Amezwaru

(Page d'accueil)

 

مقالات  

 

الأمازيغية في كتاب "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"

آفة الفرانكوفونيين في كتاب: من أجل ثورة ثقافية بالمغرب

لماذا سيفشل النموذج التنموي الجديد؟

الدارجة بين الجهل المقدس ودعاوى الأكاديميين

إذا كانت العربية لغة القرآن فلماذا تفرضون استعمالها خارج القرآن؟

لم التدريس بالعربية؟

مدافع شرش عن العربية يعترف أنها لغة جامدة

ما دلالة رفض البغرير المعروف وقبول السؤدد المجهول؟

الأمازيغ، أحرار أم مغلوبون وتابعون؟

الأمازيغية والعنصرية العادية

لماذا لم تنجح تجربة العدالة الانتقالية في المغرب؟

هل يستقيم استقلال القضاء مع غياب فصل حقيقيي بين السلط؟

أحكام ظالمة مبنية على تهم استعمارية

لماذا لا أكتب بالأمازيغية ويكتب السيد حميش بالعربية؟

الأمازيغية والاستعمار أم العروبة والاستعمار؟

بدل مخزنة الأمازيغية ينبغي تمزيغ المخزن

محمد مونيب ونهاية أسطورة الظهير البربري

إذا لم يكن المالطيون عربا، فلماذا سيكون المغاربة عربا؟

فيروس التعريب

عندما يكون استقلال القضاء خطرا على العدالة

حراك الريف وتصحيح مفهوم الوطنية

مفهوم الهوية الجماعية وتطبيقاته على حالة المغرب

المشعل والمصباح

لماذا سبقتنا الجزائر إلى إقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية؟

قاموس الدارجة أو تصعيب الدارجة من أجل تفصيحها

بين إنكار أحاديث البخاري وإنكار وجود المسيح

شعب الدولة أم دولة الشعب؟

خطأ الاستهانة بفاجعة طحن محسن فكري وتداعياته

الاستثناء المغربي الحقيقي

بين قمع الكاطالانيين وقمع الريفيين

حراك الريف وميلاد "الهومو ـ زفزاف" المغربي

عندما يُستعمل القضاء للقضاء على العدالة

خرافة "المحاكمة العادلة" لمعتقلي حراك الريف

خرافة وحقيقة "أن التحقيق سيذهب بعيدا"

الأمازيغية والمثقفون المغاربة

هل نفّذ الزفزافي تهديده بالتسبّب في سعار المخزن؟

من يحكم المغرب؟

ناصر الزفزافي أو بروميثيوس المغرب

المخزن يعود عاريا بعد أن مزق حراك الريف أقنعته

لماذا أرفع الراية الأمازيغية وراية الريف ولا أرفع الراية المغربية؟

حكومة العثماني وفرصة الوحدة السياسية بين الأمازيغية والإسلام

كتاب إمازيغن وحتمية التحرر

تظاهرة الناظور وغباء السلطة الذي لا حدود له

نبوءة مولييراس بخصوص تعريب المغرب في القرن العشرين

اغتيال محسن فكري وفرصة التحرر من فوبيا السلطة

مشروع القانون التنظيمي لمنع ترسيم الأمازيغية

متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟

قضية حميد أعطوش: من الاعتقال الجائر إلى الإفراج الماكر

أعطوش وأوساي: لغز الإدانة رغم أدلة البراءة

من أجل علمانية إسلامية

أربعينية إزم: الرسالة والدلالة

المايسترو أو النجم إذا سطع وارتفع

معاشات الوزراء والبرلمانيين

زلزال خطْب الجمعة بمسجد حمزة بسلا

اقتراحات بخصوص القانون التنظيمي للأمازيغية

مطالب الشعب المغربي لـ1934 وميلاد الوعي الوطني الزائف

أي تصور وأية مقاربة لتدريس أمازيغية موحدة ومشتركة؟

هل مساندة المغرب للقبايل اعتراف ضمني أنه بلد أمازيغي؟

الدليل الإحصائي أن الناطقين بالدارجة هم أمازيغيون

ميمون أمسبريذ، ذلك الكاتب الأمازيغي المجهول

التعريب نجح أولا بالفرنسية قبل العربية

متى ينتقل المغرب من السياسة البربرية إلى السياسة الأمازيغية؟

يوطوبيا التعريبيين في المغرب

لماذا لا يجوز تصنيف الأمازيغيين ضمن الشعوب الأصلية؟

نعم لاستفتاء شعبي حول العربية والأمازيغية

الأستاذ حميش والبوصلة التي لا تتحرك إلا في اتجاه المشرق

عبد الله حمودي والفهم العامي للهوية

ولماذا تتركون برنامج الله وتطبقون برنامج إبليس؟

مأزق المتحولين الجنسيين في المغرب

لماذا ليست العربية ضرورية لكفاءة المسؤولين الحكوميين؟

في دحض خرافة الوظيفة التوحيدية للعربية

الداعشية اللغوية

في دحض خرافة "اختيار" الأمازيغيين الطوعي للعربية

في دحض خرافة "الانصهار" بين العرب والأمازيغ

المتحولون الجنسيون في المغرب

المطالب الأمازيغية بين ردّ الفعل وغياب الفعل

من أجل إستراتيجية جديدة لاسترداد الهوية الأمازيغية للدولة المغربية

في الإقصاء السياسي للأمازيغية

L'Afrique absente du Maroc africain

جاهلية القرن الواحد والعشرين

توفيق بوعشرين يستعيذ باللطيف ضد الأمازيغية من جديد

الأمازيغية والعربية في إحصاء 2014

دولة النوم

النزعة الأمازيغوفوبية: نشأتها وتطورها

نعم "للمقاربة الإسلامية"، لكن بدون مضامين وأهداف تعريبية

الأمازيغية المنبوذة في كتاب "الأمير المنبوذ"

معاناة الإسلام من العروبة العرقية

خطْب الجمعة مرة أخرى

لماذا لا يريد التعريبيون الخير للمغرب؟

الأمازيغية والمرأة، ضحيتان لتمييز واحد

من هم الناطقون بالدارجة في المغرب؟

"التضبيع" في تجريم "التطبيع"

هل هو موقف جديد لحزب الاستقلال من الأمازيغية؟

بين ديودوني الفرنسي والمقرئ أبوزيد المغربي

عبقرية اللغة الأمازيغية وسر صمودها

المقرئ الإدريسي أبوزيد أو الأمازيغوفوبيا بلا حدود

الرسام الأمازيغي موحند سعيدي يغادرنا إلى الأبد

فرنسا تواصل سياسة التعريب

الدارجة ولاتاريخانية الأستاذ العروي

لمَ الخوف من الدارجة المغربية؟

متى يعترف المغرب بالفرنسية كلغة رسمية؟

حزب العدالة والتنمية، هبة من السماء للنظام المخزني

رفقا باللغة العربية أيها التعريبيون

المجانية والتعريب أو آلة تدمير التعليم العمومي بالمغرب

خطْب الجمعة

وما هو الحل لإصلاح التعليم بالمغرب؟

لماذا وصف مصري مساند للإخوان المغاربة باللقطاء؟

لماذا سكت رجال الدين عن مسألة العفو عن مغتصب الأطفال؟

"النسب الشرف" أو عندما يصبح الميز العنصري من الثوابت

طارق بن زياد، الأسطورة المقدسة

قداسة الشيخ الكتاني

العقل في تدبير التعدد اللغوي والثقافي في المغرب

ما تفتقر إليه العربية هو استعمالها في الحياة

المغرب من أغنى بلدان العالم

الأسباب الحقيقية لضعف مستوى اللغة العربية عند التلاميذ

اللغة العربية أو المعشوقة التي لا يرغب عشاقها في الزواج منها

لأي شيء ينفع إقرار اللغة الأمازيغية بويندوز 8؟

التعريب والهوية بالمغرب

"الفانطاسمات" اللسنية حول الأمازيغية بالمغرب

عادة التهرب من المسؤولية بإلقاء اللوم على الجميع

الحركة الأمازيغية بالمغرب: عيون على المستقبل

الأساطير المؤسسة للعروبة العرقية بالمغرب

كلمة الختام

وزير العدل والحريات يجهل مفهوم المعتقل السياسي

الأمازيغية في عمق الصراع الإيقوني

منذ متى أصبح ربيع الشعوب يهدد الأوطان؟

مدينة إفران: من السياحة الطبيعية إلى السياحة الثقافية

الأمير والتاريخ المحاصر

جريدة تاويزا في حاجة إلى تاويزا

الممثل الناطق بالأمازيغية واّلإنتاج التلفزي

أيت وراين: أبطال سلكوا درب الحرية

 

 

 

 

الأمازيغية في كتاب:

 

"من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"

 

بقلم: محمد بودهان

 

(01 ـ 03 ـ 2019)

 حضور قوي ولافت للأمازيغية:

كل من يقرأ مؤلفات الأستاذ حسن أوريد سيلاحظ مدى الحضور القوي واللافت للأمازيغية في كتاباته، سواء الروائية أو الفكرية. وقد حظيت باهتمام خاص في كتابه "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب" (مطبعة النجاح لجديدة، الدار البيضاء، 2018، 352 صفحة. صدرت طبعته الثانية في 2019)، باعتبارها هي المشكّلة لشخصية المغرب والمغاربة، والتي يقصد بها الهوية، حيث يقول جوابا عن سؤال: "من نحن؟": «فنحن ببساطة ساكنة هذه الأرض منذ أن ظهر بها الإنسان[...] نحن إذن أحفاد ساكنة هذه الأرجاء منذ الأزل» (صفحة 19)؛ «نحن غير الشرق، أو على الأصحّ غير بلاد العرب [...] فنحن أمازيغ ومن وفد إلى بلادنا تمزّغ» (صفحة 23)؛ «فالثابت في الشخصية المغربية هو المكون الأمازيغي، ثم العنصر الأندلسي، وإن كان هذا الأخير امتدادا للأول. وما عدا ذلك فمتحوّلات» (صفحة 50)؛ «ينبغي أن نقيم الأمة على أساس، كمن يقيم بناء، ويعتمد مواد بناء، وهذه المواد هي المستقاة من الشخصية المغربية. وقوام هذه الشخصية هو عمقها الأمازيغي، ويحدّد هذا العمقَ حتميةٌ جغرافية un déterminisme géographique، تذكّرنا ما قد نذهل عنه، وهو أننا أفارقة، في أرض إفريقية [...]. أجدادنا هم من أعطى لإفريقيا اسمها، وهم من رفع شعار إفريقيا للأفارقة» (صفحة 51).

ولأن الأمازيغية تكتسي كل هذه الأهمية، فإن تنمية وتطوير اللغة الأمازيغية بات أمرا ضروريا. «ولذلك ـ يقول الأستاذ حسن أوريد ـ أنا حريص على الإبقاء عليها (يقصد اللغة الأمازيغية)، حريص على الارتقاء بها لأنها الأداة التي تمنحني التميّز في هذا المحيط الذي اضطرب به بين غرب ومشرق، وهي التي تذكّرني بكل مراحل تاريخي. أنا محتاج للغة الأمازيغية لأنها الرمز الذي يذكّرني بهذا التميّز الذي يسِم منطقتي، وهي الرمز الذي يحيل إلى هذا المشروع الحديث الذي أحمله» (صفحة 195).

عودة لمناقشة موضوعات شبه قديمة:

إلى هنا كل شيء واضح ومفهوم وبيّن، في ما يخص الهوية الأمازيغية للمغرب، وضرورة الحفاظ على اللغة الأمازيغية والارتقاء بها. لكن من هنا سيبدأ كذلك نوع من الغموض والاضطراب وعدم الحسم بخصوص طبيعة وكيفية الحفاظ على هذه اللغة والارتقاء بها.

 إذا كان الأستاذ أوريد لا يعارض تدريس الأمازيغية من أجل الحفاظ عليها والارتقاء بها، إلا أن حديثه عن هذا التدريس يعبّر عن تردّد وتحفّظ وتخوّف. وهو ما يظهر في إثارته لصعوبات وعوائق هذا التدريس، دون أن يقترح، باستثناء ما يخص مسألة الحرف، حلولا لتجاوزها كما لو أنه مقتنع بأنها قدَر يقف في طريق هذا التدريس دون إمكان إزاحته أو تغييره.

وإذا كان هذا الموضوع/المقال مخصّصا أصلا لمناقشة ما يراه الأستاذ أوريد صعوبات أمام تدريس الأمازيغية، كما عرضها (صعوبات) في كتابه "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"، فهو في نفس الوقت فرصة لمناقشة نفس المواقف التي يتقاسمها معه العديد من المثقفين الناطقين بالأمازيغية، ولا سيما تلك التي تخصّ الحرف المناسب لكتابة الأمازيغية، والعلاقة بين اللهجات واللغة الأمازيغية الموحّدة (لا أحبّذ استعمال مصطلح "معيارية" كما سأشرح ذلك لاحقا).

فرغم أن الأستاذ أوريد يتبنّى، كما كتب، موقف الأنتروبولجي عبد الله الحمودي، موردا كلامه الذي يقول فيه: «والحل يكمن في إصلاح وعقلنة تعليم اللغة العربية بموازاة مع تعليم الأمازيغية والانفتاح الدائم على اللغات الأجنبية [...] فإن المبدأ يكمن في التعدد اللغوي والتركيز على تعليم سليم وناجع للغتين الرسميتين للبلاد» (صفحة 168 ـ 169)، إلا أنه يقول، بعد ذلك بقليل: «ولست أرى فيما نعيشه أننا يمكن أن نستغني عن لغتين، من شأنهما، طالما ارتقينا ببرامجنا ومناهجنا والبيداغوجية المعتمدة، أن تُحسّنا أداء منظومتنا التربوية، هما العربية والفرنسية، وقد أضيف الإسبانية» (صفحة 169). ويتابع: «ولست أعني إقصاء اللغات الأخرى، فلا يمكن أن أبخس الأمازيغية حقها، ولكن في الوقت ذاته ينبغي أن أعي الواقع الذي توجد فيه، فليس يكفي أن أتحذ قرارا لتدريسها لتتم عملية التدريس في يسر للغة ظلت لقرون لغة لا تُدرّس، تعيش وفق ما تتيحها لها قوتها المحركة force motrice. لست أستطيع أن أغيّر هذا الواقع بقرار، ولا بتحفز عاطفة، لا حميّة إيديولوجية» (صفحة 170).

ماذا يعني هذا الكلام؟

"ظلت لقرون لغة لا تُدرّس": 

يعني أن اللغة الأمازيغية ليست ضمن لغات المدرسة التي هما العربية والفرنسية. لكن الأستاذ أوريد يستبق الردّ، على من سيروْن في ذلك إقصاء منه للغة الأمازيغية، بأن هذه الأخيرة «ظلت لقرون لغة لا تُدرّس»، معلّقا أن هذا واقع لا يمكن تغييره بمجرد اتخاذ قرار بتدريسها ولا بتحفز عاطفة ولا بحميّة إيديولوجية.

ـ هذا المنطق، الذي يحاول أن يبرّر به الأستاذ أوريد صعوبة تدريس الأمازيغية، هو نفسه سبب لإقصائها من المدرسة ونتيجة لهذا الإقصاء في نفس الوقت: فإذا كانت الأمازيغية ظلت لقرون لغة لا تُدرّس، فإن التحجّج بذلك كسبب لصعوبة تدريسها للمرة الأولى في تاريخها، واعتبار قرار هذا التدريس مجرد حميّة عاطفية لا تقيم وزنا للواقع،  سيؤدّي، كنتيجة لذلك السبب، إلى منعها من التدريس أصلا ونهائيا، وهو ما سيجعل من ذلك السبب أمرا واقعا وحقيقيا. ذلك أنه كلما كان هناك مشروع لتدريسها، يمكن إفشاله والتخلّي عنه باستحضار أنها «ظلت لقرون لغة لا تُدرّس». فالتذكير بكونها «ظلت لقرون لغة لا تُدرّس» هو تكريس لهذا الوضع وتأبيد له، أي إبقاؤها لغة لا تُدرّس. ولهذا إذا كان هناك من داعٍ لتدريس الأمازيغية، فهو هذا السبب نفسه، وهو أنها «ظلت لقرون لغة لا تُدرّس».

ـ ثم لو كان هذا المنطق سليما ويصحّ الاستناد إليه، لما كانت هناك لغة واحدة تُدرّس، لأن كل لغة تُدرّس اليوم كانت قد «ظلت لقرون لغة لا تُدرّس» مثل الأمازيغية.

بين المعيرة واللهجات:

ومن بين المبرّرات الأخرى التي يوردها الأستاذ أوريد لإقناعنا بوجود صعوبات حقيقية تعترض سبيل تدريس الأمازيغية، تحذيره أن «الانتقال المتسرّع إلى لغة ممعيرة يقطع مع قاعدة المخاطبين» بفروع الأمازيغية، «ويحدّ من وظيفة الحياة التي كان الناشطون يجعلونها مدار تميز الأمازيغية» (صفحة 196). وهو ما جعله يخلص إلى القول: «وإذن لا أستطيع أن أقفز على "اللهجات" من أجل لغة معيارية يُخشى أن تتحول إلى لغة مخبرية، تفقهها ثلة ضئيلة. وأدرك أن للإعلام دورا في تسريع عملية المعيرة، ولكني بذات الوقت لا يمكن أن أبتسر هذا المسار. ويحضرني مثال أمازيغي، "ترمد، تورو أفغول" (أسرعت فوضعت مسيخا)، وهذا الذي أخشاه» (صفحة 197).

إذا كان الرافضون للأمازيغية هم من يرفع عادة، وبسوء نية وبشكل كلبي Cynique لا يخفى على أحد، فزّاعة "اللهجات" واستعمالها كسيف ذي حدّين لقطع الطريق على الأمازيغية حتى لا ترقى إلى مستوى لغة مدرسية وكتابية، وذلك باعتراضهم مرة أولى بأن هذه اللغة شَتات من اللهجات المتفرقة لا تصلح أن تكون لغة مدرسية وتعليمية وكتابية، واعتراضهم مرة ثانية، بعد أن شُرع في توحيدها لوضع حدّ لشتاتها، بأنها لغة اصطناعية ومخبرية، غريبة عن الأمازيغية الطبيعية التي يعرفها المغاربة، فإن الأستاذ أوريد يهوّل هو كذلك، ولو أنه يفعل ذلك بحسن نية وبصدق ونزاهة، من مسألة توحيد (معْيرة) اللهجات الأمازيغية (أستعمل كلمة "اللهجات" بلا مزدوجتين وبدون أي حرج) لأنه يتخوّف، وهو تخوّف مشروع، من أن يُنتج ذلك التوحيد كائنا لسنيا مسيخا، كما قال، مقطوع الصلة بالأمازيغية الحية، المعروفة والمتداولة.

لا شك أن مصطلحات: "أمازيغية معيارية" و"أمازيغية مُمعيرة" وحتى "الأمازيغية المعيار"، التي روّجتها أوساط أكاديمية وبحثية مثل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والبحوث الجامعية حول اللغة الأمازيغية، من شأنها أن تزرع الخوف من فقدان الناطقين بالأمازيغية لأمازيغيتهم الفطرية (لغة الأم) والحية التي يستعملونها في حياتهم اليومية، بعد أن تحلّ محلها "الأمازيغية المعيارية" "المصنوعة" ـ كما يتصوّرون تبعا لما يُشاع بأنها ستكون، قياسا على العربية، لغة "فصحى" غريبة عن الأمازيغية "الدارجة" ـ في مراكز البحث والتهيئة اللغوية، والتي لن يستعملها ولن يفهمها إلا صانعوها، لتبقى لغة نخبوية وغير طبيعة، وأجنبية عن الأمازيغية الفطرية والحية المعروفة.            

ولهذا يُستحسن الاستغناء عن هذه المصطلحات "المعيارية"، وعرض المشكل بصورة مبسّطة ومفهومة: إذا عرفنا لماذا لا يمكن لمغاربة الشمال التفاهم، لا شفويا ولا كتابيا، باستعمال أمازيغيتهم الفطرية مع نظرائهم من سوس الذين يستعملون هو كذلك أمازيغيتهم الفطرية، ربما قد نهتدي إلى الحلّ الذي يجعل الطرفين يتفاهمان شفويا وكتابيا دون أن يتنازل أي طرف منهما عن أمازيغيته الفطرية، أو يكفّ عن الاستمرار في استعمالها الحي واليومي. ما هو هذا الحلّ؟ هذا الحلّ ليس هو بالضرورة "القفز على اللهجات" من أجل أمازيغية "معيارية" يُخشى أن تتحوّل إلى لغة مخبرية، كما يتخوّف من ذلك الأستاذ أوريد، وإنما هو أن يتعلّم مغاربة الشمال أمازيغية سوس (تاشلحيت)، ويتعلّم هؤلاء أمازيغية الشمال (تاريفيت). وبذلك يحصل التفاهم بين المجموعتين الناطقتين بلهجتين أمازيغيتين تفرّق بينهما اختلافات لا يمكن إنكارها، دون أن تتخلّى أية من هاتين المجموعتين عن استمرارها في استعمال أمازيغيتها الفطرية (تاشلحيت وتاريفيت). هذا التفاهم هو الذي سيجعل من أمازيغية الريف وسوس أمازيغية مشتركة، أي ما يسمّى اصطلاحا Une koinè. وهكذا سنربح أمازيغية موحّدة ومشتركة (لا نسميها معيارية)، ونربح في نفس الوقت الاحتفاظ على الأمازيغية كلغة فطرية وحية.

ويتوقّف نجاح هذه المقاربة، تعليميا وبيداغوجيا، ليس على "القفز على اللهجات" أو محو بعضها، بل على تعليم هذه اللهجات نفسها لمختلف التلاميذ، وبشكل وطني موحّد. وليس هذا عملا مستحيلا كما قد يبدو بالنسبة لمن لم يستوعب طبيعة المشكل وطبيعة الحلّ، إذ أن تعليم اللهجات ليس بأكثر من تعليم الاختلافات الموجودة بينها ـ وخصوصا حروف المعاني وأدوات الربط، التي تحول، هي قبل غيرها، دون التفاهم بين متحدثيْن بلهجتين أمازيغيتين مختلفتين؛ وأشكال الصيغ التعبيرية وطريقة النطق عند الاقتضاء؛ وحتى تصريف الأفعال في بعض الحالات... ـ، ليتسنّى لكل ناطق بأمازيغية جهته أن يفهم أمازيغية جهة أخرى لأنه يفهم ويعرف الاختلافات التي تميّز هذه الأمازيغية عن أمازيغيته، وليس إلغاء هذه الاختلافات لتعويضها بلغة "معيارية". وللاطلاع على تفاصيل هذه المقاربة لتوحيد الأمازيغية، تعليميا ومدرسيا، ودون القطع مع الأمازيغية الفطرية،  يمكن الرجوع إلى موضوع: "أي تصوّر وأية مقاربة لتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة؟" على الرابط: http://tawiza.byethost10.com/1tawiza-articles/arabe/enseigner.htm.

عملية جعل الأمازيغية، عن طريق تدريسها، لغة موحّدة ومشتركة لكل المغاربة، تتطلب وقتا كافيا قد يتجاوز الخمسة عشرة سنة، كمرحة تأسيسية ضرورية، ثم تستمر عملية التوحيد بفعل الإنتاج الكتابي والثقافي بالأمازيغية، واستعمالها الشفوي في الإدارة والإعلام ومؤسسات الدولة... فليس هناك إذن تسرّع ولا ابتسار في عملية التوحيد ـ ولا أقول المعيرة ـ، التي تظل متواصلة تبعا لممارسة الكتابة بالأمازيغية واستعمالها في التواصل. 

ولهذا فإن التخوّف من "قتل" الأمازيغية "المُمعيرة" للأمازيغية الفطرية والحية، كما يتوجّس من ذلك الأستاذ أوريد، هو تخوّف مبالَغ فيه،  متولّد عن كلمتي "مُمعيرة" و"معيارية" أكثر مما هو مرتبط بعملية التوحيد المدرسي للغة الأمازيغية. والأستاذ أوريد يعرف أن ذوي النوايا السيئة تجاه الأمازيغية يرفضون، كما سبقت الإشارة، قيام أمازيغية موحّدة ومشتركة بدعوى أنها قد "تقتل" الأمازيغية الفطرية، اللهجية والحية، ليستغلّوا ذلك ويستعملوه لعرقلة تدريس الأمازيغية بتعلّة أنها فروع لهجية، متعددة ومتفرقة. مع أنه إذا كان هناك من داعٍ آخر لتدريس الأمازيغية، فهو هذا السبب نفسه، الذي يجعل تدريسها ضروريا من أجل توحيدها حتى لا تبقى فروعا لهجية، متعددة ومتفرقة.

تيفيناغ:

رغم أن حرف كتابة الأمازيغية موضوع حُسم فيه، رسميا وتعليميا وبيداغوجيا وحتى سياسيا، لما يزيد عن ست عشرة سنة، أي منذ مصادقة الملك، بتاريخ العاشر من فبراير 2003، بعد استشارة وموافقة أغلبية الأحزاب السياسية، على تيفبناغ حرفا رسميا لكتابة وتدريس الأمازيغية، إلا أنه لا زال هناك من يثير الموضوع تعبيرا عن رأيه الشخصي الحر، المخالف لقرار ترسيم تيفيناغ، كما فعل الأستاذ أوريد. ولهذا فإن مناقشة الموضوع مجدّدا هي فرصة للردّ ليس على الأستاذ اوريد لوحده، بل ـ كما سبق أن أوضحت أعلاه ـ على العديد من المثقفين الناطقين بالأمازيغية الذين يرون، مثل الأستاذ أوريد، أن اختيار تيفيناغ كان اختيارا خاطئا لا يخدم مصلحة اللغة الأمازيغية.  

فالأستاذ أوريد يعتبر تيفناغ عائقا لنجاح تدريس الأمازيغية لجميع المغاربة، اعتقادا منه «أن الذي لا يتكلم الأمازيغية يرى في تيفيناغ حاجزا نفسيا» (صفحة 198) لا يشجّعه على تعلّمها ودراستها. ولهذا فهو يفضّل كتابتها بالحرف اللاتيني لتطويرها والارتقاء بها. يقول: «وأنا أريد أن أرتقي بالأمازيغية، وأريدها أن تستوعب غير الناطقين بها، ولا أريدها حاجزا نفسيا، ولذلك أميل إلى تبني الحرف اللاتيني. فإن كنت لا أرضى إلا بالهوية أو الوجدان، فلا شيء يحقق لي ذلك مثل حرف تيفيناغ، وإن كنت أريدها لغة متطورة، فلا أرى سوى هذا الخيار الصعب» (صفحة 199).

1 ـ تفضيل اللاتيني على العربي وليس على تيفيناغ:

إذا كانت غالبية الحركة الأمازيغية تفضّل، قبل ترسيم تيفيناغ، الحرف اللاتيني لكتابة الأمازيغية، فإن ما يجدر التنبيه إليه والتأكيد عليه هو أنها كانت تفضّله على الحرف العربي، الذي كانت ترفضه رفضا باتا، وليس على نيفيناغ الذي كان خارج "معركة الحرف"، ليس لأنه غير صالح أو غير مناسب للأمازيغية، وإنما لأنه كان خارج الصراع، بل خارج "المفكّر فيه" بسبب أنه لم يسبق أن كان جاهزا ومهيّئا ومستعملا بالمغرب، عكس الحرف اللاتيني والحرف العربي. ولهذا إذا كانت هناك دراسات مقارنة بين الحرفين اللاتيني والعربي، تُبرز مزايا ومحاسن الأول وعيوب ومساوئ الثاني، في علاقتهما بتعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية، فإنه لم يسبق لأي مهتمّ بموضوع الحرف أن أجرى مقارنة بين الحرفين اللاتيني وحرف تيفناغ، تُظهر تفوّق الأول على الثاني في ما يخص سهولة تعلّم الأمازيغية بالنسبة للتلميذ. النتيجة أن الدفاع عن اختيار الحرف اللاتيني، لم يكن يعني إطلاقا أن استعمال هذا الأخير هو أفضل وأنسب، على المستوى التقني والبيداغوجي، لتدريس الأمازيغية للتلاميذ، من استعمال حرف تيفيناغ، وإنما كان يعني أنه الأفضل والأنسب من استعمال الحرف العربي.

2 ـ اختيار "ليركام":

بعد ظهير أجدير بتاريخ 17 أكتوبر 2001، المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي كانت إحدى مهامّه المنصوص عليها في الظهير المذكور، هي إعداد الحرف المناسب لكتابة الأمازيغية، كان جلّ نشطاء الحركة الأمازيغية ومثقفيها ينتظرون تبنّي مؤسسة "ليركام" الحرف اللاتيني كحرف رسمي لكتابة وتدريس الأمازيغية. لكن اختيار هذه المؤسسة لتيفيناغ، وهو الاختيار الذي سيرسّمه الملك بالمصادقة عليه، كان مخيّبا لانتظارات معظم النشطاء الأمازيغيين، الذين رأوا في هذا الاختيار "انقلابا" حقيقيا على اختيارات الحركة الأمازيغية، التي كان جلّ مناضليها وفصائلها يفضّلون الحرف اللاتيني. فماذا حدث؟ ولماذا هذا "الانقلاب"؟

إذا كان المختصّون واللسانيون وعلماء التربية يرون أن معايير اختيار الحرف المناسب لكتابة لغة ما، هي تلك المتعلقة بالجانب التقني والبيداغوجي، التي تراعي السهولة والبساطة في الاستعمال والقراءة والكتابة، فإن الأمر ليس كذلك عندما يكون اختيار هذا الحرف ليس شأنا علميا أكاديميا محضا، بل هو رهان سياسي أيضا لأنه اختيار للدولة، مع ما وراءها من جهات وقوى سياسية وحزبية لها وزنها وتأثيرها، قبل أن يكون اختيارا للعلماء والأكاديميين. وفي مسألة اختيار حرف كتابة الأمازيغية، كان هناك حضور قوي لهذه الجهات والقوى السياسية والحزبية، حتى أن الحزب "الإسلامي"، المعروف، هدّد بالنزول إلى الشارع إذا اختير الحرف اللاتيني. ولا شك أنه كان هناك ضغط، صريح أو ضمني، من طرف الدولة، على مسؤولي "ليركام" ليضغطوا بدورهم في اتجاه اختيار غير الحرف اللاتيني، تجنبا للصراع والمواجهة التي تنذر "معركة الحرف" أن تتسبّب فيها. وأمام هذا الواقع، السياسي والإيديولوجي وليس العلمي ولا الأكاديمي، سيتغيّر ترتيب الأولويات عند المدافعين عن الحرف اللاتيني داخل "ليركام"، وحتى عند خصومهم المطالبين بالحرف العربي خارج "ليركام". فأصبحت الأولوية عند أعضاء "ليركام"، المنتمين للحركة الأمازيغية، ليس هي اختيار الحرف اللاتيني، بل هي استبعاد اختيار الحرف العربي، الذي كان التعريبيون، من قوميين وإسلاميين على الخصوص، يضغطون، سياسيا وإعلاميا، من أجل فرضه. كما أن الأولوية عند هؤلاء التعريبيين أنفسهم، لم تعد هي فرض اختيار الحرف العربي، بل هي استبعاد اختيار الحرف اللاتيني.

ومن السهل، بالنظر إلى الصراع السياسي والإيديولوجي الذي صاحب مسألة اختيار الحرف، تأويل اختيار تيفيناغ في النهاية على أنه كان حلا توفيقيا يرضي جميع الجهات التي كانت طرفا في هذا الصراع. بل يمكن القول إن الجهات المناوئة للأمازيغية اعتبرت هذا الاختيار انتصارا لموقفها المناوئ للأمازيغية. لماذا؟ لأنها اعتقدت، كما يعتقد بعض النشطاء الأمازيغيين المدافعين عن الحرف اللاتيتني، أن تيفيناغ هو مقبرة الأمازيغية ونهاية لها.

3 ـ اختيار سياسي لصالح الأمازيغية:

 إذا كان إقرار حرف تيفيناغ من طرف "ليركام" يبدو، بسبب السياق السياسي الذي تم فيه هذا الإقرار، أنه اختيار سياسي كحل توفيقي لصالح جهات سياسية، بما فيها الدولة، كانت طرفا في "معركة الحرف"، فإن ما سيتبيّن، في ما بعد، هو أن هذا الاختيار هو اختيار سياسي حقا، ولكن لصالح الأمازيغية، وليس لصالح جهات أخرى. كيف ذلك؟  

بعد ظهير أجدير بتاريخ 17 أكتوبر 2001، الذي كان اعترافا سياسيا رسميا من الدولة بالهوية واللغة الأمازيغيتين، ساد الاعتقاد في الأوساط الأمازيغية أنه، بعد هذا الاعتراف الثوري والتاريخي، لم يعد هناك داعٍ لاستمرار النضال والدفاع عن الأمازيغية كهوية وكقضية سياسية، إذ أن ما تحتاجه، اليوم، بعد أن انتقلت مما هو هوياتي وسياسي إلى ما هو ثقافي ولغوي، ليس مطالب ذات طبيعة هوياتية وسياسية، حسمت فيها الدولة واعترفت بها سياسيا ورسميا في ظهير أجدير، وإنما إجراءات ذات طبيعة تقنية وعلمية تجيب ليس عن سؤال "لماذا؟"، وإنما عن سؤال "كيف؟"، مثل: كيف نكتب الأمازيغية؟ كيف ندرّس الأمازيغية؟ كيف نحافظ على التراث الأمازيغي وننمّي الثقافة الأمازيغية؟...

لكن بعد مرور أكثر من خمس سنوات على صدور ظهير أجدير، سيتّضح أن ما أعلنت عنه الدولة من اعتراف بالأمازيغية وعزمها على تنميتها وتعميم تدريسها، كما جاء ذلك في الظهير المذكور، لم يُنجز منه إلا نزْر قليل لم يتعدّ حدود ما هو رمزي، مع إفشال مقصود لقرار تدريس الأمازيغية. وهو ما يترجم غياب إرادة سياسية، جدية وحقيقية، لنهوض جدي وحقيقي بالأمازيغية. الشيء الذي كان وراء انسحاب سبعة أعضاء من مجلس إدارة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية احتجاجا على هذا الغياب لإرادة سياسية جدية وحقيقية في التعامل مع الأمازيغية.

ما علاقة كل هذا بالحرف؟ علاقته هو أن غياب إرادة سياسية جدية وحقيقية لنهوض جدي وحقيقي بالأمازيغية، كما كتبت، يُرجع القضية الأمازيغية إلى ما كانت عليه قبل ظهير أجدير، أي كقضية سياسية في طبيعتها وحقيقتها. وهنا سيعي المناضلون الأمازيغيون أن الحرف اللاتيني، إذا كانوا يعتبرونه هو المناسب لغويا للأمازيغية كقضية لغوية وثقافية، فإن الحرف المناسب لها سياسيا وهوياتيا كقضية سياسية وهوياتية، هو حرفها التاريخي الأصيل تيفيناغ. لماذا؟ لأن استعماله هو وسيلة لإثبات واسترجاع الهوية الأمازيغية، وفي نفس الآن هو أداة سياسية للنضال السياسي من أجل الاعتراف السياسي الحقيقي بالأمازيغية كقضية سياسية وهوياتية قبل أن تكون قضية لغة وثقافة، كما خُدعنا بذلك عند تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.

وهذا ما يفسّر لماذا أصبح حرف تيفيناغ يُرعب التعريبيين المناوئين للأمازيغية، الذين كانوا يظنّون أنه سيشكّل مقبرة لها، حتى أنهم لم يجدوا من وسيلة لمحاربته إلا الافتراء أنه سبب تعثّر تدريس الأمازيغية، مع أن هذا التدريس لم يسبق أن شُرع فيه بعدُ بالجدية والشروط المطلوبين. أما الحقيقة، إذا ربطنا تعثر هذا التدريس بحرف تيفيناغ، فسيكون ذلك ليس فقط تعثّرا بل إفشالا مقصودا لهذا التدريس بهدف قطع الطريق أمام حرف تيفيناغ، الذي يمنح الأمازيغية استقلالا تاما ووحدة متكاملة، كهوية ولغة ورسم يرمز هو نفسه إلى هذه الهوية وهذه اللغة.

4 ـ تفوّق تيفيناغ على الحرف اللاتيني:

سبق أن قلت إن الدفاع، قبل ترسيم تيفنياغ، عن الحرف اللاتيني كحرف أفضل للأمازيغية، كان يعني أنه أفضل من الحرف العربي الذي كان مرشّحا هو كذلك لأن يكون حرفا لكتابة وتدريس الأمازيغية، وليس أفضل من تيفيناغ الذي كان خارج المقارنة والمنافسة، وخارج "المفكّر فيه" كحرف قد يُستعمل لتدريس الأمازيغية. أما بعد ترسيم تيفيناغ ثم تهيئته وإعداد أبجديته وأصبح بذلك جاهزا للاستعمال، فسيدخل إلى حلبة المنافسة والمقابلة بينه وبين الحرف اللاتيني، لإبراز محاسنه أو عيوبه مقارنة مع الحرف اللاتيني. فماذا تقول هذه المقارنة بين الحرفين؟

إذا كان صحيحا أن اختيار حرف تيفيناغ ذو علاقة بالهوية والوجدان، كما كتب الأستاذ أوريد، فإنه غير صحيح إطلاقا أن الحرف اللاتيني هو القادر وحده أن يجعل الأمازيغية لغة متطورة. مما يعني بمفهوم المخالفة أن الحرف الأمازيغي قد يكون عائقا لهذا التطور. وهذا غير صحيح. لماذا؟

لأن حرف تيفيناغ، إذا كان يتفوّق على الحرف اللاتيني في ما يخص الارتباط بالهوية والوجدان، فهو يتفوّق عليه أيضا تقنيا ويبداغوجيا. لن أحيل السيد أوريد، لإقناعه بذلك، على الدراسة التشخيصية التي أجراها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2010 بتنسيق مع وزارة التربية الوطني، والتي كشفت أن التلاميذ يتمكّنون بسهولة كبيرة، لا مجال لمقارنتها بالصعوبات التي تعترضهم في تعلّم قراءة وكتابة العربية والفرنسية، من تعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية بحرف تيفيناغ. لن أحيله على هذه الدراسة لأنه مؤهّل لأن يقارن بنفسه بين تعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية باستعمال الحرف اللاتيني وتعلّم ذلك باستعمال حرف تيفيناغ، ليخلص، وهو شيء ساطع لا يستطيع إنكاره شريطة أن يقارن بين الحرفين، ليس انطلاقا من حكمه المسبق أن الحرف اللاتيني حرف كوني تستعمله أشهر اللغات العالمية، وإنما بناء على خصائص كل من الحرفين في علاقتهما بسهولة أو صعوبة تعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية بهذا الحرف أو ذاك، (ليخلص) إلى أن تعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية بتيفيناغ أسهل وأبسط من استعمال الحرف اللاتيني، الذي يتطلّب تعلّمه واستعماله ضبط كتابته بصيغ أربع حسب ما إذا كانت الكتابة يدوية ومتصلة Cursive تُرسم حروفها بالشكلين الصغير أو الكبير Minuscule ou majuscule، أو كانت آلية ومنفصلة تُرسم حروفها كذلك  بالشكلين الصغير أو الكبير. قد تبدو هذه المسألة بسيطة بل "تافهة" بالنسبة للأستاذ أوريد وغيره من المدافعين عن الحرف اللاتيني، لأنهم متعلمون وراشدون اعتادوا على كتابة الحرف اللاتيني بأشكاله الأربعة دون أية صعوبة تُذكر. لكن بالنسبة للتلميذ، فإن ضبط تلك الأشكال الأربعة يتطلّب كلفة إضافية في الوقت والجهد، أي أنه يزيد من صعوبة تعلّم القراءة والكتابة بهذا الحرف. هذه الصعوبة لا يدركها ولا يعيها إلا من خبرها ميدانيا من معلمي اللغة الفرنسية مثل كاتب هذه السطور، الذي لا زال يتذكّر كيف كان تلاميذ المستوى الخامس (السنة النهائية للتعليم الابتدائي في النظام القديم)، وفي زمن كان فيه التعليم بالمغرب ناجحا ومتقدّما، يجدون صعوبة في قراءة وكتابة ـ على الخصوص ـ تلك الحروف بشكلها المطلوب حسب السياق، رغم أنهم درسوا الفرنسية لمدة ثلاث سنوات.   

أما القول بأن الكتابة اليدوية المتصلة هي من بين ما يجعل الحرف اللاتيني متفوقا على حرف تيفيناغ، كما يكرّر مفضّلو الحرف الأول، فهو زعم أساسه حكمهم المسبق أن هذا الحرف كوني تستعمله أشهر اللغات العالمية، كما قلت. وهو ما يجعلهم ينظرون إلى كل ما يوجد في هذا الحرف ولا يوجد في تيفيناغ على أنه امتياز للأول على الثاني. مع أنه من الممكن، رسما وتقنيا، كتابة تيفيناغ بطريقة يدوية متصلة، كما يقترح بعض الباحثين. وهو ما أعارضه بشدة لأنه مجرد تقليد للحرف اللاتيني فرضته هيمنة وشهرة هذا الحرف دون أن تكون لذلك أية فائدة، كأن تجعل الكتابة أسهل وأبسط بتيفيناغ، أو أسرع كما يعتقدون.

يضاف إلى هذه الصعوبة المرتبطة بضبط أشكال أربعة لكتابة الحرف اللاتيني، الاستعمالُ الضروري، ولو على قلته، لعلامات تمييزية Diacritique ترسم فوق أو تحت السطر لتكييف الحرف اللاتيني المعدّل مع النظام الصوتي للغة الأمازيغية. وإذا كان يبدو لنا أن هذه العلامات لا تطرح مشكلا، وخصوصا أنها مستعملة عند لغات أخرى مثل التركية والمالطية، فليس الأمر كذلك بالنسبة للتلميذ الذي ستسبّب له التباسا وتشويشا في ضبط القواعد الإملائية لكتابتها، وحتى خلطا بين النطق بالحرف مقرونا بتلك العلامة والنطق به بلا علامة. وهذا ما يتطلّب كلفة إضافية في الوقت والجهد لتعلّم الكتابة بهذه الحروف بعلاماتها التمييزية. هذا دون الكلام عن الجانب الجمالي الذي يضحّي به هذا الاستعمال للعلامات التمييزية.

أما الحرف الأمازيغي فتعلّمه سهل وبسيط، تقنيا وبيداغوجيا. وعندما أقول "بيداغوجيا" فإني أعني بذلك استعماله لتعلّم الأمازيغية للطفل/ التلميذ الذي لا يعرف الكتابة بأية لغة ولا بأي حرف. لماذا هو سهل وبسيط؟ لأن كل رسم فيه يقابله صوت واحد، مما يجعل الكتابة صوتية Ecriture phonétique يطابق فيها المكتوب المنطوق، إلا في حالات قليلة معدودة يختلف فيها المكتوب عن المنطوق Ecriture phonologique لضرورة تفرضها قواعد النحو الأمازيغي.

هذه السهولة لتعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية بحرف تيفيناغ لدى الصغار (التلاميذ)، هو ما يفسّر أن التلاميذ غير الناطقين بالأمازيغية لا يختلفون ـ كما لاحظ ذلك غالبية أساتذة اللغة الأمازيغية رغم ما أن تدريس الأمازيغية مشرع تم إفشاله ـ في قدراتهم على سهولة تعلّم الأمازيغية عن زملائهم الناطقين بالأمازيغية. بل الكثير من أساتذة الأمازيغية يؤكدون أن التلاميذ غير الناطقين يتفوّقون في الغالب على التلاميذ الناطقين بالأمازيغية.

وعلاقة بهذا التفوّق للتلاميذ غير الناطقين بالأمازيغية، أورد قصة واقعية، أبطالها لا زالوا أحياء يُرزقون، ملخصّها أن أحد الآباء حضر إلى مدرسة بطنجة فتحت بها أقسام لتدريس الأمازيغية، وأبلغ مديرها أنه لا يريد لابنه أن يدرس الأمازيغية وسوف لا يحضر حصصها، وطلب منه أن لا يسجّله متغيّبا، ولا أن يختبر في الأمازيغية، ولا أن يُحتسب ذلك ضمن النقط المحصّل عليها. لكن المدير أفهمه أن وزارة التربية قررت تدريس الأمازيغية مثل المواد الإجبارية الأخرى، وأن ابنه ملزم بذلك وإلا ستطبّق في حقه الإجراءات المعمول بها في مثل هذه الحالات. وفي آخر السنة سيتفاجأ ذاك الأب بأن ابنه نال النقطة الأعلى في مادة الأمازيغية، وهو ما ساهم في حصوله على معدّل نجاح مرتفع. إلا أن المفاجأة الكبرى كانت عندما حضر هذا الأب حفل آخر السنة الدراسية فتفرّج على عرض مسرحي بالأمازيغية لعب فيه ابنه دورا رئيسيا، متحدثا بالأمازيغية التي كان يكرهها أبوه ولا يريد أن يتعلّمها ابنه. وقد جعله تفوّق ابنه في الأمازيغية أن يغيّر نظرته إليها كما صارح بذلك مدير المؤسسة.

الخلاصة أن المدافعين عن خيار الحرف اللاتيني لا يستطيعون ـ وأنا أتحدّاهم أن يحاولوا ذلك ـ أن يثبتوا، علميا وتقنيا وتربويا وبيداغوجيا، أن هذا الحرف هو أفضل من تيفيناغ لتعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية بالنسبة لتلميذ لم يسبق له أن تعلّم ولا استعمل لا الحرف اللاتيني ولا حرف تيفيناغ. وأشدّد على عبارة "تلميذ لم يسبق له أن تعلّم ولا استعمل لا الحرف اللاتيني ولا حرف تيفيناغ"، لإبراز أن المشكل ذو طبيعة بيداغوجية، بالمعنى الأصلي اليوناني لكلمة "بيداغوجيا" التي تحيل على الطفل، ولتأكيد أن مسألة الحرف الأفضل تخصّ تعليم الأمازيغية من البداية، أي عند الصغار الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة بأي حرف، ولا علاقة لها إطلاقا بالكبار الذين تعلّموا سابقا استعمال الحرف اللاتيني.

إذا لم يستطع هؤلاء المدافعون عن الحرف اللاتيني لكتابة الأمازيغية إثباتَ تفوّقه على تيفيناغ، علميا وتقنيا وبيداغوجيا على الخصوص، فلماذا يستمرّون في الدعوة إلى مراجعة قرار كتابة الأمازيغية بتيفيناغ، وإلى استبداله بالحرف اللاتيني؟

5 ـ تصوّر عامّي:

لأن تفضيلهم للحرف اللاتيني على تيفيناغ يقوم، ليس على معطيات علمية وتقنية وبيداغوجية، كما قلت، وإنما يقوم على تصوّر عامّي، منتشر عند الكثير من المثقفين الناطقين بالأمازيغية. هو تصوّر عامّي لأن المدافعين عنه ينطلقون من معاينة أن الحرف اللاتيني هو الحرف الذي تُكتب به اللغات الراقية والمتطوّرة، المنتجة للعلم والمعرفة والتقنية، مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية...، فيستنتجون من ذلك، بناء على منطق تماثلي وظاهري فيه غير قليل من التبسيط والسذاجة، أن استعماله لكتابة وتدريس الأمازيغية سيوفّر لها شروطا أفضل للتطور والارتقاء، مثلما وفّر تلك الشروط لتلك اللغات المتطورة بفضل استعمالها لهذا الحرف اللاتيني، كما يعتقدون. مع أنه يكفي أن نستشهد بمستوى التقدم الاقتصادي والعلمي والمعرفي الكبير لدول لا تستعمل لغاتُها الحرف اللاتيني، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، لتبيان أن الحرف اللاتيني ليس شرطا ملازما بالضرورة للتقدّم والعلم والتطور.

النتيجة أنه إذا كان حرف تيفيناغ يساهم في تعلّم التلميذ قراءة وكتابة الأمازيغية بطريقة أسهل وأبسط وأسرع من الحرف اللاتيني، ويرمز في نفس الوقت إلى الهوية واللغة الأمازيغيتين، ويعبّر في نفس الآن عن المظهر السياسي للأمازيغية كقضية سياسية، فإن الدعوة إلى استبداله بالحرف اللاتيني، رغم كل امتيازاته عن هذا الأخير، ستكون ضربا من الحذلقة والتعالم، بداعي الإحساس، لدى أصحاب هذه الدعوة، أنهم منخرطون حقا في الحداثة ومسايرون فعلا لروح العصر.

6 ـ هل يشكّل تيفيناغ «حاجزا نفسيا»؟

من الأسباب الأخرى التي يراها الأستاذ أوريد مسوّغة لاستعمال الحرف اللاتيني بدل تيفيناغ قوله إن هذا الأخير يشكّل «حاجزا نفسيا» لغير الناطقين بالأمازيغية.

ـ لماذا سيشكّل تيفيناغ "حاجزا نفسيا" لغير الناطقين بالأمازيغية؟ قد يرجع ذلك إلى كونه حرفا غريبا عليهم، لأنه جديد لم يسبق أن استعملوه ولا ألِفوه، عكس الحرف اللاتيني الواسع الانتشار بالمغرب، والذي هو حرف معروف، أنسُوه وتعوّدوا على مشاهدته واستعماله. إذا كانت "غرابة" تيفيناغ، بسبب جدّنه ولكونه حرفا غير معروف ولا مستعمل، هي ما قد يفسّر أفضلية الحرف اللاتيني على الحرف الأمازيغي، فلماذا ستخصّ تلك "الغرابة" فقط غير الناطقين بالأمازيغية؟ أليس معظم الناطقين بها هم أيضا يجهلون تيفيناغ لكونه حرفا جديدا عليهم، لم يسبق أن تعلّموه في المدرسة، ولا استعملوه ولا مارسوا به القراءة والكتابة؟ ليس هناك إذن أي مبرر، منطقي ولا واقعي، للتمييز بين الناطقين وغير الناطقين بالأمازيغية في علاقتهم بتيفناغ.

 ـ ثم إذا كان هذا الاستدلال، على أفضلية الحرف اللاتيني، صحيحا، فهو أصحّ بالنسبة للحرف العربي الأكثر انتشارا ورواجا واستعمالا وألْفَة ومشاهدة. وتطبيقا لمنطق "الحاجز النفسي"، فيجب إذن اختيار الحرف العربي، وليس اللاتيني، لكتابة الأمازيغية. فهذه الحجة التي يلجأ إليها الأستاذ أوريد وغيره من المدافعين عن اختيار الحرف اللاتيني، هي نفس الحجة، الأهم والأقوى، التي يستند إليها التعريبيون في دفاعهم عن اختيار الحرف العربي لكتابة الأمازيغية. هكذا يخدم منطق "الحاجز النفسي" منطق المدافعين عن الحرف العربي، دون أن ينتبه أصحاب الحرف اللاتيني إلى هذا التناقض الذي يقعون فيه، ولا إلى هذه الخدمة التي يقدّمونها للمدافعين عن الحرف العربي لكتابة الأمازيغية.

 ـ وحتى إذا صحّ وجود هذا "الحاجز النفسي" الذي لا يشجّع غير الناطقين بالأمازيغية على تعلّمها، فسيكون السؤال هو: ولمَ يكون الحرف هو الذي يشكّل «حاجزا نفسيا» لغير الناطقين بالأمازيغية؟ ألا يمكن أن يكون جهلهم بالأمازيغية هو "الحاجز النفسي" الحقيقي الذي لا يشجّعهم على تعلّمها؟ وبالتالي ألا يكون نفورهم المفترض من حرف تيفيناغ هو نفور من الأمازيغية نفسها وليس من حرفها تيفيناغ؟ وفي هذه الحالة فإن استعمال أي حرف لكتابة الأمازيغية لن يجعلهم يحبّونها ويقبلون على تعلّمها. والحلّ الوحيد هو التدريس الإجباري للأمازيغية كلغة رسمية ووطنية لجميع التلاميذ في سن التمدرس، بدءا من التعليم الابتدائي، حتى لا تشكّل، هي ولا حرفها تيفيناغ، "حاجزا نفسيا" لهم على غرار آبائهم. وبعد ثلاثة أجيال (حولي 45 سنة) من المغاربة الذين يكونون قد درسوا وتعلّموا الأمازيغية في المدرسة على غرار العربية والفرنسية، سوف لن يبقى هناك مغاربة تشكّل الأمازيغية وحرفها تيفناغ "حاجزا نفسيا" بالنسبة لهم يمنعهم من تعلّمها، لأن الجميع يكون قد درسها وتعلمها ويمارس كتابتها بحرفها تيفيناغ. فالناس أعداء ما يجهلون، كما يُنسب ذلك لعي بن أبي طالب.

ـ ولهذا فالكلام عن تيفيناغ، أو الأمازيغية، كـ"حاجز نفسي" لغير الناطقين بها، هو كلام خارج السياق وخارج الموضوع الذي هو تدريس الأمازيغية. لماذا؟ لأننا عندما نناقش تيفيناغ كحرف لكتابة الأمازيغية، فذلك في علاقته بتدريسها وتعلّم قراءتها وكتابتها مدرسيا. ولذلك فإن وجود مغاربة، ناطقين أو غير ناطقين بالأمازيغية، يمنعهم تيفيناغ من الإقبال على تعلّمها لأنهم يفضّلون الحرف اللاتيني أو الحرف العربي، اللذيْن ألفوا استعمالهما، لا يؤثّر إطلاقا على طبيعة استعمال تيفيناغ لكتابة وتدريس الأمازيغية. لماذا؟

لأن تدريس الأمازيغية بحرفها تيفيناغ لا يتوجّه إلى الكبار والمتعلّمين ممن يتقنون استعمال الحرف اللاتيني والعربي، والذين يشكّل حقا هذا الحرف الأمازيغي، بالنسبة لهم، "حاجزا نفسيا" لتعلّم الأمازيغية. وإنما يتوجّه هذا التدريس إلى الصغار البالغين سنّ التمدرس، والذين لا يجيدون استعمال أي حرف، لاتينيا كان أو عربيا، حتى يفضّلوه على تيفيناغ. فكل الحروف متساوية عندهم من حيث ما يُعتبر "حاجزا نفسيا". فالخطأ الفادح الذي وقع فيه أصحاب منطق "الحاجز النفسي" لتيفناغ، هو أنهم يُسقطون نظرتهم الشخصية والذاتية إلى تيفيناغ، الذي هو "حاجز نفسي" بالنسبة لهم، على مجموع عملية تدريس الأمازيغية وكتابتها باستعمال تيفيناغ، جاعلين من نفورهم من هذا الحرف، بسبب إتقانهم الكتابة بالحرف اللاتيني ـ وكذلك الحرف العربي بالنسبة لمن ينادون باستعمال هذا الحرف ـ، قاعدة تسري على صغار التلاميذ، الذين سيبدأون للمرة الأولى في حياتهم تعلّم القراءة والكتابة، اللتيْن لم يسبق لهم أن تعلّموهما ولا مارسوهما بأي حرف، لاتينيا كان أو أمازيغيا أو عربيا.

فـ"الحاجز النفسي" الحقيقي لتعلّم الأمازيغية، إذا جاز أن نتحدّث عن "حاجز نفسي"، هو هؤلاء المثقفون، الناطقون وغير الناطقين بالأمازيغية، الذين يصعب عليهم التخلّي عن الحروف التي اعتادوا الكتابة بها ليتعلّموا الكتابة بحرف جديد هو تيفناغ. أما التلميذ/الطفل فلن يتخلّى عن أي حرف سبق أن تعلّمه عندما يشرع في تعلّم قراءة وكتابة الأمازيغية بحرفها تيفيناغ. فمشكلة الأمازيغية، بخصوص الحرف المناسب لها، ليست مشكلة الصغار وإنما هي مشكلة الكبار، الذين يشكّلون، كما قلت، "الحاجز النفسي" الحقيقي أمام تعلّم المغاربة قراءة وكتابة الأمازيغية بتيفيناغ. وقد رأينا كيف رفض أحد الآباء أن يدرس ابنه الأمازيغية، حتى فاجأه بالتفوّق فيها والتحاور بها في مسرحية أمازيغية. فالعائق الحقيقي أمام الأمازيغية هم الكبار وليس الصغار، هم الآباء وليس الأبناء. 

ـ من جهة أخرى، إن تدريس الأمازيغية بحرفها تيفيناغ هو قرار للدولة، ملزم للجميع، ككل قراراتها، بغض النظر عن موقف هؤلاء أو أولئك من هذا الحرف أو ذاك. فالسيد أوريد، عندما ينبّهنا إلى أن تيفناغ قد يشكّل "حاجزا نفسيا" لغاير الناطقين بها، ينظر إلى تعلّم الأمازيغية كما لو أنها مسألة أفراد واختيارات شخصية، مثلما كان الأمر عند مناضلي الحركة الأمازيغية، الذين تعلّموا كتابتها باجتهاداتهم الشخصية. ولذلك نجد فيهم من كتبها بالحرف اللاتيني أو العربي أو تيفيناغ، وكان يرى في الحرفين الآخرين "حاجزا نفسيا"، حسب تقديره وتكوينه وموقفه، وما ينتظره من تعلّم وكتابة الأمازيغية. أما مشروع تدريس الأمازيغية، وبحرفها تيفيناغ، فهو ليس اختيارا شخصيا ومزاجيا تابعا لتقدير الأشخاص ومستوى تكوينهم وطبيعة موقفهم من الأمازيغية، وما ينتظرونها من تعّلمها وكتابتها، وإنما هو اختيار للدولة، تلزم به الجميع، الناطقين وغير الناطقين بالأمازيغية، وبمن فيهم أولئك الذين يرون في تيفناغ "حاجزا نفسيا".

إقصاء الأمازيغية من التعليم:

النتيجة أن هذه الصعوبات، التي ذكرها الأستاذ أوريد بخصوص تدريس الأمازيغية، هي بمثابة تعلّات ترمي إلى إقناعنا أن الأمازيغية لا يمكن تدريسها مثل العربية أو الفرنسية بسبب هذه الصعوبات/التعلّات. وهو ما لخّصه بقوله: «ولذلك فجوابي في ما يخص لغات التعليم هو أن ندرس بالعربية والأمازيغية والفرنسية (مع الإسبانية في المناطق التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي)، شريطة أن أعي وظيفة كل لغة وأن أسلك سبيل التدرج في التدريس. فأنا في مستوى الوجدان، في التعليم ما قبل المدرسي أدرّس بدارجة منقحة، وبأمازيغية لا تجانف واقع التلميذ الناطق بالأمازيغية، ثم أنتقل إلى العربية فلا أثقل المتعلم بالقواعد» (صفحة 200).

ماذا نفهم من هذا الكلام؟ هو كلام يؤكد على تدريس الأمازيغية، ولكن من أجل إقصائها من هذا التدريس. كيف ذلك؟ فالأستاذ أوريد عندما يقول علينا «أن ندرس بالعربية والأمازيغية والفرنسية»، فهو لا يمهلنا حتى نبتهج لهذا الحلّ الذي يضم تدريس الأمازيغية بجانب العربية والفرنسية، إذ ينبّهنا بعد ذلك مباشرة إلى أنه حلّ مشروط بالوعي بوظيفة كل من هذه اللغات الثلاث. وهنا يخصّص للأمازيغية، وللدارجة أيضا، وظيفة استعمالها "الوجداني" المناسب لمستوى الطفل في التعليم ما قبل المدرسي، تهييئا لانتقال التلميذ إلى العربية. واضح إذن أن وظيفة الأمازيغية، عبر استعمالها "الوجداني" في مرحلة التعليم ما قبل المدرسي، هي أن تهيئ التلميذ للغة التعليم المدرسي، وهي اللغة العربية وبعدها الفرنسية. وظيفة الأمازيغية تنتهي إذن عندما ينتقل الطفل من التعليم ما قبل المدرسي إلى التعليم المدرسي. وهذا يعني إقصاء للأمازيغية من هذا التعليم المدرسي، أي من التعليم النظامي.

وهذه الوظيفة التي يخص بها الأستاذ أوريد الأمازيغية لتلعب دور إعداد التلميذ، في التعليم ما قبل المدرسي، للانتقال إلى تعلّم العربية كلغة للتعليم المدرسي، ليست شيئا جديدا، بل سبق أن أسند "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" للأمازيغية هذه المهمة منذ 1999، حيث تنص مادته 115 على ما يلي: «یمكن للسلطات التربویة الجھویة اختیار استعمال الأمازیغیة أو أیة لھجة محلیة للاستئناس وتسھیل الشروع في تعلم اللغة الرسمیة في التعلیم الأولي وفي السلك الأول من التعلیم الابتدائي». ويجدر التذكير، بخصوص هذه الوظيفة "الوجدانية" للأمازيغية في التعليم ما قبل المدرسي، أن "الميثاق"، عندما منحها هذه الوظيفة «للاستئناس وتسهيل الشروع في تعلّم اللغة الرسمية»، لم تكن لغة رسمية آنذاك. فالأستاذ أوريد يعود بالأمازيغية إذن، وهي لغة رسمية منذ دستور 2011، إلى الوضع الذي كانت فيه اللغة الرسمية الوحيدة هي العربية. ويعود بها كذلك القهقرى إلى ما قبل قرار تدريسها الذي أُعلن عنه منذ 2003، حيث ولجت المدرسة رسميا في التعليم الابتدائي، في حين أنه يقترح لها ولوج التعليم ما قبل المدرسي فقط، بعد أزيد من خمس عشرة سنة من ولوجها التعليم الابتدائي، في الوقت الذي يقتضي فيه إنصافُ اللغة الأمازيغية الترافعَ والعملَ ـ وحتى الكفاح ـ من أجل إنفاذ وإنجاح قرار تدريسها بدءا من التعليم الابتدائي، وليس الاكتفاء باستعمالها "الوجداني" في التعليم ما قبل المدرسي.

البدء من النهاية بدل البداية:

الأستاذ أوريد يوصي «بأن يبدأ تعليم الأمازيغية من فوق فما أسفل، أي من الجامعة، فالثانوية فالتعليم الأساسي الثاني، وأخيرا التعليم الأساسي الأول. لا يمكن أن نبتسر المراحل ابتسارا» (صفحة 200)، كما كتب. وهذا يدلّ على أنه غير مقتنع أن الأمازيغية يمكن أن تُدرّس كلغة إجبارية وموحّدة، بدءا، ليس من النهاية كما يقترح، بل من البداية، أي من الأسفل إلى الأعلى وفقا للمسار الطبيعي لتدريس وتعليم اللغات الرسمية والوطنية، الذي ينطلق من الطفل/ التلميذ، وليس من الراشد/ الطالب الجامعي.

أما بدء تعليمها من المستوى الجامعي، فسيُبقيها لغة نخبوية لا يتعلّمها إلا من وصل إلى الجامعة، مما لا يسمح لها أن تحقّق دورة Cycle إعادة إنتاج نفسها كلغة إنتاج كتابي وثقافي وفكري، تستعمل في الإدارة والإعلام والتواصل. يضاف إلى ذلك أن نسبة قليلة من مجموع الذين يلجون المدرسة المغربية يوفّقون في الولوج إلى الجامعة. أما تدريسها الإجباري لجميع التلاميذ الممدرسين بدءا من التعليم الابتدائي، فسيجعل غالبية المغاربة، بعد مدة قد لا تتجاوز خمسة عشر سنة على انطلاق تدريسها الإجباري هذا، يتعلمونها ويكونون قادرين على قراءتها وكتابتها حتى لو انقطعوا عن الدراسة قبل مرحلة التعليم الثانوي الإعدادي.

أما إنشاء مراكز للبحث حول اللغة الأمازيغية، وخلق شعب للتخصّص فيها، فذلك ما سيكون مكانه المناسب هو الجامعة، وليس بدء تدريسها من هذا المستوى العالي من التعليم، كما لو كانت لغة تتوفر على دورة إعادة إنتاج نفسها كلغة كتابية، أو لغة أجنبية مثل العبرية أو الفارسية أو الصينية، حيث لا يُنتظر من هذه اللغات أن تحقق دورة إعادة إنتاج نفسها كلغات وطنية ورسمية مغربية.

إذا كان "الابتسار" يعني لغويا "القيام بما لم يحن وقته بعدُ، التسرّع في استعمال ما لم تتوفر شروط استعماله بعدُ، قطف فاكهة لم يكتمل نضجها بعدُ..."، فإن "ابتسار" مراحل تعليم الأمازيغية، الذي (الابتسار) يتخوّف منه الأستاذ أوريد ويبني عليه اقتراحه أن يبدأ هذا التعليم من الجامعة، يصدق على بدء تعليم الأمازيغية من الجامعة، إذ الطالب بهذا المستوى الجامعي يُفترض فيه أن يكون متمكّنا من اللغات التي درسها منذ الابتدائي والإعدادي، فيتوسّع في المرحلة الجامعية في دراستها أو التخصّص فيها. وهو ما يعني أنه لم يتمكّن من إتقان تلك اللغات في المستوى الجامعي إلا لأنه تعلّمها عبر أطوار دراسية سابقة، وفي مراحل مناسبة لمستواه العمري والمدرسي. أما تعليمه اللغة الأمازيغية في هذا المستوى الجامعي، فهذا يعني القفز على المراحل "الطبيعية" السابقة، من تعليم ابتدائي وإعدادي وثانوي، وهو ما سيعطي أمازيغية "مبتسرة" وغير "ناضجة" لأنها لم تمر من مراحلها الطبيعية. وهذا هو "الابتسار" الحقيقي الذي يحذّرنا منه الأستاذ اوريد. فـ"الابتسار" واضح، ويتجلى في أن أمازيغية الجامعة لم تسلك طريق "نضجها" الطبيعي الذي هو تدريسها بدءا من التعليم الابتدائي.

موت الأمازيغية:

إذا كان تعليم الأمازيغية سيبدأ من الأعلى، أي من التعليم الجامعي، ويقتصر في المستوى الأدني على التعليم ما قبل المدرسي، فالنتيجة أن الأمازيغية ستُحرم من التعليم المدرسي الحقيقي، الذي هو وحده القادر على تمكينها من تحقيق دورة إعادة إنتاج نفسها كلغة كتابة وثقافة وفكر وتعليم، بعد الجيل الأول من المتمدرسين الذين يكونون قد تعلّموها وأتقنوها. وقد يؤدّي ذلك، إذا لم يُسرَع بتدريسها الإجباري والموحّد والمتواصل لجميع المغاربة بدءا من التعليم الابتدائي كما شرحت، إلى موتها واختفائها النهائي بعد أقل من أربعة قرون، بالنظر إلى الوتيرة التي يتراجع بها عدد مستعملي الأمازيغية عاما بعد عام.

هذا المصير الذي ينتظر الأمازيغية، ما لم تصبح قادرة على إعادة إنتاج نفسها كلغة كتابية عن طريق تدريسها الإجباري والموحّد لجميع المغاربة في سن التمدرس، يطرح علينا وعلى الأستاذ أوريد السؤال التالي: إذا كانت اللغة الأمازيغية هي «الأداة التي تمنحني التميّز في هذا المحيط الذي اضطرب به بين غرب ومشرق، وهي التي تذكّرني بكل مراحل تاريخي. [...] وهي الرمز الذي يذكّرني بهذا التميز الذي يسِم منطقتي، وهي الرمز الذي يحيل إلى هذا المشروع الحديث الذي أحمله»، كما كتب حسب ما سبقت الإشارة إليه، فكيف سنحافظ على هذا التميّز وهذا الرمز اللذيْن لا وجود لهما إلا بوجود اللغة الأمازيغية؟ أما إذا كان الأستاذ أوريد يعتقد أن اللغة الأمازيغية قد تستمر، لقرون طويلة، في الحضور والحياة وإعادة إنتاج نفسها وانتقالها من جيل إلى آخر بالاستعمال الشفوي فقط، ولو بلا مدرسة ولا كتابة، فأنا، كرأي شخصي، أعتبر ذلك غير ممكن إطلاقا. والقرائن والشواهد على ذلك عديدة لا يتّسع الوقت ولا المكان لعرضها ومناقشتها. ولهذا فإنه من غير الممكن الإبقاء عليها والارتقاء بها، كما يؤكّد على ذلك الأستاذ أوريد، دون الانتقال بها إلى الاستعمال الكتابي والمدرسي عن طريق التعليم والمدرسة.

ختم وخلاصة:

الأستاذ أوريد يدعو في كتابه إلى ثورة ثقافية تستفيد منها الفرنسية كلغة لتدريس العلوم، وكذلك العربية التي بوأها مكانة معتبرة إلى درجة أنه قال عنها بالصفحة 111 من الطبعة الأولى: «ولا نرى نهضة من دونها»، وهو ما راجعه وحذفه من الطبعة الثانية، ربما لما فيه من مبالغة وتناقض مع ما قاله من أن العربية ليست بلغة العلم، الذي هو شرط كل نهضة حقيقية. هذه الثورة الثقافية ستستفيد منها إذن الفرنسية والعربية، إلا الأمازيغية التي سيبقى وضعها الشفوي كما هو، رغم استعمالها في التعليم ما قبل المدرسي أو تدريسها في التعليم الجامعي كشيء كمالي لن يجعلها قادرة على تحقيق دورة إعادة إنتاج نفسها كلغة كتابية ومدرسية، كما سبق أن شرحت. ورغم أن الأستاذ أوريد يؤكد أن هذه الثورة الثقافية لن تتحقق إلا بإجراء قطيعة مع ما هو سائد ومتواتر (صفحة 223)، إلا أنه "يستثني" من ذلك الأمازيغية التي ستبقى على حالها، السائد والمتواتر، كلغة غير مدرسية، لأن السائد هو أنها «ظلت لقرون لغة لا تُدرّس». فأين هو القطع مع ما هو سائد إن لم نقطع مع ما هو سائد في مجال اللغة بالمغرب، حيث تعتبر الأمازيغية مجرد لهجات شفوية لا يمكن تدريسها ولا توحيدها؟ أليس تدريس الأمازيغية كلغة إجبارية وموحّدة هو لوحده ثورة حقيقية، وقطيعة حقيقية مع ما هو سائد ومتواتر؟ أم أن الثورة التي تستحقها اللغة الأمازيغية هي ثورة إلى الوراء، إي الرجوع إلى ما منحه لها "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" منذ عشرين سنة، عندما حصر استعمالها المدرسي في إعداد التلميذ لتعلم اللغة الرسمية التي كانت هي العربية وحدها؟

لا شك أن المناوئين للأمازيغية سيوظّفون، وبشكل كلبي كعادتهم، كما فعلوا بما يُنسب من كلام للسيد أوريد حول ترسيم الأمازيغية والنقاش حول الهوية، موقفَه هذا غير المتحمّس لتدريس الأمازيغية بدءا من البداية، أي من التعليم الابتدائي كلغة إجبارية وموحّدة، (سيوظّفونه) لإعطاء المصداقية والمشروعية لمعارضتهم للتدريس الإجباري الموحّد للأمازيغية، مردّدين: «انظروا وتأمّلوا، فهذا واحد من كبار الكتّاب والمفكرين الأمازيغيين الفخورين بانتمائهم الأمازيغي، أصبح مشهورا، كعلَم في رأسه نار، بإنتاجاته الفكرية وإبداعاته الأدبية. لكنه واقعي وعقلاني وحكيم في تعامله مع الأمازيغية، لا يتحمّس لتدريسها ولا لتوحيدها ولا لحرفها تيفيناغ. وهذا دليل على أنه على صواب لأنه يراعي الواقع ويعتمد على العقل ويعالج "المسألة" الأمازيغية بحكمة، وعلى أنكم على خطأ لأنكم حالمون ولستم واقعيين، يحضر، في تعاملكم مع الأمازيغية، "تحفزُ العاطفة" و"الحميّة الإيديولوجية"، ويغيب العقل والحكمة والسداد».

 

 

 

Copyright 2002 Tawiza. All rights reserved.

Free Web Hosting