعة، الظاهرة والمعلن عنها والمصرّح بها. لكن عندما ننظر إليه من خلال وظيفته الحقيقية، لكن المضمرة، كما سبق أن شرحنا، فسيكون إبطال التعريب لمفعول التعميم والتوحيد شيئا منطقيا ومفهوما وواضحا.  

لنشرح المسألة بشيء من التفصيل:

إن تعريب التعليم بدأ مع أواخر السبعينيات من القرن الماضي بتعريب المواد العلمية، منطلقا من المستوى الابتدائي، ثم عُمّم تدريجيا إلى المستوى الإعدادي وأخيرا المستوى الثانوي، متوقفا عند السنة النهائية منه، دون أن يشمل تعريب التعليم العالي، حيث استمر تدريس التخصّصات العلمية باللغة الفرنسية، كما هو معروف.

نلاحظ على هذا التعريب ما يلي:

1 ـ اقتصر، كما أشرت، على المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، مع إبقاء تلقين العلوم بالجامعة باللغة الفرنسية.

2 ـ اقتصر على التعليم العمومي المجّاني الذي تموّله الدولة، مع استمرار مؤسسات راقية لتعليم خاص نخبوي في اعتماد اللغة الأجنبية كلغة أساسية للتدريس، فضلا عن مدارس البعثة الفرنسية التي يتشكّل غالبية تلاميذها من أبناء الطبقات النخبوية، الموسرة والنافذة.

3 ـ لم يواكبه تعريب مماثل ـ باستثناء قطاع القضاء ـ للإدارة ولمؤسسات الدولة وللمعاملات الاقتصادية والتجارية للشركات والأبناك...

4 ـ لا تزال المناصب "النبيلة" تتطلّب، لشغلها، تكوينا باللغة الأجنبية.

5 ـ لا تزال الفرنسية هي لغة التدريس في معاهد التخصصات الراقية و"النبيلة"، مثل الطب والصيدلة، والهندسة، والتجارة، والإعلاميات...  

6 ـ الشركات والمقاولات الاقتصادية لا توظّف، لمهام التسيير والإدارة، إلا ذوي تكوين باللغة الأجنبية.  

7 ـ لا زال يُنظر إلى اللغة الفرنسية، على مستوى القناعات والذهنيات وحتى المخيال الاجتماعي، كامتياز وحظوة، رغم ما يقال بأن التعريب تقرر لوضع حدّ لنفوذها وهيمنتها.

أمام هذا الواقع، يحقّ لنا أن نتساءل: ما الفائدة وما الهدف من تعريب التعليم، بهذا الشكل الانتقائي المحدود، المريب الذي يوحي بأنه غير بريء، مع بقاء سوق الشغل "النبيل"، أي الوظائف والمناصب النخبوية النافذة، مقصورا على ذوي التكوين باللغة الأجنبية؟

فلشغل هذه المناصب "النبيلة"، ماديا ورمزيا، لا بد من تكوين باللغة الأجنبية، كما يفرض ذلك سوق الشغل "النبيل". لكن التعليم العمومي المجّاني لا يعطي إلا تكوينا معرّبا، مما يجعل خرّيجيه المعرّبين يُمنعون عمليا، بحكم تكوينهم المعرّب، من شغل تلك المناصب "النبيلة" و"المحترمة". وبما أن أبناء الأسر الموسرة لهم الإمكانات المادية للدراسة بالمؤسسات الخاصة الراقية، التي تستعمل اللغة الأجنبية كلغة أساسية، أو في مدارس البعثة الفرنسية، أو في الخارج حيث يتلقّون تعليمهم باللغة الأجنبية، فإن هذه المناصب النافذة، ماديا ورمزيا، سوف لن تكون إلا من نصيبهم. وهو ما ينتج عنه أن مبدأي تعميم التعليم وتوحيده اللغوي أصبحا بلا أي أثر، ولا أي مفعول يظهر في تمكين الذي تلقى تكوينا معرّبا من أن يحصل على نفس مناصب الشغل، "النبيلة" والنافذة، التي يحصل عليها أبناء العائلات الموسرة، الذين تلقوا تكوينا باللغة الأجنبية. وهذا يعني أن التعريب استعمل لتعطيل، عمليا، مبدأي توحيد التعليم وتعميمه المجّاني.

وهكذا نعود إلى تلك الحلقة المغلقة الأولى السابقة، والتي كسّرها مبدآ تعميم التعليم المجّاني وتوحيده اللغوي: امتياز اجتماعي (إمكانات مادية) يعطي امتيازا تعليميا (تكوين باللغة الأجنبية في تخصصات "نبيلة" ومطلوبة)، يخلق بدوره امتيازا اجتماعيا (مراكز ومناصب نافذة). هكذا يصبح تعميم التعليم مجّانيا وتوحيده لغويا في حكم غير الموجوديْن عمليا، ما دام تأثيرهما كوسيلة للارتقاء الاجتماعي، من خلال شغل المناصب والوظائف "النبيلة"، ماديا ورمزيا، أصبح عمليا منعدما.

قد يُعترض على هذا التحليل بأن الجامعات والمعاهد المتخصصة، التي تؤهل لشغل المناصب الراقية، هي مفتوحة في وجه جميع المغاربة. لكن هذه الجامعات والمعاهد تختار طلبتها بشروط أو بمباريات يكون فيهما إتقان اللغة الأجنبية حاسما في قبول ونجاح المترشح لولوج هذه الجامعات والمعاهد. كما أن التخرّج منها، بنجاح، هو مضمون، في الغالب، لمن وفد عليها من مؤسسات فرنسية، أو خاصة من النوع الراقي haut standing، تُلقّن فيها مواد التخصص باللغة الأجنبية. إن هذا التفضيل للغة التكوين الأجنبية على اللغة العربية، لولوج كليات ومعاهد التخصصات "النبيلة"، يقوم دليلا على صحة هذا التحليل والاستدلال.

إذا كانت سياسة تعميم التعليم وتوحيده اللغوي، على الخصوص، قد سوّت، من حيث تكافؤ الفرص، بين ابن الطبقات الشعبية والفقيرة وابن الطبقات الثرية والنخبوية، إذ أصبح بإمكان الأول أن يحصل على نفس الشواهد التعليمية، ويتقلّد نفس الوظائف مثل الثاني، فها هو تعريب التعليم جاء ليمنع ابن الفقير من الحصول على شواهد "ممتازة"، لأنه لا يتوفّر على نفس الإمكانات المادية، مثل ابن الغني، حتى يدرس بالمؤسسات الخاصة الراقية، أو بمدارس البعثة الفرنسية، أو بالخارج. وبهذا يكون تعريب التعليم قد نجح، كما سبق القول، في "تحييد" دور التعليم، العمومي المجّاني والموحّد لغويا، في الارتقاء الاجتماعي، واختراق الحدود بين الطبقات الاجتماعية، ليصبح هذا الارتقاء مشروطا، مرة أخرى، بتوظيف رأسمال اجتماعي موجود وجاهز، يصنع رأسمالا ثقافيا وتعليميا، يكون بدوره مصدرا لرأسمال اجتماعي. وهكذا يُحكم إغلاق الحلقة مرة أخرى، ويصعب أن يلجها ابن الطبقات الشعبية، الذي لا يتوفر على رأسمال اجتماعي منذ البداية. والنتيجة أننا نجد أنفسنا أمام حلقتين مغلقتين، مستقلتين إحداهما عن الأخرى، إحداهما خاصة بالطبقات الموسرة والنافذة، تبيّن كيف يؤدّي المستوى الاقتصادي المرتفع لهذه الطبقات إلى إعادة إنتاج، بفضل تعليم نخبوي، نفس المستوى الاقتصادي المرتفع؛ والحلقة الثانية خاصة بالطبقات الشعبية الفقيرة، وتبيّن كيف يؤدّي المستوى الاقتصادي الضعيف والهشّ لهذه الطبقات إلى إعادة إنتاج، عبر تعليم معرّب، نفس المستوى الاقتصادي الضعيف والهشّ، كما يوضّح الرسم التالي:

واضح إذن أن التعريب أفرغ مبدأي تعميم التعليم وتوحيده من مضمونهما، وعطّل وظيفتهما بهدف منع من ينتمي إلى الطبقات الفقيرة من الصعود الاجتماعي وتغيير وضعه الطبقي الأصلي. ولهذا نلاحظ أن مجموعة من الإجراءات والتغييرات قد صاحبت عملية التعريب، تصبّ كلها في نفس الهدف:

1 ـ لقد تقرر تعريب المواد العلمية بالتعليم الثانوي ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، أي في الوقت الذي بدأت فيه الطبقات الفقيرة تستفيد من الآثار الاجتماعية الإيجابية لتعميم التعليم، المجّاني والموحّد لغويا وغير المعرّب.

2 ـ لقد اقتصر التعريب على الابتدائي والثانوي (بما فيه المستوى الإعدادي)، وهما مرحلتان تعرفان إقبالا كبيرا من طرف التلاميذ أبناء الطبقات الفقيرة، مما يؤكّد أن المستهدف الأول بالتعريب هم هؤلاء أبناء هذه الطبقات الفقيرة حتى لا ينافسوا، بما قد يحصلون عليه من مستوى ثقافي وتعليمي ومعرفي جيد، بفضل لغة التدريس الأجنبية للتعليم غير المعرّب، أبناء الطبقات الموسرة التي ستفقد بذلك استئثارها بالوظائف والمناصب، التي تتيحها مواقعها الاجتماعية والطبقية، المتقدمة والمهيمنة.

3 ـ تشجيع التعليم الخاص، والتحفيز عليه والترغيب فيه، حتى أنه عرف توسّعا كبيرا غير مسبوق، كما يعرف الجميع.

4 ـ التلميح، كل مرة، بإمكان إنهاء مجانية التعليم.  

5 ـ تدهور مطّرد لمستوى التعليم العمومي المجّاني المعرّب، أي لمستوى المتخرجين منه. وهذا يعني إضعافا للرأسمال الثقافي، التعليمي والمعرفي، لأبناء الطبقات الفقيرة الذين يستفيدون من هذا التعليم.

6 ـ ونتيجة لهذا التدهور، أصبح التعليم المجّاني العمومي المعرّب، أكثر فأكثر، قطاعا عقيما، "متخصصا" في إنتاج العاطلين، لعدم ملاءمة التكوين الذي يتلقّاه المتخرج من هذا التعليم المعرّب مع سوق الشغل. والمتضررون الأولون من كل هذا هم أبناء الطبقات الفقيرة الذين يتابعون دراستهم بالتعليم العمومي المعرّب.

التعريب والتقسيم الطبقي للعمل:

بناء على التحليل السابق، يبدو جليا أن الوظيفة الحقيقية للتعريب، لكن المضمرة، هي إنتاج وإعادة إنتاج تقسيم اجتماعي طبقي للعمل: فهناك العمل "النبيل" المطلوب ـ مهام التسيير والإدارة والإشراف والمراقبة والتوجيه والتخطيط وإصدار الأوامر واتخاذ القرارات ومسؤوليات تخص ممارسة السلطة... ـ، يقوم به أبناء الطبقات الموسرة، الذين حصلوا، بفضل ثراء عائلاتهم، على تعليم باللغة الأجنبية، جيد ونافع، أهّلهم لتولّي تلك المهام. ثم هناك عمل أقل مرتبة و"نبلا"، من حيث قيمته المادية والرمزية ـ مهام التنفيذ والإنجاز والأعمال اليدوية غالبا ... ـ، تختص به الطبقات التي لم تسمح لها شروطها الاقتصادية بالحصول على نفس النوع ونفس المستوى من التعليم الجيد والنافع، ماديا ورمزيا، فاكتفت بالتعليم المجّاني المعرّب، الذي يقل الطلب على خرّيجيه في سوق الشغل "النبيل". وهكذا يكون التفاوت في المستويات الثقافية والتعليمية والمعرفية بين الصنفين من الطبقات، أداة لممارسة العنف الرمزي والثقافي في أجلى صوره، كما يظهر ذلك في فرض الطبقة المهيمنة لثقافتها وقيمها وأفكارها وسلوكاتها ونمط عيشها...، كمرجعية ونموذج يُحتذى به.

وللحفاظ على هذا التقسيم الطبقي للعمل، فإن الوظائف "النبيلة" تفقد "نبلها" بمجرد ما يصبح التعليم العمومي المجّاني المعرّب كافيا للوصول إليها، دون التوفر مسبقا على رأسمال اجتماعي طبقي: فمهنة التدريس كانت ذات قيمة اجتماعية كبيرة بعد الاستقلال، لأنها كانت تمثل "ندرة اجتماعية" واستثمارا سابقا لرأسمال اجتماعي متوفر منذ البداية. لكن هذه المهنة فقدت، اليوم، ما كان لها من بريق اجتماعي، وبخست قيمتها المادية والرمزية، بعد أن أصبح التعليم، العمومي المجّاني والمعرّب، يسمح بممارسة هذه المهنة دون توفر سابق على امتياز اجتماعي طبقي. فأضحى الأستاذ الجامعي، اليوم، أقل قيمة، من الناحية المادية والرمزية، من معلم في سبعينيات القرن الماضي. ولهذا "غادرت" الطبقات الموسرة هذه المهنة، بعد أن لم تعد تُحترم فيها الحدود بين الطبقات الاجتماعية.

ونفس الشيء يلاحظ، ولو بدرجة أقل، بخصوص مهنة المحاماة، التي كانت من المهن النخبوية ذات القيمة الاجتماعية والرمزية الكبيرة. لقد أخذت قيمتها الاجتماعية والرمزية هذه تتدهور، اليوم، تدريجيا بعد أن أصبح التعليم العمومي، المجّاني والمعرّب، يؤهّل لامتهان المحاماة دون اشتراط امتياز طبقي سابق. وهو ما لا ينطبق، على سبيل المقارنة لإبراز دور اللغة الفرنسية في الرفع من قيمة ومكانة الوظائف والمهن التي تستعمل هذه اللغة، على مهنة التوثيق العصري notariat، التي لا زالت تحتفظ بمكانتها النخبوية المحترمة لكون اللغة التي يشتغل بها الموثّقون هي اللغة الفرنسية. 

كان من الممكن أن تكون وظيفة التعريب المضمرة هي نفس وظيفته الظاهرة المعلن عنها، لو:

1ـ أن المدافعين عن التعريب برهنوا على صِدقهم وحسن نواياهم، وذلك بإعطاء القدوة بتسجيل أبنائهم في مدارس التعليم المعرّب، التي ينفرون منها كما لو كانت مراكز لنشر أمراض معدية.

2 ـ أنه كان تعريبا كاملا وعاما، يشمل كل أنواع التعليم، وكل تخصصاته ومستوياته.

3 ـ تم تعريب سوق الشغل وتوحيدها، بدل إبقائها مقسّمة إلى أعمال ووظائف دنيا يقوم بها المتخرجون من التعليم المجّاني المعرّب، وأعمال ووظائف "نبيلة" ومطلوبة يقوم بها المتخرّجون الذين تلقوا تكوينهم باللغة الأجنبية.

4 ـ أن شواهد التعليم العمومي المعرّب تفوق ـ أو على الأقل تساوي ـ في قيمتها، المادية والرمزية، الشواهد التي يمنحها التعليم المفرنس.

الوظيفة المضمرة للتعريب تفسّر مفارقاته الظاهرة:

إذا كانت وظيفة التعريب الحقيقية، المتمثلة في "تحييد" التعليم، العمومي المجّاني والموحّد لغويا، كوسيلة للصعود الاجتماعي، وفي الحفاظ على تقسيم اجتماعي طبقي للعمل، تمارس من خلاله طبقة مهيمنة عنفها الرمزي على الطبقات الأخرى، تبدو مضمرة dissimulée وغير ظاهرة، ولا يمكن إدراكها إلا عبر سلسلة من الاستدلالات، فذلك «لأن الوظيفة الأكثر خفاء والأكثر نوعية لنظام التعليم تتجلّى في إخفاء وظيفته الموضوعية، أي حجب الحقيقة الموضوعية لعلاقته ببنية العلاقات الطبقية» (La reproduction, p. 250). ثم «لأن المدرسة، كأداة ممتازة instrument privilégié تستعملها البورجوازية لتبرير وضعها المهيمن sociodicée، تمنح لأصحاب الامتياز les privilégiés الامتيازَ الأسمى le privilège suprême بأن لا يظهروا كأصحاب امتياز. وبذلك تنجح في إقناع المحرومين بأن فشلهم المدرسي والاجتماعي راجع إلى نقص في مؤهلاتهم ومواهبهم. تنجح في ذلك بسهولة لكون الإقصاء، في مجال الثقافة، يُقصي أي وعي بهذا الإقصاء» (Ibid, p. 253).   

وعندما نكتشف هذه الوظيفة الحقيقية المضمرة للتعريب، ونفهمها ونعيها، تصبح كثير من التناقضات، التي لازمت سياسة التعريب، منطقية ومفهومة. هذه بعض منها:

1 ـ نلاحظ بخصوص التعريب بأنه طُبّق بطريقة جزئية وانتقائية، كما سبقت الإشارة. فلم يشمل كل أنواع التعليم وتخصصاته ومستوياته. لماذا؟ لأن ما تبقّى من هذه الأنواع والتخصصات والمستويات، التي تُستعمل فيها اللغة الأجنبية كلغة للتدريس، هو خاص بالخاصة، أي بالنخبة وأصحاب الامتيازات الطبقية.

2 ـ نسمع المسؤولين يردّدون دائما، عندما يتعلق الأمر بموضوع لغة التدريس، بأن "العربية هي لغة التدريس الرئيسية، مع الانفتاح على اللغات الأجنبية". لماذا هذا "الانفتاح"؟ لأنه محفوظ وخاص، كذلك، بأبناء الطبقات الموسرة، الذين يتلقون تكويناتهم بلغة "الانفتاح" الأجنبية.

3 ـ أغلبية دعاة التعريب يسجّلون أبناءهم بمدارس البعثات الأجنبية والمؤسسات الخاصة الراقية، التي تعتمد اللغة الأجنبية لغة رئيسية للتدريس. ليس في هذا الموقف أي تناقض. فالتعريب الذي يدعون إليه ويدافعون عنه هو تعريب التعليم العمومي المجّاني الخاص بالدهماء، وليس التعليم النخبوي الخاص بالنخبة التي ينتمون إليها، والذي يجب أن تكون لغة التدريس فيه هي اللغة الأجنبية. فبهذا التعليم النخبوي، ذي اللغة النخبوية، يحافظون على موقعهم الطبقي النخبوي المهيمن.

4 ـ من المفارقات العجيبة أن اللغة الفرنسية، التي جاء التعريب لتنحيتها لصالح العربية، تعززت مكانتها وارتفعت قيمتها، بسبب قلة العرض وكثرة الطلب عليها نتيجة التعريب نفسه.

5 ـ ونفس المفارقة نلاحظها بصدد اللغة العربية: فبدل أن تصبح إجادتها أفضل مما كان عليه الأمر قبل تعريب التعليم، تعرف هذه اللغة، على العكس من ذلك، تدنّيا مريعا في مستوى ضبطها وإتقانها، حتى أصبح تشكيل جملة قصيرة، أو كتابة كلمة تتضمن همزة، بطريقة سليمة، من "لطائف المعارف"، ليس عند التلاميذ فقط، بل حتى عند الطلبة الجامعيين. وليس في الأمر أي تناقض عندما نعرف أن الوظيفة الحقيقية ـ لكن المضمرة ـ للتعريب، ليست هي إتقان العربية وتعزيز مكانتها والرفع من قيمتها، كما تقول الوظيفة الظاهرة والتمويهية الخادعة لهذا التعريب، وإنما وظيفته هي تعزيز مكانة الطبقات الموسرة والنافذة، والرفع من امتيازاتها ونفوذها، كما أثبتنا ذلك طيلة هذه المناقشة.

ملاحظتان لا بدّ منهما:

1ـ لا يصحّ الاعتراض على هذا التحليل بأن هناك أبناء أسر فقيرة ومعوزة درسوا بالمدرسة العمومية المجّانية والمعرّبة، فاستطاعوا الحصول على شواهد علمية عليا، أهّلتهم أن يشغلوا مناصب سامية و"نبيلة" وذات قيمة عليا، ماديا ورمزيا، ويغيّروا وضعهم الاجتماعي الأصلي الأدنى إلى وضع اجتماعي نافذ وأرقى. لماذا لا يصحّ؟ لأن دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، مثل موضوع التعريب والتعليم والمدرسة، لا تتوخّى الوصول إلى قوانين مضبوطة ودقيقة تنطبق على كل الحالات بنسبة 100%، كما في قوانين العلوم الحقة مثل علم الفيزياء مثلا. وإنما أقصى ما تسعى إليه العلوم الإنسانية هو تحديد الاتجاه tendance العام، الغالب سوسيولوجيا وإحصائيا للظاهرة موضوع الدراسة، دون أن ينفي ذلك وجود حالات تشذّ عن هذا الاتجاه العام. فعلاقة التعريب بالامتيازات الطبقية privilèges de classe، من خلال إقراره بهدف الحفاظ على هذه الامتيازات وتعزيزها وإعادة إنتاجها، ثابتة كاتجاه عام، حاضر بنسبة قد تتجاوز 75%، لكن ليس بنسبة 100%.

2ـ القول، كما يكرّر التعريبيون، بأن فشل التعريب لا يرجع إلى فشل لغة التدريس التي هي العربية، وإنما يرجع إلى التسرّع والارتجال اللذيْن تقرر بهما فرض التعريب، دون إعداد كافٍ ومناسبٍ لشروط نجاحه. هذا غير صحيح إطلاقا. لماذا؟

أولا، سياسة تعريب التعليم لم تفشل لأن ما فشل هو فقط وظيفة التعريب الظاهرة، التمويهية والخادعة. أما وظيفته الحقيقية، لكن المضمرة، فقد أدّت مهامها بنجاح فاق حتى ما كان متوقّعا. والدليل على ذلك هو أن سياسة التعريب أعطت النتائج التي كانت منتظرة منها، والتي من أجلها فُرض التعريب، والتي هي نتائج تخص مستويين:

ـ المستوى الأول المتعلق بالوظيفة الحقيقية المضمرة للتعريب، كما سبق أن شرحنا، والتي هي إبقاء الطبقات الفقيرة والهشّة في مستوى فقرها وهشاشتها، وتقوية امتيازات الطبقات المهيمنة والحفاظ عليها (الامتيازات) وإعادة إنتاجها. وهو ما نجح فيه التعريب بشكل فاق توقعات الذين فرضوه وخطّطوا له.

ـ المستوى الثاني، المتعلّق بجانب آخر من وظيفته الحقيقية لكن المضمرة، والذي يخص الهوية، والمتجلّي في تحويل المغاربة إلى شعب عربي، أي عملية تحويلهم الجنسي من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، كما ذكرت في أول هذه المناقشة. وهو ما نجح فيه التعريب بشكل يكاد لا يُصدّق، إذا أضحى المغاربة  أشد ارتباطا بالعروبة وأكثر دفاعا عنها من العرب الحقيقيين بدول الخليج، مع إنكار مازوشي لانتمائهم الأمازيغي.

ثانيا، لأن التعريب لم يفشل، كما رأينا، وإنما حقّق نجاحا باهرا، على مستوى إنجاز الأهداف التي من أجلها تم إقراره، فالنتيجة أنه لم يتقرر بتسرّع وارتجال، بل كان ثمرة إعداد وتخطيط، وتروٍّ وطول تفكير.

ما دلالة التراجع عن التعريب؟

بمصادقة البرلمان المغربي، يوم الاثنين 22 يوليوز 2019 بالنسبة لمجلس النواب، ويوم الجمعة 2 غشت 2019 بالنسبة لمجلس المستشارين، على مشروع القانون- الإطار رقم 51.17، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والذي يقضي، عبر "حيلة" "التناوب اللغوي"، بتدريس المواد العلمية بالفرنسية (المادة 2 والمادة 31) ـ دون ذكر صريح لهذه اللغة نفسها ـ، يكون المغرب قد قرّر وضع حدّ لسياسة التعريب والعودة إلى اللغة الفرنسية كلغة لتدريس الرياضيات والموادّ العلمية.

هذه العودة إلى الفرنسية تشكّل انقلابا حقيقيا يطرح السؤال حول دلالتها وأسبابها ونتائجها.  

إذا عرفنا أن المنتمين إلى ما يُدعى بـ"الحركة الوطنية" هم من كانوا يديرون، غداة الاستقلال، الدولة التي ورثوها عن الحماية الفرنسية، ويسيّرون شؤونها، ويشغلون أهم وأرقى مناصبها بسبب ما كانوا يتوفرون عليه من رأسمال ثقافي، حسب ما سبق توضيحه، سنعرف لماذا أقرّت هذه الحركة، والوارثون لفكرها وإيديولوجيتها وامتيازاتها الطبقية، تعريبَ التعليم. لأن تعميم التعليم، المجّاني والملقّن بالفرنسية، أنتج، كما سبق تبيان ذلك، منافسين، لهؤلاء "الوطنيين" (نسبة إلى الحركة الوطنية) ولورثتهم، ذوي مستوى تعليمي مكّنهم من شغل المناصب الراقية التي كانت حكرا عليهم، وهو ما راوا فيه تهديدا لمصالحهم وامتيازاتهم. ولوضع حدّ لهذا التهديد كان الحل هو تعريب التعليم، حسب ما شرحناه بتفصيل.

فإذا كان صحيحا أن رجال "الحركة الوطنية" هم من نادوا بالتعريب وضغطوا على الدولة ـ دولتهم ـ من أجل فرضه وتعميمه، فليس صحيحا أن ذلك كان من أجل عيون اللغة العربية، ولا حتى عيون العروبة، بل من أجل ما كانوا يجنونه من امتيازات ومصالح باحتكارهم للتعليم باللغة الفرنسية لأنفسهم وأبنائهم وطبقتهم. ولهذا نجد أبناء جميع كبار التعريبيين، المدافعين بشراسة عن التعريب، من علال الفاسي حتى عبد الإله بنكيران، متزعّم جبهة المعارضين لما سمّوه "فرنسة التعليم" التي جاء بها القانون الإطار، درسوا في المدارس الفرنسية أو في الخارج أو في مؤسسات خاصة تعتمد الفرنسية كلغة للتدريس. بل فيهم من يدافع عن التعريب، مثل بنكيران نفسه، لأنه يملك مدارس خاصة تدرّس باللغات الأجنبية، وهو ما يجعل تعريب التعليم يرفع الطلب عليها، ويزيد من عدد الأسر التي تسجّل أبناءها بهذه المدارس الخاصة، رغبة في استفادتهم من تكوين باللغة الأجنبية.

لا يمكن أن ندرك ونفهم، فبالأحرى أن نقبل، فكرة أن "الحركة الوطنية" قررت تعريب التعليم للحفاظ على مصالحها الطبقية وحرمان الطبقات الشعبية من نفس التعليم المحفوظ لأبنائها، إلا إذا تجاوزنا الوظيفة الظاهرة والتمويهية، الكاذبة والخادعة للتعريب، وكشفنا عن وظيفته الحقيقية، لكن المضمرة dissimulée، كما يسمّيها مؤلفا كتاب "إعادة الإنتاج".

 وما موقف القصر من هذا الصراع بين التعريبيين والداعين إلى اعتماد اللغة الأجنبية للتدريس؟

إذا كان الدافع إلى إقرار التعريب، كما شرحنا، هو الحفاظ على مصالح وامتيازات طبقة معيّنة، فسنخلص إلى أن الملكية غير معنية بهذا التعريب ليخدم مصالحها وامتيازاتها، كما يخدم مصالح وامتيازات تلك الطبقة التي جعلت منه أحد الأسس التي تقوم عليها فلسفة التعليم في المغرب. لماذا ليست معنية بذلك؟ لأن مصالح وامتيازات الملكية محفوظة ومضمونة دون حاجة إلى التعريب. فهي ليست بمثابة طبقة اجتماعية تخاف أن تنافسها الطبقات الشعبية التي يدرس أبناؤها باللغة الأجنبية، ليحتلوا مواقع ومناصب كانت حكرا على الملكية. فمصالحها وامتيازاتها لا يضمنها ويحميها التعريب، وإنما الشرعية التاريخية والدستورية. ثم لأن مصالحها وامتيازاتها تتمثّل في حيازتها وممارستها لأعلى سلطة سياسية في المغرب باعتبار الملك الحاكم الأول والحقيقي. فليس هناك إذن طبقة اجتماعية يمكن أن تشكّل تهديدا محتملا لهذه المصالح والامتيازات الخاصة بالملكية، وهو ما قد تستدعي اللجوء إلى التعريب لصدّ هذا التهديد المحتمل، كما فعلت "الحركة الوطنية" وورثتها.

ولهذا يجب الاعتراف أن الملكية بالمغرب لم يسبق لها أن كانت متحمّسة لتعريب التعليم. ولا يمكن تفسير ذلك بأنها سبق أن عاشت تحت الحماية الفرنسية. فـ"الحركة الوطنية" نفسها نشأت في ظل هذه الحماية الفرنسية وتلقّت تكوينا باللغة الفرنسية. وإذا لم تكن الملكية متحمّسة للتعريب، فلماذا قبلته ووافقت عليه في عهد الحسن الثاني؟

رغم أن حكم الحسن الثاني لم يكن ديموقراطيا، وكان يحكم ويتخذ قراراته بشكل انفرادي وأوتوقراطي، إلا أنه، كسياسي، كان يأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يشكّل عليه ضغطا سياسيا حقيقيا، قد لا يستطيع تحدّيه ومواجهته دون خسارة سياسية ليست في صالح العرش. ولهذا شكّلت "الحركة الوطنية"، وامتداداتها الفكرية والإيديولوجية والحزبية والنقابية، ضغطا سياسيا على الحسن الثاني عندما استعملت مسألة التعريب كسلاح لمعارضة حكمه، مع توظيف ماكر للمكانة الدينية للعربية لممارسة الابتزاز على الحسن الثاني. وهو ما جعله يرضخ لمطالب التعريبيين مُكرها سياسيا، إذ كيف يُعقل لأمير للمؤمنين، يستمد شرعيته من الإسلام، أن يرفض التعريب الذي كان يؤوله معارضوه على أنه رفض للغة الإسلام التي هي العربية؟

استمر الحال، مع حكم محمد السادس، كما كان عليه في عهد الحسن الثاني بخصوص تعريب التعليم، إلى أن جاء القانون الإطار رقم 51.17، فألقى بحجرة "التناوب اللغوي" في البركة الآسنة للتعريب. وغير خافٍ على أحد أن قرار هذا "التناوب اللغوي"، الذي به يخفي القانون الإطار تراجعَه عن سياسة التعريب، لا يمكن أن يُتّخذ دون أن يكون بتعليمات من السطات العليا أو ـ على الأقل ـ بقبولها وموافقتها.

والسؤال هو: إذا كانت الملكية قد تعايشت، في عهد الحسن الثاني، مع تعريب التعليم دون أن تتدخل لوقفه والعودة إلى اللغة الأجنبية، فلماذا قررت، بعد عشرين سنة من حكم محمد السادس، التراجع عن التعريب بصيغته التي مورس بها إلى الآن، مع اللجوء إلى "حيلة" "التناوب اللغوي" لتبرير هذا التراجع؟

لأن الدولة، إذا كانت قد استطاعت تحمّل الآثار المدمّرة والكارثية لتعريب التعليم لمدة أربعين سنة، فإنها لن تستطيع، نظرا لتضاعف وتراكم هذه الآثار مع مرور الوقت، أن تتحمّلها أكثر من هذه المدة، من دون أن يعرّضها ذلك لمخاطر "السكتة القلبية"، الي حذّر منها الحسن الثاني في خطابه لافتتاح الدورة الخريفية للبرلمان في أكتوبر 1995. فاليوم لم يعد يكفي أن تتعايش الملكية،  لدواعٍ سياسية، مع ما "اختاره" الشعب في ما يخص تعريب التعليم، الذي هو في الحقيقة اختيار "للحركة الوطنية" وليس للشعب، كما سبقت الإشارة، لتضمن بذلك الاستقرار السياسي والاجتماعي. لماذا؟

لأن الشعب الجاهل والمجهّل (الذي لقّنته المدرسةُ الجهلَ)، العاطل والجائع، المشحون بالخرافات والغيبيات، إذا كان مفيدا للأنظمة التي تغيب فيها الديموقراطية الحقيقية، فإنه يصبح، على المدى البعيد، خطرا على وجودها واستمرارها، وقد يؤدّي إلى سقوطها وانهيارها. وهذا ما وعته جيدا الملكية التي أدركت أن أكثر من أربعين سنة من تجهيل الشعب بسياسة التعريب، وحرمانه من الاستفادة من تعليم ناجح، مفيد ومنتج، لا يمكن إلا أن يتسبّب في تلك "السكتة القلبية" التي تحدث عنها الحسن الثاني. وإذا حدثت هذه "السكتة"، فإن الملك هو من تُحمّل له المسؤولية، وليس من دعا إلى التعريب ودافع عنه، لأنه هو الحاكم الأول والحقيقي، كما أشرت، بالنظر إلى أن الملكية بالمغرب هي ملكية تنفيذية. وتلافيا لهذه "السكتة"، مع ما تستتبعه من تحميل المسؤولية في ذلك للملك، جاء القانون الإطار رقم 51.17، معلنا نهاية التعريب، ولو بتبرير ذلك بما سمّاه "التناوب اللغوي" لتخفيف الصدمة على التعريبيين.

اليوم، وبعد أربعين سنة من التعريب، الجميع واعون ومقتنعون، بمن فيهم التعريبيون، أن هذا التعريب كان جريمة في حق الشعب المغربي، وقف عائقا أمام توفّر الشروط الضرورية لتنمية حقيقية، وحال دون تحقيق أي تقدم ونهوض، وجعل المغرب يتراجع ويتقهقر، وتتجاوزه دول كان متقدما عليها في سبعينيات القرن الماضي بمسافات بعيدة. فالتمادي في هذا التعريب هو إذن انتحار للبلاد ونحر لها على محراب العربية والعروبة، والمصالح الضيقة لطبقة وصولية وانتهازية.

فإذا كان هذا التراجع عن التعريب جاء متزامنا مع اعتراف الملك بفشل النموذج التنموي، ودعوته إلى الإعداد لنموذج تنموي جديد، فإن من شروط نجاح النموذج التنموي الجديد هو القطع مع سبب فشل النموذج التنموي السابق، ألا وهو التعريب. فالعنصر الأساسي في كل تنمية هو الإنسان، عندما يتلقّى تكوينا مفيدا ونافعا، يُكسبه علما ومعرفة وكفاءة ومهارات. واداة اكتساب المعرفة والعلم والكفاءة والمهارات هي اللغة. وعندما تكون هذه اللغة غير مناسبة ولا صالحة لهذا الاكتساب، فلن يكون من تلقى تكوينا بها نافعا ولا صالحا ولا كفئا، ولا ذا علم ومعرفة نافعة. والنتيجة أن الشرط الأول لأي إصلاح للتعليم هو إصلاح لغة التعليم. وأول إصلاح للغة التعليم هو القطع مع سياسة التعريب.

ولهذا يكون المبدأ المحتشم "للتناوب اللغوي" بداية لوضع حدّ للابتزاز الذي يمارسه التعريبيون على الدولة وعلى الشعب المغربي باسم "لغة القرآن"، ليستأثروا هم بـ"لغة المستعمر" لأبنائهم، ويحموا بها مصالهم وامتيازاتهم. ثم إن العودة إلى التدريس باللغة الأجنبية هي أحد مظاهر الديموقراطية، إذ يصبح أبناء المغاربة متساوين من حيث اللغة التي يدرسون بها. وهو ما يعني تكافؤ الفرص بخصوص حظوظ النجاح المدرسي الذي هو مفتاح النجاح الاجتماعي والمهني، بعد أن كانت حظوظ هذا النجاح المدرسي، ثم الاجتماعي والمهني، مقصورة على طبقة انتهازية ومنافقة وأنانية، تختار لأبنائها لغة العلم والحداثة والتكنولوجيا والاقتصاد، وتمنعها عن أبناء الشعب بدعوى أنها لغة "المستعمر" و"الكفار".

ليس غريبا إذن أن تكون الملكية قد وافقت على "التناوب اللغوي" للقطع مع التعريب، ذلك أن الملكية، كما يشهد على ذلك تاريخ المغرب لما بعد الاستقلال، كانت دائما متقدمة على الأحزاب، وحتى على المثقفين، بخصوص المسألة اللغوية، سواء في جانبها المتعلق بلغة التدريس، أو في جانبها المتعلق بالأمازيغية.

    

 

 

 

Copyright 2002 Tawiza. All rights reserved.

Free Web Hosting