الأمازيغية والتعديلات الدستورية:
قراءة في “ميثاق الجمعيات الأمازيغية بالريف من أجل دسترة الأمازيغية”
بقلم: محمد زاهد
يشكل مطلب دسترة الأمازيغية، كاحد أهم المطالب الراهنة التي ترفعها وتناضل من أجلها الحركة الأمازيغية، أهمية قصوى على مستوى النقاش السياسي والثقافي الجاري حاليا بالمغرب، ولا سيما ما يتعلق برهانات الإصلاح السياسي والتعديل الدستوري المطروح بشدة في الساحة السياسية والحقوقية المغربية، في أفق بلورة ترسانة قانونية ودستورية ومؤسساتية قادرة على تكريس دولة الحق والقانون وخيار الديموقراطية الحقيقية والمواطنة الفعلية وكسب رهان "الانتقال الديموقراطي" الذي يبدو أنه لم ينطلق بعد.
ومن بين القضايا المطروحة على أجندة التعديل الدستوري المقبل بالمغرب، مطلب دسترة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية والتنصيص على الانتماء الإفريقي والمتوسطي والهوية الأمازيغية للشعب المغربي... كمدخل أساسي لتوفير الحماية القانونية للأمازيغية (لغة، ثقافة، هوية وحضارة) داخل دستور ديموقراطي شكلا ومضمونا وكآلية لمصالحة المغرب مع ذاته وهويته الأمازيغية وكقاعدة أساسية لبناء ديموقراطية حديثة. وفي هذا الإطار، وضمن سياق تفعيل دينامية الحركة الأمازيغية بخصوص هذا الموضوع، أصدرت الجمعيات الأمازيغية بالريف ميثاقا من أجل دسترة الأمازيغية قصد المساهمة في بلورة تصور وطني وموحد حول هذا المطلب العادل والمشروع، يتضمن ديباجة وخمس نقط مطلبية تهم محور التعديل الدستوري.
الديباجة:
لقد قدم الشعب الأمازيغي عبر سيرورته التاريخية الكثير من التضحيات في سبيل الدفاع عن كيانه ووجوده وحريته وأرضه، وخاض في سبيل ذلك نضالات وكفاحات وكل أشكال المقاومة عبر حركات تحررية كثيرة وثورات عظمى على مر العصور. ولعل الحروب والمقاومات التي خاضها إيمازيغن في مختلف المناطق المغربية من أجل التصدي للاستعمار الأجنبي خلال بداية القرن العشرين، لدليل على قوة وشجاعة هذا الشعب في مواجهته للأخطار التي تهدده. وقد شكلت هذه الحركات التحررية نموذجا رائدا يقتدى به عبر مختلف مناطق العالم، خاصة حرب التحرير التي خاضها أبطال المقاومة المسلحة مثل عسو أوبسلام، موحا أوحموا أزايي، مولاي موحند... الذي نال إعجاب كبار الثوار وقادة الحركات التحررية العالمية وشكل مدرسة حقيقية للتحرر الوطني.
وفي مقابل ذلك، وأمام طبيعة الأحداث السياسية التي أعقبت مرحلة ما بعد 1956 والمجريات التي ستتخذها هذه الأحداث، ونتيجة للسياسة التي اتبعتها الدولة المغربية في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية عبر التحكم في زمام الأمور ومقاليد الحكم والسلطة من خلال تحالف المخزن مع النخب المدينية التي جاءت بالاستقلال الشكلي الذي منحته اتفاقية "إكس-ليبان" على حساب كفاح الشعب المغربي وحركات التحرر ذات الجذور الثقافية والاجتماعية الأصيلة عكس أصول هذه النخب والعائلات الممتدة، فقد كان ما كرسته دولة "الاستقلال" لا يتماشى وحقيقة التضحيات التي قدمت إبان مرحلة التحرير وتطلعات المغاربة بخصوص دولة وطنية وفية لنهج هذه الحركات، خصوصا وأن الدولة المغربية صارت على نهج الدولة الفرنسية ذات النظام اليعقوبي المركزي والشمولي الذي عمل على تقويض البنيات الاقتصادية والسياسية والثقافية والمؤسسات والأنظمة الأمازيغية الموروثة داخل المجتمع إبان فترة الاستعمار، وهو المسار الذي جسدته الدولة المغربية عبر تهميش الأمازيغ واعتماد مقاربة تقوم على الإقصاء السياسي والحصار الاقتصادي والقمع والعقاب الجماعي...
ومن المجالات التي شكلت القناة الرئيسية في اتجاه تكريس هذا الخيار وتثبيت دعائم وثوابت هذا النهج الأحادي الذي سلكته السلطة الرسمية بالبلاد كنموذج استيعابي ظل في يد النخب السياسية والحاكمة، قطاع التعليم الذي وضعت أسسه ومرتكزاته وفق هذا النموذج الذي لا ينبني على مبدأ التعدد والغنى والتنوع اللغوي والثقافي والخصوصيات الحضارية التي تميز هذا الشعب.السياسة التعليمية التي قامت على ثوابت المبادئ الأربعة التي شكل مبدأ التعريب جوهرها الأساسي كسياسة تأكد أن الهدف من ورائها هو تعريب الأمازيغ ومصادرة كل المعالم الحضارية والثقافية لهذا الشعب وتحطيم الإرث الوطني ومعالم الهوية الأمازيغية، وهو ما تحقق عبر تعريب نسبة كبيرة من الأمازيغيين في ظرف وجيز وعبر تعريب أسماء الأعلام والأماكن وتعريب المحيط (التعريب الشامل والأعمى) كما "أصبحت الهوية الأمازيغية مستهدفة من قبل كل الإيديولوجيات السائدة في المغرب والمستوردة من الشرق أو الغرب، والتي انعكست سلبا على الإنسان الأمازيغي في المغرب وجعلته يعيش اضطرابا واستلابا في وجوده. وهكذا لم تجد النخب السياسية المتعاقبة على الحكم في المغرب إلا إقصاء الأمازيغية وإخفاء كل الحقائق المرتبطة بتاريخها وسيلة فعالة لتعزيز سلطتها السياسية، كما أن سياسة تعريب التعليم والحياة العامة للمواطنين كرست دونية الأمازيغية، ووفرت للنخب السياسية الحاكمة إستراتيجية إعادة إنتاج نفسها وضمان استمرارية وجودها في السلطة، في مقابل تجهيل وتهجير وتفقير فئات واسعة من الأمازيغ" (الميثاق).
وإذا كانت الأمازيغية بمثابة القانون الأساسي الذي يضبط ويؤطر العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية داخل المجتمع وتشكل محور هذا القانون ونظرة الإنسان لكل ما حوله، فإن طبيعة دولة ما بعد 1956 ستستوحي قوانينها تبعا لمنظومة إيديولوجية مشرقية "تتوخى فبركة هوية واحدة بواسطة إضفاء طابع قدسي على اللغة لمجتمع مغاير ومختلف" وهو ما كرسته الدساتير التي تعاقبت على المغرب منذ عهد دستور 7 دجنبر 1962 وصولا إلى دستور 13 شتنبر 1996. وقد "جاءت القوانين الأساسية للأحزاب السياسية بالمغرب صدى وانعكاسا للدساتير المغربية الرسمية وللإيديولوجية المشرقية كاستراتيجية للقطع مع كل ما له علاقة بالأمازيغية في أفق إعداد وإنجاز هوية عرقية خالصة وجاهزة للأمازيغ بالمغرب، وبفضل تحالف هذه الأحزاب مع المخزن وتمكنها من القرار السياسي استطاعت أن تكرس مشروعها وأن تمرره عبر قنوات ومؤسسات الدولة".
وعلى العكس من ذلك، فتهميش الأمازيغية قد تحكم فيه القرار السياسي الاستبعادي وكانت وراءه اعتبارات سياسية وإيديولوجية ومنطلقات تاريخية متعددة. وإذا كان الدستور أسمى قانون بالبلاد وهو الذي يمنح القرارات سلطة التفعيل ويوفر لها الحماية القانونية وصفة الإلزام والتطبيق، وما دام أن الأمازيغية مغيبة ومقصية من الوثيقة الدستورية بالمغرب، فإنه "لهذه الاعتبارات وحتى تتحقق دولة المجتمع بدل مجتمع الدولة القائم، فإن على الدستور المغربي أن يعكس طبيعة مجتمعه السوسيوثقافية لكي يتمتع فيه أفراده بمواطنة حقيقية" كمدخل أساسي ورئيسي نحو التأسيس لمرحلة انتقالية فعلية والإسهام في إرساء معالم ودعائم "الانتقال الديموقراطي" كما هو الشأن بالنسبة للعديد من الدول، مثلما حدث مع دستور 1978 بإسبانيا...
● ترسيم الأمازيغية:
إن أي رد اعتبار للأمازيغية وإحلالها المكانة اللازمة داخل المجتمع والدولة ورفع غطاء التهميش والإقصاء عنها ومصالحة المغرب مع هويته، يمر بالتأكيد عبر التنصيص على اللغة الأمازيغية كلغة وطنية وإقرارها كلغة رسمية ضمن دستور ديموقراطي شكلا ومضمونا، على اعتبار أن ذلك هو المدخل الحقيقي لتكريس المواطنة الحقة والديموقراطية الفعلية، وبمثابة المعالجة الصحيحة لإشكالية التنوع الثقافي واللغوي بالمغرب. ففي غياب الحماية القانونية للأمازيغية التي يوفرها التنصيص عليها داخل أسمى قانون بالبلاد، تبقى كل الإجراءات الأخرى من قبيل إدراجها في التعليم والإعلام... إجراءات شكلية ولا تلامس جوهر هذه القضية الوطنية.
ومن هذا المنطلق، وإذا كانت كل الدساتير التي تعاقبت على المغرب، منذ مشروع دستور 1906 مرورا بدستور 1908 فدستور 7 دجنبر 1962، 1970، 1972، 1992، وصولا إلى دستور 1996، لم تنص على هذا المطلب وظل مغيبا من الوثيقة الدستورية، فقد أصبح من الضروري في هذه المرحلة إعادة النظر في المتن الدستوري الممنوح والقائم حاليا عبر إجراءات وتعديلات تروم وضع دستور ديموقراطي شكلا ومضمونا من خلال الإقرار بوطنية ورسمية اللغة الأمازيغية كمطلب ظلت الحركة الأمازيغية بالمغرب منذ البداية تناضل من أجله وتعتبره الأساس في أية مقاربة ترمي إلى القطع مع "عروبة المغرب" وإعادة الاعتبار للذات والشخصية المغربية.
وبالعودة إلى أدبيات هذه الحركة، نجد أن مطلب الدسترة ظل بمثابة الهاجس المحوري لدى الأمازيغيين منذ ميثاق أكادير (1991) مرورا عبر مختلف بيانات الجمعيات الأمازيغية والمذكرة المرفوعة إلى القصر الملكي من طرف هذه الجمعيات بتاريخ 22 يوليوز 1996 وتصريح فاتح شتنبر 1996، أي قبيل التعديل الدستوري ل 13/09/1996 وكذا "البيان الأمازيغي" وبيانات الحركة الثقافية الأمازيغية... وصولا إلى "ميثاق المطالب الأمازيغية بشأن التعديلات الدستورية" و "ميثاق الجمعيات الأمازيغية بالريف حول دسترة الأمازيغية" الذي جاء فيه بخصوص هذا المطلب، ما يلي: "التنصيص على اللغة الأمازيغية كلغة وطنية وإقرارها كلغة رسمية ضمن دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا".
إن أهمية دسترة وترسيم اللغة الأمازيغية داخل صك دستوري ديمقراطي، تتجلى من خلال الحماية القانونية التي ستوفرها عملية الدسترة للأمازيغية حتى تلج مختلف المؤسسات وكذا سلطة التفعيل والأجرأة وضمان وجودها الفعلي في كل هذه المؤسسات (التعليم، الإعلام، الإدارة، القضاء...) ومناحي الحياة العامة؛ إذ أن من أهم المبررات التي باسمها تمنع الأمازيغية من ولوج مختلف فضاءات الحياة العامة، هو غياب نص قانوني يعطي لها مشروعية المرور عبر قنوات مؤسسات الدولة ويؤطرها تأطيرا قانونيا، ويعطي لها قوة الإلزام والتطبيق، رغم وجود خطاب ملكي في هذا الشأن الذي هو ـ الخطاب والظهير- بمثابة نص قانوني، فالسلطة تتحايل على الثغرات القانونية وتلعب على وتر التناقضات وتتخذ من كل ذلك خلفية لمنع الأمازيغية من ولوج المؤسسات والحياة العامة (نموذج منع المجلس البلدي بالناظور سنة 2003 من كتابة إشارات المرور بالحرف الأمازيغي تيفيناغ). لذلك يبقى المدخل الأساسي لتجاوز كل هذه العراقيل والثغرات هو دسترة الأمازيغية وترسيمها أيضا، بدل التنصيص عليها كلغة وطنية فقط لأن ذلك سيكون من باب تحصيل الحاصل. وإذا كان الإقرار بهذا المطلب لا يستدعي تخصيص أية ميزانية ولا يتنافى وحقيقة الواقع وكذا المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فإن التساؤل الذي يظل مطروحا إلى حد الآن هو: لماذا لم تعمل الدولة المغربية على الإقرار بوطنية ورسمية اللغة الأمازيغية داخل الوثيقة الدستورية؟! ومن جهة أخرى فإن كان الدستور المغربي والترسانة القانونية ككل تنهل من القوانين الفرنسية (نموذج الدستور المغربي ودستور 1958 بفرنسا) فإن ذلك هو ما يعكس في مستوى من المستويات الطبيعة المركزية للنظام السياسي بالمغرب على شاكلة النظام اليعقوبي بفرنسا، وهو ما لا يترك أي مجال للتنصيص على الحقوق اللغوية والثقافية داخل المتن الدستوري المغربي كجزء من حقوق الإنسان في شموليتها، بخلاف الدستور الإسباني مثلا ـ وحسب الباحث محمد أتركين- فهو يتضمن أكثر من 46 مادة خاصة بحقوق الإنسان فقط (دستور ما بعد 1978) في الوقت الذي نجد أن دستور المغرب ينص على أن اللغة الرسمية للبلاد هي العربية!.
لذلك لا مناص من الإقرار بمعطى الحق الثقافي واللغوي داخل الدستور كمطلب ظل مغيبا ومقصيا وخارج نطاق فصول الصك الدستوري بالمغرب، وكذلك بإقرار وطنية ورسمية اللغة الأمازيغية وحماية "الحقوق والحريات للأفراد والجماعات" وصيانة حقوق الإنسان وفق ما تنص عليه المواثيق الدولية ومن أجل التأسيس لوثيقة دستورية تقوم على مبادئ المساواة والمواطنة والديمقراطية الشاملة.
● دسترة الهوية الأمازيغية والانتماء الإفريقي:
لقد ظل الحق الهوياتي، شأنه في ذلك، شأن الحقوق اللغوية والثقافية، غائبا من النص الدستوري بالمغرب؛ إذ أن هذا الدستور لا يعترف بهوية المجتمع، وبالمقابل يعترف بهوية الدولة: "المغرب دولة إسلامية ذات سيادة كاملة لغتها الرسمية هي العربية وهي جزء من المغرب العربي الكبير" وهو ما ينص عليه دستور المغرب.
وما دام أن هذا الدستور لا ينص على الحقوق اللغوية والثقافية والهوياتية كحقوق طبيعية تضمنها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فقد أصبح، في ظل رهانات التعديل الدستوري الذي يفرض نفسه بقوة، من الضروري الإقرار والتنصيص ضمن مواد وبنود "الحقوق والحريات" التي تهم الأفراد والجماعات، على أن الهوية المغربية هي هوية أمازيغية بامتياز وذلك بالاحتكام لكل المحددات العلمية للهوية الحضارية والثقافية. إضافة إلى الانتماء الإفريقي والمتوسطي للمغرب كانتماء حضاري وجغرافي ينبغي أن يقوم مقام الموجه لعلاقات هذا البلد في مختلف الاتجاهات بعيدا عن الانتماءات التي تقوم على أبعاد عرقية مثلما هو الشأن لما ينص عليه الدستور الحالي من كون المغرب جزء من المغرب العربي الكبير! ومما جاء في ميثاق الجمعيات الأمازيغية بخصوص هذه النقطة: "التنصيص على الهوية الأمازيغية والانتماء الإفريقي والمتوسطي في ديباجة الدستور".
وإذا كان المغربـ ـ ومنطقة شمال إفريقيا/ تمازغا ككل- يرتبط ارتباطا وثيقا بإفريقيا والمجال المتوسطي قبل أن يرتبط بأي منطقة أخرى، إضافة إلى الهوية الأمازيغية للمجتمع المغربي كانتماء خصوصي، فإن من بين المطالب التي يجب التنصيص عليها ضمن المتن الدستوري الديمقراطي، مطلب دسترة الهوية الأمازيغية والانتماء الإفريقي والمتوسطي للمغرب وتفعيل هذا الاختيار على مستوى الواقع وتوجهات المغرب، لأن الأصل هو هوية المجتمع والشعب والانتماء كمحددات ثابتة...
● التنصيص على العرف الأمازيغي والمواثيق الدولية كمصدر للتشريع:
إذا كان التشريع المغربي يرتبط في الكثير من الأحيان باستنساخ القوانين الفرنسية التي لا تتلاءم وحقيقة المجتمع المغربي ولا تنسجم وطبيعة الواقع، ولأن كل تشريع هو نتاج طبيعي وإفراز موضوعي لتطور المجتمع وخصوصياته، وما دام أن الدستور الممنوح لا ينص على جعل العرف الأمازيغي/ القانون المحلي كمصدر للتشريع، مع العلم أن "إزرفان" تحتل أهمية كبيرة داخل المجتمع باعتبارها هي التي تؤطر مختلف العلاقات الاجتماعية وجوانب الحياة العامة، كما تتضمن بنودا كمصدر من مصادر القواعد القانونية. لذلك لا مناص من إعادة تحيين هذه الأعراف وتطويرها وتكييفها مع مستلزمات المرحلة وجعلها من مصادر التشريع بالمغرب إلى جانب القوانين والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وذلك بدسترة هذا البند والتنصيص عليه لما لذلك من أهمية مجتمعية ولما يشكل ذلك من أوجه رد الاعتبار للهوية الأمازيغية التي يتم مصادرة معالمها عبر استيراد منظومة قانونية شرقية وغربية لمجتمع مغاير. ومما جاء في ميثاق الجمعيات الأمازيغية بالريف حول دسترة الأمازيغية بخصوص هذا المطلب: "التنصيص على اعتماد العرف الأمازيغي كمصدر للتشريع إلى جانب المواثيق والمعاهدات الدولية".
● إقرار النظام الفيدرالي:
لقد كان للسياسة المركزية المفرطة التي اتبعتها الدولة المغربية التي استلهمتها من النموذج اليعقوبي الفرنسي منذ دخول فرنسا إلى المغرب سنة 1912 وبعد مرحلة الاستقلال الشكلي التي استمرت فيه الدولة على تكريس هذا النهج وهذه المركزية وهذا النموذج اليعقوبي والبعثي المستورد، (لقد كان) لذلك تداعيات وانعكاسات سلبية على مختلف المناطق المغربية الأخرى التي ظلت خارج دائرة "المغرب النافع" في مقابل "المغرب المنتفع به" الذي يعكس حالات هذه الانعكاسات السلبية مثل التهميش الممنهج والحصار الاقتصادي والعزلة واليأس الاجتماعي والتهجير...
ورغم أن الدولة المغربية حاولت منذ مدة نهج سياسة "الجهوية" و"اللامركزية"... فقد ظل ذلك بمثابة شعارات فقط ومبنيا على أساس مقاربات أمنية وهواجس سياسوية ومعايير التقسيم والتقطيع الإداري الذي تشرف عليه وزارة الداخلية ولا تراعى فيه الخصائص والمعطيات السوسيو-ثقافية وأبعاد التنمية الحقيقية والإنسان كذات وهوية. ومن هذا المنطلق أصبح من اللازم اعتماد بدائل أخرى لسياسة المركزية المتبعة في المغرب من أجل خلق تكافؤ فرص التنمية وتوازن الجهات عبر ما يسمى "بدولة الجهات" بدل "جهات الدولة" أو اعتماد نظام فيدرالي وجهوية موسعة على الشاكلة الألمانية أو الإسبانية وإعطاء "الحكم الذاتي" لمختلف المناطق. (وهناك من التجارب التي أصبحت تطرح خيار "دولة الأوطان" بدل دولة الجهات مثلما هو الشأن للنقاش القائم حاليا في كاطالونيا بإسبانيا). ومما جاء في ميثاق الجمعيات الأمازيغية بالريف "إقرار النظام الفيدرالي في الدستور المغربي" كجانب من تصور الحركة الأمازيغية بخصوص موضوع التعديلات الدستورية وكإغناء لمطلب الدسترة الذي تناضل من أجله هذه الحركة بتوسيعه من مطلب يهم دسترة الأمازيغية كلغة وثقافة إلى إضافة الجانب الهوياتي والمطالبة باعتماد مقاربة جهوية حقيقية واعتماد العرف الأمازيغي ومبدأ العلمانية كضمان للتعايش... والتنصيص عليها في الوثيقة الدستورية.
ومن أجل بديل ديمقراطي حديث كخيار سياسي حاسم، وقصد إقرار ديموقراطية شاملة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، أصبح من اللازم نهج سياسة جهوية موسعة على أساس اقتصادي وجغرافي يأخذ بمختلف الأبعاد السوسيوثقافية أو ما يسميه أحد الباحثين ب"أنسنة الجهة" أو إقرار نظام فيدرالي بديل يسمح بتحقيق فرص الاكتفاء الذاتي والمحلي لخلق شروط واعدة للتنمية المتوازنة وتجاوز حالات التهميش والحصار.
ومن هنا تأتي أهمية إقرار النظام الفيدرالي ضمن دستور ديمقراطي يمنح للجهات صلاحيات واسعة وفق الخصوصيات التاريخية والسوسيوثقافية وانسجام المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، بدل نهج المقاربات الأمنية التي تلغي مختلف الأبعاد الأخرى وتكرس سياسة التهميش وعدم توفير أي قاعدة أساسية لأي إقلاع تنموي حقيقي في مقابل استحواذ المركز على ثروات وأموال وخيرات المناطق الأخرى، من خلال اتباع سياسة المركزية اليعقوبية والبعثية. ويمكن للأمازيغية كمنظومة قيمية أن تلعب دورا مهما على مستوى بلورة بديل فيدرالي ينسجم مع التربة المغربية وبلورة أنظمة التسيير المحلي عبر تحيين مجموعة من الأعراف والتقاليد والهياكل والتنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي راكمها إيمازيغن عبر التاريخ. وأيضا دور الأمازيغية كثقافة يمكن أن تلعب دورا هاما في بلورة مخطط تنموي متوازن، خاصة إذا اعتبرنا أهمية العامل الثقافي في بلورة مخططات واستراتيجيات تنموية حقيقية ومتوازنة، مثلما نص على ذلك "العقد العالمي للتنمية" سنة 1987- 1997.
● التنصيص على مبدأ العلمانية:
علاوة على النقط المطلبية الأخرى التي شملها ميثاق الريف حول التعديلات الدستورية، هناك مطلب اعتماد وإقرار مبدأ العلمانية ضمن النص الدستوري بالمغرب وذلك لكونها بمثابة آلية لتدبير التعددية وصيانة التعايش وضمانا للتعدد والاختلاف بين مكونات الشعب المغربي، ووضع حد لاستغلال الدين عن طريق فصله عن السياسة وكضمان لحقوق الأقليات الدينية وحرية ممارسة المعتقد.
وإذا كان حجر الزاوية في طبيعة النظام السياسي بالمغرب هو مؤسسة "إمارة المؤمنين" -كأساس للشرعية الدينية للملكية- وفق ما يقر به دستور/ الفصل 19، وأمام تنامي ظاهرة "الإسلام السياسي" بحدة والمنحى الخطير الذي اتخذته هذه الظاهرة على المستوى العالمي من مظاهر أخطر واتساع دائرة استغلال الدين في مجال السياسات المعاصرة وما ينعكس عن ذلك من آفات ومصائب ناتجة عن "فكر إيديولوجي جهادي" عبر حركات وتيارات دينية وإرهابية، وهو الأمر الذي بات واقعا حقيقيا بالمغرب من خلال مختلف أشكال التطرف الديني... وحتى يتسنى للمجتمع المغربي العيش في منأى عن هذا التوظيف والاستغلال لمعطى الدين داخل فضاء يفصل بين الدين والسياسة، كما ظل ذلك ثابتا عند المجتمع الأمازيغي الذي أخضع معطى المعتقد للثقافة كجزء من داخل منظومة عامة، وحتى يعانق هذا المجتمع آفاقا إنسانية وحضارية، فقد أصبح من اللازم الانتقال إلى وضع تكون فيه العلمانية محددا لهذه العلاقة، بعيدا عن "تسييس الدين وتديين السياسة"، كنموذج لمضمون مبدأ العلمانية التي ينبغي أن يقر بها الدستور بالمغرب، حتى تساهم في البناء الفكري والسياسي للمجتمع.
عود على بدء:
إذا كان التعديل الدستوري والإصلاح السياسي هي المفاهيم التي تؤثث النقاشات القائمة حول رهان "الانتقال الديموقراطي" بالمغرب، فإنه من المؤكد أن هذا النقاش لن يستقيم ما لم يعتبر أهمية ترسيم الحقوق اللغوية والثقافية والهوياتية ضمن نص الدستور الذي ينبغي أن يعكس ويحمي ـ باعتباره أسمى قانون في البلاد- الحقوق والحريات الفردية والجماعية وصيانة حقوق الإنسان وفق مبادئ المواثيق الدولية.
وإذا كان كذلك التعديل الدستوري من المداخل الأساسية التي تؤسس لمفاهيم "العدالة الانتقالية"ـ "الانتقال الديموقراطي"... فإنه في مقابل ذلك، يشكل ترسيم اللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية داخل دستور ديموقراطي شكلا ومضمونا والتنصيص على الهوية الأمازيغية للمغرب وانتمائه الإفريقي والمتوسطي وجعل العرف من مصادر التشريع واعتماد النظام الفيدرالي والإقرار الرسمي بمبدأ العلمانية... إحدى أهم/ جوهر مداخل النص الدستوري الديموقراطي الذي يكرس سلطة الواقع والمواطنة وخيار حقوق الإنسان.
لذلك فلا مناص من إعادة النظر في مضمون الدستور الحالي المبني على أساس توافقات كشكل وآلية مفروض اليوم أن يتم تجاوزها هي الأخرى، عبر بدائل حقيقية وأطراف التعاقد التي ظلت خارج اللعبة منذ أول دستور عرفه المغرب.