مولاي محند والحركة الريفية

 (الجزء السابع)

بقلم: القجيري محمد

مأساة إيكس ليبان والإجهاز على جيش التحرير:

إن محاولة فهم الظروف السياسية والتطورات التاريخية التي أودت بالاستقلال الأعرج للمغرب والإجهاز على جيش التحرير الأمازيغي، تقتضي طبيعة الموضوع الرجوع والبدء من مرحلة نفي محمد الخامس في سنة 1953، حتى نستطيع أن نفهم بشكل أوضح وأفضل ظروف وبعضا من جوانب الملابسات التي جعلت فرنسا واسبانيا تعترف بالاستقلال الشكلي للمغرب في سنة 1956، ومن ثمة الإجهاز على ثورة جيش التحرير الأمازيغية التي كانت في أوج قوتها.

أ- مرحلة نفي محمد الخامس:

من المعروف أنه عندما تمرد محمد بن يوسف على الأوامر الفرنسية ورفض أن يوقع على بعض الظهائر المخزنية–الفرنسية التي كانت تمليها عليه السلطات الفرنسية بالمغرب، وخاصة تلك الظهائر التي كانت تمس بسيادته على المغرب وتحد من سلطاته وسلطانه، تميزت تلك الفترة بتوتر شديد بين القصر والحكومة الفرنسية التي كان يرأسها فانسن أغيول (vicent auriol). ونتيجة لذلك عزل محمد الخامس من عرشه في غشت 1953، ونفي إلى جزيرة كورسيكا ثم مدعشقر ونصب مكانه محمد ابن عرفة سلطانا على المخزن أو محمد السادس كما كانت تسميه الصحف الفرنسية.

وبما أن محمد ابن عرفة أو محمد السادس بدون شعبية مؤثرة على الشعب المراكشي ومنبوذ ومكروه لدى الزوايا السياسية المغربية التي لم تكن تؤيده، كان من الواضح أن تتحرك هذه الزوايا السياسية اللاوطنية في تأطير الشعب المراكشي (المغرب) بغية التأثير عليه للمطالبة بعودة محمد الخامس إلى عرشه، وبالطبع كانت تكثف من تحركاتها للدعاية لمحمد الخامس في عامة ساكنة المحور النافع (فاس-سلا- الدار البيضاء) وبنفس الطريقة تقريبا التي كانت تتحرك بها في زمن الظهير الفرنسي 16 ماي 1930 المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف الأمازيغية، هذه الدعاية لمحمد الخامس كانت عن طريق وعلى شكل نشر الخرافات والأكاذيب في عامة الناس بالمحور النافع مثلما كانت تفعل في الثلاثينات، حيث كان اللاوطنيون يقومون بتدويخ الرأس المغربي بما تعني الكلمة ويزعمون أن صورة محمد الخامس تظهر على القمر، والحق أن عملية تدويخ الناس في المثلث النافع بأسطورة «الظهير البربري» في الثلاثينات وبأسطورة «صورة محمد الخامس على القمر» في الخمسينيات كانت هي أكبر أكذوبة وخرافة في تاريخ المغرب المعاصر. لقد تعاملت إذن الحركة اللاوطنية بغباء خارق في قضية إبعاد محمد الخامس عن عرشه، لكنه بذكاء خارق في المحور النافع مادام أن سكانه آنذاك كانوا جد متخلفين تفكيريا وحضاريا. وهكذا جعلوا من محمد الخامس بعد نفيه لدى عامة الناس في المغرب النافع شخصا أسطوريا ومطلوبة عودته بإلحاح إلى عرشه، ويقول في هذا الموضوع المؤرخ الأمريكي روم لاندو في كتابه «تاريخ المغرب في القرن العشرين» قائلا: «وفجأة أصبح محمد بن يوسف في خيال الناس شهيدا يطل عليهم من السماء، وإذا تطلعوا إلى فوق كانوا يرون صورته في القمر الجميل الذي يشرق عليهم في الظلماء. وهكذا أصبح السلطان لدى عامة الناس شهيدا ووليا» (106). بهذه الخرافات القمرية أصبح محمد الخامس بين عشية وضحاها بطلا أسطوريا ورمزا وطنيا، واستفادت بذلك الحركة اللاوطنية من التأييد الشعبي طبعا في المثلث النافع، و خلال تلك الفترة ظهرت على الساحة النافعة عدة تنظيمات سرية مسلحة التي سبق أن أشرنا إليها في فصل سابق والتي كانت تكثف من عملياتها العسكرية على الفرنسيين بدون استثناء المدنيين بغية الضغط على الحكومة الفرنسية بشكل قوي لإعادة محمد الخامس إلى الحكم.

وبالطبع هذه العوامل وغيرها، جعلت فرنسا تفكر مليا وجديا في إعادة محمد الخامس إلى عرشه سيما وأنه كان يحظى بتأييد شعبي من طرف سكان المدن علاوة على الأحزاب المغربية المشكلة من برجوازية المدن، عكس ابن عرفة المنحدر من البادية الذي لم يكن مقبولا من طرف سكان المدن وبدون شعبية تذكر، وقد أدركت فرنسا أن نفي محمد الخامس كان عملا خاطئا خصوصا وأن سياسة محمد الخامس، إلى جانب سياسة مؤيديه من الأحزاب المغربية المرخصة من طرف الاستعمار كانت جد معتدلة مع هذا الاستعمار ومسالمة في تعاملها مع القوات الفرنسية قبل نفي محمد الخامس. أضف إلى ذلك أنهم كانوا يساندون ويدعمون العمليات العسكرية الإرهابية التي كانت تقوم بها القوات الفرنسية والمخزنية ضد الثوار الأمازيغ في جبال الأطلس، هذا دون أن ننسى ونذكر أن القصر وحلفاءه المورسكيين كانوا يعملون على عرقلة ثورة جيش التحرير الأمازيغية التي كانت تخشاها فرنسا ويخشونها هم أيضا ويطالبون بوقف الكفاح المسلح.

ومن مرور الوقت، الذي كان في صالح جيش التحرير التمزغاوي، خصوصا وأنه كان يحقق الانتصارات المتتالية على القوات الفرنسية الاستعمارية في كل من الريف والجزائر، أدرك الاستعمار الفرنسي هذه المرة جيدا أنه لا محالة منه سيخرج عاجلا أم أجلا من إحدى مستعمراته في شمال لإفريقيا، ورأى أن محمد الخامس وحلفاءه اللاوطنيين يشكلان رقما مهما ومربحا في المعادلة السياسية التي يمكن أن يشهدها المغرب إذا لم يستطع مواجهة ثورة امازيغ المغرب واضطر إلى الانسحاب من البلاد، خصوصا وأنه كان يصعب عليه مواجهة قوتين في آن واحد في كل من الريف والجزائر إضافة إلى المناوشات المسلحة التي كانت تحدث بين الحين والحين في كل من الأطلس وتونس. وقد كان من اللازم عليه التخلص من أحد الطرفين المغرب أو الجزائر وقد رأت فرنسا أن المغرب يمكن التخلص منه شريطة أن تبقى سياسته تابعة للسياسة الفرنسية وأن يقوم القصر بجانب الأحزاب المغربية بالتخلص من جيش التحرير الأمازيغي والإجهاز عليه مادام أنه كان يشكل تهديدا قويا على فرنسا وعلى عملائها بالمغرب وطبعا أقصد هنا القصر والأحزاب التي كانت تحارب إلى جانب الاستعمار الفرنسي ضد ثورة جيش التحرير، ويكفي أن نذكر هنا أن الذين كانوا يقاتلون جيش التحرير الأمازيغي في المعارك بغض النظر عن القوات الفرنسية كانوا من جنود المخزن ومليشيات حزب الاستقلال وحزب الإصلاح الوطني، ولا يفوتني هنا أن أذكر أيضا أنهم كانوا يصفون أبطال جيش التحرير بالإرهابيين وقطاع الطرق وغيرها من الأوصاف والنعوت القدحية التي في حقيقة الأمر هم من يحملون صفاتها.

ب- مرحلة عودة محمد الخامس:

أول ما قام به الاستعمار الفرنسي حينما أراد التخلص من المغرب والانسحاب السلمي والتدريجي منه هو فتح مفاوضات مع محمد الخامس في مدغشقر حول الشروط والترتيبات التي يجب أن يتبعها مقابل عودته إلى عرشه. وفي يوم 16 نونبر 1955 وصل محمد الخامس إلى مطار الرباط قادما من منفاه السحيق بجزيرة مدغشقر، وحسب الخطة المدروسة لمرحلة ما بعد عودة محمد الخامس أسست فرنسا لعملائها في المغرب في يوم 7 دجنبر 1955 أول حكومة مغربية عميلة لفرنسا، التي كانت تعمل تحت أوامر وتوجهات السلطات الفرنسية وقد كان الغرض من هذه الحكومة التي كان يرأسها الضابط السابق في الجيش الفرنسي مبارك البكاي لهبيل صديق محمد الخامس هو مفاوضة الحكومة الفرنسية حول شروط انسحاب القوات الفرنسية من المغرب وحول مستقبل البلاد لمرحلة ما بعد خروج فرنسا. وكان أول شيء طالبت به الحكومة الفرنسية من عملائها في الحكومة المغربية هو القضاء على جيش التجرير، وفي هذا السياق يقول الفقيه البصري في حوار مع جريدة الصحيفة (عدد 104/ 14 مارس 2003) أنه على إثر ذلك تم توقيع اتفاق بين القصر والأحزاب المغربية أساسه «محاصرة المقاومة وجيش التحرير وقطع الطريق على عبد الكريم الحطابي». وفي سياق تنفيذ المخطط الفرنسي الرامي إلى القضاء على الجيش التحرير الأمازيغي، حاول القصر في بداية الأمر استمالة أعضاء جيش التحرير إلى الاندماج في الجيش المخزني الذي كان يرأسه الحسن الثاني، القائد الأعلى للقوات الملكية المسلحة.

غير أن قادة جيش التحرير رفضوا الاندماج في الجيش الملكي وأصروا على مواصلة الكفاح المسلح. أما قادة حزب الاستقلال فقبل أن يلجأوا إلى استعمال أسلوب العنف والإرهاب لإرغام جيش التحرير على الخضوع لهم سلكوا في البداية أسلوب التحايل وسياسة الديماغوجية، وفي هذا يندرج قيام صنم الاتحاديين الاستقلالي المهدي بن بركة بالتحرك نحو الريف بهدف التحايل على أعضاء جيش التحرير ومن ثمة استمالتهم إلى الحزب الفاسي الفاشي. وقبيل وصوله إلى مقر قيادة جيش التحرير بمنطقة إكزناين يقول عن هذا الموضوع نجل عباس لمساعدي، خليل لمساعدي في حوار له مع جريدة الصباح (عدد 1491/ 20 يناير 2005 ) «بدأ بنبركة يخطب في الناس باللغة العربية الفصحى (معظم أعضاء جيش التحرير لا يفهمون لهجة قريش) ومن ضمن ما قاله «أنتم من حزب الاستقلال». حين سمع عباس هذا الكلام قام من مكانه ونزع مكبر الصوت من بين يديه وأمر باعتقاله». وضمن نفس الحوار ذكر فيه خليل لمساعدي أيضا أنه حينما زار والده القاهرة والتقى بمولاي محند قال له هذا الأخير مفاده «أن المهدي لن يغفر له الإهانة» و»أنه ارتكب خطأ فادحا. فقد كان عليه أن يعتقل بنبركة ويقدمه إلى المحكمة العسكرية لأنه سيقتله بسبب هذه الإهانة». وبالفعل هذا ما حدث وكان حدس مولاي محند في محله. إذن بعد فشل صنم وشهيد الاتحاديين المهدي بن بركة في استمالة أعضاء جيش التحرير إلى حزبه وفشله في إقناعهم بإيقاف المعارك ضد أصدقائه الفرنسيين أصبح قادة جيش التحرير عرضة للتشهير والتصفيات الجسدية التي كان يشرف عليها على وجه الخصوص المهدي بن بركة، هذا الذي قال لشهيد جيش التحرير عباس لمساعدي حينما طالب منه هذا الأخير الدعم لجيش التحرير «أنا لا أؤمن بالعنف». لكن حينما يتعلق الأمر بالعنف والإرهاب تجاه أعضاء جيش التحرير فهذا شيء آخر. وعلاوة على العنفي المهدي بن بركة كان هناك أيضا الفقيه البصري ومحمد الغزاوي وآخرون الذين كانوا يعملون تحت أوامر وتوجهات القصر والحكومة المخزنية العميلة، كما تؤكده كل التقارير والشهادات الواردة آنذاك، التي تتهم على وجه الخصوص رجال القصر وحزب الاستقلال وحزب الإصلاح الوطني. وقد كانت صحافة حزب الاستقلال آنذاك تشن هجوما شرسا على قادة جيش التحرير وتنعتهم بـ»دجالين وخلاقي المشاكل» (107)، ونفس الشيء بالنسبة لوزارة الداخلية المغربية التي كان يرأسها أحد طغاة حزب الاستقلال، وتصفهم ب «الاستعماريين» و»قطاع الطريق» (108). وعلى الرغم من موقف دولة المخزن العروبية آنذاك المعارض للكفاح المسلح فإن جيش التحرير لم يستسلم لأوامرها وواصل كفاحه المسلح ضد الاستعمار الفرنسي الذي كان يتلقى الهزائم تلوى الأخرى في شمال إفريقيا وهو الشيء الذي جعله يسارع في فتح مفاوضات مع بعض بلدان شمال إفريقيا حتى لا تستفحل الأمور أكثر وينسحب منها بدون شروط ومصالح لا سيما وأن ثوار شمال إفريقيا آنذاك كانوا في أوج قوتهم وكانوا على وشك أن يطردوا الاستعمار الفرنسي من شمال إفريقيا كلها لولا المآمرة التونسية والمغربية في خيانة ثورة جيش التحرير في الريف و ثورة الجزائر. و منذ ذلك التاريخ أصبحت علاقة مولاي محند جد حرجة و متوترة بالزعماء السياسيين في تونس و المغرب الذين كانوا قد بدأوا المفاوضات مع فرنسا و تركوا في الساحة الجزائر لوحدها تحت نيران القوات الفرنسية، وأكثر من هذا كانوا قد بدأوا في حملات الاغتيالات والإعدامات في حق المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ونقرأ في أحد التقارير «أن بورقيبة كان يحكم بالإعدام على الوطنيين الذين يحاربون الجيش الفرنسي، بينما يحيل إلى المحاكم الفرنسية الفرنسيين الذين يقتلون التونسيين ويخربون تونس ومنشآتها»(109). وحول نظرة مولاي محند إلى بورقيبة وزمرة من السياسيين الانتهازيين والمنتفعين الآخرين يشير تقرير استعلاماتي فرنسي بتاريخ مارس 1955 إلى أن «عبد الكريم كان دائما حذرا منهم و حتى محتقرا شيئا ما لهؤلاء «المدعين» بالقاهرة «الذين يأكلون و يشربون جيدا» كما يقول وإن كانوا مصرين على تزعم مقاومي الاستقلال فإنهم يحبذون البقاء خارج ساحة المعارك»(110).

ج- مأساة ايكس ليبان و نهاية جيش التحرير:

(يتبع في الأجزاء الأخرى).

(لقجيري محمد lakjiri@yahoo.fr)


 

Free Web Hosting