|
|
افتتاحية: ترسيم الأمازيغية: فرصة للتقدم إلى الأمام، أم مناسبة للتراجع إلى الخلف؟ (الجزء 2 )بقلم: محمد بودهان
وأود الوقوف في هذه المناقشة عند حزب العدالة والتنمية «الإسلامي»، الذي تحول أمينه العام السيد بنكيران، الذي لا يترك فرصة تمر دون أن يسخر من الأمازيغية وحرفها الأمازيغي، إلى «جنرال» يقود الحرب على هذه الأمازيغية من خلال محاربة حرفها «تيفيناغ»، وإعلانه عن تصميم حزبه التصدي لهذا الحرف بإصدار قوانين تنظيمية تلزم بكتابة الأمازيغية بالحرف العربي. لماذا هذه الوقفة عند حزب العدالة والتنمية؟ لأنه حزب «إسلامي» يدافع عن المرجعية الإسلامية، ويدعو إلى تطبيق الشريعة، وهو ما ينادي بفرضه والعمل به إذا حصل على الأغلبية في البرلمان المقبل وأصبح يترأس الحكومة. جميل ورائع أن يعمل الحزب على تطبيق الشريعة ويقرر العمل بأحكامها. لكن لنسأل «الجنرال» بنكيران، المسؤول الأول عن الحزب «الإسلامي»: 1ـ هل من شروط المرجعية الإسلامية وتطبيق أحكام الشريعة كتابة الأمازيغية بالحرف العربي؟ وهل لا «يحسن» إسلام المغاربة إلا إذا كتبت لغتهم الأمازيغية بالحرف العربي؟ أين هي الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة التي تقول إن من شروط صحة إسلام المرء أن يكتب لغته بالحرف العربي؟ 2 ـ يعرف السيد بنكيران أن أكبر بلد مسلم هو أندونيسيا التي يتجاوز عدد مسلميها 200 مليون. وهؤلاء المسلمون يكتبون لغتهم بالحرف اللاتيني كحرف رسمي منذ أكثر من نصف قرن. فهل هؤلاء أقل إسلاما من غيرهم من المسلمين الذين يكتبون لغتهم بالحرف العربي؟ وهل السيد بنكيران أكثر إسلاما من هؤلاء المسلمين الأندونيسيين وغيرهم الذين يكتبون لغتهم بغير الحرف العربي؟ وهنا يجدر استحضار حالة حزب العدالة والتنمية الإسلامي ـ بلا مزدوجتين ـ الحاكم بتركيا. فهذا الحزب لم يسبق له أن توعد بأنه سيعمل، عندما يصل إلى السلطة، على إعادة النظر في الحرف اللاتيني الذي تكتب به اللغة التركية لاستبداله بالحرف العربي. مع أنه لو فعل ذلك لكان أمرا مفهوما وحتى مقبولا لأن اللغة التركية كانت في الأصل تكتب بالحرف العربي، ولم يمض على استعمال الحرف اللاتيني لكتابتها إلا أقل من قرن. وهو ما قد يبرر وجاهة مطلب إعادة النظر في الحرف اللاتيني لو طالب هذا الحزب بذلك. فهل السيد بنكيران، لأنه يطالب بتغيير حرف «تيفيناغ»، يكون أكثر إسلاما من السيد الطيب رجب أردوكان زعيم حزب العدالة والتنمية التركي ورئيس الحكومة، الذي لم يدع إلى إعادة النظر في الحرف اللاتيني الذي تكتب به اللغة التركية منذ فقط عشرينات القرن الماضي؟ إنه بالتأكيد ليس أكثر إسلاما منه، ولكن بدون أي شك هو أكثر منه تشبثا بالنزعة العروبية العرقية ذات الأصل الجاهلي. هذه الأسئلة توضح أن قضية الحرف لا علاقة لها بالإسلام والعقيدة. ولهذا فإن إثارتها من طرف حزب «إسلامي» أمر نشاز وغير مفهوم. وهو ما يبين أن ما يحرك السيد بنكيران في حربه على «تيفيناغ»، ليس هو الإسلام الذي لا يمنع المسلمين بكتابة لغتهم بغير الحرف العربي كما يفعل غالبية المسلمين في العالم، وإنما تحركه وتوجهه مرجعيته العروبية العرقية ذات الأصول الجاهلية والعنصرية كما سبقت الإشارة. 3ـ ومن جهة أخرى، إذا كان الهدف من النضال السياسي للسيد بنكيران وحزبه هو الوصول إلى السلطة لفرض أحكام الشريعة، فلماذا لم نسمع السيد بنكيران يعلن في أي تجمع خطابي، كما يعلن ذلك بالنسبة لحرف «تيفيناغ»، بأن حزبه سيعمل على منع المعاملات الربوية ويغير القوانين الجنائية المغربية المخالفة للشريعة ويستبدلها بالحدود الشرعية مثل قطع يد السارق وجلد الزاني والزانية؟ فأين هي، يا ترى، المرجعية الإسلامية عند السيد بنكيران عندما يسكت عن تغيير القوانين المخالفة لهذه المرجعية، لكن يتوعد بتغيير حرف «تيفيناغ» الذي لا يخالف المرجعية الإسلامية ولا يناقض أي نص شرعي؟ عماذا يكشف هذا الموقف المتناقض للسيد بنكيران؟ يكشف أن العدو الحقيقي عنده، ليس هو العلمانية ولا القوانين الوضعية المخالفة للشريعة، ولا الدولة التي لا تطبق أحكام الله، وإنما عدوه الحقيقي هو الأمازيغية ولا شيء غير الأمازيغية. وهو عندما يحارب الأمازيغية من خلال محاربة رمز وجودها الذي هو حرفها «تيفيناغ»، فهو لا يقدم أية خدمة للإسلام ولا للمرجعية الإسلامية التي يدعي الدفاع عنها، وإنما يفعل ذلك من أجل أن لا تشوش الأمازيغية، ليس على المرجعية الإسلامية، وإنما على الانتماء «العروبي» للمغرب والمغاربة، بالمفهوم العرقي الذي يتبناه ويمارسه السيد بنكيران وغيره من الأمازيغيين العروبيين المستلبين. إنه يحارب إذن الأمازيغية ليس دفاعا عن المرجعية الإسلامية، وإنما دفاعا عن الهوية العروبية للمغرب بمفهومها العرقي دائما، حتى تبقى وحدها هي المهيمنة بهذا البلد. وماذا يعني الدفاع عن الانتماء العرقي العروبي للمغرب؟ يعني الدفاع عن ثقافة بدوية جاهلية وعنصرية بائدة، حاربها الإسلام لأنها تقوم على تمجيد العرق الواحد وترفض الآخر الذي لا ينتمي إلى هذا العرق. فالسيد بنكيران، عندما يرفض الأمازيغية بحرفها «تيفيناغ»، فهو ينطلق إذن من مرجعية جاهلية وليست إسلامية، كما يدعي. وهذا ما يفسر أن ما يهم الإسلام من أحكام شرعية غائب في خطاباته ومداخلاته، لكن مع حضور هوسي للأمازيغية التي يتوعد بتغيير حرفها الأمازيغي إلى حرف عربي بناء، ليس على قناعات إسلامية، وإنما انطلاقا من قناعات جاهلية وعنصرية حرمها الإسلام ونهى عنها. باستناده إلى هذه المرجعية العروبية الجاهلية لمحاربة حرف «تيفيناغ»، يسيء السيد بنكيران إلى حزب العدالة والتنمية الذي نحترم مناضليه والمنتمين إليه، الصادقين في دفاعهم عن المرجعية الإسلامية التي يستعملها السيد بنكيران كوسيلة فقط لفرض مرجعيته العرقية الجاهلية، تماما كما كان يفعل أسلافه ـ إيديولوجيا وثقافيا وليس هوياتيا ولا حتى عرقيا لأنني أعتبر السيد بنكيران أمازيغيا مثل كل المغاربة ـ الأمويون عندما كانوا يبررون ويرسخون مرجعيتهم العرقية العنصرية الجاهلية كغاية باستعمالهم للدين الحنيف كمجرد وسيلة لتحقيق تلك الغاية. إذا عرفنا أن السيد بنكيران لا يكفّ عن الإعلان جهرا بأنه ملكي، وأن حزبه ملكي، وأنه ضد أي تقليص من سلطة الملك، فإننا لا نفهم لماذا يتخذ موقفا ضد الملك عندما يعلن الحرب على حرف «تيفيناغ» الذي أقره الملك نفسه في فبراير 2003 «بعد استشارة عدة شخصيات وطنية مؤتمنة، منهم على وجه الخصوص الوزير الأول (رئيس الوزراء) ورئيسي مجلسي النواب والمستشارين ورؤساء الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان» (يومية «الشرق الأوسط» بتاريخ 12 فبراير 2003). وبهذا الإقرار الملكي للحرف الأمازيغي، أصبح هذا الأخير هو الحرف الرسمي والنهائي لكتابة الأمازيغية بشكل لا رجعة فيه. ولأنه أصبح الحرف الرسمي لكتابة الأمازيغية، فقد ترسخ استعماله في المدارس التي تدرس بها الأمازيغية، وألفت به الكتب المدرسية التي صدرت منذ 2003، تاريخ الشروع في تدريس الأمازيغية، بل استعمل حتى لكتابة الرسائل القصيرة عبر الهاتف النقال كالهاتفين اللذيْن طرحتهما «اتصالات المغرب» وشركة «سوني إريكسون» في الأسواق المغربية، ابتداء من خامس يوليوز 2007، يعتمدان استعمال حروف «تيفيناغ». وجاء الدستور الجديد ليدعم هذا الحرف من خلال ترسيم الأمازيغية الذي سيسمح لهذا الحرف بالانتشار عندما يستعمل في الوثائق الرسمية ويكتب على واجهات المؤسسات العمومية على إثر تعميم تدريس الأمازيغية بحرفها الأمازيغي لكل المغاربة. لكن بدل المطالبة بالإسراع بتعميم تدريس الأمازيغية لاستعمالها الرسمي، تفعيلا لمقتضيات الدستور الجديد، نفاجأ بالموقف الشاذ والوقح المطالب بإعادة النظر في كل ما تحقق لصالح الأمازيغية، وخصوصا مراجعة كتابتها بحرفها «تيفيناغ». لا أجد ما أصف به أصحاب هذا الموقف سوى عبارة «قلة الحياء» بمعناها الشعبي المعروف بالمغرب. إنهم فعلا يفتقرون إلى الحياء والحشمة والتواضع والوطنية الصادقة والحقيقية، التي تعبر عن التعلق بالانتماء إلى هوية الأرض والاعتزاز بهذا الانتماء. هذا الموقف المتخاذل لا علاقة له بحرية الرأي والتعبير، كما قد يبدو الأمر في الظاهر، بل هو تعبير عن نقص في الشعور بالانتماء إلى هوية هذه الأرض، وهو ما يفسر أن أصحاب هذا الموقف يرفضون «تيفيناغ» لأنها من صميم الأمازيغية التي هي من صميم هذه الأرض التي لا يشعرون بالانتماء إلى هويتها الترابية. لهذا لا يكفي ترسيم الأمازيغية، بل يجب حماية المكتسبات السابقة بسن قوانين رادعة لكل من يريد تضييع وقت المغاربة بالعودة بهم سنين إلى الوراء ليبدأوا من الصفر كما كان يفعل «سيزيف». والغاية من كل هذا هو أن لا تعرف الأمازيغية أي تقدم ما دام أن كل تقدم ينجز سيلغى لتعود الأمور إلى ما كانت عليه في البداية، كأن حصيلة 11 سنة من عمل المعهد الملكي للثقافة والأمازيغية كان لعب أطفال يشطب عليه بجرة قلم من طرف السيد بنكيران ومن يؤيد موقفه. إنه لعبث يستفز كل وطني غيور وصادق. فليعلم هؤلاء العابثون ـ وعلى رأسهم السيد بنكيران ـ أن الأمازيغية إما أن تكون بحرفها الأمازيغي أو لا تكون، وليس هناك حدّ وسط في هذه المسألة. فالأمازيغية بدون حرفها الأمازيغي تساوي، ليس إقصاءها، بل اغتيالا لها. ما الذي يسوّغ للأمازيغوفوبيين، مثل السيد بنكيران، استعمال الدستور الجديد، المفترض أنه أنصف الأمازيغية ورد لها الاعتبار بالنص على ترسيمها، لمحاربة الأمازيغية من خلال محاربة حرفها «تيفيناغ»؟ تجد هذه المفارقة تفسيرها في ما ينص عليه نفس الدستور من اعتبار الأمازيغية «رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء». وبدل الدفاع عن هذا الرصيد وتنميته والحفاظ عليه، بما فيه الحرف الأمازيغي الذي هو جزء من هذا الرصيد، أوّل الأمازيغوفوبيون كون هذا «الرصيد مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء» على أنه يعطي لهم الحق في أن يفعلوا بهذا الرصيد ما يشاؤون، مثل التنازل عنه والتفريط فيه، أو إهماله أو حتى إتلافه والقضاء عليه. أي التعامل معه كمِلك يجيز لهم استغلاله أو استعماله أو التصرف فيه عن طريق التفويت أو الإتلاف. وعلى ذكر مفهوم «المِلك»، تجدر الإشارة إلى أن الظهير المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الصادر في 17 أكتوبر 2001، ينص في ديباجته على أن الأمازيغية «هي مِلك لكل المغاربة بدون استثناء». وهو ما انتقدناه وبينا مخاطره على الأمازيغية في مقالنا بعنوان: «هل الأمازيغية مِلك لكل المغاربة أم أن المغاربة ملك للأمازيغيةّ»، المنشور بالعدد 133 من «تاويزا» لشهر مايو 2008. وليس مستبعدا أن يكون تغيير لفظ «مِلك» بلفظ «رصيد» في نص الدستور، ذو علاقة بما ينطوي عليه اللفظ الأول من تناقضات ويتضمنه من آثار سلبية تضر بالأمازيغية. يمكن القول إنه منذ الاستقلال إلى الرابع والعشرين من غشت 1994 (تاريخ خطاب الحسن الثاني الذي أعلن فيه عن قرار تدريس ما سماه «اللهجات الأمازيغية»)، كانت الأمازيغية بالمغرب تنتمي إلى «اللامفكر فيه». ذلك أن الطبقة السياسية لم تكن تفكر فيها ولا تنشغل بها باعتبارها نسيا منسيا كشيء غير موجود، وغائب عن وعيها واهتمامها. لكن الدستور الجديد، وقبله ظهير 17 أكتوبر 2001 في حدود معينة، نقلها من منطقة «اللامفكر فيه» إلى فضاء «المفكر فيه» بترسيمها الذي جعل منها موضوعا لتفكير الطبقة السياسية والنخبة المثقفة. لكن عبارة: «رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء» جعلت تفكير الأمازيغوفوبيين في الأمازيغية يعني التفكير في سبل إقصائها ورفض حرفها «تيفيناغ» كحق يعطيه لهم الدستور الجديد عندما نص على أنها رصيد للجميع بدون استثناء، بمن فيهم من يريد قتلها والتخلص منها. أما قبل أن تكون «رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء»، فقد كانت، على الأقل، موضوعا للتفكير خاصا بالباحثين واللسنيين والمدافعين عنها من نشطاء الحركة الأمازيغية. وهو ما سمح بمراكمة إنجازات هامة على المستوى اللسني والسياسي. هذه الإنجازات هي ما يريد اليوم مجموعة من الأمازيغوفوبيين نسفها والتشطيب عليها للانطلاق من نقطة الصفر، متذرعين أن الأمازيغية رصيد لهم هم أيضا من حقهم أن يفعلوا بع ما يرونه مناسبا حسب تصوراتهم ومواقفهم. إن العداء للأمازيغية سيستمر مع الدستور الجديد الذي يعترف بها لغة رسمية ـ هي أيضا ـ، وسيظل الصراع الهوياتي قائما بالمغرب ما دام أن هناك هويتين أمازيغية و»عربية». ولن ينتهي الصراع ويرد الاعتبار كاملا للأمازيغية إلا عندما تصبح هوية الدولة والسلطة الحاكمة هوية أمازيغية تبعا لهوية الأرض الأمازيغية للمغرب، دون أن ينفي ذلك التعدد الثقافي واللغوي والعرقي (وجود أمازيغيين من أصول عربية وغيرها). فمشكلة الأمازيغية هي في جوهرها سياسية تتصل بهوية الدولة التي تعلن أنها دولة «عربية» مع أنها في الحقيقة هي دولة أمازيغية لأنها دولة في أرض أمازيغية نشأت بهذه الأرض وتنتمي إليها ولم تأت من الخارج كدولة مستعمِرة ذات هوية مختلفة عن هوية الأرض التي تستعمرها. **** (1)ـ نسبة إلى «سيزيف» Sisyphe، الذي تقول الأسطورة الإغريقية بأن الآلهة، حتى تعاقبه، حكمت عليه بحمل صخرة ووضعها على قمة الجبل. لكنه كان كلما أوصلها إلى القمة تتدحرج إلى الأسفل فيعيد حملها من جديد إلى ما لا نهاية. فأصبحت «السيزيفية» تعبر عما هو تكرار دائم لا تقدم فيه ولا جديد.
|
|